[align=center]
- رمي الجمار في منى وقت الرمي:
أيام الرمي في (منى) أربعة أيام هي: يوم النحر (وهو اليوم العاشر من ذي الحجة -أي اليوم الأول من أيام عيد الأضحى-)، وثلاثة أيام التشريق (أي أيام: الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر من ذي الحجة). ونتكلم فيما يلي عن وقت الرمي في يوم النحر أولاً، ثم عن وقته في أيام التشريق ثانيًا.
الرمي يوم النحر: بيان أول وقته:
اختلف الفقهاء في أول وقت الرمي في يوم النحر على أقوال نذكرها فيما يلي، ونذكر أدلتها، ونبين الراجح منها.
القول الأول وأدلته:
أول وقت الرمي في يوم النحر بعد طلوع الشمس ضحى، وهذا قول مجاهد والثوري والنخعي.
أدلة هذا القول هي ما يأتي:
أولاً: حديث جابر الذي أخرجه الإمام البخاري وفيه: رمى النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم النحر ضحى، ورمى بعد ذلك بعد الزوال. وعند الإمام مسلم عن جابر، قال: رمى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الجمرة يوم النحر ضحى، وأما بعد فإذا زالت الشمس. ثانيًا: أخرج الترمذي عن ابن عباس: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قدم ضعفة أهله -أي من مزدلفة إلى منى- وقال: لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس. ورواه أبو داود عن ابن عباس بلفظ: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة المزدلفة أغيلمة بني عبد المطلب على حمرات، فجعل يلطخ أفخاذنا ويقول: أبُيْنَيَّ-تصغير بنيّ-، لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس، وفي رواية لأبي داود عن ابن عباس أنه قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقدم ضعفة أهله بغلس ويأمرهم -يعني لا يرمون الجمرة- حتى تطلع الشمس.
ووجه الدلالة بهذه الأحاديث أن حديث جابر صريح في أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رمى بعد طلوع الشمس ضحى، وأن حديث ابن عباس برواياته وألفاظه المختلفة، تدل على ذلك أيضًا؛ لأنه إذا كان من رخص لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بالخروج من مزدلفة بليل منعهم أن يرموا قبل طلوع الشمس، فمن لم يرخص لهم بالخروج من مزدلفة ليلاً أولى بالمنع من الرمي قبل طلوع الشمس.
القول الثاني وأدلته:
أول وقت الرمي في يوم النحر بعد طلوع الفجر من هذا اليوم، فلا يجوز الرمي قبل هذا الوقت، والمستحب الرمي بعد طلوع الفجر قبل الزوال، وهذا قول الحنفية، والمالكية، وهو رواية عن الإمام أحمد.
واحتج الحنفية -كما جاء في "البدائع" للكاساني- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قدم ضعفة أهله ليلة المزدلفة، وقال لهم: لا ترموا جمرة العقبة حتى تكونوا مصبحين، ثم قال الكاساني: فإن قيل قد روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا ترموا جمرة العقبة حتى تطلع الشمس" وهذه حجة سفيان الثوري في أن وقت الرمي هو بعد طلوع الشمس، فالجواب كما يقول الكاساني: إن هذا الحديث محمول على بيان الوقت المستحب للرمي توفيقًا بين الروايتين بقدر الإمكان، وبه نقول: إن المستحب في الرمي أن يكون بعد طلوع الشمس.
القول الثالث وأدلته:
أول وقت الرمي يوم النحر الذي يجوز فيه الرمي هو نصف الليل من ليلة النحر، وهذا قول الحنابلة، وبه قال عطاء وابن أبي ليلى، وهو مذهب الشافعي والزيدية. ولكن المستحب عند هؤلاء أن يكون الرمي بعد طلوع الشمس، وارتفاعها قدر رمح -أي ضحى-، لما ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه رمى الجمرة ضحى، قال ابن عبد البر: أجمع علماء المسلمين على أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنما رماها ضحى ذلك اليوم.
وأدلة هذا القول:
أولاً: الحديث الشريف الذي رواه الإمام البخاري ومسلم عن عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر الصديق -رضي الله عنهما-: أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة فقامت تصلي، فصلت ساعة ثم قالت: يا بني هل غاب القمر؟ قلت: فارتحلوا، فارتحلنا ومضينا حتى رمت الجمرة، ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها -في منى- فقلت: يا هنتاه ما أرانا إلا قد غسلنا. قالت: يا بني إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أذن للظعن.
ثانيًا: واحتجوا أيضًا بما رواه أبو داود عن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: أرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- أم سلمة -رضي الله عنها- ليلة النحر، فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت، وكان ذلك اليوم الذي يكون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندها.
ثالثًا: وقالوا: إن الأحاديث التي فيها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رمى بعد طلوع الشمس محمولة على الاستحباب.
القول الراجح:
والراجح من الأقوال أن أول وقت الرمي يوم النحر هو بعد طلوع الشمس، عندما ترتفع الشمس ويكون الوقت ضحى للأدلة التالية:
أولاً: ورود الأحاديث الصحيحة بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- رمى يوم النحر جمرة العقبة بعد طلوع الشمس، وفي بعض هذه الأحاديث رماها في ضحى يوم النحر، وأفعال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحج تحمل على الوجوب، إلا إذا قام الدليل على صرفها عن الوجوب، وذلك لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "خذوا عني مناسككم". ويقوي ما قلناه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أذن للضعفة من أهله بالخروج من مزدلفة ليلاً، والتوجُّه إلى (منى)، وأمره -صلى الله عليه وسلم- لهم بأن لا يرموا الجمرة -جمرة العقبة- إلا بعد طلوع الشمس، وقد ذكرنا بعض هذه الأحاديث.
ثانيًا: ما استدل به المجيزون للرمي قبل الفجر، أو بعد الفجر وقبل طلوع الشمس لا حجة لهم فيه؛ لأن هذه الأحاديث التي احتجوا بها إنما أفادت الرخصة للنساء والصبيان بالرمي قبل طلوع الشمس، سواء كانت هذه الرخصة لهم للرمي بعد طلوع الفجر، أو قبل طلوع الفجر، فلا تصلح هذه الأحاديث الشريفة حجة على جواز الرمي قبل طلوع الفجر، أو بعده قبل طلوع الشمس لغير هؤلاء -أي لعموم الحجاج- لورود الأحاديث القاضية بخلاف ذلك.
ثالثًا: من قال: إن الأحاديث الواردة بالرمي بعد طلوع الشمس دلت على استحباب الرمي في هذا الوقت، والأحاديث الواردة بالرمي قبل طلوع الفجر دلت على جواز الرمي في هذا الوقت، هذا القول الذي بنى أصحابه على أساسه الجمع بين الأحاديث الواردة في موضوع الرمي قول مدفوع بأن أحاديث الرمي بعد طلوع الشمس أفادت الحكم العام لوقت الرمي بالنسبة لجميع الحجاج، والأحاديث الواردة بالرمي قبل الفجر أو بعده قبل طلوع الشمس أفادت الرخصة للنساء ومن في معناهن كالصبيان، قال الإمام الشوكاني: والأدلة تدل على أن وقت الرمي من بعد طلوع الشمس لمن كان لا رخصة له، ومن كان له رخصة كالنساء وغيرهن من الضعفة جاز قبل ذلك، ولكنه لا يجزئ في أول ليلة النحر إجماعًا.
رمي النساء ومن يلحق بهن:
والذين تشملهم الرخصة -رخصة الرمي قبل الفجر من يوم النحر- هم النساء والصبيان، كما جاء في بعض الأحاديث الشريفة التي ذكرناها.
وجاء في أحاديث أخرى أن هذه الرخصة هي للضعفة، وقد فسر العلماء الضعفة بأنهم النساء والصبيان لورودهم صراحة في أحاديث أخرى، كما ذهب إلى هذا التفسير الإمام ابن حزم الظاهري حيث قال: الضعفة هم الصبيان والنساء فقط. ولكن الإمام العيني في شرحه لصحيح البخاري قال معقبًا على قول ابن حزم الذي نقله عنه، ومبينًا مدلول لفظ "الضعفة" الوارد في الحديث، قال العيني -رحمه الله-: يدخل فيه المشايخ العاجزون؛ لأنه روي عن ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدَّم ضعفة بني هاشم وصبيانهم بليل رواه ابن حبان. وقوله: (ضعفة بني هاشم) أعمّ من النساء والصبيان والمشايخ العاجزين وأصحاب الأمراض؛ لأن العلة خوف الزحام عليهم. ثم قال العيني: وعن ابن عباس قال: أرسلني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ضعفة أهله فصلينا الصبح "بمنى" ورمينا الجمرة. وقال المحب الطبري: لم يكن ابن عباس من الضعفة.
وعند الزيدية: يجوز للمرأة والخائف والمريض ونحوهم الرمي في النصف الآخر من الليل.
فالرخصة إذن تشمل النساء والصبيان بالنص عليهم كما جاء في بعض الأحاديث. وتشمل المشايخ والعاجزين وأصحاب العلل والأمراض ونحوهم، بعموم لفظ: "الضعفة"؛ لأن العلة كما قال الإمام العيني هي خوف الزحام عليهم. ويمكن أن يقال أيضًا: الرخصة، فشمل كل من لا يقدر على تحمل زحمة الناس، وإن لم يكن شيخًا كبيرًا ولا عاجزًا ولا مريضًا، كما لو كان نحيف البنية من غير مرض، ولكنه لا يقوى على تحمل الزحام. وكذلك تشمل الرخصة من يكون مع أهل الرخصة كالخادم، فيرمي معهم قبل الفجر أو بعده قبل طلوع الشمس. وفي قول المحبِّ الطبري: لم يكن ابن عباس من الضعفة إشارة إلى أنه رمى مع الضعفة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أرسله معهم، والظاهر أنه رمى مع أولئك الضعفة.
وذهب الشوكاني إلى أن من يرافق الضعفة فإنه يرمي معهم قبل طلوع الشمس. فقد قال -رحمه الله-: ولكنه يجوز لمن بعثهن معهن من الضعفة كالعبيد والصبيان أن يرمي في وقت رميهن، كما في حديث أسماء وحديث ابن عباس الآخر، وهذا الحديث الآخر الذي يشير إليه الشوكاني عن ابن عباس، رواه الإمام أحمد، ولفظه: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث به -أي بعث ابن عباس- مع أهله إلى "منى" يوم النحر، فرموا الجمرة مع الفجر.
الرخصة تشمل محارم وأزواج النساء:
ويبدو لي أن الرخصة في الرمي قبل الفجر أو بعده قبل طلوع الشمس غير مقصورة على النساء فقط، أو عليهن وعلى الصبيان، بل تشمل أيضًا من يكون مع النساء من محارمهن أو أزواجهن إذا أردن الخروج من مزدلفة إلى (منى) ليلاً، أخذًا بترخيص النبي -صلى الله عليه وسلم- للنساء بالخروج من مزدلفة ليلاً، فإن أزواجهن و محارمهن يخرجون معهن؛ لأن من شروط وجوب الحج أو شروط صحة أدائه للمرأة أن يكون معها زوجها أو ذو محرم منها، فلا يعقل أن يترك الزوج امرأته تخرج ليلاً من مزدلفة إلى (منى) ويبيت هو في المزدلفة، فإذا خرج معها رمى معها قبل طلوع الفجر أو بعده قبل طلوع الشمس. ويدل على ما قلناه: الأحاديث الشريفة التي ذكرناها، والتي فيها أن مرافقي النساء رموا معهن مثل ابن عباس الذي بعثه النبي -صلى الله عليه وسلم- مع ضعفة أهله، ومثل مولى أسماء بنت أبي بكر الذي خرج معها إلى "منى" بغلس من الليل، ولم ينقل إلينا أنهما أخَّرا رميهما إلى ما بعد طلوع الشمس.
الخلاصة فيمن تشملهم الرخصة ومن لا تشملهم:
ويخلص لنا من جميع ما تقدم أن الذين تشملهم رخصة الرمي بعد منتصف ليلة النحر هم: النساء، والصبية ذكورًا كانوا أم إناثًا، من يرافق النساء من الأزواج والمحارم، موالي النساء وخدمهم، الشيوخ العاجزون، المرضى، ومن لا يقوى على الزحام لضعف بنيته، أو لأي سبب آخر.
ومن عدا هؤلاء يكون أول وقت الرمي في حقهم بعد طلوع الشمس من يوم النحر على ما رجحناه، ولا يجوز لهؤلاء الرمي قبل هذا الوقت.
آخر وقت الرمي يوم النحر:
أما آخر وقت الرمي في يوم النحر فهو آخر هذا اليوم، وبهذا قال الحنابلة، وأبو حنيفة والمالكية والشافعية والزيدية.
ومن أقوال الشافعية: ويبقى وقت الرمي إلى آخر يوم النحر لما رواه البخاري: أن رجلاً قال النبي الله -صلى الله عليه وسلم-: إني رميت بعدما أمسيت، فقال: "لا حرج" والمساء: بعد الزوال.
وهذا الحديث رواه الإمام البخاري عن ابن عباس، وقال الإمام العيني في شرحه لهذا الحديث: وقوله: "بعدما أمسيت" أي بعدما دخلت في المساء، والمراد به بعد الزوال، لأن العرب يسمون ما بعده مساء.
وقال ابن عبد البر: أجمع أهل العلم على أن من رماها يوم النحر قبل المغيب فقد رماها في وقت لها.
الرخصة في تأخير الرمي إلى الليل للعذر:
من لم يجز تأخير الرمي إلى الليل إلا لعذر أجاز التأخير لعذر النفاس أو الحيض، أو كونهم من الرعاة، مستدلين لهذا الجواز بهذه الأعذار، بالآثار الواردة فيها، وهي:
أولاً: الرخصة للنفساء والحائض:
جاء في "موطأ مالك": أن ابنة أخ لصفية بنت أبي عبيد نفست بالمزدلفة، فتخلفت هي وصفية حتى أتتا "منى" بعد أن غربت الشمس من يوم النحر، فأمرهما عبد الله بن عمر أن ترميا الجمرة حين أتتا ولم ير عليهما شيئًا. وجاء في شرح هذا الأثر: ولم ير عليهما شيئًا- أي لعذرهما: تلك بالولادة، والعمة -أي صفية- بمعاونتها-. ونفست تأتي بمعنى الولادة والحيض.
ثانيًا: الرخصة للرعاة:
في "السنن الكبرى" للبيهقي عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الراعي يرمي بالليل ويرمي بالنهار". وروى البيهقي أيضًا عن ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رخص للرعاة أن يرموا بالليل. وفي حديث أخرجه البزار والحاكم عن ابن عمر بإسناد حسن: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أرخص للرعاة أن يرموا بالليل، وأية ساعة شاءوا من النهار، وفي "موطأ مالك" عن يحيى بن سعيد، عن عطاء بن أبي رباح: أنه سمعه يذكر أنه أرخص للرعاة أن يرموا بالليل، يقول: في الزمان الأول. وجاء في شرحه أنه أرخص للرعاة أن يرموا بالليل ما فاتهم رميه نهارًا في الزمان الأول -أي في زمن الصحابة- وبهم القدوة.
وظاهر هذه الأحاديث الشريفة أن تأخير الرمي للرعاة إلى الليل إنما هو رخصة لهم لعذرهم، ولكن الحنفية اعتبروا هذا الجواز للرعاة دليلاً لإباحة الرمي ليلاً للجميع، ولم يعتبروه دليلاً للرخصة للرعاة فقط دون غيرهم، وقد ذكرنا ذلك عن الحنفية في الفقرة السابقة [/align]