نسكه وتعبده صلى الله عليه وسلم، صفة بارزة في طبعه الكريم، فقد كان يجد في العبادة قرة عينه، وطمأنينة نفسه. ولو أنه كان من النساك الذين انقطعوا للرهبانية، أو المتصوفة الذين انصرفوا عن الدنيا، لما كان في نسكه وتعبده بدعاً، وإنما الذي يلفت نظر الباحث في حياة بطل الأبطال، هو ذلك الجمع الغريب بين النسك الذي يبلغ أرقى مراتب التعبد، وبين القيام على أمور الدنيا التي كان يعيش فيها بكده، ويعول كثيراً من الأهل والفقراء، ويناضل أمة بأكملها، ويسوس دولة فتية في وجه العالم، يوفد إلى الملوك ويدعوهم، ويستقبل الوفود ويكرمهم، ويبعث السرايا ويقودها، ويجادل من حوله من أهل الأديان وأهل السلطان، ويهيئ للنصر، ويحتاط للهزيمة، ويبعث العمال، ويجبي الأموال ويقسمها بنفسه، ويقول: إن لم أعدل فمن يعدل؟ ويشرع للناس دين الله فيفصل المجمل من الوحي، ويوضح الغامض، ويرسم السنن، فيخرج من الأصل فروعه، ويرد ما لم يطلعه الله عليه إلى ما أطلعه الله عليه. وهو في كل ذلك يؤدي العمل اليومي الذي ينوء به أبطال هذه الدنيا، وبين هذه الهموم والمشاغل يتجلى محمد الناسك العابد بالليل والنهار أعظم انقطاعاً إلى الله ممن انقطعوا إليه في رءوس الجبال.
ذلك الجمع بين الدين والدنيا يجعل من بطل الأبطال صلى الله عليه وسلم، مثلاً قائماً بنفسه في تاريخ البشرية منقطع النظري. كان يقسم يومه جزءاً للعبادة، وجزءاً للناس وجزءاً لأهله، فإذا طغى ما للناس انتقص من الوقت الذي هو لأهله، واحتفظ بما هو لله، وقد واظب على ذلك مواظبة عجيبة تستحق مزيد الإعجاب من أنصاره وخصومه على السواء.
فقد كان مثلا من الجد الكامل، والتوجه الخالص، إذا انصرف للعبادة انصرف بجملته، وإذا قام بعمل آخر لم يفتر عنه حتى يتمه، وقد أجمع مؤرخوه من أهل الملل المختلفة على أنه كان يعطي العمل الذي يشغله كل حسه وكل قلبه، وكان ذلك يتجلى في علاقته بالناس، فما حدثه أحد إلا التفت إليه بوجهه وجسمه، وأصغى إليه تمام الإصغاء، ولم يقطع الحديث حتى يكون المتكلم هو الذي يقطعه.
ذلك الجد الذي يلازم النفوس المؤمنة، هو سر النجاح في كل الأعمال، سواء أكانت للدين أم للدنيا، وفيه كان بكل الأبطال صورة صادقة منيرة لأصحابه وتلاميذه، بل ذلك المثل من الجد في كل شيء هو الذي أنجب ممن صحبه أكبر رجال الدولة، وسواس الأمم، فجعل من رعاة الإبل والغنم ومن صغار الزراع والتجار خلفاء كسرى وقيصر، يعلمونهما ما فاتهما من العدل والإحسان.
كان محمد بفطرته يحب النسك والعبادة، ويجد فيها قرة عينه، فكان قبل الرسالة ينقطع شهراً في غار حراء خارج مكة للتعبد.
ألف النسك والعبادة والخلوة طفلاً
وهكذا النجباء
وإذا حلت الهداية قلباً
نشطت للعبادة الأعضاء
وقد اختلف الأصوليون والفقهاء في صورة العبادة، وطريقتها، وعلى أية شريعة كان يتعبد، وهذا الخلاف نفسه يلقى الشك في تلك الأقوال والفروض، والثابت تاريخياً هو أن عبادته كانت فكراً في خالق الكون، يدور حول الوجود والمشرف عليه، فلم يعلم عنه أنه كان يرعى سنن العبادات في الشرائع التي سبقته، فقد رفض الأديان كلها قبل أن يهتدي إلى الحق في أمر الخالق، حتى في بعض ما لزمه من عبادة العرب كالحج؛ فإنه لم يتلزم مذهب الحُمْسْ، الذي هو مذهب عشيرته، بل وقف وأفاض من عرفة كما يقف ويفيض الناس، وحرم على نفسه كثيراً مما أحلت قريش في جاهليتها، فتبع ما يقره العقل الراجح، واستمر طالباً الهداية، باحثاً عن الحق، ناسكاً في الوصول إليه؛ عبادته التفكر والتأمل، حتى أتاه اليقين.
" وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان"، ويقول القرآن ممتناً عليه: " ووجدك ضالاً فهدى".
فلما جاءه الهدى أخذ يصلي، فيخرج إلى شعاب مكة، ومعه عليوهو صبي، فيصليان مستخفين، حتى إذا أمسيا رجعا.
حلت الهداية قلب محمد، فتعلق بالله، وفنيت نفسه في حبه، وأنا لنستطيع أن نقول: إنه صار معه في حركته، وسكونه، ويقظته، ونومه، وبلغ به الفناء في الذات العلية أن صار يقف بين يدي خالقه حتى تتورم قدماه: يقول المغيرة ابن شعبة: أن النبي كان يقوم ليصلي حتى تتورم قدماه أو ساقاه، فيقال له، فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً! ويقول ابن مسعود، صليت مع النبي ليلة، فلم يزل قائماً حتى هممت بأرم سوء، قيل: ما هممت؟ قال: هممت أن أقعد وأذر النبي. ويروي عبد الله بن عمرو بن العاص، أن النبي قال له: أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله صيام داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، ويصوم يوماً، يفطر يوماً.
كان قيام الليل، والتهجد فيه من عادته طول حياته، صلى الله عليه وسلم، وكان له فيه نجوى ودعاء، ما أدله على ضراعته وفنائه في حب الخالق وخشيته! كان يقول: اللهم لك الحمد، أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك الحق، وقولك الحق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت،وما أعلنت، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وهاكم القرآن يخاطبه في شأن التهجد: " يأ يها المزمل قم الليل إلا قليلاً، نصفه أو أنقص منه قليلاً، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً. إن سنلقي عليك قولاً ثقيلاً.
إن ناشئة الليل هي أشد وطئاً وأقوم قيلا". فكان يفعل ما أمر به، وفي ذلك يقول ابن رواحة من شعراء الصحابة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم:
وفينا رسول الله يتلو كتابه
إذا انشق معروف من الفجر ساطع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا
به موقنات أن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه
إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
حلت الهداية قلب محمد، فعلق بالله في كل شيء، فهو ذاكره، واثق به، مراقب له، مطيع، خائف، محب، خاشع آناء الليل واطراف النهار؛ فإذا جاءه أمر يحبه قال: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات؛ وإذا أتاه أرم يكرهه قال: الحمد لله على كل حال؛ وإن قصد فعل شيء قال: اللهم خر لي واختر لي؛ وأن أراد سفراً قال: اللهم بك أصول، وبك أجول؛ وإن أراد نوماً قال: اللهم باسمك وضعت جنبي، وباسمك أرفعه؛ وإن استيقظ قال: الحمد لله الذي أحيانا بعد أن أماتنا وإليه النشور؛ وإن لبس ثوباً جديداً قال: الحمد لله الذي رزقني ما أتجمل به في حياتي؛ وإن أكل قال: الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا، وجعلنا مسلمين؛ وإن شرب قال: الحمد لله الذي جعل الماء عذباً فراتاً برحمته، ولم يجعله ملحاً أجاجاً بذنوبنا وإذا انقلب من الليل في فراشه قال: لا إله إلا الله الواحد القهار، رب السموات والأرض وما بينهما العزيز الغفار؛ وإذا هب من نومه في الليل قال: رب أغفر وارحم، وأهد للسبيل الأقوم.
تعلق قلب محمد بالله فهو معه في كل عمل وحين، وشغف بالعبادة والنسك، فهو يقوم الليل، ويصرف فيها جزءاً من النهار، ويجد في الصلاة لذته وقرة عينه، وينهى أصحابه أن يقلدوه فيما لا طاقة لهم به. تقول عائشة كان رسول الله يدع العمل وهو يحب أن يعمل به، خشية أن يعمل الناس به، فيفرض عليهم. ويروي أنس أن النبي واصل: أي صام مواصلاً الليل بالنهار، والنهار بالليل، يومين أو ثلاثة، وكان ذلك في آخر رمضان، فواصل ناس معه، فبلغه ذلك، فقال: لومد لنا الشهر لواصلنا وصالا يدع له المعمقون"أي المبالغون" تعمقهم. أني لست مثلكم، إني أظل يطعمني ربي ويسقيني، " أي يعينني ويقويني"، وتقول عائشة: صلى رسول الله في المسجد، فصلى بصلاته ناس كثير، ثم صلى من القابلة، فكثروا، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة، فلم يخرج إليهم، فلما أصبح قال: قد رأيت صنيعكم، فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم، ويقول أنس: كان رسول الله يقوم في رمضان، فجئت فقمت إلى جنبه، فجاء رجل آخر، فقام أيضاً، حتى كنا رهطاً، فلما أحس أنا خلفه، جعل يتجوز في صلاته " أي يسرع"، ثم دخل رحلة فصلى صلاة لا يصليها عندنا، فقلت له حين أصبحت: أفطنت لنا الليلة قال: نعم، ذلك الذي حملني على ما صنعت.
لاشك أن نفس محمد المتصلة بالله، تستطيع ما لا يستطيع الناس، فهو يود أن ينفرد بما فوق الطاقة، فإذا نشط أصحابه لمتابعته، خشي عليهم التعمق والغلو، وهو الناسك الذي بلغ في تعبده مقاماً لا يدانى، وهو الرسول الذي جاء بالحنيفية الميسرة، تلامس حقائق الحياة، فخليق به أن يغضب إذ يرى الناس يهمون بترك الدنيا والانقطاع للعبادة، والله تعالى يقول:
" وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا، وأحسن كما أحسن الله إليك".
رأى أحد أصحابه في سفر مغارة بجانبها ماء وخضرة، فمالت نفسه للعزلة بهما والتعبد، فغضب، وذكر له أنه ما جاء باليهودية، ولا النصرانية، وإنما جاءهم بدين إبراهيم ميسراً سهلاً. وأراد بعض الصحابة، ميلاً بفطرته، أو تأثراً بالرهبانية، أن ينقطع للعبادة، فغضب غضباً شديداً ومنعه؛ وأراد آخر أن يمتنع عن أكل اللحم تنشطاً وتعبداً، فرده. ويقول أنس: كنا مع النبي في سفر، فمنا الصائم، ومنا المفطر، فنزل منزلاً في يوم حار، أكثرنا ظلاً صاحب الكساء، ومنا من يتقي الشمس بيده، فسقط الصوام، وقام المفطرون، فضربوا الأبنية، وسقوا الركاب، فقال صلى الله عليه وسلم: ذهب المفطرون اليوم بالأجر.
وقد نفذت أوامره بالاعتدال والقصد في كل شيء إلى قلوب أصحابه، وأدركوا مقصد أستاذهم الأعظم، فأخذ بها بعضهم بعضاً، حتى أن سلمان الفارسي دخل بيت أبي الدرداء، وكانا ممن آخى بينهم النبي في المدينة، فوجد امرأته متبذلة، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء، فصنع له طعاماً، فقال: كل، فاني صائم. قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم، فنام، ثم ذهب يقوم، قال: نم، فلما كان آخر الليل قال سلمان: قم الآن فصليا، فقال سلمان: إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي فذكر ذلك له، فقال النبي: صدق سلمان.
وعن أنس بن مالك قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي، يسألون عن عبادته، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي؟ قد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر! فقال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله إليهم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله أني لأخشاكم الله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني.
ذلك هو التوسط الذي أراده محمد، وكان فيه أعجب رجال التاريخ، فهو برغم خشيته أن يميل الناس عن القصد، وأن يفرطوا ويكلفوا أنفسهم مالا يطيقون، كان المثل الأعلى في التعبد والنسك، كما كان في الرجولة، وتصريف شؤون الدنيا، والقيام عليها.
والآن أعود إلى نوع من تعبده، ما أحلاه لفظاً! وأسماه معنى! ذلك هو الدعاء، والدعاء كما قال صلى الله عليه وسلم؛ هو العبادة:
" وقال ربكم ادعوني أستجب لكم".
انظروا إلى هذا الدعاء، وما فيه من الضراعة والتسليم الكامل: " إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت، وأنا أول المسلمين اللهم اهدني لأحسن الأعمال، وأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، وقني سيئ الأعمال. وسيئ الأخلاق لا يقي سيئها إلا أنت، اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، وعليك توكلت، أنت ربي، خشع سمعي وبصري ولحمي ودمي وعظمي لله رب العالمين. اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت.
ذلكم هو محمد صلى الله عليه وسلم وصل في نسكه وعبادته إلى أرقى مراتب الإخلاص لله، والتفاني في طاعته وحبه، والمثول الدائم في حضرته، ووصل في شئون الدنيا إلى إقامة دولة من أنقاض الهمجية، وإلى إبراء المجتمع من علل الاضطراب والفساد، ففي شخصه التقت أغراض الحياة جميعاً على أكمل وجوهها.
تلك الناحية من صفات بطل الأبطال يحني لها الناس جميعاً رءوسهم، وإذا رفع إليها أبطال العالم أبصارهم غضوا الطرف أمام الإعجاز المحمدي، فما كان رجل ممن ملأ السمع والبصر من رجال التاريخ ليقوى على حمل هذا العبء الروحاني، من العبادة في الليل والنهار، وتلقى أعمال الدنيا في كل يوم على أنشط ما يكون، وأصلح ما يكون لخدمة نفسه وقومه، وكفاح أعدائه، وإقامة الدولة الخالدة، التي تركها بطل الأبطال صلى الله عليه وسلم في نشأتها وصولتها.