" الأخـلاق مـعـيـاريـة لاتـكـتـفـي بـمـا هـو كـائـن، بـل تـسـعـى إلـى تـصـوّر مـايـجـب أن يـكـون، وتـصـدر أحـكـامـا قـيـمـيـة عـلـى أفـعـالـنـا، وتـسـتـهـدف فـرض قـواعـد وواجـبـات عـلـى الـسـلـوك الإنـسـانـي.
" تدرس نظرية الأخلاق الإسلامية الأسس العقلية والدينية للقواعد والمبادئ التي ينبغي أن يعمل الإنسان بمقتضاها في مناحي الحياة المختلفة، اعتمادًا على المصادر الإسلامية. كما تدرس النظرية تجذر هذه الأسس في التصور الإسلامي عن علاقة الإنسان بالله وبالوجود، وبناء تلك الأسس على المسلّمات الوجودية والمعرفية والميتافيزيقية الإسلامية. و تجيب بالضرورة عن إشكاليات فلسفية تتسائل عن أسس سلوك الإنسان ومعاييره، ومصدر هذه المعايير. من هذه الإشكاليات؛ معيار الخير والشر، ومصدر الإلزام الخلقي، ومفهوم المسؤولية الإنسانية وشروطها وعلاقتها بالحرية الإنسانية، وعلاقة الحرية الإنسانية بالحتمية والقدر، ومفهوم الواجب الأخلاقي وعلاقته بالخير الأخلاقي، وإمكان وجود الجزاء الأخلاقي، ونية الإنسان ودوافعه الموجبة لعمله، ومدى علاقة الجهد الإنساني بالأخلاقية.وحقل نظرية الأخلاق الإسلامية حقلٌ حديث نسبيًّا، إذ يمكن التأريخ لبدئه بالدراسة الرائدة الأصيلة للشيخ محمد عبد الله دراز التي كتبها ابتداء بالفرنسية في 1947، تحت عنوان (الأخلاق في القرآن) والتي طرح فيها التساؤلات الفلسفية الأخلاقية الشائعة في حقل الأخلاق في أوروبّا والذي درسه وفهمه بعمق ." (نظرية الأخلاق الإسلامية : خديجة جعفر ، فلسفة الاخلاق عند الجاحظ : نذير جعفر)
د. ماجد فخري في كتابه الصادر بالإنجليزية “تاريخ النظريات الأخلاقية في الإسلام استخرج مقولات المعتزلة والأشاعرة المؤسّسة لأخلاق إسلاميّة وأسماها “الأخلاق الثيولوجيّة"
من هنا سوف نتناول نموذج لما أبدعه اعلام المعتزلة في هذا الشأن والمتعلق بالسلوك الانساني أو الاخلاق العملية عند كل من الجاحظ والزمخشري علي سبيل المثال لا الحصر :
1- رسالة ( المعاش والمعاد ) او الأخلاق المحمودة والمذمومة للجاحظ
ورأيت كثيراً من واضعي الآداب قبلي قد عهدوا إلى الغابرين بعدهم في
الآداب عهوداً قاربوا فيها الحق وأحسنوا فيها الدلالة إلا أنى رأيت أكثر ما رسموا
من ذلك فروعاً لم يبينوا عللها وصفاتٍ حسنةٍ لم يكشفوا أسبابها وأموراً محمودة لم
يدلوا علىأصولها
عند من تضع سرك
فلا تضع سرك إلا عند من يضره نشره كما يضرك وينفعه ستره بحسب ما ينفعك
من الصديق ؟
يضع الجاحظ معيار للانسان ليحسن اختيار صديقه ويتمثل في المشاركة الوجدانية لك وقت الشدة وكما يقول : " فمن كان معروفاً بالوفاء في أوقات الشدة وحالات الضرورة فنافس فيه واسبق إليه فإن اعتقاده أنفس العقد.
اما من تفتقده في وقت المحنة فدعك عنه فصداقته خسران وقربه بلاء حتي وان كان مؤنسا لك وقت الرخاء محببا الي نفسك وجوده وفي هذا يقول الجاحظ :"ومن بلاه غيرك فكشف عن كفر النعمة والغدر عند الشدة فقد حذرك نفسه وإن آنسك ، وكما غدر بغيرك يغدر بك فإن من شيمته الوفاء يفي للصديق والعدو ومن طبيعته الغدر لا يفي لأحد وإنما يميل مع الرجحان: يذل عند الحاجة ويشمخ مع الاستغناء. فتحرز من دخلاء السوء ومجالسة أهل الريب وقد جرت لك في ذلك الأمثال وسطرت لك فيه الأقاويل فقالوا: " المرء حيث يجعل نفسه " وقالوا: " يظن
المرء ما ظن بقرينه " وقالوا: " المرء بشكله والمرء بأليفه ". ولن تقدر على التحرز من جماعة الناس ولكن أقل المؤانسة إلا بأهل البراءة من كل دنس. "
اما الصديق عند الزمخشري فيعني به الناصح الأمين لك ولأقرانك المدافع عنك وعن اهل بيتك وفي هذا يقول : "صديقك من ينصح لك ولحميمك، وينضح عنك وعن حريمك."
واذا لم يوجد صديق ثقة للانسان الا نفسه فهنا وجب ان تتحلي تلك النفس بالمراجعة الذاتية لأعمالها وتقوم بدور الصديق المخلص والناصح الامين لك انطلاقا من قول رسولنا صلي الله عليه وسلم : ( حاسبوا انفسكم قبل ان تحاسبوا وزنوا اعمالكم قبل ان توزن عليكم ) وهذا قد اكد عليه الزمخشري قائلا : " فإن كنت صديق نفسك، فلم أخطأها نصحك، ولم تخطّاها نصحك. " ثم نراه يسخر من الانسان الذي يسير وراء اهوائه ورغباته دون ان يتحلي بقوة النفس التي تجعله صامدا اوقات المحن والشدة لا متخاذلا او متهاونا امام مسئولياته والا كان ظالم لنفسه ، قائلا : " هل نصحك لها أن تمتعها بالملاعب، ونضحك عنها أن تمنعها المتاعب. هذا لعمري ظلم منك وعدوان ."
بين الصديق والعدو
واعلم أن الذي تُعامل به صديقك هو ضد ما تعامل به عدوك. فالصديق وجه معاملته المسالمة والعدو وجه معاملته المداراة والمواربة هما ضدان يتنافيان يفسد هذا ما أصلح هذا وكلما نقصت من أحد البابين زاد في صاحبه إنْ قليلٌ فقليل وإن كثيرٌ فكثير. فلا تسلم بالمواربة صداقةٌ ولا تظفر بالعدو مع الاستسلام إليه. فضع الثقة موضعها وأقم الحذر مقامه وأسرع إلى التفهم بالثقة ولا تبادر إلى التصديق ولا سيَّما بالمحال من الأمور واعلم أن كل علمٍ بغائبٍ كائناً ما كان إنما يصاب من وجوهٍ ثلاثة لا رابع لها ولا سبيل لك ولا لغيرك إلى غاية الإحاطات لاستئثار الله بها. ولن تهنأ بعيشٍ مع شدة التحرز ولن يتسق لك أمرٌ مع التضييع. فاعرف أقدار ذلك.
سبل استمرار الصداقة
فالانسان الذي احسنت اختياره صديقا لك ممن عرف عنه حسن الخلق والالتزام بتعاليم الدين فلكي تستمر صداقتك به عليك اتباع وسائل تحدث عنها الجاحظ وغيره ومنها الا تكثر عليه في المعاتبة فليكن الانسان وسطا فيها فلا يترك نصحه تماما او ناقدا لأفعاله باستمرار وكما يقول الجاحظ :" واعلم أن كثرة العتاب سببٌ للقطيعة واطراحه كله دليلٌ على قلة
الاكتراث لأمر الصديق. فكن فيه بين أمرين: عاتبه فيما تشتركان في نفعه وضره وذلك في
الهينات وتجاف له عن بعض غفلاته تسلم لك ناحيته."
السلوك الاسلامي في التعامل مع الاخرين
كالصبر والحلم والصدق والوفاء واثر الالتزام بهم في تعاملاتنا
فمثلا الصبر المحمود ليس الصبر علي ضرب السياط او اذلال الاخرين لك وانما بمعني الصبر علي مشاق اتباع طريق اهل الحق ومقاومة اهل الباطل والظلم ابتغاء مرضاة الله وليس هروبا من اجل النجاة الشخصية في الدنيا وكما يقول الجاحظ : " والصبر صبران: فأعلاهما أن تصبر على ما ترجو فيه الغنم في العاقبة."
واما الحلم والعفو فالجدير باتباعه مع الضعفاء ممن هم دونك في كل شئ وفي هذا يقول الجاحظ :" والحلم حلمان: فأشرفهما حلمك عمن هو دونك."
والصدق يجب الالتزام به في تعاملاتنا الانسانية لاسيما ان كان في كلمة الحق وقول الصدق انصاف للاخرين المظلومين حتي وان تسبب ذلك في الاضرار بانفسنا وكما يقول الجاحظ : "والصدق صدقان: أعظمهما صدقك فيما يضرُّك."
والوفاء وفاءان: أسناهما وفاؤك لمن لا ترجوه ولا تخافه. فإن من عرف بالصدق صار الناس له أتباعاً ومن نسب إلى الحلم ألبس ثوب الوقار والهيبة وأبهة الجلالة ومن عرف بالوفاء استنامت بالثقة به الجماعات ومن استعن بالصبر نال جسيمات الأمور. فالصدق والوفاء توأمان والصبر والحلم توأمان فهن تمام كل دين وصلاح كل دنيا.
وأضدادهن سبب كل فرقة وأصل كل فساد.
ومن حقوق النبل أن تتواضع لمن هو دونك، وتنصف من هو مثلك، وتتنبل ( اي تتكبر )على من هو فوقك " النبل والتنبل وذم الكبر/ من رسائل الجاحظ
الانسان اللئيم وصفته
ظالم لمن دونه ممن الجاته الظروف ان يقع تحت يده قاسي القلب لايرحم الضعفاء
وفي هذا يقول الجاحظ :"ومن صفة اللئيم أن يظلم الضعيف، ويظلم نفسه للقوي، ويقتل الصريع، ويجهز على الجريح، ويطلب الهارب، ويهرب من الطالب، ولا يطلب من الطوائل إلا ما لا خطار فيه ولا يتكبر إلا حيث لا يرجع مضرته عليه، ولا يقفو التقية ولا المروءة، ولا يعمل على حقيقته ....
ومن اختار أن يبغي تبدى، ومن أراد أن يسمع قوله ساء خلقه، إذ كان لا يحفل ببغض الناس له ووحشة قلوبهم منه، واحتيالهم في مباعدته، وقلة ملابسته.وليس يأمن اللئيم على إتيان جميع ما اشتمل عليه اسم اللؤم إلا حاسد.فإذا رأيته يعق أباه، ويحسد أخاه، ويظلم الضعيف، ويستخف بالأديب، فلا تبعده من الخيانة، إذ كانت الخيانة لؤماً؛ ولا من الكذب، إذ كان الكذب لؤماً؛ ولا من النميمة، إذ كانت النميمة لؤماً. ولا تأمنه على الكفر فإنه ألأم اللؤم، وأقبح الغدر.ومن رأيته منصرفاً عن بعض اللؤم، وتاركاً لبعض القبيح، فإياك أن توجه ذلك منه على التجنب له، والرغبة عنه، والإيثار لخلافه، ولكن على أنه لا يشتهيه أو لا يقدر عليه، أو يخاف من مرارة العاقبة أمراً يعفي على حلاوة العاجل؛ لأن اللؤم كله أصل واحد وإن تفرقت فروعه، وجنس واحد وإن اختلفت صوره، والفعل محمول على غلبته، تابع لسمته. والشكل ذاهب على شكله، منقطع إلى أصله، صائر إليه وإن أبطأ عنه، ونازع إليه وإن حيل دونه. وكذلك تناسب الكرم وحنين بعضه لبعض.
والجاحظ يعيب علي الانسان الذي يستعمل الكبر في تعامله مع الآخرين دون تمييز بينهم فيقول :" ولم تر العيون، ولا سمعت الآذان، ولا توهمت العقول عملاً اجتباه ذو عقل، أو اختاره ذو علم، بأوبأ مغبة، ولا أنكد عاقبة، ولا أوخم مرعىً، ولا أبعد مهوىً، ولا أضر على دين، ولا أفسد لعرض، ولا أوجب لسخط الله، ولا أدعى إلى مقت الناس، ولا أبعد من الفلاح، ولا أظهر نفوراً عن التوبة، ولا أقل دركاً عند الحقيقة، ولا أنقض للطبيعة، ولا أمنع من العلم، ولا أشد خلافاً على الحلم، من التكبر في غير موضعه "
"والجاحظ يحرّض على تأديب المتكبرين بقوله : «والكبر أعزّك الله باب لا يعد احتماله حلما، ولا الصبر على اهله حزما، ولا ترك عقابهم عفوا، ولا الفضل عليهم مجدا، ولا التغافل عنهم كرما، ولا الامساك عن ذمهم صمتا». النبل والتنبل وذم الكبر/ من رسائل الجاحظ
الاستبداد والتحذير منه
ومن تبجح بالانفراد وفخر بالاستبداد كان من الظفر بعيداً، ومن الخذلان قريباً، والخطاء مع الجماعة خير من الصواب مع الفرقة. وإن كانت الجماعة لا تخطىء والفرقة لا تصيب. النبل والتنبل وذم الكبر/ من رسائل الجاحظ
2- أطواق الذهب في المواعظ والخطب-الزمخشري
الذي يخفض المرء
يطلعنا الزمخشري علي معيار نقيس به مكانة الانسان والتي هي في رايه مقدار مايهبه الله من دين وعلم حتي ولو كان فقيرا او يتيما او ذا مال فيقول : "وليس ما يخفض المرء عدمه ويتمه، إذا رفعه دينه وعلمه. ولا يرفعه ماله وأهله،إذا خفضه فجوره وجهله. العلم هو الأب"
سر سعادة الانسان
ما أسعدك !!
السعيد حقا في نظر الزمخشري هو من يملك ضميرا سليما وسريرة نقية من الاحقاد ، وهو كيس فطن مستعدا لما قد يمر به من اهوال الدنيا والآخرة يقابلها بكل قوة وجلد لاعاجزا ولامتكاسل عما يدعوه اليه الواجب او المسئولية التي بعاتقه مستعدا للقاء ربه اذا اراد النعيم برضوانه فيقول: " ما أسعدك لو كنت في سلامة الضمير، كسلاسة الماء النمير. وفي النقاء عن الريبة كمرآة الغريبة. وفي أخذ الأهبة، كالواقع في النهبة. لكنك ذو تكدير، كرجرجة الغدير. ومتلطخ بالخبائث، كخرقة الطامث. وذو عجز وتواني، كمكسال الغواني. وتارك للأستعداد، كالشاك في المعاد" ( المقالة الثامنة : للزمخشري)
الشقي المخذول
من علامة الانسان الشقي التعيس هو ان يكون حريصا في جمع المال حتي وان ادي ذلك الي التهاون في عرضه ، كل همه جمع المال والبخل به عمن حوله ، أما السعيد فهو بعكس ذلك تماما فهو المصون لعرضه ولو ضحي ذلك بكل ماله . الذي لاتغلبه الشهوات ولا الاهواء مراقبا الله في كل افعاله
" ألا أخبرك بالشقي المخذول، ذي المال المصون والعرض المبذول. من لا يبالي إذا سلمت ثروته، أن تمزق فروته.
وإذا شبعت خزانته، أن تجوع خزانته. وألا أخبرك بالسعيد المنصور، ذي الجناب الممطور. من خالف تلك السنة، واتخذ المال لعرضه جنة. يقول لخازنه أنجح، ولوازنه أرجح. ولنفسه إذا جاشت مكانك تحمدي، وإذا طاشت وراءك تصمدي "( المقالة التاسعة للزمخشري )
حق المؤاخاة
استمسك بحبل مواخيك، ما استمسك بأواخيك. واصحبه ما أصحب للحق وأذعن....فصاحب الصدق أنفع من الترياق النافع، وقرين السوء أضر من السم الناقع . ( المقالة العاشرة للزمخشري )
الماعون والناعون
لا تمنع المعون والماعون، حتى ينعاك الناعون. إن مثل توسعتك على أخيك وقد أضاق، وحقنك ماء وجهه أن يهراق مثل العين الغديقة، في حر الوديقة. ذاك من ذوائب الخير والنواصي، وحقيق أن يطول به التواصل . (المقالة الثانية عشر)
الكريم والضيم
الكريم إذا ريم( فَضَلَ وزادَ )على الضيم ( الظُّلم أَو الإِذلال) نبا (لَمْ يَنْقَدْ لَهُ ) ، والسري(شَرِيفٌ سَخِيٌّ) متى سيم الخسف أبى. والرزين المحتبي بجمالة الحلم، ينفر نفرة الوحشي عن الظلم. إشفاقاً على ظفره أن يقلم، وعلى ظهره أن يكلم. وقلما عرفت الأنفة والإباء، في غير من شرفت منه الآباء .(المقالة السادسة عشرة )
الحلم
أحمل الناس لأعبائه، أحلمهم عن أحبائه. بل من عدوه إلى حبيبه جنيب، لا يلحقه عتاب ولا تأنيب. يترك جزاءه على ذنبه، ويعرك أذاه بجنبه. ذاك الذي لم يعره االله قلباً رهيناً بالحقد، ولا أودعه إلا ضميراً صحيح العقد. قطع االله نياط كل قلب بالشر رهين، يزل الخير عنه زليل الحبر عن الرق الدهين. (المقالة التاسعة عشرة)
المروءة
المروءة خليقة، برضا الله خليقة. والسخاء سجية، بحسن الذكر حجية. ولم أر كالدناءة، أحق بالشناءة ولا يصلح للإخاء، إلا أهل السخاء ميداوى القلب المريض، ويجبر العظم المهيض. وهم يريحون عليك النعم إذا عزبت، ويزيحون عنك النقم إذا حزبت . (المقالة العشرون )
حزناً على التفريط
" من لم يحفظ ما بين فكيه، ظلّ يقلب كفيه. وبات يتململ على دفّيه، حزناً على ما فرط فيه من التحفظ. وأسفاً على ما فرط منه من التلفظ، ولو كان اللسان مخزوناً. لم يكن الفؤاد محزوناً، وقلما يحرس مهجته. من لا يخرس لهجته.ولن تجد على السر أميناً. إلا من كان بكل أمانة قمينا "(المقالة الخامسة والأربعون)
خير الأمور أوسطها
" عليك من الأمور بالأوساط. ودع الغلو والتقصير، إلى القصد، وقدر تقدير داود في السرد. وتكلف من الطاعة، ما دون الاستطاعة. فمن أولاها الطاقة كلها، أوشك أن يملها. وادع نفسك النقرى، لا ترجع القهقري. فلأن تترك فيها بقية، خير من أن تجدها بطية. ولا تنس حظها من الجمام، فذلك سبب التمام والسلام ." المقالة الرابعة والخمسون
الحازم
صفة الشخصية الحازمة عند الزمخشري هو من يتصف بالجد في أموره مبتعدا عن كثرة المزاح التي لايقبلها البعض فتثير بغضه لك او تنزل بوقارك ومهابتك عند الاخرين وهذا من السخف الذي لايليق بالانسان الحازم والذي من صفته ايضا انه من ذي الرأي الحسن الذي يضع الكلام في موضعه ولايعرف الكلمات النابية في تعامله مع الاخرين فيقول الزمخشري :
" الحازم من لم يزل على جده، لم يزل عنه إلى ضده. وذو الرأي الجزل، من ليس في شيء من الهزل. وكيف يكون حازماً من هو مازح، هيهات البون بينهما نازح. وكفاك أن المزح مقلوب الحزم، كما أن الحزم مقلوب المزح. رب كلمة غمستك في الذنوب، وأفرغت على أخيك ملء الذنوب. فإن كان حراً زرعت الغمر (الحِقد والغِلّ) في سويدائه ، وإن كان عبداً نزعت المهابة من أحشائه. .... أسرك أن داعبت الرجل فضحك، ولم تشعر أنه بذلك فضحك. حيث أعلم لو فطنت لإعلامه، أنك الشيخ المضحوك من كلامه. وذلك ما ليس به خفاء، أنه من صفات السخفاء." (المقالة السابعة والأربعون)
وكفى به من حسيب
ما كان في ذمتك من فرض فاقضه، وما كان لك من خصم على وجه الأرض فأرضه. ولا تقل أيان، ألاقي الديان. فإنك ملاقيه عما قريب. فمحاسب به وكفى به من حسيب ...وحسبك بربك خصيماً، فلا تزدد عليه خصوماً. وبعصيانك إياه رصماً فلا تضمم إليه وصوماً اي( تنقَّص من قدره ) ، وهب أنك تقول ربي الأكرم. فما تقول فيمن هو من اللؤم ألأم . (المقالة الحادية والستون)
التعامل مع الأعداء
واعلم أن أصل ما أنت مستظهر به على عدوك ثلاث خلال:
أشرفها: أن تأخذ عليه بالفضل وتبتدئه بالحسنى فتكون عليه رحمةً ولنفسك ناظراً فإن كثرة الأعداء
تنغيصٌ للسرور وقد قال الله تبارك وتعالى: " ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك
وبينه عداوةٌ كأنه وليٌّ حميم ".
اما ذا كان العدو مبالغ في عداوته وكراهيته لك وان تظاهر بعكس ذلك فعليك ألاتفشي له سرك ولاتكثر له من الوعيد والتحذير او تطلعه علي ماتدبره تمهيدا لقطع علاقتك به . فيقول الجاحظ :" فإن كان عدوك مما لا يصلح على ذلك فحصن عنه أسرارك وعم عليه آثار
تدبيرك ولا يطلعن على شيءٍ من مكايدتك له بقولٍ ولا فعل فيأخذ حذره ويعرف مواضع
عوارك فإنَّ تحصين الأسرار أخذٌ بأزمة التدبير والإكثار من الوعيد للأعداء فشل.
ولكن داج عدوك ما داجاك اي (ساتَرَهُ بالعَدَاوَةِ ولَمْ تظْهِرْها لَهُ) وأحص معايبه ما لا حاك.
وقال الشاعر: كلٌّ يداجى على البغضاء صاحبه زكنت منهم على مثل الذي زكنوا ، والزكن اي ( من يَصْدق في فِرَاسَتِه وحَدْسِهِ )
ومن الوسائل التي تستعين بها علي عدوك ان ترد عليه باطله بالحجج الدامغة التي تؤكد صدقك وبراءتك من كل مايتهمك به وفي الوقت نفسه التحذير من استنفار عداوته بكشف اسراره او اخطائه الا اذا اتيحت لك الفرصة المناسبة لذلك وكنت في موقع قوة ومستعدا لتلك المواجهة ونتائجها وفي هذا يقول :"واعلم أن أعظم أعوانك عليه الحجج ثم الفرصة ثم لا تظهرن عليه حجةً ولا تهتبل منه غرة ولا تطلبن له عثرة ولا تهتكنَّ له ستراً إلا عند الفرصة في ذلك كله ، وفي المواضع التي يجب لك فيها العذر ويعظم فيها ضرره إن كان العفو عنه شراً له. وإن كان ممن يظهر لك العداوة ويكشف لك قناع المحاربة وكان ممن أعياك استصلاحه بالحلم والأناة فلتكن في أمره بين حالين:
استبطان الحذر منه والاستعداد له وإظهار الاستهانة به. ولست مستظهراً عليه بمثل طهارتك من الأدناس وبراءتك من المعايب. فلتكن هذه سيرتك في أعدائك." ويحذر الجاحظ من التعامل بكبر وتهاون في قدرات خصمك او عدوك لما لذلك من عواقب وخيمة نتيجة عدم اخذ الأهبة والاستعداد لمكايده فيقول : " ومن تكبر على عدوه حقره، وإذا حقره تهاون بأمره. ومن تهاون بخصمه ووثق بفضل قوته قل احتراسه، ومن قل احتراسه كثر عثاره."
لماذا أنت صعب المراس؟
يندهش الزمخشري من الانسان حين يمتد به العمر فلا يكسبه ذلك مرونة ولينا في تعامله او حياءا وحشمة وحسن خلق والأولي ان يتعظ الانسان ويعلم ان مامضي من عمره ليس بمقدار ماهو ات فالأولي للانسان ان يكون حكيما ورزينا وذو دين يمنعه من مساوئ الافعال والاقوال . قائلا : "
شبت وعرامك ما وخط عارضيه مشيب، وشخت وغرامك رداء شبابه قشيب. مالي أراك صعب المراس، جامح الراس. كأن وافد المشيب لم يخطمك، وكأن ارتقاء السن لم يحطمك. الشيخوخة تكسب أهلها سمتاً، وأنت ما أكسبك إلا أمتاً. لو علمت أي وفدٍ حل بفودك، لتبرقعت حياءً من وفدك. ولكن محياك لم يتعلم الحياء . تثب إلى الشر كما تثب الظباء، وتلهث إلى اللهو كما يلهث الظماء. إن حمحم الباطل فأسمع من سمع، وإن همهم الحق فكأنك بلا سمع. " المقالة الرابعة والستون
النهي عن كثرة الثرثرة لعواقبها الوخيمة في الدنيا والاخرة يقول الزمخشري :
" من لم يحفظ ما بين فكيه، ظلّ يقلب كفيه. وبات يتململ على دفّيه، حزناً على ما فرط فيه من التحفظ. وأسفاً على ما فرط منه من التلفظ، ولو كان اللسان مخزوناً. لم يكن الفؤاد محزوناً، وقلما يحرس مهجته. من لا يخرس لهجته.ولن تجد على السر أميناً. إلا من كان بكل أمانة قمينا " ( المقالة الخامسة والأربعون )