اختار الله سبحانه وتعالى قوما يعيشون فى البادية ليختصهم بالدعوة الخاتمة، واصطفى من بينهم رسولا يختصر دعوته فى أنه جاء ليتمم مكارم الأخلاق، وإذا بالدين الجديد آنذاك، الذى واجهته قريش وحلفاؤها بالرفض والمقاومة، لا ينكر ما كان للعرب من صفات إيجابية، بل دعمها وكرسها، فالصدق والأمانة والوفاء بالعهد ونجدة المحتاج والدفاع عن المظلوم والقصاص من الظالم بعد أن كانت فضائل عند العرب فى جاهليتهم، أصبحت جزءا لا يتجزأ من العقيدة، يتعبد ويتقرب بها المسلم لربه.
وزاد الدين الجديد بأن أصلح ما فى المجتمع من فساد المنهج، فدعا إلى عبادة الله الواحد وترك الآلهة المتعددة، وجعل الله ورسوله مقدما على القبيلة وما سواها، كما خلق الرابطة الدينة التى ساوت بين البشر جميعا، لا فرق بين عربى وأعجمى أو حر وعبد أمام الله إلا بالتقوى، ورفع مكانة المرأة، وقوى النفوس فى الحق، ورقق القلوب على الضعفاء.
فأضحت القبائل المتناحرة أمة واحدة تحمل الدعوة غربا وشمالا وجنوبا وشرقا، تنادى بالعدل ورفع الظلم، تفتح الأمصار تحت راية الحرية، تحارب من أجل المقهورين وتدافع عن كرامتهم باسم الإنسانية، تمتثل لأمر الله تعالى ولقد كرمنا بنى آدم، فالكرامة لا يحدها دين ولا تقف عند حد النطق بالشهادتين.
فأصبح الجميع آمنا على عبادته وماله وعرضه، كلٌ يعيش مواطنا كامل الأهلية ضمن حدود الحضارة الإسلامية، كلٌ له ما للمسلم، وعليه ما عليه ما دام غير محارب، تطبيقا لوصايا الرسول الكريم، واتباعا لسنته كما خطها مع يهود المدينة ومع من يسرى عليهم القياس نفسه، فاستجابت القلوب والنفوس للعيش فى حمى هذه الدعوة التى تمتلك المنهج العملى لتحقيق رؤاها، وتكره العنصرية وتنبذ التعالى على الآخرين، فكلكم لآدم وآدم من تراب.
وأدرك الصحابة ما للرسالة من تسام، فقفزوا فوق التفاصيل لتطبيق مقاصد الإسلام دون تشديد أو تفريط، فها هو الخليفة ابن الخطاب رضى الله عنه ينزل على رغبة عرب بنى تغلب من النصارى الذين أنفوا من اسم «الجزية» وطلبوا أن يؤخذ منهم ما يؤخذ باسم الصدقة، ووافقهم عمر ولم يتشنج ويصرخ بأنها كلمة ذكرت فى النص القرآنى صراحة، وإنما فهم النص فى مقصده، ولذا لم يتحرج من قبول طلبهم.
ومن هنا نرى كيف غير «الإسلام الدعوة»، والمسلمون المؤمنون بهذه الدعوة الواقع من حولهم، وانطلقوا ينشرون صورة ناصعة ونضرة لعالم تسوده الإنسانية المشتركة، يقوم الجميع بدوره فى إعمار الأرض المستخلفين من قبل الله تعالى فيها، مؤمنين بقوامتهم فى تطبيق هذه الرؤية، ومدركين لمعنى القوامة كمسؤولية نحو المساواة وإحقاق الحقوق. وظل الإسلام قرآنا وسنة حجة على من خالف أو أخذته العزة والغرور.
ثم تدور الدائرة ليصبح مسلم اليوم ساعيا للخلاص الفردى، خلاص العبادات دون المعاملات، ويظن أنه أفضل العالمين بإسلام أتاه بحكم الميلاد لا الاجتهاد، ويتخطى بجهل ما يميز مجتمعه من اعتدال ووسطية وتسامح، متخفيا وراء محافظة فكرية تاهت خلالها الهوية الوطنية ولم تصنع المجتمع الإسلامى، وأصبح مسلمو اليوم فاقدى الاتجاه والبوصلة.
ونمت التطلعات الاستهلاكية، وتراجعت القيم الإسلامية الإنسانية، وسيطر الخطاب الفوقى، وشاع رفض الآخر القريب أكثر من العدو المحارب، وبدلا من مجادلة أهل الكتاب بالتى هى أحسن أصبح جدالهم بالتى هى أشد أو التى هى أقتل، وتحولت القوامة إلى وصاية واستبداد.
وحلت الحركات المتصارعة بدلا عن جماعة المسلمين. وتقدم التنظيم على غايات الإسلام، وباتت الأولوية لتعليمات الأمير وفقه المصلحة الضيقة لا المصلحة العامة، وبدلا من تحرير المسلمين إلا من عبودية الله، نمت أجيال لا تعرف إلا السمع والطاعة لأمر مسؤوليها.
وانتفت المسافة بين النص المقدس وقراءته، وبين طبيعة الدين وما يعتقده المسلم، وتحول الاستخلاف إلى المتحدث باسم الله وظله على الأرض، والغريب أن هذه إحدى تجليات الحلولية فى عصر الحداثة وما بعدها، ليصبح الفارق بين خطاب الإسلاميين وخطاب الصهيونية المسيحية مجرد فرق الديباجات.
كما طغت التفاصيل وغابت المقاصد، وتحكم الحرف وتوارى مضمون النص، وتم استحضار معتقدات عصور التراجع الحضارى والاستعمار، أما سلوكيات كبار الصحابة فخضعت للانتقائية والتأويل، وارتفعت أصوات مشايخ الانغلاق والعزلة، واستبعدت اجتهادات الفقهاء المجددين، فطغى المظهر على الجوهر وأصبح المؤمن ليس من سلم المسلمون من لسانه ويده، بل من أطلق لحيته ونقب زوجته وبناته، فالنقاب فضيلة أم فريضة أضحت قضية القضايا، أما مقاومة الظلم ومحاربة الفساد وإقامة العدل فى الأرض والدعوة للمساواة فقد أتت فى ذيل القائمة.
وبعد أن انتشر الإسلام مدعوما بجهاد الطلب فى ظل راية تحمل أسمى المعانى والقيم، عجز مسلمو اليوم عن القيام بفريضة جهاد الدفع فى فلسطين والعراق، بل وانسحبت الغالبية من الحياة العامة التى أمر الله بإصلاحها، وانزوى كل إلى نفسه وبيته، وتم تسويغ ذلك بضرورة البدء بتنشئة الفرد المسلم ثم الأسرة والمجتمع المسلم، ولم يقل لنا منظرو الرؤية هذه ما هى علامات الانتقال من مرحلة لأخرى؟! أو متى وكم من الوقت توقف المسلمون الأوائل عن بناء حضارتهم لإعداد أبنائهم المسلمين؟!.
والنتيجة.. أنه لم تتحقق الشخصية المسلمة، بل تراجعت كل القيم الإسلامية العليا فى الشارع، وفى أماكن العمل والمؤسسات بل وفى أماكن العبادة، واختلت المعايير والأولويات، ثم يتباهى كثيرٌ بما يسمى بعصر الصحوة الإسلامية التى لولاها لبقى المجتمع على جاهليته السابقة!!.
وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون) فقالوا: يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون ؟ قال: ( المتكبرون) رواه الترمذي وقال: حديث حسن