كان العالم في العصر الأموي قسمين: دار حرب (البلاد غير الإسلامية)، ودار سلم، أو إسلام مع الدول الإفرنجيَّة والدولة البيزنطيَّة، ومع ما يظهر على هذا التقسيم من سمات الفقه والمعاملات فإنَّ عنصر الجهاد يضرب فيه بسبب جدٍّ قوي؛ فقد كانت الدولة الأمويَّة تتَّصل بدار الحرب وأهلها اتِّصالًا تجاريًّا، تتخلَّله حروب كثيرة، تضع أوزارها حينًا لتستمر من جديد[1]، وترمي هذه الحروب الأمويَّة إلى تأمين الحدود مع الدول المجاورة، ولمـَّا كان هذا التأمين الحدودي نفسه يلتزم مكثًا دائمًا بتلك الثغور، فإنَّه لا مشاحَّة قد تمهد رباطًا تُحيي فيه هذه الصفوة المجاهدة الشعائر الإسلاميَّة، مع قيامها بواجبها الدفاعي المنوط بها.
أمَّا في العصر العباسي فقد تبدَّلت هذه العلاقات تبدُّلًا استقرَّ حلفًا وصداقةً بين الدولة العباسيَّة وبين دولة الإفرنج، وبرزت هذه الصداقة والسفارة كأوضح ما تكون بين هارون الرشيد وشارلمان، وقد أورد مؤرِّخ شارلمان وسكرتيره eginhard "أنَّ هدايا هارون إلى شارلمان كانت تشمل بعض المنسوجات والروائح العطريَّة وفيلا، وساعة مائيَّة". وقد تردَّدت هذه الهدايا بينهما مرارًا فيما بين عامي (797–809م= 181–193هـ).
ومن جهةٍ أخرى فقد استقرَّت تلك العلاقات عداوة بين الدولة العباسيَّة وبين الدولة الأمويَّة في الأندلس والإمبراطوريَّة البيزنطيَّة، ولم يكن هارون أوَّل محدث لهذه العلاقات بين الدولة الإسلاميَّة وبين الدول المسيحيَّة؛ فقد كان المنصور وخلفاؤه على علاقةٍ متينة، وكان شارل مارتل يتودَّد إلى الخليفة المهدي مهدِّدًا به منافسه وعدوَّ الطرفين إمبراطور الدولة البيزنطيَّة.
وانشغلت الدولة العباسيَّة ببعض الثورات والفتن، كفتنة بابك الخرَّمي الذي اعتصم بجبال الشمال الشرقيَّة عند حرَّان سنة 201هـ، وانتهز هذه السانحة الإمبراطور البيزنطي فاستمال الخُرَّميَّة، وقدَّم لهم كلَّ مساعدة، غير أنَّ الإمبراطور البيزنطي حسب حسابه ثانية، وكفَّ عن مساعدة الخرَّميَّة، وكتب إلى المأمون بالصلح والمهادنة.
وفي زمان المعتصم أقضت فتنة الخُرَّميَّة كلَّ مضجع، فنهض لها المعتصم[2] وقضى عليها، وفي هذه الأثناء دبَّر إمبراطور بيزنطة غارةً على مدينة بطرة وحرقها، وساق من فيها من المسلمين أسارى، يعضد ساعد بابك الخرمي ليُوهن المعتصم، ولكنَّ هذه الأمنية تبدَّدت أحلام نائم.
روى ابن الأثير أنَّه لمـَّا خرج ملك الروم وفعل في بلاد الإسلام ما فعل، بلغ الخبر المعتصم، فلمَّا بلغه ذلك واستعظمه وكبر لديه، وبلغه أنَّ امرأةً هاشميَّةً صاحت وهي أسيرةٌ في أيدي الروم: "وامعتصماه". فأجابها وهو جالسٌ على سريره: "لبَّيك .. لبيك". ونهض من ساعته، وصاح في قصره: "النفير النفير". ثم ركب وسار ساعتئذٍ إلى أنقرة في جيشٍ لجب، فاستولى على أنقرة، ثم اتَّجه إلى عمُّوريَّة -وهي مدينة تيوفيلس وحجر صباه، وملعب تربه- فحاصرها المعتصم حتى أسقطها، واستخلص من كان بها أسيرًا أو مستضامًا، وكان ذلك في سنة 223هـ، وكان في جند المعتصم وقادته الكبار أشناس، وبغا الكبير، والأفشين.
وتجدر الإشارة إلى أنَّ العنصر التركي في العصر العباسي الأوَّل كان قد استقلَّ بالإدارة والجيش؛ بسبب الفسحة التي أَذِنَ بها المعتصم لتدبيره أمر خلافته، وأتراك هذا العصر قدموا من مناطق ما وراء نهر جيحون، أو ما يُعرف بإقليم تركستان[3]، وهو الإقليم الذي دخله المسلمون في العصر الأموي على عهد الخليفة الوليد بقيادة قتيبة بن مسلم، ثم وفدت بعد ذلك قبائل كثيرة، وتزاوجت مع أهل البلاد واستقرَّت، وانتشر لذلك الدين الإسلامي في هذه المناطق، لتُصبح هذه البلاد محطَّ سفارات ورحلات.
ويُلاحظ أنَّ هذه اللحمة (العربيَّة - التركيَّة – الإسلاميَّة) شكَّلت وجودًا إسلاميًّا، تردَّد ذكره في كتب الرحلات والكشوف الجغرافيَّة التي اختصَّت بهذه البلاد، وعلى رأس هذه المصادر جميعًا كتب الفتوح الكبرى.
ويحسن التنبيه إلى أنَّ هؤلاء الترك المتقدَّم ذكرهم ليسوا بالأتراك الشراكسة أهل بلاد القوقاز، أو المنطقة المترامية بين البحر الأسود وبين بحر قزوين، ولا هم من الأتراك السلاجقة أو المغول، فهؤلاء قبائل تركيَّة تباين ظهورها في التاريخ، واختلفت مواطنها على خريطة الأرض، ولا نعني بطبيعة الحال الأتراك العثمانيِّين (آل عثمان)؛ إذ لم يظهروا بعد على مسرح التاريخ.
ضعف الدولة العباسية
ولمـَّا كادت أن تأذن الدولة العبَّاسيَّة بالغروب إبَّان دورها الثاني والأخير، كان العالم الإسلامي قد اتَّسع اتِّساعًا كبيرًا جدًّا، حتى إنَّ أطرافه المترامية بعيدًا عن عاصمة الخلافة جرأت عددًا غير قليل من الأمراء على الاستقلال والانقطاع جملة واحدة عن مركز الخلافة، عدا عن أمورٍ شكلية؛ كالدعاء للخليفة على المنبر، وسكِّ العملة باسم الخليفة، وإرسال الجزية، وأشباه هذه الأمور، فظهرت:
- الدولة الأمويَّة بالأندلس، وقد تنامت وطار ذكرها كل مطار، وطبقت شهرتها الآفاق زمانا ليس بالقليل، وكان قد أسسها عبد الرحمن بن معاوية بن هشام ابن عبد الملك سنة (138هـ).
- الدولة الإدريسيَّة (172-363هـ).
ثم ظهرت دول استقلَّت استقلالًا جزئيًّا، أو داخليًّا.
- دولة الأغالبة (184-296هـ).
- الدولة الطاهريَّة (205-259هـ) مؤسِّسها طاهر بن الحسن.
- الدولة الصفاريَّة (254-290هـ) مؤسِّسها يعقوب بن الليث الصفار، وكانت ببلاد فارس، ودامت 36 سنة.
- الدولة السامانيَّة (261-389هـ) مؤسِّسها نصر الأول بن أحمد، وكانت ببلاد ما وراء النهر وإيران.
- الدولة البويهيَّة (320-447هـ) نسبةً إلى بني بويه من الديلم جنوب غرب بحر قزوين.
- الدولة السلجوقيَّة (429-700هـ) نسبةً إلى سلجوق بن يقلق، ويُنسبون إلى قبيلة كبيرة من قبائل الترك، تُعرف باسم "الغز"[4]، وهؤلاء الغز يظهر دورهم الكبير في نشر الإسلام في كثيرٍ من أصقاع البلاد الإفرنجيَّة والآسيويَّة والإفريقيَّة، فقد أورد ابن جبير وابن بطوطة ذكرًا للغزِّ في رحلتيهما بحذاء البحر الأحمر في طريق حجِّهما للبيت الحرام.
- ثم آذنت الدولة السلجوقيَّة بالزوال لتظهر الدولة الخوارزميَّة، بعد أن قضت على دولة الخطَّائين الوثنيَّة، واستردَّت ثغور ما وراء النهر، وقد تصدَّى ملك خوارزم شاه وابنه جلال الدين للتيَّار المغولي الذي اجتاح إيران كلِّها وبغداد سنة 656هـ، ويُلاحظ في هذا العرض الموجز أنَّ الوطن الإسلامي شرقه وغربه ظلَّ صاعدًا متفاعلًا متَّسعًا لجميع المسلمين.
الكشف الجغرافي والرحلات إلى شرق أوروبا
تقدَّم أنَّ دور الثغور لم يكن دورًا دفاعيًّا فحسب، بل تعدَّى ذلك ليُصبح دورًا مهمًّا في نشر الإسلام في البلاد المجاورة للدولة الإسلاميَّة، وما كان للجهود الجغرافيَّة المتمثِّلة في تدوين البلدان وأخبارها وتقويمها، ولا للسفارات والرحلات أن تكون؛ لولا منافذ الثغور المطلَّة على البلاد المجاورة للدولة الإسلاميَّة والدول الإفرنجيَّة، ناهيك عن طرق ومسالك التجارة المؤمَّنة والمنتشرة في أرجاء العالمين بعرضها وطولها [5]، وعلى رأس هذه الطرق والمسالك طريق الحجَّاج.
وباتِّساع الفتوح الإسلامية استوعب المسلمون تجارب ومعارف، زادت كلَّما انتشروا في أصقاع البلاد، وتطلَّب إدارتها التعرُّف الدقيق عليها لضبط شئونها الماليَّة والإداريَّة بتنظيم الإدارة والبريد والخراج، ليتقرَّر على أساس ذلك قدر الجزية والخراج، ثم تولَّى المؤرِّخون من أصحاب السير والمغازي وصف هذه المدن وسكَّانها وأحوالهم.
وواضحٌ أنَّ اتِّساع الدولة الإسلاميَّة في ذلك الوقت قد هيَّأ لها آفاق القوى مع غيرها عن طريق السفارات والبعثات، كما فتح للمسلمين أبواب معرفة عمليَّة وعلميَّة، تعرَّفوا من خلالها على أخبار مجاوريهم وأحوالهم معرفة خلطة وتقويم رسخت للإسلام أقدامًا، ساحت من بعد في تلك البلاد.
ومن قديم ما يذكر في هذا الباب بعثة الخليفة الواثق (842-847م= 227-233هـ) لسلام الترجمان إلى بلاد الصين، ليُشاهد السد الذي بناه الإسكندر في ديار يأجوج ومأجوج، ولمـَّا عاد قصَّ على الناس أخبار وعجائب هذه الجهة، ومهما يكن دافع هذه البعثة، فإنَّه بيَّن الدلالة على الولوع بالكشف والمعرفة، واستقصاء الأخبار وامتحانها دون الالتفات إلى بعد الشقَّة، وبعد المكان (الصين).
ولعلَّ أعلى البعثات شأنًا البعثة الدينيَّة التي بعث الخليفة المقتدر عام (921م=309هـ) إلى بلاد البلغار، تلبية لطلب ملكها [6]، قال ابن فضلان في شأن الخزر: ولعلَّ الخزر مدينة عظيمة على نهر أنل، وهي جانبان، وفي أحد الجانبين المسلمون، وفي الجانب الآخر الملك وأصحابه، وعلى المسلمين رجلٌ من غلمان الملك يقال له "خزمة" وهو مسلم، وأحكام المسلمين المقيمين في بلد الخزر والمختلفين إليهم من التجارات مردودة إلى ذلك الغلام المسلم لا ينظر في أمورهم، ولا يقضى بينهم غيره".
والظاهر من هذا النصِّ أنَّ الإسلام قديم عندهم، ومن خطأ القول إنَّ بعثة المقتدر هي بداية دخول الإسلام لتلك الجهات؛ وبرهان ذلك ما أورده ابن فضلان نفسه متمثِّلًا في الأسئلة الفقهيَّة التي سأله الصقالبة "فلمَّا اجتمعنا قال للترجمان: قل له -يعنيني-: ما يقول في مؤذِّنين أفرد أحدهما وثنَّى الآخر، ثم صلَّى كلُّ واحدٍ منهما بقوم، أتَجُوزُ الصَّلاةُ أم لا؟ قلت: الصلاة جائزة. قال: باختلاف، أم بإجماع؟" قلت: بإجماع. قال له: ما يقول في رجلٍ دفع إلى قومٍ مالًا لأقوام محاصرين مستعبدين فخانوه؟ فقلت: لا يجوز، وهؤلاء قوم سوء".
وكلام ياقوت الحموي عن بلدان تلك الجهات يُنبئ عن قِدَم الإسلام في تلك الجهات، والحقُّ أنَّ تجريد مادَّة الإسلام والمسلمين عن كتب التقويم والبلدان تحتاج إلى بحوث كبار قائمة برأسها، غير أنِّي أتخيَّر هنا شيئًا يسيرًا للتدليل على صحَّة ما مرَّ من إشارات.
وقال أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الزهري (تُوفِّي أواسط القرن السادس الهجري):
الزيتون في روما ... وفي غرب هذه المدينة بلاد أرمينيَّة الكبرى، وقد بلغت غارات المسلمين في البحر من بلاد الأندلس إلى هذه البلاد، وكان يومئذٍ على الأسطول محمد بن ميمون من مدينة ألمرية، وغزاها من بعده من إشبيليَّة عيسى بن ميمون وفيها قبره، وهي التي أخذها محمد ابن ميمون عرمة، هي التي أخذها عيسى بن ميمون [7].
"فلندة":
"وممَّا يلي هذه البلاد الملف، وهم أقوام من الإفرنج ... وإنَّما عُرِفوا بهذا الاسم لأنَّهم نُسِبوا إلى مدينةٍ عندهم اسمها فلندة، وهي من أعظم بلاد الإفرنج ...".
"أقلوبة":
وممَّا يلي هذه المدينة على ساحل البحر في المشرق مدينة أقلوبة بشكيرة، ومدينة جنوة، وهي من أعظم مدن الروم والإفرنج، وأهل هذه المدينة هم قريش الروم، يُقال عنهم: إنَّ أصلهم من العرب المتنصِّرة من أولاد جبلة بن الأيهم الغسَّاني الذي تنصَّر في الشام، وهم قومٌ لا يُشبهون الروم في خَلْقِهِم؛ لأنَّ الروم الغالب عليهم الشقرة، وهؤلاء قومٌ سمرٌ دعجٌ شمُّ العرانين، فلذلك قيل: إنَّهم من العرب. وهم قوم تجَّار في البحر [8]:
"بونيه":
هي قاعدة مدن لنقردية، وهي مدينة بالحجر والآجر والكلس، كبيرة جدًّا كثيرة الأهل، تتفجَّر داخلها العيون، وهي على نهرٍ يجتمع تحتها بمقدار نصف ميل بنهرٍ آخر، وفي هذه المدينة قصر حسن على بابه صورة فاس من نحاس متناهية العظم، بعثها من الدهر القديم ملك القسطنطينية إلى بلد لنقردية، وبهذه البلدة ثلاثمئة فقيه من المسلمين، وعندهم يتحاكم أهل لنقردية، وهم يعقدون لهم على وثائق أثريتهم وبيوتهم، وفيها من المسلمين تجار أغنياء، عددهم أزيد من أربعمائة، ولهم مبانٍ سرِّيَّة، ومتاجر قويَّة، ولذلك صار المتوجِّهون من التجَّار والحاج إلى روما لابُدَّ لهم من بونيه [9].
وعدَّ ابن حوقل مدينة بالرمو من إحدى كبريات مدن الإسلام من حيث تعداد مساجدها، وقربها من مدينة قرطبة، وكان التَّشابه آنذاك بين المدينتين كبيرًا جدًّا.
وأحسب أنَّ الذي دفن هذه الحقائق الساطعة وأجهز عليها تبديدًا وطمسًا الصليبيَّةُ الحاقدةُ على الإسلام؛ بحيث تجد غياب هذه الفترة واضحًا في أكثر المؤلَّفات الأوربِّيَّة، وإن مرُّوا عليها لفَّفوا الحقائق بقمط صغار، لا يُدركها إلَّا من تدرَّب أساليبهم وطرقهم من البحث والفهم.
هذا من جهة، ومن جهةٍ ثانية: إنَّ أسماء البلدان الأوربِّيَّة القديمة قد تغيَّر الآن عمَّا كان عليه قديمًا، وظلَّ الاسم القديم في كتب الجغرافيِّين العرب القدامى كما هو، دون أن يسمه استدراك أو بيان، فيما طبع حديثًا بحروف المطابع، ولا غرو فإنَّ ما بعـث -طباعة- من كتب الجغرافيا العربيَّة الإسلاميَّة كان بأيدي الأوربِّيِّين (ياقوت) و(المكتبة الجغرافية) ستَّة مجلَّدات، وغيرها ما له مساسٌ بالتقويم والخرائط، وهم أوَّل من تولَّى درسها وتوجيهها، ولا أريد هنا الإفاضة في هذا الموضوع بقدر ما أريد أن أُشير إلى إهمالنا دراسة مادَّة الجغرافيا الإسلاميَّة، وما استدركنا من ذلك إلَّا النزر اليسير.
شعوب وأقوام شرق أوروبا
لأنَّ معرفة الجغرافيا التاريخيَّة الإسلاميَّة لجهات أوربَّا الشرقيَّة في تلك العهود ممَّا لا ينبغي إهماله في البحث، لأنَّها تُضيء حقبةً حالكةً من حياة المجتمعات والشعوب الساكنة والمتحرِّكة في تلك الأصقاع؛ لأنَّ الفترة الواقعة بين القرنين الثامن والحادي عشر كان الصقالبة أو السلاف (ESCLAVE) -غابات أوربَّا- ينتشرون في الغرب، حيث تقدَّموا في أعقاب الهجرات الجرمانيَّة نحو الغرب بين القرن الثالث والرابع، وتقدَّموا نحو نهر الألب ومنطقة السال -ألمانيا الشرقيَّة اليوم- SAALE وجبال الألب الشرقيَّة واليستريا ودالماسيا والبلقان، حتى جزر البيلوبونيز، إلى أن طُرِدُوا منها بعد القرن السادس، أمَّا في الشرق فكانت حدودهم تنطبق على الغابة الكبيرة بالشماليَّة؛ أي أعالي نهر الدنيبر، وأعالي نهر الدون، وأعالي نهر الفولجا مع بعض الطلائع في السطح، حيث كان البوليان يُجاهدون الدرفليان، وكانت تنتشر خلف بلاد السلافين باتِّجاه نهر البلطيق الأقوام الفينيَّة، التي يدمجها الجغرافيُّون العرب مع الصقالبة.
وكانت تعيش في سهوب روسيا الجنوبيَّة والدانوب أقوام تركيَّة منغوليَّة كالخزر والبلغار والمجر، وكان السلافيُّون ينصرفون لحياة الغابات والأنهار، ويحيون حياةً قوامها الصيد المائي، والصيد البري، وقطف الثِّمار، موزَّعين بين قبائل لا ترابط بينها.
وتمركزوا في القرن (العاشر=الرابع الهجري) من منطقتين، هما: بولونيا وبوهيميا، وابتداءً من القرن الثامن أصبحت منطقة الأنهار -الفولجا والدون والدنيبر- مكان تجوُّل الإسكندنافيِّين (VAREGUES) والروس الذين كانوا في القرن (التاسع=الثالث الهجري) إمارةً روسيَّةً إسكندنافيَّة على نهر الدنيبر، وهي ثالث نقطة تبلور قومي.
وكان الإسكندنافيُّون يتجرون في اتِّجاهين: الأوَّل نحو بحر الشمال وأوربَّا الغربيَّة -وهي محطَّات على الطريق المؤدِّي إلى إسبانيا والمغرب الإسلامي والبحر الأبيض المتوسِّط، ونحو بحر قزوين والمشرق الإسلامي- والثاني باتجاه البحر الأسود وبيزنطة [10].
أمَّا في بلاد البلقان (التلال الوعرة المرتفعة التي تكسوها الغابات) فاسمها القديم هيموس HOEMUS، وهو وصفٌ للممرَّات البلقانيَّة الكثيرة ذات الصيت في التاريخ مثل: أي بوغاز جلقواق، دمر قابو - باب الحديد.
وواضح من وصف بلاد البلقان أنَّها كانت مجالًا حيًّا لتحرُّكات التجمُّعات البشريَّة المختلفة، واختلاطها ببعضها تجاريًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا، وذلك عبر هذه الممرَّات الكثيرة التي تُشبه إلى حدٍّ كبيرٍ شبكةً للمواصلات بعيدة الانتشار، شديدة الارتباط والانفصال [11].
وأشرنا هنا إلى هذه الأقوام والبلاد؛ لأنَّ هذه المناطق جميعها ستشغل دورًا رائدًا ومهمًّا في تاريخ الإسلام بهذه الجهات، وستجد من بعد الدولة العثمانية العَلِيَّة الأرض ممهَّدة لنشر الإسلام، وتوسيع فتوحاتها على النحو الذي سيمر.
العهد العثماني وشرق أوروبا:
تقدَّم أنَّ دور الثغور الإسلاميَّة أو دويلات الثغور قد أوجدت علاقات مستقرَّة بين البلاد الإسلاميَّة والبلاد الإفرنجيَّة، وقد شهدت هذه الثغور والممرَّات الحروب الصليبيَّة المتتالية صوب العالم الإسلامي، وهذه الحروب قد كشفت عن علاقات اجتماعيَّة بعيدة عن روح التعصُّب الصليبي، وأوضحت -أيضًا- الأخلاق السمحة التي كانت تطبع سلوك المسلمين ومعاملاتهم للمسيحيِّين.
وقد بيَّن حفيد بربروسه الصليبي -الألماني الصقلي- فريدريكو هذه العلائق منصفًا المسلمين معتمدًا عليهم حتى بعد هزائمهم واسترداد المسيحيِّين صقلية.
وبُعَيْدَ هذا القليل كان الأناضول (تركيا) قبل أن تغدو إليه قبيلة "قايي"، وكان إسلاميًّا قد تمهَّد بفضل المؤثِّرات التي أشرت إليها فيما تقدَّم من بيان، وكما كانت قبيلة "قايي" قبيلةً مسلمة، فقد وجدت في الأناضول مستقرًّا صالحًا لتكوين إمارةٍ صغيرةٍ تُجاهد في سبيل الإسلام على الحدود (السلجوقيَّة – البيزنطيَّة) عند المنطقة المعروفة حوالي "أسكي شهر"، حيث دأبت الدولة السلجوقيَّة على تعيين بعض القوَّاد للدفاع عن البلاد الساحليَّة، وعن مناطق الحدود، واشتهر هؤلاء بأمراء الحدود.
وكان الأناضول خلال القرنين (الثالث والرابع عشر الميلاديَّين= السابع والثامن الهجريَّين) منطقة تناحر بين الدولة السلجوقيَّة والإمبراطوريَّة البيزنطيَّة، حتى استقرَّ أمره إسلاميًّا كلُّه، وأسَّس عثمان إمارةً إسلاميَّةً صغيرة، تولَّى أمرها من بعده ابنه أورخان، وهو الذي فتح بروسه (1326م=726هـ)، وجعلها عاصمته، ثم عبر المضيق إلى غالبولي، لتُصبح قاعدة التوسُّع العثماني في البلقان [12].
وكان عثمان ورجاله قد تقدَّموا في أراضي الدولة البيزنطيَّة في آسيا الصغرى في اتِّجاه البحر الأسود، واستقلَّ عثمان بالإمارة، وحسب نفسه وارثًا لملك السلاجقة الروم في آسيا الصغرى، وقائمًا بجهاد البيزنطيِّين، وردَّهم إلى غرب آسيا، ومكث هناك مجاهدًا، وكان حضَّه على الجهاد الشيخ أودبالي، وزوَّجه إحدى بناته، ولقَّبه بالغازي، وأوصاه أن يَهِبَ نفسه للجهاد في سبيل الله في أراضي الروم، ودخل كثيرٌ من الروم البيزنطيِّين الذين كانوا يسكنون هذه النواحي الإسلام، وكان في العثمانيِّين ميلٌ شديدٌ إلى التنظيم وحسن الإدارة، فأنشأوا قوَّات مدرَّبة تقوم بالجهاد.
وتحوَّلت دولة الأتراك العثمانيِّين إلى دولةٍ مجاهدة، وظهرت جماعات الجهاد الإسلاميَّة؛ كجماعة غازيان روم (غزاة الروم)، وهي جماعةٌ قديمةٌ كانت على الحدود بين دولة الإسلام ودولة الروم منذ العصر العباسي.
ثم نهضت الثقافة الإسلاميَّة بين الأتراك العثمانيِّين، ويذكر كوبريلي أنَّ جماعة الآخيان الإسلاميَّة قد قلَّدت جماعات الفتوَّة أيَّام الخليفة الناصر العباسي، وكان أغنياء التجَّار يتبرَّعون بأموالهم للمحتاجين.
ومهما كان من أمر هذه الجماعات فإنَّ غلبة الروح الدينيَّة على الدولة العثمانيَّة في أوَّل أمرها كان ظاهرًا، ودفعت هذه الروحُ الدينيَّة الأتراكَ إلى الفتوحات الإسلاميَّة فيما جاورهم من بلاد، وفي سنة (1354م=755هـ) عبر الأتراك بحر إيجه، ونزلوا ساحل اليونان، وكانت بلاد البلقان مقسَّمة بين أملاك البندقيَّة وبقايا الدولة البيزنطيَّة، وكانت مملكة الصرب التي تقع جنوب شبه جزيرة غاليبولي (ولاشيا الصربيَّة) مقسَّمة ضعيفة.
وفي سنة (1362م=763هـ) دخل الأتراك إقليم تراقيا، وتوجَّهوا شمالًا في بلاد البلغار وغربًا إلى مقدونيا، وفي سنة (1386م=778هـ) استولوا على صوفيا عاصمة بلغاريا، وكذلك "نيش"، وفي عهد بايزيد الأوَّل أُخضعت بلادُ اليونان كلُّها قبل نهاية (1393م=795هـ).
وبعد هذا التوسُّع الكبير لاحظ الأتراك العثمانيُّون جملة مسائل؛ كان أهمُّها إيجاد ذوي الخبرة العارفين بالإسلام والشرع، ليُساعدوا في تنظيم الدولة على أساسٍ إسلامي، ولاحظوا -أيضًا- قلَّة عددهم قياسًا لغيرهم، وهنا حاول الأتراك توحيد الإمارات الإسلاميَّة الصغيرة.
وفي أيَّام محمد الثاني الملقَّب بالفاتح اتَّسعت حدود الدولة العثمانيَّة جدًّا، وفُتِحت القسطنطينيَّة في 29 مايو سنة (1453م=857هـ)، وصارت عاصمة الإمبراطوريَّة، وفي عهد الفاتح -أيضًا- فُتِحَت أثينا وما حولها، وكان ذلك سنة (1458-1460م= 862–864هـ)، وفي عام (1459م=863هـ) أُخْضِعَت بلاد الصرب، وبلاد البوسنة سنة (1463-1464م=867-869هـ)، واعتنق الإسلام جملةٌ صالحةٌ من البوسنيِّين، وأصبحت البلاد البلقانيَّة وما جاورها تابعةً للدولة العثمانيَّة الإسلاميَّة.
ونشطت الدولة العثمانيَّة نشاطًا كبيرًا في تلك البلاد، ثم جاءت الحرب التركيَّة الروسيَّة، ومعاهدة سيفر أغسطس (1920م=1338هـ)، واستولت روسيا على القرم، واستمرَّ تراجع الأتراك أمام الروس والنمساويِّين.
وساءت الأحوال داخل تركيا نفسها سوءًا شديدًا، فبرزت الرشاوى في الدوائر الحكوميَّة، وتفشَّى الفساد بين الموظَّفين، وفي ذلك الوقت كان التتار قد استقلُّوا عن بولندا، ويمَّموا شطرهم نحو بحر قزوين، ثم أخذ الروس كيلبورون وكيرش ويني تامي، ومُنِحَت الأفلاق والبغدان استقلالًا ذاتيًّا تحت السيادة العثمانيَّة، كذلك حصل الروس على حقِّ رعاية رعايا السلطان من الأرثوذكس في البلاد التركيَّة، واستولت كاترين على القرم منتصرة، ثم تحالفت مع يوسف الثاني إمبراطور النمسا، واتَّفقا على تقسيم تركيا، ثم اجتاح الروس خوتين وياس وأوترشاكوف، وقتلوا جميع سكَّانها المسلمين بأمر القائد ألكساندر سوفوروف.
هذه لمحة موجزة عن خطوات تدهور الإمبراطوريَّة العثمانيَّة في أوربَّا الشرقيَّة، أمَّا الدولة العثمانيَّة في الشرق الإسلامي فقد توفَّرت لها -أيضًا- جملة مشاكل أسرعت بها نحو الغروب. والذي يُعنينا هنا الجانب الاصلاحي الذي نشدته الدولة العثمانيَّة في آخر طور من أطوارها، ولم تدركه، وباستقراء أحوال الدولة العثمانية في هذا الطور يُلاحظ سببان رئيسان:
الأول: تراخي الدولة العثمانية عن الدين الإسلامي.
الثاني: إهمال أحوال المسلمين في البلاد المفتوحة.
وأميل إلى هذين السببين كمؤشرين جوهريَّين لنشوء الأقليَّات المسلمة في شرق أوربَّا، وهذان السببان يتداخلان في المشاكل المعاصرة تداخلًا شديدًا.
____________________ المصدر: مجلة الوعي الإسلامي. الهوامش:
1- تاريخ الدولة العباسية، الشيال، دار الفكر، ص55.
2- تاريخ الطبري، المجلد العاشر، ص244.
3- تركستان، فاسيلى بارتولد، ترجمة صلاح الدين علي هاشم، الكويت.
4- رحلة ابن جبير، بيروت، رحلة ابن بطوطة، بيروت.
5- طرق التجارة الدولية ومحطاتها، د. نعيم زكي، مصر، الهيئة، وراجع أيضا، البسط الجيد في:
- تاريخ التجارة في الشرق الأدنى في العصور الوسطى، ف، هايد، الهيئة، مصر.
- والعلاقات بين الشرق والغرب، عزيز سوريال، دار الثقافة، مصر.
6- رسالة ابن فضلان، تحقيق د. الدهان، مجمع اللغة العربية، دمشق، ص72.
7- كتاب الجغرافية، لأبي عبد الله الزهري، تحقيق محمد صادق، مكتبة الثقافة، مصر، ص75.
8- المصدر نفسه، ص78.
9- الروض المعطار في خبر الأقطار، الحميري، تحقيق د. إحسان عباس، بيروت، ص116.
10- الجغرافية التاريخية للعالم الإسلامي، موريس لوممبارد، دار الفكر - دمشق. وانظر حديثه عن التجارة والسلع والطرق التجارية.
11- KANITZ :DONAU- BULGARIA UND DER NALKAN.
12- أصول التاريخ العثماني، أحمد عبدالرحيم، القاهرة، 1982م.