كان من أكبر مآسي الأندلس التاريخية؛ هي عهد “ملوك الطوائف” في القرن الخامس الهجري، المعروف بكثرة الانقسامات بين المسلمين ونزاعاتهم الأهلية وموالاة أمرائهم للقوى المسيحية التي بدأت تتمدد على حساب الممتلكات الإسلامية، فكان ذلك حقبة من الضعف الشديد للأندلس الإسلامية، التي مزقتها دويلات الطوائف التي يتصارع ملوكها على مصالح عروشهم، ولو كان ذلك لصالح النصارى وعلى حساب المصلحة العامة للمسلمين، ومن جهة أخرى فقد ظهر في هذه الفترة علماء أبوا السكوت عن هذه الفتنة الكبرى التي تهدد البلاد والعباد، فكان على رأسهم الفقيه الفذ أبو الوليد الباجي والعالم الكبير ابن حزم الظاهري.
فبعد عودته من المشرق عام 440هـ، قام الفقيه والعالم أبو الوليد الباجي إلى مباشرة الدعوة إلى الوحدة، بعد أن رأى تفاقم التشرذم بين المسلمين في الأندلس، فبدأ التجوال في كل أنحاء البلاد من المدن والقرى والجهات، يدعو إلى الاتحاد ونبذ النزاع ويحذر من مغبة استمرار الأوضاع وعواقبها على مصير المسلمين، فكان يتلقى الترحاب في كل منطقة من أجل هدفه النبيل لتحقيق الالتحام والوحدة الإسلامية وصد العدوان النصراني المتنامي، فكان الحكام أيضا يستقبلونه استقبالا زائفا، ويدعي كل منهم السعي لتحقيق ذلك، فكيف يمكن ذلك وهم العامل الرئيسي فيما تعانيه الأندلس في ذاك الوقت.
فكان لدعوة الباجي أثر كبير في نفوس المسلمين في الأندلس، إذ أصبح يُتداول وجوب الاتحاد والاعتصام بحبل الوحدة والابتعاد عن الصراع والخصومات، فقد استمر نداء هذا العالم الفقيه ما يقارب ثلاثين سنة حتى توفي بمدينة ألمرية عام 474هـ، وذلك في الوقت الذي كان فيه المسلمون يتخذون خطوات جادة تجاه الحالة المتردية بالبلاد، حيث التقدم الصليبي بالشمال والمزيد من النزاع بين ملوك الطوائف، فانتهى ذلك إلى الاستنجاد بالمرابطين الذين كانوا بصدد توسيع رقعة دولتهم في المغرب.
لكن على عكس الباجي الذي سلك طريق الدعوة والنصح؛ فقد ظهر عالم آخر سَلَكَ طريقًا آخر، وهو أبو علي بن حزم الأندلسي صاحب التصانيف الشهيرة في العقيدة وعلم الكلام، والذي جاهر بمعارضته للوضع الطائفي في الأندلس، وانتقد بشدة ملوكها حتى أنه لم يكن يتردد في التصريح والقدح في خيانتهم وفجورهم وموالاتهم للأعداء، وهذا ما جعله يتعرض للنفي ويُضيق عليه، وقد اشتهر بعبارته التي قال فيها: “والله لو علموا أن في عبادة الصلبان تمشية أمورهم لبادروا إليها، فنحن نراهم يستمدون النصارى فيمكنونهم من حرم المسلمين وأبنائهم، وربما أعطوهم المدن والقلاع طوعاً، فأخلوها من الإسلام وعمروها بالنواقيس، لعن الله جميعهم وسلط عليهم سيفاً من سيوفه”(رسائل ابن حزم 3/174).
وفي هذه العبارة يتضح لنا النظرة الثاقبة للإمام ابن حزم، حيث أنه رأى أن ملوك الطوائف قد يذهبون إلى اتخاذ عادات المسيحيين من أجل عروشهم، وهذا ما حدث بالفعل في مواضع كثيرة من تاريخ الأندلس، كما أننا نرى ابن حزم قد دعا الله تعالى إلى “تسليط أحد سيوفه” على ملوك الطوائف، وكأن يوسف بن تاشفين (الذي أنهى حكم ملوك الطوائف بعد ذلك) هو هذا “السيف” الذي ذكره ابن حزم في دعائه.
وبالتالي كان لابن حزم وأبي الوليد الباجي دور مؤثر في تهيئة الأجواء لاستقبال المرابطين في الأندلس، التي كانت مهددة بالسقوط الكلي بعد الاحتلال النصراني لطليطلة عام 478هـ، فأدى ذلك إلى دخول البلاد في حكم دولة المرابطين التي أمدَت من عمر الأندلس الإسلامية إلى ما يقارب أربعة قرون أخرى.