عفـــوه وصـفـحـــــه (7 )
عفوه وصفحه صلى الله عليه وسلم عمن أسرفوا في إيذائه، هو الخلق الكريم الذي أدبه به القرآن، قال تعالى: " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين". وبين الوحي معناه بقوله: " أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك".
فالعفو عند المقدرة مرآة تتجلى فيها أحسن صور النفس، يتجلى فيها سمو المقصد، وبعد الغاية، والترفع عن الشهوات، وتبدو البطولة في أروع صورها... ولن تجد في تاريخ الأبطال، بل تاريخ البشر كلهم مثل محمد ظافراً، ناجحاً، مؤيداً، يعطي من حرمه، ويعفو عمن ظلمه.
كانت مكة والطائف مركزي العداوة الشديدة، تتنافسان في الوفاء للات والعزى، فلم يكن شراً على محمد من قريش، ولا أرغب في الشرك من ثقيف، وبرز في القريتين رجال مثل أبي جهل بن هشام، وعكرمة ابنه، وأمية بن خلف، وصفوان ابنه، والعاص بن وائل السهمي، والوليد ابن المغيرة، وأبي سفيان بن حرب، وبني عمرو بن عمير الثلاثة، وأبي مسعود الثقفي، ومالك بن عوف، وأضرابهم ممن اتخذوا إيذاءه صلى الله عليه وسلم والسخرية به وقتاله وهجوه متعة بها يلتذون، ومفخرة بها يفاخرون.
ينقسم ذلك الأذى والاضطهاد في رأيي إلى أربعة أطوار، ويبتدئ الطور الأول بإيذائه، والتصغير من شأنه، وقت أن كان مثل أبي لهب يقول له؛ وهو ينذر الناس فوق الصفا: تباً لك! ألهذا دعوتنا؟ والطور الثاني يبتدئ بصحيفة المقاطعة، وهي ميثاق علق بالكعبة، وتعاهد فيه المشركون على مقاطعة بني هاشم، لحمايتهم ابنهم محمداً صلى الله عليه وسلم فكاد يهلك ذلك البيت جوعاً؛ وهو مقطوع في شعب بني هاشم. كان هذا الطور شديداً، فإن الميثاق المقدس حرم على الناس أن يتزاوجوا مع آل محمد، أو يبيعوهم، أو يشتروا منهم، أو تكون لهم بهم صلة ما. ويبتدئ الطور الثالث بوفاة أبي طالب عمه وحاميه، وخديجة زوجة ومؤاسيته، حين اشتد عليه الأمر، وضاقت عليه الدنيا؛ ولو لا الإيمان والنبوة الصادقة ليئس من قومه وهام على وجهه في الأرض.
في ذلك الطور خرج إلى الطائف وحده يلتمس حماية ثقيف، والامتناع بهم من قومه، فردوه أشنع رد، وسخر به زعماؤها الثلاثة من بني عمرو بن عمير، فقال له أحدهم: أما وجد الله أحداً يرسله غيرك؟ وقال الآخر: والله لا أكلمك أبداً.. لئن كنت رسولاً كما تقول لأنت أخطر من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله، ما ينبغي لي أن أكلمك، فسألهم محمد أن يكتموا عليه، وقال لهم إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا ذلك عني، وكان يخشى سوء المنقلب إلى مكة، والشماتة والغلو في إيذائه، فأبوا حتى هذه عليه، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه، ويصيحون به، حتى أخرجوه من البلد، وتتبعه السبية والسوقة يصيحون مسيرة ثلاثة أميال، يعبثون به، ويقذفونه بالحجارة، حتى أدموا قدميه، وكلما جلس أقاموه، وأجبروه على المشي، فلجأ إلى حائط(1) لعتبة بن ربيعة، فلما أطمأن قال: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس. يا ارحم الراحمين! أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ أن لم يكن بك على غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بي غضبك، أو تحل على سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك". فلما رجع إلى مكة لم يستطع أن يدخلها إلا في حماية مطعم بن عدي؛ ثم اختتمت مكة هذا الطور من أطوار الإيذاء بالعزم على قتله، وتفريق دمه بين القبائل، حتى يعجز عن طلبه بنو عبد مناف. فهاجر إلى المدينة، وابتدأ بذلك الطور الرابع. وحديث هجرته إليها، وما لقي في طريقه مشهور.
انظروا بعد ذلك إلى معاملته لأهل مكة والطائف، ورؤساء الفتنة، وزعماء الشر، الذين أسرفوا في إيذائه واضطهاده، لتتجلى نفسه الكريمة في مرآة عفوه وصفحه الجميل. انظروا إليه فاتحاً في جيش لم تر جزيرة العرب مثله يكتسح مكة، وتطؤها خيله، ويمر إلى حنين والطائف، فيقع بين يديه ستة آلاف من أسرى هوازن وثقيف، ويفر من بقى من السادة المتكبرين، ومالك بن عوف، وياليل ابن عمرو بن عمير. انظروا إليه والبلاد في رحمته يشملها عفوه، والسادة والزعماء الذين عتوا في الأرض يجزون بالبر والإحسان، وأبطال العالم لا تعرف لأمثالهم غير قطع الرءوس.
هذا محمد في ذروة المروءة لا يداني، وقبل أن يصل الجيش الفاتح إلى مكة خرج أبو سفيان في ثلاثة نفر مستطلعاً، فعلم أن لا طاقة له ولقومه بلقاء محمد، فأردفه العباس على بغلة النبي التي كان يركبها، ودخل به المعسكر ليلاً، يطلب الأمان له ولمكة، فكان كلما مر بنار من نار المسلمين قالوا: هذا عم النبي على بغلته، حتى مر بنار عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: من هذا؟ فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة، قال: أبو سفيان عدو الله! الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد.. ثم سارع إلى رسول الله يقول: دعني أضرب عنقه، فقد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد، ولكن رسول الله أمر أن يبيت أبو سفيان في رحل العباس. فلما أصبح جئ به، فأسلم وعفا عنه، فقال العباس: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئاً، فقال: نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. وعاد أبو سفيان إلى مكة مسرعاً، والجيش يزحف إليها، وهو يقول: والله ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة! فلما جاء قومه صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن.
فقالوا: قاتلك الله! وما تغني عنا دارك؛ فقامت هند بنت عتبة زوجه التي لاكت كبد حمزة يوم أحد، فأخذت بشاربه، وقالت: اقتلوه، قبح من طليعة قوم! فقال أبو سفيان: ويلكم لا تغرنكم هذه عن أنفسكم، فإنه قد جاءكم مالا قبل لكم به، من دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن.
أي مثل في العفو الكريم أعظم من هذا؟ أبو سفيان الذي فعل الأفاعيل والذي أدمى كبد الرسول في أحد، والذي زلزل بحصاره المسلمين في الخندق، أبو سفيان العاق من ولد عبد مناف، الذي ناصر مخزوماً وسهماً على محمد وبني هاشم، يعفو عنه محمد، ثم يعطيه مع العفو ما يفخر به! وقد كانت هبة الحياة كل الرجاء، فإذا الحياة والجاه بعض عطايا محمد للمقهورين من أعدائه.
دخل رسول الله مكة، ولكن عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، ومن جمعوا من الناس أبوا الاقتالا، فهزموا وفروا، ثم استأمنوا فأمنوا، بل عفى عنهم، بل أعطوا من غنائم هوازن، تأليفاً لقلوبهم!
وانظروا إلى مثل لن تجدوا له شبيهاً في تاريخ البشرية، هذا صفوان بن أمية العدو ابن العدو يفر إلى جدة، ليبحر إلى اليمن، فيأتي عمير بن وهب لرسول الله، فيقول: يا نبي الله، إن صفوان بن أمية سيد قومه، قد خرج هارباً منك، ليقذف نفسه في البحر فأمنه، قال: هو آمن. قال: يا رسول الله عمامته التي دخل فيها مكة، فخرج بها عمير حتى أدركه؛ وهو يريد أن يركب البحر، فقال: يا صفوان، فداك أبي وأمي! الله الله في نفسك أن تهلكها! فهذا أمان رسول الله قد جئتك به، قال: إني أخافه على نفسي، قال: هو أحلم من ذاك وأكرم. فرجع معه حتى وقف به على رسول الله، فقال صفوان: إن هذا يزعم أنك قد أمنتني؟ قال: صدق. قال: فاجعلني فيه بالخيار شهرين. قال: أنت بالخيار أربعة أشهر.
هذا العدو ابن العدو صفوان بن أمية لا يلقى من بر رسول الله أن يعفو عنه فحسب، بل يبعث عمامته التي فتح بها مكة تطميناً للهائم على وجهه إلى البحر، ثم إذا ما طلب منه أن يتركه ليختار الإسلام أو الشرك شهرين، قال: بل أربعة، كي لا يقهره ولا يذله، فهل في تاريخ البشر مثال من العفو عند المقدرة أبر وأكرم من هذا الذي فعله بطل الأبطال محمد صلى الله عليه وسلم!
وهذا رجل آخر جاءه قبيل الفتح، وكان عاقاً مسرفاً في هجوه وإيذائه للرسول، هو أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وطلب الإذن عليه، فقال: لا حاجة لي به وقد هتك عرضي! وكان مع أبي سفيان بُنَيّ له، فقال: والله ليأذنن لي، أو لآخذن بيد بني هذا ثم لنذهبن في الأرض حتى نموت عطشاً وجوعاً. فلما بلغ ذلك رسول الله رق له، فدخل عليه وعفا عنه، فقال:
لعمرك إني يوم أحمل رايةً
لتغلب خيل اللات خيل محمد
لكالمدلج الحيران أظلم ليله
فهذا أواني حين أهدي وأهتدي
وفي مكة وهو طائف بالبيت أراد فضالة بن عمير أن يقتله، فلما دنا منه قال: أفضاله؟ قال: نعم، فضالة يا رسول الله. قال: ما كنت تحدث به نفسك؟ قال: لا شيء، كنت أذكر الله عز وجل، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: استغفر الله! ثم وضع يده على صدره، فسكن قلبه، فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدري حت ما من خلق الله شيء أحب إلي منه.
ثم هاكم مثلاً من عفوه عن رجل أبكاه، وقهر المسلمين، وحزنهم، وهو عبد حبشي يقال له: وحشي، ذلك هو قاتل حمزة. يقول وحشي: خرجت حتى ملت إلى رسول الله بعد فتح مكة والطائف، فلم يرعه إلا بي قائماً على رأسه تشهد بشهادة الحق، فلما رآني قال: أوحشي؟! قلت: نعم يا رسول الله! قال: أقعد فحدثني كيف قتلت حمزة؟ قال: فحدثته، فلما فرغت من حديثي قال: ويحك! غيب عني وجهك، فلا أرينك، قال: فكنت أتنكب رسول الله حيث كان، لئلا يراني، حتى قبضه الله.
ذلكم هو ضبط النفس والعفو في أحسن صورة. رجل لا يستطيع رسول الله أن ينظر إلى وجهه؛ وهو قاتل عمه، وهو عبد لا أصل له ولا عشيرة، يعفو عنه، وأحب شيء إلى المسلمين أن يروا دمه كما رأوا أحشاء حمزة الذي طعنه بحربته.
ولما اطمأن الناس بعد الفتح قام رسول الله على باب الكعبة، فقال: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج. يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب. ثم تلا هذه الآية: " يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم".
ثم قال: يا معشر قريش، ما تظنون أني فاعل فيكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ أخ كريم. قال اذهبوا فانتم الطلقاء.
ثم جلس رسول الله، فقام إليه على بن أبي طالب ومفتاح الكعبة في يده، فقال: يا رسول الله، اجمع لنا الحجابة مع السقاية ( وكانت الحجابة في غير بني هاشم)، فقال رسول الله: أين عثمان بن طلحة؟ فدعى له، فقال: هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء.
وها هي ذي ثقيف كلها بين يديه ووفدها في المدينة، وقد أكلتها العرب، وهانت على الناس، فماذا فعل بها، وفي وفدها رجل مثل ياليل بن عمرو بن عمير الذي طرده من الطائف؟ أما مالك بن عوف فذلك من سبق إليه عفوه، فرد إليه ماله وأولاده، ووهب له مائة ناقة؛ وأما هؤلاء فقد رجعوا إلى أهليهم بعفو شامل وأمان كامل، ولولا ضيق المقام لسمعتم قصة هوازن، وكيف رد الرسول سبيها، واشتراه ديناً عليه لأصحابه، ليعطيه أعداءه الذين كادوا يقضون على الإسلام يوم حنين، ولسمعتم من هذه الأمثلة آثات في كل قبيلة وكل بلد، مما تنقضي الأيام ويبقى فيها رسول الله المثل الأعلى، والقدوة الحسنة للناس جميعاً.
جانب عظيم من جوانب شخصية محمد صلى الله عليه وسلم هو جانب رحمته وبره، الذي لا يدانيه فيه أحد، وهو صورة لنفسه الكريمة، في أيام فقره وغناه، وضعفه وقوته، فقد كان البر أمامه، والرحمة محيطة به، وهو الذي يقول: " إن البر يهدي إلى الجنة. ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، لا يرحم الله من لا يرحم الناس، الراحمون يرحمهم الرحمن، لا تنزع الرحمة إلا من شقي"، وقد وصفه القرآن بهذه الصفة قال تعالى: " لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم".
كانت رحمته تسع الناس جميعاً، وكان بره يصل إلى المؤمنين والمشركين، وكان الفقراء والضعفاء أقرب الناس إلى قلبه الكبير، وعطفه الشامل، وبلغ حبه الفقراء أن دعا الله أن يبقى فيهم حياً وميتاً. روت عائشة أنه كان يقول:" اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين" فقالت عائشة: لم يا رسول الله؟ قال: إنهم يدخلون الجنة قبل الأغنياء بأربعين خريفاً. يا عائشة لا تردي المسكين ولو بشق تمرة. يا عائشة، أحبي المساكين وقربيهم يقربك الله يوم القيامة".
كانت حياته موصولة بالفقراء، وكان كل ما في بيته ويده لهم، وبلغ من عطفه عليهم أن مر رجل عليه، فقال لرجل عنده: ما رأيك في هذا؟ فقال رجل من أشراف الناس، هذا والله حري أن خطب أن ينكح وأن شفع أن يشفع. فسكت النبي ثم مر آخر، فقال النبي: ما رأيك في هذا؟ فقال: رجل من فقراء المسلمين، هذا والله حري أن خطب ألا ينكح، وأن شفع ألا يشفع، وأن قال ألا يسمع لقوله؛ فقال صلى الله عليه وسلم: هذا خير من ملء الأرض مثل هذا.
لقد عمل محمد بما آتاه الله، وما أودع فطرته من الرحمة، على رفع شأن الفقير وإكرامه، والأخذ بيد الضعيف، وأرسل بره في هذه الطبقة، حتى قلب نظام المجتمع الذي ظهر فيه في سنين قليلة، وجعل من الفقراء المستضعفين أمة دان لها المشرق والمغرب فيما بعد؛ كما كان يقول صلى الله عليه وسلم: " ابغوني ضعفاءكم، فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم" وكان يسره أن يجتمعوا إليه. وقد آثر بالحديث مرة واحدة بعض الأغنياء الأقوياء من قومه، فنزل القرآن بمعاتبته، فقال:
" عبس وتولى، أن جاءه الأعمى، وما يدريك لعله يزكى، أو يذكر فتنفعه الذكرى، أما من استغنى، فأنت له تصدى" .. الخ، وطالما سخرت قريش منه لحفاوته بالمساكين، وذهابه بهم إلى الحرم، فقالت أهؤلاء من الله عليهم من بيننا؟، ولكنه كان بالمساكين رءوفاً رحيماً. يقول عبد الله بن عمرو بن العاص: دخل النبي المسجد، فجلس إلى الفقراء، وبشرهم بالجنة، وبدا على وجوههم البشر، فحزنت، لأنني لم أكن منهم. ورأى سعد بن أبي وقاص يتعالى على المساكين، فذكر له أن ما ينال من الخير والنصر، إنما هو أثر هؤلاء الفقراء، وأنه مدين للمساكين، وقد تحقق ذلك واضحاً جلياً حينما قادر سعد هؤلاء الفقراء المستضعفين إلى القادسية، فهزم رستم، ووطئ دولة الأكاسرة، التي كان العرب بعض رعاياها.
كانت رحمته وبره بالمساكين تمتد إلى ما بعد الموت.
جاء في صحيح البخاري " أن النبي ذكر ذات يوم رجلاً أسود، فقال ما فعل ذلك الإنسان؟ قالوا: مات يا رسول الله، قال: أفلا آذنتموني؟ فقالوا: إنه كان كذا وكذا قصته، فحقروا من شأنه، قال: فدلوني على قبره، فأتى قبره، فصلى عليه".
وكان صلى الله عليه وسلم يجاهد لتحرير العبيد، ولرفع قيمتهم، فلم يدخر مالاً، ولا سلطاناً ولا دعوة في سبيلهم، وكانت نفسه تفيض بالرحمة عليهم والبر بهم، وأظهر مثل ما كان منه مع مملوكه زيد بن حارثة، الذي خير بين سيده محمد ووالده، فاختار محمداً في الوقت الذي كان لا حول له ولا قوة، بل كان موضع أذى قريش وسخريتها، وهو الذي جعل معتوقه زيداً هذا، القائد الأعلى للمهاجرين والأنصار حين وجههم لغزو الروم، فاستشهد في وقعة مؤتة، ولما استأنف النبي غزو الروم بعد الفتح أمر شاباً على الجيش، هو أسامة بن زيد هذا وهو حدث في العشرين ومشى أكابر الصحابة وأشراف قريش والنبي في موكبه.
أرأيتم أذن كيف رفع برحمته وبره شأن الأرقاء المستعبدين؟ وكان صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يدخل الجنة سيئ الملكة، ويقول: حسن الملكة يمن وسوء الملكة شؤم".
وكان باراً بالخدم والعمال، روى أبو هريرة أن النبي قال: " إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه، فإن لم يجلس معه فليناوله لقمة أو لقمتين" ! وقال معاوية بن سويد: كنا بني مقرن على عهد رسول الله ليس لنا خادم إلا واحدة، فلطمها أحدنا، فبلغ ذلك رسول الله فقال: أعتقوها، فقيل: ليس لهم خادم غيرها. قال: فليستخدموها، فإذا استغنوا عنها فليخلوا سبيلها. وعن أبي مسعود قال: ضربت غلاماً لي بالسوط، فسمعت صوتاً من خلفي، فإذا برسول الله يقول: أعلم يا أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام. وبلغ من رحمة محمد أنه كان لا يطيق أحداً يقول: عبدي أو أمتي، فأمر المسلمين أن يكفوا عن ذلك، وأن يقولوا: فتاي وفتات، وقد كان لهذه التربية أحسن الأثر في تحرير الأرقاء، ونشر المساواة، وتغليب روح الأخوة على ما كان من العصبية، والغرور، والتفاخر.
يقول المعرور بن سويد: رأيت أبا ذر وعليه حلة، وعلى غلامه مثلها، فسألته عن ذلك، فقال: سمعت رسول الله يقول: هم أخوانكم جعلهم الله تعالى تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم من العمل ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه. وقال أنس: خدمت رسول الله عشر سنين، فما قال لي أف قط، وكان صلى الله عليه وسلم يخالط المساكين والخدم والعبيد ويحادثهم ويجيب دعوتهم، ويعود مرضاهم، ويمشي في جنائزهم، ويصلي عليهم، وقد جعلت الشريعة المحمدية نصيباً في بيت المال لتحرير الأرقاء، وكان صلى الله عليه وسلم يعطي العبد بعد تحريره شيئاً يعينه على الكسب.
لم يكن رسول الله ليقصر رحمته وبره، الذي هو صورة صادقة لنفسه الكريمة، على الناطقين من بني الإنسان، فإن هذه الرحمة ملكت مشاعره، وحفزته لكفاح موفق في سبيل الرفق بالحيوان، فكم كان للعرب من عادات مرذولة أنكرها وأزالها. كانوا يقتطعون من حيواناتهم، وهي حية، فيشوون ويطعمون، فحرم ذلك ولا يزال إلى اليوم بعض الطوائف في الصحراء الكبرى بالرغم إسلامهم يعملون شيئاً من هذا، فهم إذا خرجوا للغزو، وبعدت عليهم الشقة، فصدوا البعير، فأخذوا من دمه، وطبخوه وأكلوه، أو شقوا عن سنامه فاقتطعوا من الدهن، ثم خاطوا السنام، وأكلوا الدهن. وكان وشم الحيوان، ولا يزال ضرورة لإثبات الملكية في البادية، فنهى عن ذلك الأذى، وخففه باختيار أقل الأثر في أقل الأعضاء إحساساً. وكان العرب يتخذون من دوابهم أهدافاً للرماية، فنهى عن ذلك، وعن أن يقطعوا ذيول الخيل. ومر مرة بناقة مربوطة جائعة، فحل وثاقها وأطلقها. وأوصى الناس أن يخشوا الله في البهائم؛ ومن الأمثلة التي ضربها صلى الله عليه وسلم أنه قال: بينما رجل يمشي بطريق أشتد عليه العطش فوجد بئراً، فنزل فيها، فشرب ثم خرج وإذا كلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني! فنزل البئر، فملأ خفه ماء، ثم أمسكه بفيه حتى رقى، فسقى الكلب فشكر الله تعالى له، فغفر له" فقالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم لأجراً؟ قال: في كل كبد رطبة أجر. وقال أيضاً: دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض.
تلك الأمثال يضربها محمد لقوم ما كانوا يظنون في الرفق بالحيوان أجراً، وقد كان لها أكبر الأثر من الرحمة والرفق في نفوس المسلمين، ومن تأدب بأدبهم في الشرق والغرب، وكان من عادات الجاهلية أن يتخذوا ظهور دوابهم منابر، فنهى عن ذلك، وقال: إنما سخرها الله لكم لتبلغكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، وجعل لكم الأرض، فعليها فاقضوا حاجاتكم.
وهذه رحمته يفيض بها قلبه الكبير على عصفور صغير: قال عبد الرحمن بن عبد الله، كنا مع رسول الله في سفر، فرأينا حمرة، ( طائر في شكل العصفور) معها فرخان لها، فأخذناهما، فجاءت الحمرة تعرش ( أي ترفرف)، فلما جاء الرسول قال: من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها. وقال صلى الله عليه وسلم في قسوة عائشة على بعير ركبته: "من يحرم الرفق يحرم الخير كله".
هذه الرحمة بالإنسان والحيوان كانت تظهر أنساً وبشراً في وجهه إذا رأى الطفل، أو لقي الصبي، فقد كان يأخذ أطفال أصحابه بين ذراعيه، ويطرب لذلك، وكان إذا مر بالصبية يقرئهم السلام. وحدث جابر بن سمرة: أن النبي رأى صبية يتسابقون، فجرى معهم، وكان يلقى الصبي في الطريق فيركبه ناقته ليسره، وكان أبر والد بولده، يقول أنس: أنه لا يعلم رجلاً أبر بأهله وولده من محمد. وقال أسامة بن زيد: كان رسول الله يأخذني فيقعدني على فخذه، ويقعد الحسن على فخذه الأخرى، ثم يضمهما، ثم يقول: اللهم ارحمهما فإني ارحمهما. وقد حدث أن عجب بعض الأعراب من رسول الله وهو يقبل أولاده وأولاد أصحابه، فقال الأقرع بن حابس مرة وقد رآه يقبل الحسين: أن لي عشرة أولاد ما قبلت أحداً منهم قط، واعترض آخرون بمثل هذا المعنى على الشفقة غير المألوفة، وكان محمد ينكر عليهم أن يكونوا غلاظ الأكباد قساة القلوب. قالت عائشة: جاء أعرابي إلى النبي، فقال: أتقبلون الصبيان؟ فما نقبلهم: فقال النبي: أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة؟
وهذه الرحمة في نفس محمد كما كانت تبدو بشراً وأنساً، كانت تفيض دمعاً وأسى، وكان جفاة القوم يستعظمون هذه عليه، فكان يبين لهم أنها رحمة، وأن لا عيب فيها.
مات لإحدى بناته ولد، فلما رفع إليه وكانت نفسه تتقعقع كأنها شن، ( أي قربة جف جلدها) فاضت عيناه، فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله ما هذا؟ قال: هذه رحمة جعلها الله في قلوب عبادة، وإنما يرحم الله من عبادة الرحماء. وجاءت نوبة سعد نفسه، فاشتكى، وذهب النبي يعوده، فلما دخل عليه، فوجده في غاشية بين أهله. قال: قد قضى؟ قالوا: لا يا رسول الله، فبكى النبي، وقال: ألا تسمعون أن الله لا يعذب بدمع العين، ولا حزن القلب، ولكن يعذب بهذا، وأشار إلى لسانه.
هذه الرحمة بالكبير والصغير لم تكن خاصة بأتباعه المؤمنين، بل كانت شاملة لأعدائه المشركين والمخالفين من أهل الملل الأخرى. رفع إليه بعد إحدى الوقعات أن صبية قتلوا بين الصفوف، فحزن حزناً شديداً، فقال بعضهم: ما يحزنك يا رسول الله وهم صبية للمشركين؟ فغضب النبي، وقال ما معناه: إن هؤلاء خير منكم، إنهم على الفطرة، فإياكم وقتل الأولاد، إياكم وقتل الأولاد. وروى البخاري عن جابر بن عبد الله قال: مرت بنا جنازة، فقام لها النبي وقمنا، فقلنا: يا رسول الله، إنها جنازة يهودي، فقال: أو ليست نفساً؟! إذا رأيتم الجنازة فقوموا. ولما مات النجاشي نعاه لأصحابه، ثم تقدم، فصف الناس خلفه وصلى عليه.
تلك هي الرحمة التي لا تعرف التخصيص بالدين أو الوطن، ولا فرق عندها بين الرفق بالإنسان والحيوان.
وسئل مرة أن يلعن أعداءه، فقال: ما جئت لعاناً، بل رحمة. ولما مات عبد الله بن أبي سلول، وكان زعيم المنافقين في المدينة، وهو الذي رجع بمن تبعه من الطريق يوم أحد، فخذل النبي في أحرج أوقاته، وله مواقف مشهورة كان فيها شراً على الرسول والمسلمين. لما مات طلب ابنه من النبي قميصه ليكفنه فيه، تطيراً له، فأعطاه قميصه كفناً لزعيم المنافقين. أرأيت أبر وأكرم من هذا الصنيع؟ ثم مشى النبي إلى قبره، فوقف يريد الصلاة عليه، فوثب إليه عمر بن الخطاب، وقال: يا رسول الله أتصلي على ابن أبي وقد قال يوم كذا كذا وكذا؟! يعد عليه قوله، فتبسم الرسول، وقال: عني يا عمر.. قال عمر: فلما أكثرت عليه قال: إني خيرت فاخترت، لو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له لزدت عليها؛ وانصرف.
وذلك إشارة إلى قوله تعالى في المنافقين: " استغفر لهم أو لا تستغفر لهم، إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم"، ففي الخيار بين أن يستغفر، وألا يستغفر، نزعت به طبيعته الرحيمة إلى الاستغفار لأعدائه، بل قال لعمر: لو علمت أني لو زدت في الاستغفار على السبعين غفر لهم، لفعلت أكثر من سبعين مرة.
تلك هي الرحمة التي وسعت أعداءه وأصدقاءه والناس جميعاً.
وسمع مرة أعرابياً يصلي خلفه، يقول: اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً، فلما سلم قال: لقد ضيقت واسعاً.
فمن هذا وغيره مما سقناه من الأمثلة على امتلاء نفسه بالرحمة، يتضح أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن نتاجاً للبيئة التي عاش فيها، وإنما كان الرحمة الشاملة في وسط الجفوة والعصبية والأثرة، تلك الرحمة التي لا حد لها هي التي جعلته يدعو لأعدائه، وقد سئل الدعاء عليهم في أحد وهو جريح، وعمه حمزة ممثل به، وأنصاره بين القتل والجرح والشتريد. وهي التي جعلته يدعو لثقيف يوم الطائف وقد امتنعت عليه. وتلك الرحمة هي التي جعلته يفتح لتجارة قريش طريق اليمامة، وطريق الشام، وقد سألوه صلة الرحم، وشكوا جوع أهليهم، وهم الذين أخرجوه من داره وحصروه في المدينة.
فرحمته وبره صلى الله عليه وسلم وسعتا العدو والصديق، والقوي والضعيف، والحر والعبد، والحيوان، وفاض بها قلبه الكبير، فكانت في فمه بشراً، وفي عينه دمعاً، وفي يده جوداً.
تلك الرحمة التي وسعت الجميع هي أبرز صفات محمد. وهي التي يتسابق الأبطال إليها، فيردون عن هذا المدى، ويبقى رسول الله المثل الكامل، والقدوة العظمى. وحقاً كان كما قال عن نفسه " إنما أنا رحمة مهداة" وكما قال القرآن الكريم له: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين".
لم يكن بطل الأبطال وخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم إلا بشراً يوحى إليه، وما أوتي عن طريق الوحي قد فصلت آياته في الكتاب، وفيما عدا ذلك من الأقوال والأعمال، فإنما هي ثمرة عقل راجح، ولسان فصيح في ذات فذة، وله في غير الوحي من القول والعمل ما يكفيه ليبقى أبد الدهر أمام البلاغة والفصاحة، وسيد الرجال، بل الرجل الفذ في تاريخ البشرية، الذي اجتمعت له أمور ثلاثة:
الأول: تكوين أمة من قبائل وشعوب متنافرة، كأنما خلقت لتتباعد وتتطاحن.
والثاني: تأسيس دولة بقيت قروناً مصدر السلطان في وسط الدنيا، ولا يزال أثرها أكثر من ألف سنة ماثلاً أمام الأنظار يوحي بعظمة الرسول صلى الله عليه وسلم، التي لا تدانيها عظمة.
والثالث: إقامة دين يدين به مئات الملايين، ويخلص له العرب والعجم، والأبيض والأسود والأصفر.
وتلك الأمور الثلاثة التي اجتمعت له والتي تكفي كل واحدة منها لتخليد الذكر، هي بعد الوحي كما قلت نتاج ذلك اللسان الفصيح، والعقل المدبر.
وقد أجمع الناس على أن محمداً الأمي قد أوتي من الأسلوب السهل المعجز ما لم يؤت معلم ولا متعلم، ممن دانت لهم العربية، وملكوا زمامها، فله جوامع الكلم، وبدائع الحكم في لفظ ناصع. وقول جزل، ومعان صحاح خالدة، في عبارات مضيئة مشرقة، لا تكلف فيها.
قال له أصحابه يوماً: ما رأينا الذي هو أفصح منك! فقال: وما يمنعني، وإنما أنزل القرآن بلساني: لسان عربي مبين. وقد فسر صلى الله عليه وسلم فصاحته بنشأته في بني سعد، ومولده في قريش، يريد أنه جمع قوة عارضة البادية وجزالتها ورونق الحاضرة وزخرف صناعتها وروعتها. غير أن نشأته في بني سعد، ونسبته في قريش، لا تفسر لنا ناحية أخرى، وهي مقدرته على أن يخاطب كل قبيلة وشعب من الشعوب العربية بلهجته، ويبدي في هذه اللهجات جميعاً من مطرب القول وجامعة ما يسبي قلب سامعه، وسواء أكان السامع من قحطان أم عدنان، من أقصى جنوب الجزيرة أم شمالها، من حجازها أم تهامتها أم نجدها، فإنه مقر لمحمد بالإمامة في البلاغة والفصاحة، في أي لهجة جرى عليها الحديث.
كان كلامه بيناً لا فضول فيه ولا تقصير، يحفظه من جلس إليه. تقول عائشة: ما كان رسول الله يسرد كسردكم هذا ولكن كان يكلم بكلام بين فصل يحفظه من جلس إليه. وروى عنها أيضاً: أنه يحدث حديثاً لو عده العاد لأحصاه.
ولقد كان بطل الأبطال، علم البيان في قومه الذين اشتهروا بالفصاحة، والذين كانوا يقيمون للأدب أسواقاً، ويكتبون بالذهب، ويعلقون على الكعبة ما يستحسنون من القول، وكان أبو بكر رضي الله عنه نسابة مشهوراً في قريش في الجاهلية والإسلام وكان في حيرة من فصاحة محمد وبلاغته، قال له يوماً لقد طفت في العرب، وسمعت فصحاءهم، فما سمعت أفصح منك، فمن أدبك؟ قال: أدبني ربي فأحسن تأديبي. وذلك هو التفسير الصحيح، لأن محمداً فطرا على صفاء الحس، ونفاذ البصيرة، وصحة الحكم، واستقامة الطبع، مما هو جلي في قوله وعمله.
ويقول الجاحظ؛ ومكانته في الأدب ما تعلمون، يصف كلام الرسول: " ألقى الله على كلامه المحبة، وغشاه بالقبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة، وهو مع استغنائه عن إعادته، وقلة حاجة السامع إلى معاودته، لم تسقط له كلمة، ولا زلت له قدم، ولا بارت له حجة، ولم يقم له خصم، ولا أفحمه خطيب، بل يبذ الخطب الطوال بالكلام القصير، ولا يلتمس إسكات الخصم إلا بما يعرفه الخصم، ولا يحتج إلا بالصدق، ثم لم يسمع الناس بكلام قط أعم نفعاً، ولا أصدق لفظاً، ولا أعدل وزناً... من كلامه صلى الله عليه وسلم.
وإني محاول الآن أن أسوق لكم نبذاً من قوله في مواضع شتى، ومعان متفرقة، فيها ترون الفصاحة والبلاغة المحمدية حية منيرة، لم تبل القرون جدتها، ولم تذهب شيئاً من طلاوتها. انظروا إلى هذه الكلمات: قال رسول الله: أمرني ربي بتسع: خشية الله في السر والعلانية وكلمة العدل في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، وأن أصل من قطعني، وأعطى من حرمني، وأعفو عمن ظلمني، وأن يكون صمتي فكراً، ونطقي ذكراً. ونظري عبرة.
وقد وجدوا مكتوباً على قائم سيفه صلى الله عليه وسلم: أعف عمن ظلمك، وصل من قطعك، وأحسن إلى من أساء إليك، وقل الحق ولو على نفسك.
ويقول ابن عباس: كنت رديف رسول الله فقال: يا غلام، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، فإن العباد لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك لم يقدروا على ذلك. جفت الأقلام، وطويت الصحف! فإن استطعت أن تعمل لله بالرضا في اليقين، فافعل، فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً، وأعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً، ولن يغلب عسر يسرين.
وعن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن".
وعن ابن عمرو بن العاص قال رسول الله: خصلتان من كانتا فيه كتبه الله تعالى شاكراً صابراً، ومن لم تكونا فيه لم يكتبه الله لا شاكراً ولا صابراً: من نظر في دينه إلى من هو فوقه، فاقتدى به، ونظر في دنياه إلى من هو دونه، فحمد الله على ما فضله به عليه".
وعن حذيفة قال: قال رسول الله: " لا يكن أحدكم أمعة ( وهو الذي لا يثبت مع أحد ولا على رأي لضعفه) يقول: أنا مع الناس، إن أحسن الناس أحسنت، وأن أساءوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وأن أساءوا أن تجنبوا اساءتهم".
وعن معاوية أمير المؤمنين أنه كتب إلى عائشة: أن اكتبي إلى كتاباً توصينني فيه ولا تكثري، فكتبت: سلام عليك، أما بعد، فاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله تعالى مئونة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله تعالى إلى الناس، والسلام عليك".
وقال صلى الله عليه وسلم: " شر ما في الرجل؛ شح هالع، وجبن خالع، اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم"، وقال: " إن الله كره لكم ثلاثاً؛ قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال"، وقال: " لا تظهر الشماتة بأخيك، فيعافيه الله ويبتليك"، وقال: " ألا أنبئكم بشراركم؟ الذي يأكل وحده، ويجلد عبده، ويمنع رفده".
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله: " يوشك أن طالت بك مدة أن ترى قوماً في أيديهم مثل أذناب البقر، يغدون في غضب الله ويروحون في سخط الله". وقال: " صنفان من أهل النار لم أرهما بعد: قوم معهم سياط كأذناب البقر، يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، رءوسهن كأسنمة البخت لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها". وقال " نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ".
ثم انظروا إلى هذه الكلمات الموجزة، وتدبروا ما فيها من حكم بالغة: لا خير في صحبة من لا يرى لك ما ترى له.
رحم الله عبداً قال خيراً فغنم، أو سكت فسلم. الناس بزمانهم أشبه. العدة عطية. العاقل ألوف مألوف. لا تزال أمتي بخير ما لم تر الأمانة مغنماً، والصدقة مغرماً. اتقوا المهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه.
كان صلى الله عليه وسلم خطيباً لا يبارى، يقصد إلى الحقيقة، فيضعها بين سمع الناس وبصرهم، لا يحاول أن يستبى القلوب بزخرف القول، يكره التفاصح والتنطع، بين العبارة، واضح المعنى، وله خطب طوال لا حشو فيها ولا تقصير. وقصارى القول أن كلامه هو الكلام الموجز الشامل المعجز.
يقول الخدري صلى بنا النبي يوماً صلاة العصر، ثم قام خطيباً، فلم يدع شيئاً يكون إلى قيام الساعة إلا أخبرنا به، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه، وكان فيما قال: إن الدنيا خضرة حلوة، وإن الله مستخلفكم فيها، فناظر كيف تعملون، ألا فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، ألا لا يمنعن رجلاً هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه، ألا أنه ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة بقدر غدرته، ولا غدرة أعظم من غدرة إمام عاق. ألا وأن الغضب جمرة في قلب بن آدم، أما رأيتم حمرة عينيه، وانتفاخ أوداجه، فمن أحس بشيء من ذلك فليلصق بالأرض.
ثم انظروا إلى هذه الخطبة الجامعة لكثير من أصول الشرائع، في صفحة موجزة، يلقيها على مائة ألف، في موقف عرفة، في حجة الوداع، ففيها ألغى مآثر الجاهلية، وقرر مبادئ المساواة، وحرم الثأر، وقضى بذلك على أقدم عرف للعرب، وأمس شيء بقلوبهم، وقضى كذلك على الربا، ورفع درجة المرأة، وحرم الفتن والنهب والغزو، وكان مفخرة وعزة، وذكر الأشهر الحرم، فسوى بين أوقات السنة فيما هو حلال أو حرام، وقد كان الروم يستغلون تحريم العرب للقتال في شهور معينة، فيعتدون على حدودهم، ونصح الناس في أمور شتى، وحذرهم ما يحقرون من أعمالهم، ويستهينون به من الآثام.
قال صلى الله عليه وسلم: أيها الناس اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً. أيها الناس: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة أثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان. أي شهر هذا؟ أليس ذا الحجة؟ قالوا: بلى، قال: فأي بلد هذا؟ أليس البلدة؟ قالوا: بلى، قال: فأي يوم هذا؟ قال: أليس يوم النحر؟ قالوا: بلى، قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي ضلال يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا ليبلغ الشاهد الغائب فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه، ألا هل بلغت؟ ألا هل بلغت؟. فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها، وأن كل ربا موضوع (أي مهدر)، ولكن لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، قضى الله أنه لا ربا، وأن ربا عباس ابن عبد المطلب ( عم النبي) موضوع كله، وأن كل دم كان في الجاهلية موضوع، وأن أول دمائكم أضع دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ( أي ابن عم النبي). أما بعد أيها الناس، فإن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه أبداً، ولكنه أن يطمع فيما سوى ذلك، فقد رضي بما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم.
أيها الناس " إنما النسئ زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا، يحلونه عاماً، ويحرمونه عاماً، ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله".
أما بعد: أيها الناس، فإن لكم على نسائكم حقاً، ولهن عليكم حقاً، لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً غيركم تكرهونه، وعليهن ألا يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن، فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع، وأن تضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف.
أيها الناس: استوصوا بالنساء خيراً، فانهن عندكم عوان(1) لا يملكن لأنفسهن شيئاً، فاعقلوا ـ أيها الناس ـ قولي، فإني قد بلغت، وقد تركت فيكم ما أن اعتصمتم به فلن تضلوا: كتاب الله، وسنة رسوله.
أيها الناس: اسمعوا قولي واعقلوه تعلمن أن كل مسلم أخ المسلم، وأن المسلمين أخوة، فلا يحل لامرئ مال أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمن أنفسكم، اللهم هل بلغت؟
فأجاب الناس من كل صوب؛ نعم. فقال: اللهم أشهد، ونزل عن ناقته.
هذه الخطبة جمعت أصولاً قد تبدو الآن معترفاً بها، مجمعاً عليها، ولكن الذين درسوا حالة المجتمع العربي وقت القائها، بل حالة المجتمع الإنساني؛ يعرفون أنها كانت أساساً جديداً لأكبر انقلاب اجتماعي منذ ظهوره صلى الله عليه وسلم، ويلحظون احاطتها على قِصَرِها بالداء والدواء، وأن فيها أسس الحضارة التي جعلت من العرب الضلال أمة تسوس المشرق والمغرب قروناً كثيرة.
وهاهي ذي الأيام تمر فتبلى كل جديد، وفصاحة محمد وبلاغته لا تزال نضرة عذبة يبتهج بها المتطلع إلى الأدب والعلم، ويجد فيها الأديب ريا وشفاء.
(1) الحائط: البستان.
(1) جمع عانية، أي أسيرات، شبههن بالأسيرات لضعفهن.