رد: أرواح تهيم حول العرش وأبدان تحوم حول الحش للعلامة ابن القيم
اسرح فى فضاء عظمة الله مع ابن القيم
قال الإمام العلامة بحر العلوم شيخ الإسلام ابن القيم فى كتابه المتحف طريق الهجرتين
فنبأ القوم عجيب ، وأمرهم خفي إلا على من له مشاركة مع القوم ، فإنه يطلع من حالهم على ما يريه إياه القدر المشترك ، وجملة أمرهم أنهم قوم قد امتلأت قلوبهم من معرفة الله ، وغمرت بمحبته ، وخشيته ، وإجلاله ، ومراقبته ؛ فسرت المحبة في أجزائهم ؛ فلم يبق فليها عرق ولا مفصل إلا وقد دخله الحب ، قد أنساهم حبه ذكر غيره ، وأوحشهم أنسهم به ممن سواه ، قد فنا بحبه عن حب من سواه ، وبذكره عن ذكر من سواه ، وبخوفه ، ورجائه ، والرغبة إليه ، والرهبة منه ، والتوكل عليه ، والإنابة إليه ، والسكون إليه ، والتذلل ، والانكسار بين يديه عن تعلق ذلك منهم بغيره .
فإذا وضع أحدهم جنبه على مضجعه ؛ صعدت أنفاسه إلى إلهه ومولاه ، واجتمع همه عليه متذكرًا صفاته العلى وأسماءه الحسنى ،
ومشاهدًا له في اسمائه وصفاته قد تجلت على قلبه أنوارها ؛ فانصبغ قلبه بمعرفته ومحبته ، فبات جسمه في فراشه يتجافى عن مضجعه ، وقلبه قد أوى إلى مولاه وحبيبه ؛ فآواه إليه وأسجده بين يديه خاضعًا خاشعًا ذليلاً منكسرًا من كل جهة من جهاته ، فيا لها سجدة ما أشرفها من سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم اللقاء .
وقيل لبعض العارفين : أيسجد القلب بين يدي ربه ؟!
قال : أي والله بسجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم القيامة . فشتان بين قلب يبيت عند ربه قد قطع في سفره إليه بيداء الأكوان ، وخرق حجب الطبيعة ، ولم يقف عند رسم ولا سكن إلى علم حتى دخل على ربه في داره ؛
فشاهد عز سلطانه ، وعظمة جلاله ، وعلو شأنه ، وبهاء كماله ، وهو مستو على عرشه ، يدبر أمر عباده ، وتصعد إليه شؤون العباد ، وتعرض عليه حوائجهم وأعمالهم ؛ فيأمر فيها بما يشاء ؛ فينزل الأمر من عنده نافذًا ،
فيشاهد الملك الحق قيومًا بنفسه ، مقيما لكل ما سواه ، غنيا عن كل من سواه ، وكل من سواه فقير إليه ، يسأله من في السموات والأرض كل يوم هو في شأن ، يغفر ذنبًا ، ويفرج كربًا ، ويفك عانيًا ، وينصر ضعيفًا ، ويجبر كسيرًا ، ويغني فقيرًا ، ويميت ويحيي ، ويسعد ويشقي ، ويضل ويهدي ، وينعم على قوم ، ويسلب نعمته عن آخرين ، ويعز أقواما ، ويذل آخرين ، ويرفع أقواما ، ويضع آخرين ،
ويشهده كما أخبر عنه أعلم الخلق به وأصدقهم في خبره حيث يقول في الحديث الصحيح : يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة ، سحاء الليل والنهار ، أرأيتم ما أنفق منذ خلق الخلق ، فإنه لم يغض ما في يمينه ، وبيده الأخرى الميزان :يخفض ويرفع .
فيشاهده كذلكيقسم الأرزاق ، ويجزل العطايا ، ويمن بفضله على من يشاء من عباده بيمينه ، وباليد الأخرى الميزان يخفض به من يشاء ، ويرفع به من يشاء عدلاً منه وحكمة ، لا إله إلا هو العزيز الحكيم ،
فيشهده وحده القيوم بأمر السموات والأرض ومن فيهن ، ليس له بواب فيستأذن ، ولا حاجب فيدخل عليه ، ولا وزير فيؤتى ، ولا ظهير فيستعان به ، ولا ولي من دونه فيشفع به إليه ، ولا نائب عنه فيعرفه حوائج عباده ، ولا معين له فيعاونه على قضائها ، أحاط - سبحانه - بها علمًا ، ووسعها قدرة ورحمة ، فلا تزيده كثرة الحاجات إلا جودًا وكرمًا ، ولا يشغله منها شأن عن شأن ، ولا تغلطه كثرة المسائل ، ولا يتبرم بإلحاح الملحين ، لو اجتمع أول خلقه وآخرهم ، وإنسهم وجنهم ، وقاموا في صعيد واحد ، ثم سألوه فأعطى كلا منهم مسألته ما نقص ذلك مما عنده ذرة واحدة ، إلا كما ينقص المخيط البحر إذا غمس فيه ، ولو أن أولهم وآخرهم ، وإنسهم وجنهم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منهم ما زاد ذلك في ملكه شيئا ، ذلك بأنه الغني الجواد الماجد ، فعطاؤه كلام ، وعذابه من كلام ، إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون .
ويشهده كما أخبر عنه أيضا الصادق المصدوق حيث يقول:( إن الله لا ينام ، ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار ، وعمل النهار قبل عمل الليل ، حجابه النور ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه .)
وبالجملة فيشهده في كلامه فقد تجلى - سبحانه وتعالى- لعباده في كلامه ، وتراءى لهم فيه ، وتعرف إليهم فيه ،
فبعدًا وتبًا للجاحدين والظالمين أفي الله شك فاطر السموات والأرض لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ) .
رد: أرواح تهيم حول العرش وأبدان تحوم حول الحش للعلامة ابن القيم
قال
فما قطع العبد عن كماله وفلاحه وسعادته العاجلة والاجلة قاطع اعظم من الوهم الغالب على النفس والخيال الذي هو مركبها بل بحرها الذي لا تنفك سابحة فيه وإنما يقطع هذا العارض بفكرة صحيحة وعزم صادق يميز به بين الوهم والحقيقة وكذلك إذا فكر في عواقب الامور وتجاوز فكره مباديها وضعها مواضعها وعلم مراتبها فإذا ورد عليه وارد الذنب والشهوة فتجاوز فكره لذته وفرح النفس به الى سوء عاقبته وما يترتب عليه من الالم والحزن الذي لا يقاوم تلك اللذة والفرحة ومن فكر في ذلك فإنه لا يكاد يقدم عليه وكذلك إذا ورد على قلبه وارد الراحة والدعة والكسل والتقاعد عن مشقة الطاعات وتعبها حتى عبر بفكره الى ما يترب عليها من اللذات والخيرات والافراح التي تغمر تلك الالام التي في مباديها بالنسبة الى كمال عواقبها وكلما غاص فكره في ذلك اشتد طلبه لها وسهل عليه معاناتها استقبلها بنشاط وقوة وعزيمة وكذلك إذا فكر في منتهى ما يستعبده من المال والجاه والصور ونظر الى غاية ذلك بعين فكره استحى من عقله ونفسه ان يكون عبدا لذلك كما قيل :
لو فكر العاشق في منتهى ... حسن الذي يسبيه لم يسبه
وكذلك إذا فكر في آخر الاطعمة المفتخرة التي تفانت عليها نفوس اشباه الانعام وما يصير امرها اليه عند خروجها ارتفعت همته عن صرفها الى الاعتناء بها وجعلها معبود قلبه الذي اليه يتوجه وله يرضى ويغضب ويسعى ويكدح ويوالي ويعادي كما جاء في المسند عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال [إن الله جعل طعام ابن آدم مثل الدنيا وإن قزحه ملحه فإنه يعلم الى ما يصير] او كما قال صلى الله عليه و سلم
فإذا وقع فكره على عاقبة ذلك وآخر امره وكانت نفسه حرة ابيه ربأبها ان يجعلها عبدا لما آخره انتن شيء واخبثه وافحشه
فصل إذا عرف هذا فالفكر هو احضار معرفتين في القلب ليستثمر منهما
معرفة ثالثة ومثال ذلك إذا احضر في قلبه العاجلة وعيشها ونعيمها وما يقترن به من الافات وانقطاعه وزواله ثم احضر في قلبه الاخرة ونعيمها ولذته ودوامه وفضله على نعيم الدنيا وجزم بهذين العلمين اثمر له ذلك علما ثالثا وهو ان الاخرة ونعيمها الفاضل الدائم أولى عند كل عاقل بايثاره من العاجلة المنقطعة المنغصة ثم له في معرفة الاخرة حالتان
احداهما ان يكون قد سمع ذلك من غيره من غير ان يباشر قلبه برد اليقين به ولم يفض قلبه الى مكافحة [أى موجهة] حقيقة الاخرة وهذا حال أكثر الناس فيتجاذبه داعيان احدهما داعي العاجلة وايثارها وهو أقوى الداعيين عنده لانه مشاهد له محسوس وداعي الاخرة وهو اضعف الداعيين عنده لانه داع عن سماع لم يباشر قلبه اليقين به ولا كافحه حقيقته العلمية فإذا ترك العاجلة للاخرة تريه نفسه بانه قد ترك معلوما لمظنون اومتحققا لموهوم فلسان الحال ينادي عليه لا ادع ذرة منقودة لدرة موعودة وهذه الافة هي التي منعت النفوس من الاستعداد للاخرة وان يسعى لها سعيها وهي من ضعف العلم بها وتيقنها وإلا فمع الجزم التام الذي لا يخالج القلب فيه شك لا يقع التهاون بها وعدم الرغبة فيها ولهذا لو قدم لرجل طعام في غاية الطيب واللذة وهو شديد الحاجة اليه ثم قيل له إنه مسموم فإنه لا يقدم عليه لعلمه بأن سوء ما تجنى عاقبة تناوله تربو في المضرة على لذة اكله فما بال الايمان بالاخرة لا يكون في قلبه بهذه المنزلة ماذاك الا لضعف شجرة العلم والايمان بها في القلب وعدم استقرارها فيه وكذلك اذا كان سائرا في طريق فقيل له إن بها قطاعا ولصوصا يقتلون من وجدوه ويأخذون متاعه فانه لا يسلكها الا على احد وجهين اما ان لا يصدق المخبر وإما ان يثق من نفسه بغلبتهم وقهرهم والانتصار عليهم والاف فمع تصديقه للخبر تصديقا لا يتمارى فيه وعلمه من نفسه بضعفه وعجزه عن مقاومتهم فإنه لا يسلكها ولو حصل له هذان العلمان فيما يرتكبه من ايثار الدنيا وشهواتها لم يقدم على ذلك فعلم ان إيثاره للعاجلة وترك استعداده للاخرة لا يكون قط مع كمال تصديقه وإيمانهابدا الحالة الثانية ان يتيقن ويجزم جزما لا شك فيه بأن له دارا غير هذه الدار ومعادا له خلق وان هذه الدار طريق الى ذلك المعاد ومنزل من منازل السائرين اليه ويعلم مع ذلك انها باقية ونعيمها وعذابها لا يزول ولا نسبة لهذا النعيم والعذاب العاجل اليه إلا كما يدخل الرجل اصبعه في اليم ثم ينزعها فالذي تعلق بها منه هو كالدنيا بالنسبة الى الاخرة فيثمر له هذا العلم ايثار الاخرة وطلبها والاستعداد التام لها وان يسعى لها سعيها وهذا يسعى تفكرا وتذكرا ونظرا وتأملا واعتبارا وتدبرا واستبصارا وهذه معان متقاربة تجتمع في شيء وتتفرق في آخر ويسمى تفكرا لانه استعمال الفكرة في ذلك واحضاره عنده ويسمى تذكرا لانه احضار للعلم الذي يجب مراعاته بعد ذهوله وغيبته عنه ومنه قوله تعالى [ إن الذين اتقوا اذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون] ويسمى نظرا لانه التفات بالقلب الى المنظور فيه ويسمى تأملا لانه مراجعة للنظر كرة بعد كرة حتى يتجلى له وينكشف لقلبه ويسمى اعتبارا وهو افتعال من العبور لانه يعبر منه الى غيره فيعبر من ذلك الذي قد فكر فيه الى معرفة ثالثة وهي المقصود من الاعتبار ولهذا يسمى عبرة وهي على بناء الحالات كالجلسة والركبة والقتلة ايذانا بأن هذا العلم والمعرفة قد صار حالا لصاحبه يعبر منه الى المقصود به وقال الله تعالى [إن في ذلك لعبرة لمن يخشى ]وقال[ إن في ذلك لعبرة لاولي الابصار] ويسمى تدبرا لانه نظر في ادبار الامور وهي اواخرها وعواقبها ومنه تدبر القول قال تعالى [افلم يدبروا القول افلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ]وتدبر الكلام ان ينظر في اوله وآخره ثم يعيد نظره مره بعد مرة
نتابع...