لا يمكن للدولة العربية النهوض بمسلميها وساكنيها
إذا لم يستند ذلك على مقومات حقيقية
غير تخمينية
وعناصر بشرية تمدها بالطاقة الوظيفية والعمالية
من غني وفقير
وكفء وخبير
ومتعلم وجاهل
ومواطن و زائر
لأجل إرساء دعائم قوية ومتينة
تبث في تلك الدولة الإستمرارية والمصداقية
شريطة أن يتداخل الحق في كافة تفاعلاتها وتعاملاتها
ابتداءا من ولي الأمر
وانتهاءا ببيت الأسرة
الأساس في الميزان هو (الحق)
وأعظم مفاتيحه هو (التعاون)
وذلك ما أكده الله تعالى في أكثر من آية قرآنية:
التعاون في العبادة
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)
التعاون على طاعة الله ورسوله (صلى الله عليه وسلم) وأولي الأمر
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)
التعاون على البر والتقوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وعلى الدفاع عن الوطن والنفس والعرض
(وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)
التعاون على الصبر والتراحم
(ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ)
التعاون على أداء الحقوق فيما بين الناس مع الصبر على ذلك
(إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)
التعاون على تقديم خدمة العام على الخاص
(قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا)
التعاون في الاعداد للحرب
(وأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ)
التعاون على الإستقامة
(فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ)
التعاون على الإنفاق في الخير
(وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ)
وغيرها كثير
أما جوهر التعاون فهو (الصدق)
فلا يمكن للتعاون أن يثمر عن غايته
إذا لم يصاحب الصدق جميع أطراف المعاملة
فضلا عن أن مرتبة الصادقين في القرآن الكريم
هي أعلى من مرتبة الشهداء
(وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا)
يعتمد الإسلام كثيرا على اسلوب الترغيب
ابتداءا من حسن الخلق ، والعفو عند المقدرة
وانتهاءا بـ
(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)
ولايمكن البدء بدولة مسلمة قوية
إذا لم يكن لشمولية الخير فيها نصيب
إذ لن يستطيع الحاكم سنّ القوانين
والشعب غارق في ظلمات الجوع والجهل والفقر
لذا فأن من واجبات الحاكم المسلم:
أولا - إلغاء المواطنة والتمييز:
إن الهجرة وأعتزال الظلم والخطأ والكفر
لهو درب دأب عليه الأنبياء والصالحين للنجاة من بطش الطاغوت
فلم يقتصر حدث الهجرة على رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
بل شمل معظم المؤمنين بعدما ضاقت صدورهم مما لحقهم من كفر وأذى
ففرج الله عنهم بأرض الهجرة ليعتزلوا قومهم
ويعبدون الله وحده دون تضييق
فنوح (عليه السلام) هاجر و فر إلى الله سبحانه
وإبراهيم ولوط (عليهما السلام) هاجرا
(فَآَمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)
وموسى (عليه السلام) قال فيه الله عز وجل
(وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى)
فهجرة لوط (عليه السلام) كانت إلى الله
وليس إلى أرض قد عيّنها
فكأن صفة العيش في الارض تنتقض
إذا كانت محكومة بغير شرع الله
فاستحقت تلك الأرض أن تُترك
والله يقول في كتابه
(إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)
رغم أن مكة أو البيت الحرام هي أحب البقاع إلى الله
فتدبر كيف أن الله لم يخص أرضا على أرض
فعلاقة الخلافة التي أعلنها الله تعالى قبل خلق آدم
(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)
هي علاقة بين العبد المكلف والرب
وليست بين العبد والأرض.
ان "الوطن" هو مسمّى قد فرضه علينا الاستعمار
بعد تقسيم الأرض العربية الى دويلات بين البريطانيين والفرنسيين والايطاليين ومن شابه شاكلتهم
ولولا هذه الحدود
لما كانت هناك شعوب عربية بجنسيات مختلفة
لكن حين يكون الولاء لله وليس للوطن
يكون الولاء أوسع وأشمل وأكثر إحسانا
، فالولاء لله يشمل الحلال والحرام وإتقاء الشبهات
بينما الولاء للوطن يشمل المحسوبية والقبلية والعشائرية والتقاليد
وقد تتخلل تلك التقاليد عادات متوارثة غير منسوبة للدين
وفي هذه الحالة
فالولاء للوطن دون رضى الله
لا خير فيه
ولقد ولد رسول الله محمد (صلى الله عليه وسلم) في مكة
، ولاتوجد آية قرآنية واحدة تخاطبه (يا أيها المكيّ) ، أو (يا أيها المدنيّ)
كونه (صلى الله عليه وسلم) عاش في المدينة
كما أن الآيات التي يخاطب الله عز وجل فيها المؤمنين
بخاطبهم فيها بصفتهم الإيمانية بقوله (يا أيها الذين آمنوا)
فلا أعراق ، ولاجنسيات ، ولا قوميات
فإما أن تكون مؤمنا ، أو لا تكون
ولقد تفانى الصحابة في ولائهم لله ولرسوله (صلى الله عليه وسلم)
ناسين بذلك مصالح بلدهم الأصلي
كسلمان الفارسي وبلال الحبشي (رضي الله عنهما)
وغيرهما كثير.
وعلى هذا الميزان العادل
يقوم الحاكم بوضع حدود جغرافية للدولة قبل حكمها
وليس حدود سياسية
إذ لايمكن للحاكم أن يتولى أمر أمة ، دون أن يقوم بتعيين جغرافية أرضها
كي يميز القريب من الغريب.
رفع وإزالة السجون المدنية ، إقتداءا بسيرة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، إذ لم يكن هناك سجن في مدينته (صلى الله عليه وسلم) ، وكان القصاص يتم على الآثم في اللحظة ذاتها ، حسب ما يقتضيه الشرع بنصوص القرآن الكريم ، ولقد عفى عن جميع أهل مكة حين دخلها (صلى الله عليه وسلم) فاتحا ، فقال لهم (إذهبوا فأنتم الطلقاء) ، "لكنه (صلى الله عليه وسلم) أمر بالقصاص حينها من أفراد لم يتجاوز عددهم الأربعة فقط ، (عكرمة بن أبي جهل ، وعبد الله بن خطل ، ومقيس بن صبابة ، وعبد الله بن سعد بن أبي السرح) ، فمنهم من ارتد وقتل المسلمين ، ومنهم من ارتد وكان يدعي انه كان يصرف النبي (صلى الله عليه وسلم) عن بعض كلمات الوحي ، فيكتب غير ما أنزل ، ومنهم من كان شديد العداوة لرسول الله (صلى الله عليه وسلم). وفي الإستيعاب لإبن عبد البر (أن عبد الله بن سعد بن أبي السرح أسلم يوم الفتح وحسن إسلامه" ، والله أعلم.
أو كما في قصة الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك ، فكان عقابهم هو عزلة الناس عنهم ، حتى تابوا ، فتاب الله عليهم ، ولأن سجون اليوم مدنية دنيوية ولا تمت للشرع بصلة ، فيُمكن للحاكم بعد استشارته أهل العدل والإختصاص ، أن يقوم بدراسة إمكانية تحويل القوانين الوضعية بطريقة تتناسب مع الأحكام الشرعية ، وتتم غربلة الجرائم لأصحاب السجون على أساسها ، ولقد أكد الله سبحانه وتعالى ، على أهمية الإحتكام إلى شرع الله في كثير من آيات القرآن الكريم ، منها:
وحين سنّ المشرعون القوانين الوضعية ، اعتقدوا أنها اصلح للخلق وأنفع من حكم الله ، لكنك حين تغيّر من منهج إلى منهج ، عليك أن تختار ما هو أفضل ، ولايوجد أفضل وأكمل من حكم الله ، فإن أخترت غيره ، فكأنك طعنت في عدل الله ، وفي حكمته وعلمه ورحمته ، وكأن هناك من هو أعدل منه ، وأحكم منه ، وأعلم منه ، وارحم منه للعباد ، فكيف تتبع تشريعا ممن لم يخلقك ، (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) الشورى\21 ، والشهادة الربانية هي (قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ) البقرة\140. ولمثل هؤلاء يقول العزيز الحكيم (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ... وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ... وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) المائدة\44-47 ، وجميع هذه الآيات في سورة المائدة ، والتي تستهل بدايتها بـ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) المائدة\1 ، واحدى هذه العقود ، هي الأحكام الشرعية.