" الأمة عبارة عن مجتمع يحس افراده بدمائهم وحياتهم انهم ينضوون تحت قيادة كبري ومتعالية ، تتحمل مسؤولية التقدم وكمال الفرد والمجتمع ...الأمة مجتمع يعيش حالة السير والصيرورة باتجاه المتعالي المطلق"(1)
فأرقي رابطة بين ابناء الانسانية هي وحدة الفكر والعقيدة والايمان ، فافراد الامة الواحدة – من اي لون ودم وارض وعرق كانوا – يفكرون بطريقة واحدة ولهم ايمان مشترك في نفس الوقت الذي يلتزمون فيه بالتحرك صوب الكمال ، ودفع المجتمع الي الكمال لا الي السعادة تحت قيادة اجتماعية مشتركة "(2)
"وإن الأمة ليست مجموعة أجيالٍ متتابعة مِن جنس معين، إنما هي مجموعة من المؤمنين مهما اختلفت أجناسهم وأوطانهم وألوانهم، وهذا هو التصوُّر الإيماني الذي ينبثق من خلال هذا البيان الرَّباني، وما "سلمان الفارسي" - رضي الله عنه - و"بلال الحبشي"، و"صهيب الرومي"، و"مصعب بن عمير القرشي" عنَّا ببعيدٍ، كلُّهم يربطهم رباطٌ واحدٌ ووشيجة واحدة، وهي وشيجة العقيدة والعمل، وتسقط جميع الروابط والاعتبارات ما لم تتصل بعروة العقيدة والعمل"(3)
"يريد القران توضيح أن رسالة محمد (ص) ليست حركة مجردة مبتورة ، انما هي استمرار لحركة واحدة في التاريخ والانسانية ، رسالتها انقاذ الناس وتكامل الانسان . وبتعبير القرآن تزويد البشرية بالكتاب والميزان والحديد وتعليم الحكمة وهذه الرسالة تتوارثها الأجيال عبر التاريخ والعصور المتتالية والناس المتطلعون الي العدل هم الورثة المتعاقبون لهذا الميراث الالهي العظيم"
النبيُّ القائد يُعَلِّم الكرامة
1-التمسُّك الراسخ بالعقيدة الإسلامية والاعتصام بها وتلك الدعوة الغرَّاء وتبليغها للعالمين، مهما كلَّفه ذلك من مشقَّة وعَنَاء وعَنَت، ولقد كان هذا جَليًّا حينما عَرَضَ عليه مشركو "مكةَ" الْمُلْك، أو المال، أو الطب إن كان به مَسٌّ من جِنّ على أن يترك تبليغ هذه الدعوة، فكان ردُّ النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم أبلغَ ردٍّ لكلِّ متشككٍ متردِّدٍ، ولكلِّ متقاعسٍ قعيدٍ يأبى العمل لدين الله - عز وجل - والأخذ بأسباب النُّصرة للإسلام والمسلمين : ((والله يا عم، لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر، لن أتركه حتى يظهره الله، أو أهلك دونه))
وصدق الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -: ((توشك أن تداعى عليكم الأمم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أَمِن قِلَّة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم كثير، ولكنكم كغثاء السيل، ولينزعنَّ الله من قلوب أعدائكم المهابة منكم، وليقذفنَّ في قلوبكم الوَهَن، قالوا: ما الوهن؟ قال: حُب الدنيا وكراهية الموت))
فالانغماس في تَرَف الدنيا، وضَعف الإيمان، وترك الجهاد، والمسارعة في العدو خشية الضرر المتوقع - من العوامل الباعثة على الذِّلة والمهانة ونزع المهابة من قلوب أعدائنا مِنَّا
وقول عمر بن الخطاب: نحن قوم أعزَّنا الله بالإسلام، فإن نحن ابتغينا العِزة في غيره، أذلنا الله
وموقف سعد بن معاذ - رضي الله عنه - مع "غطفان" يَقْطُر عِزة وكرامة من صحابي جليل ملأ الإيمان قلبه، وملأت قضية الإسلام والمسلمين عليه قلبه وروحه وجوارحه، أرادت "غطفان" مصالحة المسلمين على ثُلث ثمار "المدينة" على أن يرجعوا عن المدينة في "غزوة الأحزاب"، قال: يا رسول الله، لقد كُنَّا على الشرك، وكانت "غطفان" لا تطمع في تمرةٍ من "المدينة"، أبعد أن أعزَّنا الله بالإسلام، وأكرمنا بك نعطيهم ثمارنا؟! والله ليس عندنا لهم إلا السيف
إنقاذ الكرامة المُهْدرة
حفل القصص القراني بالعديد من نماذج انقاذ الكرامة المهدرة خاصة عند بني اسرائيل لتكون لنا قدوة ونبراسا نهتدي بها وناخذ العبرة من سردها منها :
قصة طالوت وجالوت
(ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله. قال: هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا! قالوا: وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله، وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا؟ فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم. والله عليم بالظالمين ) ..
وهو يشي بالاستنكار ووصم الكثرة التي تولت عن هذه الفريضة - بعد طلبها - وقبل أن تواجه الجهاد مواجهة عملية.. وصمها بالظلم. فهي ظالمة لنفسها، وظالمة لنبيها، وظالمة للحق الذي خذلته وهي تعرف أنه الحق، ثم تتخلى عنه للمبطلين!
إن الذي يعرف أنه على الحق، وأن عدوه على الباطل - كما عرف الملأ من بني إسرائيل وهم يطلبون أن يبعث لهم نبيهم ملكا ليقاتلوا " في سبيل الله " . ثم يتولى بعد ذلك عن الجهاد ولا ينهض بتبعة الحق الذي عرفه في وجه الباطل الذي عرفه.. إنما هو من الظالمين المجزيين بظلمهم.. والله عليم بالظالمين ..
وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم ..
هنا ندرك طرفا من هدف تلك الحادثة ومغزاها; وندرك طرفا من حكمة الله في سوق هذه التجربة للجماعة المسلمة في جيلها الأول وفي أجيالها جميعا.. ألا يقعدن بكم حب الحياة، وحذر الموت، عن الجهاد في سبيل الله. فالموت والحياة بيد الله. قاتلوا في سبيل الله لا في سبيل غاية أخرى. وتحت راية الله لا تحت راية أخرى.. قاتلوا في سبيل الله :
( فلما فصل طالوت بالجنود قال: إن الله مبتليكم بنهر. فمن شرب منه فليس مني، ومن لم يطعمه فإنه مني - إلا من اغترف غرفة بيده. فشربوا منه إلا قليلا منهم) ..
هنا يتجلى لنا مصداق حكمة الله في اصطفاء هذا الرجل .. إنه مقدم على معركة; ومعه جيش من أمة مغلوبة، عرفت الهزيمة والذل في تاريخها مرة بعد مرة. وهو يواجه جيش أمة غالبة فلا بد إذن من قوة كامنة في ضمير الجيش تقف به أمام القوة الظاهرة الغالبة. هذه القوة الكامنة لا تكون إلا في الإرادة. الإرادة التي تضبط الشهوات والنزوات ، وتصمد للحرمان والمشاق، وتستعلي على الضرورات والحاجات، وتؤثر الطاعة وتحتمل تكاليفها، فتجتاز الابتلاء بعد الابتلاء.. فلا بد للقائد المختار إذن أن يبلو إرادة جيشه، وصموده وصبره: صموده أولا للرغبات والشهوات، وصبره ثانيا على الحرمان والمتاعب.. واختار هذه التجربة وهم كما تقول الروايات عطاش. ليعلم من يصبر معه ممن ينقلب على عقبيه، ويؤثر العافية.. وصحت فراسته
( ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا: ربنا أفرغ علينا صبرا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. فهزموهم بإذن الله، وقتل داود جالوت، وآتاه الله الملك والحكمة، وعلمه مما يشاء ) ..
وكانت النتيجة هي التي ترقبوها واستيقنوها: فهزموهم بإذن الله .. ويؤكد النص هذه الحقيقة:
بإذن الله . ليعلمها المؤمنون أو ليزدادوا بها علما. وليتضح التصور الكامل لحقيقة ما يجري في هذا الكون، ولطبيعة القوة التي تجريه.. إن المؤمنين ستار القدرة ; يفعل الله بهم ما يريد، وينفذ بهم ما يختار.. بإذنه..
ليس لهم من الأمر شيء، ولا حول لهم ولا قوة; ولكن الله يختارهم لتنفيذ مشيئته، فيكون منهم ما يريده بإذنه.. وهي حقيقة خليقة بأن تملأ قلب المؤمن بالسلام والطمأنينة واليقين.. إنه عبد الله. اختاره الله [ ص: 270 ] لدوره. وهذه منة من الله وفضل. وهو يؤدي هذا الدور المختار، ويحقق قدر الله النافذ. ثم يكرمه الله - بعد كرامة الاختيار - بفضل الثواب.. ولولا فضل الله ما فعل، ولولا فضل الله ما أثيب.. ثم إنه مستيقن من نبل الغاية وطهارة القصد ونظافة الطريق.. فليس له في شيء من هذا كله أرب ذاتي، إنما هو منفذ لمشيئة الله الخيرة قائم بما يريد. استحق هذا كله بالنية الطيبة والعزم على الطاعة والتوجه إلى الله في خلوص
ويبرز السياق دور داود
وداود كان فتى صغيرا من بني إسرائيل . وجالوت كان ملكا قويا وقائدا مخوفا.. ولكن الله شاء أن يرى القوم وقتذاك أن الأمور لا تجري بظواهرها، إنما تجري بحقائقها . وحقائقها يعلمها هو. ومقاديرها في يده وحده. فليس عليهم إلا أن ينهضوا هم بواجبهم، ويفوا الله بعهدهم. ثم يكون ما يريده الله بالشكل الذي يريده. وقد أراد أن يجعل مصرع هذا الجبار الغشوم على يد هذا الفتى الصغير، ليرى الناس أن الجبابرة الذين يرهبونهم ضعاف ضعاف يغلبهم الفتية الصغار حين يشاء الله أن يقتلهم.. وكانت هنالك حكمة أخرى مغيبة يريدها الله. فلقد قدر أن يكون داود هو الذي يتسلم الملك بعد طالوت ، ويرثه ابنه سليمان ، فيكون عهده هو العهد الذهبي لبني إسرائيل في تاريخهم الطويل جزاء انتفاضة العقيدة في نفوسهم بعد الضلال والانتكاس والشرود
صفة القوم المكرمين :
(من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة، والله يقبض ويبسط، وإليه ترجعون) ..
وإذا كان الموت والحياة بيد الله ، والحياة لا تذهب بالقتال إذا قدر الله لها البقاء، فكذلك المال لا يذهب بالإنفاق. إنما هو قرض حسن لله، مضمون عنده، يضاعفه أضعافا كثيرة. يضاعفه في الدنيا مالا وبركة وسعادة وراحة; ويضاعفه في الآخرة نعيما ومتاعا، ورضى وقربى من الله
والله يقبض ويبسط ..
والمرجع إليه سبحانه في نهاية المطاف. فأين يكون المال والناس أنفسهم راجعون بقضهم وقضيضهم إلى الله: وإليه ترجعون
وإذن فلا فزع من الموت، ولا خوف من الفقر، ولا محيد عن الرجعة إلى الله. وإذن فليجاهد المؤمنون في سبيل الله، وليقدموا الأرواح والأموال; وليستيقنوا أن أنفاسهم معدودة، وأن أرزاقهم مقدرة، وأنه من الخير لهم أن يعيشوا الحياة قوية طليقة شجاعة كريمة. ومردهم بعد ذلك إلى الله(4)..
وفي تفسير المنار أيضا نلتمس الكثير من الايضاحات لصفة الأمم التي تحافظ علي كرامتها وتأبي الذل والاستعباد مقارنة بمن رضيت حياة الهوان وكيف كان مصيرها
" إن وجه الاتصال بين آيات هذه القصة وما قبلها هو أن الآيات التي قبلها نزلت في شرع القتال لحماية الحقيقة وإعلاء شأن الحق ، وبذل المال في هذه السبيل ، سبيل الله لعزة الأمم ومنعتها وحياتها الطيبة التي يقع من ينحرف عنها من الأقوام في الهلاك والموت ، كما علم من قصة الذين خرجوا من ديارهم فارين من عدوهم على كثرتهم
وهذه القصة - قصة قوم من بني إسرائيل - تؤيد ما قبلها من حاجة الأمم إلى دفع الهلاك عنها ، فهي تمثل لنا حال قوم لهم نبي يرجعون إليه ، وعندهم شريعة تهديهم إذا استهدوا ، وقد أخرجوا من ديارهم وأبنائهم بالقهر - كما خرج أصحاب القصة الأولى بالجبن - فعلموا أن القتال ضرورة لا بد من ارتكابها ما دام العدوان في البشر ، وبعد هذا كله جبنوا وضعفوا عن القتال فاستحقوا الخزي والنكال ، فهذه القصة المفصلة فيها بيان لما في تلك القصة المجملة : فر أولئك من ديارهم فماتوا بذهاب استقلالهم واستيلاء العدو على ديارهم
فالآية هناك صريحة في أن موتهم هذا سبب عن خروجهم فارين بجبنهم ، ولم تصرح بسبب إحيائهم الذي تراخت مدته ، ولكن ما جاء بعدها من الأمر بالقتال وبذل المال الذي يضاعفه الله تعالى أضعافا كثيرة قد هدانا إلى سنته في حياة الأمم
وجاءت هذه القصة الإسرائيلية تمثل العبرة فيه ، وتفصل كيفية احتياج الناس إليه; إذ بينت أن هؤلاء الناس احتاجوا إلى مدافعة العادين عليهم واسترجاع ديارهم وأبنائهم من أيديهم ، واشتد الشعور بالحاجة حتى طلبوا من نبيهم الزعيم الذي يقودهم في ميدان الجلاد ، وقاموا بما قاموا به من الاستعداد ، ولكن الضعف كان قد بلغ من نفوسهم مبلغا لم تنفع معه تلك العدة ، فتولوا وأعرضوا للأسباب التي أشير إليها ، وألهم القليل منهم رشدهم واعتبروا فانتصروا
( فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم )
وفي الآية من الفوائد الاجتماعية أن الأمم التي تفسد أخلاقها وتضعف ، قد تفكر في المدافعة عند الحاجة إليها وتعزم على القيام بها إذا توفرت شرائطها التي يتخيلونها على حد قول الشاعر
وإذا ما خلا الجبان بأرض طلب الطعن وحده والنزالا
ثم إذا توفرت الشروط يضعفون ويجبنون ، ويزعمون أنها غير كافية ليعذروا أنفسهم وما هم بمعذورين ( والله عليم بالظالمين ) الذين يظلمون أنفسهم وأمتهم بترك الجهاد دفاعا عنها وحفظا لحقها ، فهو يجزيهم وصفهم فيكونون في الدنيا أذلاء مستضعفين ، وفي الآخرة أشقياء معذبين
نموذج لمن رضي بضياع كرامته
قصة بني اسرائيل مع موسي ودخول الأرض المقدسة
( وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين )
ويحتوى هذا الدرس على استعراض ميثاق الله مع قوم موسى ، عند إنقاذهم من الذل في مصر ; ثم نقضهم لهذا الميثاق ; وما حاق بهم نتيجة نقضهم له ; وما أصابهم من اللعنة والطرد من مجال الهدى والنعمة . . وعلى استعراض ميثاق الله مع الذين قالوا : إنا نصارى . ونتيجة نقضهم له من إغراء العداوة بين فرقهم المختلفة إلى يوم القيامة . ثم على استعراض موقف اليهود أمام الأرض المقدسة التي أعطاهم الله ميثاقه أن يدخلوها ، فنكصوا على أعقابهم وجبنوا عن تكاليف ميثاق الله معهم . وقالوا لموسى فاذهب أنت وربك فقاتلا، إنا ها هنا قاعدون . .
ولقد كان الله - سبحانه - يقص عليها ما وقع لبني إسرائيل من اللعن والطرد وقسوة القلب وتحريف الكلم عن مواضعه ، حين نقضوا ميثاقهم مع الله ، لتحذر أن تنقض هي ميثاقها مع الله ، فيصيبها ما يصيب كل ناكث للعهد ، ناقض للعقد . . فلما غفلت عن هذا التحذير ، وسارت في طريق غير الطريق ، نزع الله منها قيادة البشرية ; وتركها هكذا ذيلا في القافلة ! حتى تثوب إلى ربها ; وحتى تستمسك بعهدها ، وحتى توفي [ ص: 860 ] بعقدها . فيفي لها الله بوعده من التمكين في الأرض ومن القيادة للبشر والشهادة على الناس . . وإلا بقيت هكذا ذيلا للقافلة . . وعد الله لا يخلف الله وعده(5)
وملخص معنى الآية : أن موسى لما قرب بقومه من حدود الأرض المقدسة العامرة الآهلة أمرهم بدخولها مستعدين لقتال من يقاتلهم من أهلها ، وأنهم لما غلب عليهم من الضعف والذل باضطهاد المصريين لهم وظلمهم إياهم أبوا وتمردوا واعتذروا بضعفهم ، وقوة أهل تلك البلاد ، وحاولوا الرجوع إلى مصر ( كما كان بعض العبيد يرجعون باختيارهم إلى خدمة سادتهم في أمريكة ، بعد تحريرهم كلهم ومنع الاسترقاق بقوة الحكومة ; لأنهم ألفوا تلك الخدمة والعبودية ، وصارت العيشة الاستقلالية شاقة عليهم ) وقالوا لموسى : إنا لن ندخل هذه الأرض ما دام هؤلاء الجبارون فيها ، كأنهم يريدون أن يخرجهم منها بقوة الخوارق والآيات ; لتكون غنيمة باردة لهم ، وجهلوا أن هذا يستلزم أن يبقوا دائما على ضعفهم وجبنهم ، وأن يعيشوا بالخوارق والعجائب ما داموا في الدنيا ، لا يستعملون قواهم البدنية ولا العقلية في دفع الشر عن أنفسهم ، ولا في جلب الخير لها ، وحينئذ يكونون أكفر الخلق بنعم الله ، فكيف يؤيدهم بآياته طول الحياة ! والحكمة في مثل هذا التأييد أن يكون لبعض أصفياء الله تعالى موقتا بقدر الضرورة والسنة العامة ; فهو كالدواء بالنسبة إلى الغذاء . وقولهم ( فإن يخرجوا منها فإنا داخلون ) تأكيد لمفهوم ما قبله ، مؤذن بأنه لا علة لامتناعهم إلا ما ذكروه(6)
(قال رجلان من الذين يخافون انعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فاذا دخلتموه فانكم غالبون وعلي الله فتوكلوا ان كنتم مؤمنين )
بنصر الله وتأييده لكم إذا أطعتم أمره ، وصدقتم وعده ( وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ) أي وعليكم ، بعد أن تعملوا ما يدخل في طاقتكم من طاعة ربكم ، أن تكلوا أمركم إليه وتثقوا به فيما لا يصل إليه كسبكم ، فإن التوكل إنما يكون بعد بذل الوسع في مراعاة السنة وامتثال الأمر ، إن كنتم مؤمنين بأن ما وعدكم ربكم على لسان نبيكم حق ، وأنه قادر على الوفاء لكم بوعده ، إذا أنتم قمتم بما يجب عليكم من طاعته وشكره والوفاء بميثاقه وعهده
( قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون )
أي لم تنفع بني إسرائيل موعظة الرجلين ، بل أصروا على التمرد والعصيان ، وأكدوا لموسى بالقول بأنهم لا يدخلون تلك الأرض التي فيها الجبارون أبدا - أي مدة الزمن المستقبل - ما داموا فيها ; لأن دخولها يستلزم القتال والحرب ، وليسوا لذلك بأهل ، وقالوا لموسى ما معناه : إن كنت أخرجتنا من أرض مصر بأمر ربك ; لنسكن هذه الأرض التي وعد بها آباءنا ، وقد علمت أن هذا يتوقف على القتال وأننا لا نقاتل ، فاذهب أنت وربك الذي أمرك بذلك ، فقاتلا الجبارين ، واستأصلا شأفتهم ، أو اهزماهم وأخرجاهم منها ، إنا هاهنا منتظرون ومتوقفون ، أو قاعدون عن القتال
(قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين . قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض . فلا تأس على القوم الفاسقين)
إن الشعوب التي تنشأ في مهد الاستبداد ، وتساس بالظلم والاضطهاد ، تفسد أخلاقها ، وتذل نفوسها ، ويذهب بأسها ، وتضرب عليها الذلة والمسكنة ، وتألف الخضوع ، وتأنس بالمهانة والخنوع ، وإذا طال عليها أمد الظلم تصير هذه الأخلاق موروثة ومكتسبة حتى تكون كالغرائز الفطرية ، والطبائع الخلقية
أفسد ظلم الفراعنة فطرة بني إسرائيل في مصر ، وطبع عليها طابع المهانة والذل ، وقد أراهم الله تعالى ما لم ير أحدا من الآيات الدالة على وحدانيته وقدرته وصدق رسوله موسى عليه السلام ، وبين لهم أنه أخرجهم من مصر لينقذهم من الذل والعبودية والعذاب إلى الحرية والاستقلال والعز والنعيم ، وكانوا على هذا كله إذا أصابهم نصب أو جوع أو كلفوا أمرا يشق عليهم يتطيرون بموسى ويتململون منه ، ويذكرون مصر ويحنون إلى العودة إليها ، ولما غاب عنهم أياما لمناجاة ربه ، اتخذوا لهم عجلا من حليهم الذي هو أحب شيء إليهم وعبدوه ، لما رسخ في نفوسهم من إكبار سادتهم المصريين ، وإعظام معبودهم العجل ( أبيس ) وكان الله تعالى يعلم أنهم لا تطيعهم نفوسهم المهينة على دخول أرض الجبارين ، وأن وعده تعالى لأجدادهم إنما يتم على وفق سنته في طبيعة الاجتماع البشري ، إذا هلك ذلك الجيل الذي نشأ في الوثنية والعبودية للبشر وفساد الأخلاق ، ونشأ بعده جيل جديد في حرية البداوة وعدل الشريعة ونور الآيات الإلهية ، وما كان الله ليهلك قوما بذنوبهم حتى يبين لهم حجته عليهم ; ليعلموا أنه لم يظلمهم وإنما يظلمون أنفسهم ، وعلى هذه السنة العادلة أمر الله تعالى بني إسرائيل بدخول الأرض المقدسة بعد أن أراهم عجائب تأييده لرسوله إليهم فأبوا واستكبروا ، فأخذهم الله تعالى بذنوبهم ، وأنشأ من بعدهم قوما آخرين ، جعلهم هم الأئمة الوارثين ، جعلهم كذلك بهممهم وأعمالهم الموافقة لسنته وشريعته المنزلة عليهم ; فهذا بيان حكمة عصيانهم لموسى بعد ما جاءهم بالبينات ، وحكمة حرمان الله تعالى لذلك الجيل منهم من الأرض المقدسة(7)
(من يسلب كرامة الانسان ؟)
في مقابل هذه الحركة المتلاحقة والرسالة الواحدة تقف القوي المحادة لله ، يجرون الناس الي الاستعباد والذلة والاستضعاف ويدعونهم الي انفسهم وطاعتهم وعبوديتهم وتعظيمهم والتملق لهم ، بدلا من الدعوة الي عبادة الله وطاعته وقفوا دائما في وجه رسالات الله ومنعوا تحقيق العدالة والحرية وتكامل الايمان والتوحيد الخالص . الله يعطي الانسان كرامة وفضلا ويجعل الناس عياله ومقربيه ، ويريد لهم العزة والحرية والنعمة والشرف والقوة والاقتدار وهؤلاء ...يجعلون الناس عبيدا مستضعفين ومقلدين وجهلة مطيعين(8)
( وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء علي الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا )البقرة : 143
فهم شهداء يعني أن النبي يؤدي لهم دوره ، ويقومون هم بدورها لغيرهم من الامم ، فيؤدون دور النموذج والانسان والامة القدوة "وأمة وسطا" الأمة المعتدلة التي لاتبتلي بالافراط والتفريط ، لاتغرق في الماديات ولا في الروحانيات ، الأمة التي توازن بين الروح والجسد والماديات والمعنويات وتسلك في سبيل ذلك طريق الاعتدال والوسط(9)
" نحن نؤمن ان القران نزل لخلاص البشرية والرسول بعث لتخليص الانسان من الظلم والقهر والارستقراطية وعبادة الدم والقومية والذل والاستعباد والاستغلال ومكافحة الجهل والتخلف "(10)
( ونريد ان نمن علي الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم ائمة ونجعلهم الوارثين ) القصص : 5
والاستضعاف اعم من الاستبداد والاستعمار والاستغلال والاستحمار ..فهو يعني أن طبقة كاملة تقع في المسكنة علي يد الاستبداد ، وهذا هو الاستضعاف السياسي ، وطبقة تتعرض للاستغلال عن طريق النهب واختطاف الثروة ، وهذا استضعاف اقتصادي ، وأشخاص من ذوي الفكر والتفكير والتعقل يستحمرون علي أيدي القوي المستحمرة التي تمثل البنية التحتية للاستبداد والاستغلال وهذا هو الاستضعاف العقلي والشعوري والعاطفي . لكن كل هذه الجماهير التي كانت مستضعفة وراوا في انفسهم عدم القدرة علي القضاء علي امثال هذه النظم المرعبة هذه هي بشري الله تخاطب هذه الطبقة في الدنيا وتعلن الزوال الحتمي للقوي الغاصبة المسيطرة علي الارض " ونريد ان نمن علي الذين استضعفوا في الأرض ، وتعرضوا لأسر الاستضعاف الفكري او السياسي أو الاقتصادي واخذوا في الأرض بالذلة والعجز ، نريد ان نمن عليهم ونجعلهم ائمة البشر وورثة الارض . لايقول " ننجي هذه الطبقة المسكينة والضعيفة من اثقال الظلم ، بل يقول : نعطيهم القيادة ..ونجعلهم زعماء الارض وقادتها ، نجعلهم ورثة ذلك الذي كان طوال التاريخ في الحياة وفي الارض حكرا علي القوي الغاصبة ( أن الارض يرثها عبادي الصالحون ) الانبياء : 105 . الصالحون قولا وفعلا وفكرا(11)
" مدينة الفارابي انسانية رحبة تخاطب العالم في مجموعه دونما تفريق بين شعب وآخر علي أساس اللون والعرق ، بينما جمهورية افلاطون تنحصر في المجتمع اليوناني ، ولاتخلو من نعرة الغرور والاستعلاء لليونانيين علي غيرهم من شعوب الارض . ولاشك أن الفارابي قد اكتسب تلك النظرة الانسانية الشاملة مما ورثه عن الاسلام الذي يهدف الي جمع شعوب الأرض علي اختلافها علي أسس التقوي : ( ياايها الناس انا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند الله أتقاكم ) الحجرات : 63(12)
والفارابي استمد تصوره لمجتمع الامم من واقع عقيدته الاسلامية التي ترمي الي تاسيس دولة او خلافة تتجاوز موانع الجنس واللون والارض ، كما استمده ايضا من واقع التجربة السياسية الاسلامية ذاتها ، حيث كانت الدولة الاسلامية تترامي من الاندلس غربا وحتي مشارف الصين شرقا وكانت تضم شعوبا واجناسا مختلفة انصهرت في بوتقة الاسلام
وإن الحصيف الذي يطالع نصوص الإسلام وسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومواقف الصحابة الكرام - يلمس بثَّ روح العِزة على أساس العقيدة الدينية الصحيحة، كما تستهدف خَلْقَ الأمل في النجاح مكان اليأس، وتوثيق الصِّلات بين الشعوب الإسلامية كلها"(13)
الاصلاح السياسي
" كان الفارابي يهدف دوما الي الاصلاح السياسي ، ويري أنه المدخل للاصلاح الاجتماعي والأخلاقي . فبرأيه أن وجود سلطة فاضلة وعادلة بما امر به الله سبحانه ، كفيلة بأن تحقق التغيير والاصلاح المنشود لأخلاق الناس وأحوالهم ومعاشهم الي ماهو احسن وأفضل . ومن هنا كان تركيزه علي الرئيس الفاضل واهتمامه بابراز دوره الرئيسي في قيادة المجتمع "(14)
فالفارابي يقيم مدينته الفاضلة علي اساس من التزواج بين السياسة والأخلاق وليس غلي الانفصال والتناقض فيما بينهما (15)
كرامة الأمة سياسيا
المجاهد الجزائري الشيخ عبد الحميد بن باديس يضع قواعد تحفظ للامة كرامتها السياسية وهي
اولا : لاحق لاحد في ولاية امر من امور الامة خيرا من الأمة
ثانيا : ان لايكون احد بمجرد ولايته أمرا من أمور الامة خيرا من الامة
ثالثا : ضمان حق الامة في مراقبة أولي الأمر لانها هي مصدر سلطتهم وصاحبة النظر في ولايتهم وعزلهم
رابعا : حق الامة في مناقشة رجال الدولة ومحاسبتهم علي أعمالهم وحملهم علي ماتراه هي لا مايرونه هم
خامسا : من واجبات الدولة أن تطلع الامة علي خطتها في الحكم وسياستها التي ستسير عليها ، حتي اذا صادقت الامة علي تلك السياسة لم يعد من حق الدولة ان تحيد عنها
سادسا : أن لا تحكم الدولة الا بالقانون الذي رضيته الامة لنفسها . اذ الدولة ليست الا أداة تنفيذ لارادة الأمة التي تطيع القانون لأنه قانونها ، لا لأن سلطة الدولة هي التي فرضته علي الأمة ، كائنا ما كانت تلك الدولة . ان خضوع الامة للقانون الذي رضيته لنفسها يجعلها تشعر بانها حرة في تصرفاتها وانها تسير نفسها . وانها ليست ملكا لغيرها من الناس لا الافراد ولاالجماعات ولا الأمم ز وهذا مانسميه بالسيادة التي هي حق طبيعي وشرعي لها ولكل فرد من أفرادها
سابعا : الناس أمام القانون سواء يطبق علي القوي دون رهبة لقوته ، وعلي الضعيف دون رقة لضعفه .
ثامنا : حفظ التوازن بين طبقات الأمة عند صون الحقوق ، فيؤخذ الحق من القوي دون أن يقصد كسره ، ويعطي للضعيف حقه دون أن يقصد تدليله(16)
المراجع :
1-د. علي شريعتي : الحسين وارث ادم ، ص 63 ومابعدها
2-المرجع السابق ، ص 125- 127
3-"في ظلال القرآن"، ج (1)، ص (113
4-في ظلال القران الكريم : سيد قطب ، تفسير سورة البقرة اية
5-في ظلال القران الكريم
6-تفسير المنار
7-نفس المرجع
8-د. علي شريعتي : الحسين وارث ادم ، ص 125- 127
9-د. علي شريعتي : الحسين وارث ادم ، ص 125- 127
10-د. علي شريعتي : الحسين وارث ادم ، ص 359
11-د. علي شريعتي : الحسين وارث ادم ، ص 379
12-( الانسان في الفلسفة الاسلامية (نموذج الفارابي) : د. ابراهيم عاتي ، ص 268، الهيئة المصرية العامة للكتاب بتصرف
13-"معركة المصحف"؛ للغزالي، ص (10)، بتصرُّف ، صناعة العزة والكرامة ، د. طارق محمد حامد
14-( الانسان في الفلسفة الاسلامية (نموذج الفارابي) : د. ابراهيم عاتي ، ص 279، الهيئة المصرية العامة للكتاب
15-( الانسان في الفلسفة الاسلامية (نموذج الفارابي) : د. ابراهيم عاتي ، ص 251، الهيئة المصرية العامة للكتاب
16-النظم السياسية في الدولة الاسلامية : محمد سليم العوا ، ص 235