الفقه معناه الإصطلاحي:
عبارة عن العلم بالأحكام الشرعية الثابتة لأفعال المكلفين خاصة(1) وفي عرف المتشرعين: الفقه مخصوص بالعلم الحاصل بجملة من الأحكام الشرعية الفروعية بالنظر والاستدلال(2)
ولقد عرف العصر النبوى من البعثة إلى وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بعصر التشريع وهو الزمن الذي واكب تاريخ نزول آيات القرآن وسورة على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عصر النبوة (3)
وعصر الفقه: هو الزمن الذي راكب حركة الإجتهاد العلمي من المسلمين والمؤمنين بعد عهد النبوة إلى يومنا هذا وإلى قيام الساعة إن شاء الله تعالى والأساس الذي قام عليه الفقه الإسلامي كان التشريع الإسلامي(4)
نشأة الإختلافات الفقهية
ترجع إلى نشأة الإجتهاد في الأحكام الذي بدأ يسيرا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم حيث استغنى الناس بالوحي المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم توسع بعد ذلك بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم ويتوزع الصحابة في الأمصار رضوان الله عليهم (5) ثم توسع الإختلاف ونما في عهد التابعين ومن بعدهم حيث ظهر الأئمة المجتهدون في العواصم والأمصار الإسلامية ودونت مناهجهم وكثر أتباعهم (6)
واتسع نطاق الإجتهاد بعد عصر التابعين فكانت النتيجة اتساع نطاق الاختلاف بين الفقهاء(7) ويعبر الشيخ محمد أبو زهرة عن الاختلاف في هذا العصر قائلا: "تكونت مذاهب الأمصار وقد ابتدأ الإختلاف في المدائن بتكوين المدارس الفقهية فكان بالعراق مدرسة فقهية لها منهاج ثم بالحجاز ثم بالشام ثم كان الشهيد لهم مدرستهم ثم صار بعد ذلك في كل مدرسة رجل بارز يلتف حوله تلاميذ يمدهم بالرواية والدراية الفقهيه ويخرج المرويات ويبنى عليها ويدرس الواقعات ويعطيها أحكامها فكان بالكوفة أبو حنيفة وكان بالمدينة شيخها مالك وكان بالشام شيخها الأوزاعي وكان بمصر الليث بن سعد ثم جاءت الطبقة الثانية فكان الشافعي وأحمد وداود وتتابع من بعدهم الإجتهاد ثم الإنحياز المذهبي .. إلى التقيد بأراء الإمام.. إلى الجمود والوقوف عند ما انتهى إليه السابقون(8)
من هنا نفهم أن البيئة الإسلامية كانت من المرونة بحيث سمحت بخط التعدديات للأحكام الفقهية بالبقاء والاتصال قبل الدخول إلى عصور الظلام للحضارة الإسلامية توقف الإجتهاد وارتفع الصوت المنادى بالتقليد للسابقين وهذا ما حاول علماؤنا في العصر الحديث وقبلهم المجددون من محاربته والدعوة إلى إقتناء سنة الرسول وصحابته وعصور الإزدهار الحضاري الإسلامي حين سمحت لمثل هذه الإختلافات بالظهور دون اعتراض مادامت الأصول الإسلامية مجمع عليها يؤكد ذلك ما نستعرضه من صور لمثل هذه الإختلافات الفقهية المتنوعة
صور الإختلافات على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم
اختلاف الصحابة في حكم الصلاة فى بنى قريظة وذلك كما جاء فى حديث ابن عمر رضى الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لنا لما رجع من الأحزاب "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة" فأدرك بعضهم العصر في الطريق فقال بعضهم: لانصلي حتى نأتيها وقال بعضهم: بل نصلى لم يُرد منا ذلك فذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدا منهم(9) بالإضافة إلى ما سبق من قصة تأييد النخل. وكذلك عالج كل اختلاف وقع بين المسلمين فيما بينهم سواء أصابوا فى إجتهادهم أم لا. (10) أو مع غيرهم من المشركين وأهل الكتاب بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هى أحسن. (11)
اختلاف الصحابة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم
اختلف الصحابة في إمضاء جيش أسامة فرأى عمر وغيره من الصحابة التأني حتى يستتب الأمر للمسلمين ويرفض أبو بكر تأخير راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكفاهم الله شر الأعراب وغيرهم(12) كما اختلفوا في فقال مانعي الزكاة واتفقوا في النهاية على رأي أبي بكر وكان نصر الله حليفهم
ومن أمثلة إختلافهم في الأحكام التفصيلية(13)
وذلك على سبيل المثال لا الحصر كما ذهب الكثير من الباحثين
ميراث الجد: فذعب إبن عباس إلى أن الجد يحجب الأخوة أيا كانوا من الميراث لإطلاق لفظ الأب عليه في القرآن وذهب آخرون كعمر وعلي وزيد إلى أن الأخوة الأشقاء أو الأب يقاسمون الجد في الميراث لاتحاد وجهتهم
1. اختلافهم في عدة الحامل المتوفي عنها زوجها فقال عمر وابن مسعود رضى الله عنهما تفقد بوضع الحمل وقال على وابن عباس رضة الله عنهما تعقد بأبعد الأجلين
2. وعلى أساس إختلاف الصحابة وعدم انكار بعضهم على بعض استدل جمهور الفقهاء على جواز الإختلاف الفقهاء على جواز الإختلاف الفقهي أى في الفروع يحسب إصطلاحهم وثم تجويذه بين العلماء في العصور التالية وهم خارج الولاية السياسية(14) وتوصل العلماء إلى جواز الإختلافات الفقهيه والسياسيه في اجتهادات الخلفاء والأمراء من أولى الأمر من الصحابة.
وذلك بناءا على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمنع مسلما من ابداء رأيه المخالف له صلى الله عليه وسلم سواء كان من وزرائه أم من قادة الجيش أم من غيرهم وأنه أخذ بإجتهاداتهم كما في مكان موقعة بدر- إلا إذا تعارضت مع وحي منزل من الله وهذا دليل عملي من البيان النبوي على جواز الاختلاف في الاجتهاد الفقهي والسياسي بين المؤمنين مادامت له حدود شرعية وضوابط صحية وغايته المصالح العامة (15) وهكذا وجد للتعدديه مستقر مكين وسند شرعي وسجل حافل بالممارسات العملية في هذا الصدد من هنا نستطيع أن نفهم التسامح الكبير لأئمة الفقه في العصور المختلفة مع مخالفيهم.
التعددية الفقهية لدى الأئمة وخلق التسامح مع المخالفين
بداية نذكر أن العلماء أجمعوا على أن هذا الإختلاف محمود وله أدلته الكثيرة من الكتاب والسنة وهو جائز مادام لا يؤدي إلى الفرقة والتفرق والتعصب على فروع الدين وليس أصوله بل هو عامل قوة ومنعة لأنه يحرك الطاقات العلمية والعملية لفهم الإسلام ونصرة الدين وأهله(16) ومن هؤلاء العلماء:
الشيخ أبو زهرة يقول: "إن اختلاف الأراء في الفروع الفقهية لها لا يدل على انحراف في الدين .. مادام أساسه طلب الحق ف‘نه يفتح للعقول الطريق للإختيار الصحيح فإنه من وسط اختلاف الأراء وتعرف أوجه النظر فيها ينبلج نور الحق ساطعا" (17)
ويقول الدكتور يوسف القرضاوي" "يهمنى أن أذكر حقيقة لاغنى عنها وهى حاجتنا إلى تبنى فقه الاختلاف أو فقه الإئتلاف كما سماه أحد إخواتنا الباحثين وهو الذي نعرف منه أن الإختلاف في فروع الشريعة ضرورة ورحمة وسعة وقد اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعوهم بإحسان والأئمة المرضيون في حاضرهم ذلك بل اختلفت اجتهاداتهم ولم تختلف قلوبهم وصلى بعضهم وراء بعض وأثنى بعضهم على بعض وهذا شأن الراسخين في العلم أما السطحيون والمهازيل فهم لا يطيقون أن يختلفوا مع أحد أو يختلف معهم أحد(18)
ويقول ولى الله الدهلوى موضحا روح التسامح والتي كان الأئمة يستظلون بها مع مخالفيهم وفهمهم الصحيح والعملي لمعنى الاختلاف "كان السلف لايختلفون في أصل المشروعات وإنما كان خلافهم في أولى الأمرين.. وقد عللوا كثيرا في هذا الباب بأن الصحابة مختلفون وأنهم جميعا على الهدى ولذلك لم يزل العلماء يجوزون فتاوى المفتين في المسائل الإجتهادية ويعملون في بعض الأحيان بخلاف مذهبهم.."(19)
ويقول أستاذ جمال البنا-مؤكدا على ما سبق- " أن الصحابة كانوا يختلفون في فتاويهم وأن هذا لم يؤثر أبدا على مشاعر المودة والتقدير المتبادلة وورث التابعون هذه الصفة عن الصحابة كما ورثها تابعوا التابعين.. وكانت وشائج التقدير والحب تربط بين الذين جمعهم وقت واحد مثل مالك والشافعي والليث ومحمد بن الحسن الخ وكان بعضهم يأخذ- في بعض المناسبات ببعض ما ذهب إليه الآخرون وكانوا جميعا ينهرون الناس عن أن يقلدوهم ويأمرونهم بأمعان النظر والتدبر" (20)
وهذا دليل على مدى حرصهم على إعمال العقل وتقدير المكانة من خلال توفرهم البيئة المناسبة لحرية الفكر وتعددية الأراء والسماحة وسعة الصدر التي تمتعوا بها في تقبلهم للرأي الأخر فأثروا الحياة وجعلوها أكثر خصبة ورحابة تكشف الناس على تنوعاتهم وتباينهم وتسعهم دون خصومات ومشاحنات لأنهم كانوا على وعي بأن هناك أسباب موجبة للإختلاف من مجتمع لآخر بل وحتى البيئة الواحدة
أسباب الإختلاف الفقهي وأدبه
هناك الكثير من المؤلفات والبحوث التي قامت على دراسة هذه الظاهرة ولكن سنجاول إجمالها من منطلق التأكيد على فقه أصحابها للأسباب الموجبة للتعددية في الأفكار والأراء منها:
21- الاختلاف في ثبوت النص وعدم ثبوته(21)
22-الإختلاف في فهم النصوص الشرعية(22)
23- إختلاف القراءات(23)
24- عدم وصول الحديث إلى الفقهية(24)
25- الإعتقاد في عدم وجود دلالة في الحديث(25)
بالإضافة إلى أمور أخرى كثيرة يراها الفقهاء وعلماء الأصول منها طبيعة النفس فيها المتشدد فيها المتشدد وفيها المترخص وقد اشتهر في تاريخ الفقه ابن عمر بتشدده وابن عباس بترخيصه، واشتراط أمور لم يشترطها غيره في الحديث واعتبار شرع من قبلنا(26) بالإضافة إلطبيعة اختلاف ظروف كل بلد والذي حد بالإمام مالك إلى رفض أن يكون الموطأ مذهب رسمي لكل الأمصار الإسلامية حينما أراء الخليفة ذلك.
كما أن الخليفة أبوجعفر المنصور رفض ما اقترحه ابن المقفع فى رسالة الصحابة من الأخذ بإحدى وجهات النظر الفقهية.. ولكن الطبيعة التعددية المتفتحة للمجتمع الإسللامي حقبة النهضة والفتوة والثقة في النفس كانت أقوى من أن تستسلم للقيود أو الضوابط وظل الإجتهاد ساريا.."(27)
ومن دلائل التعددية الفقهية أن الفقهاء ألفوا كتب كثيرة في الإختلاف الفقهي وأدابه وأدب المناظرة والجدل وأسبابها ومسائلها منها28)
1-"إختلاف الفقهاء" لابن جرير الطبري (310هـ) (29)
2- كتاب "تأسيس النظر" لأبي زيد عبيد الله الدبوسي (430هـ)
3- كتاب "الإنصاف في التنبيه على المعاني والأسباب التي أوجبت الإختلاف بين المسلمين في آرائهم" لابن السيد البلطيوسي (444 هـ)
4-رفع الملام عن الأئمة الأعلام" لابن تيميه (728 هـ)
5- "أسباب إختلاف الفقهاء" على الخفيف
6- "أدب الإختلاف في الإسلام" تأليف طه جابر العلواني(30)
وهذا دليل على أن الإختلاف كان حقيقة واقعة وكانت له آدابه وقد حفظ لنا التاريخ أمثلة لاتحصى للإختلافات مابين الأئمة ونماذج ردودهم على بعضهم مثل :
1-الرد على سير الأوزاعي لأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم
2- الرد على أبي حنيفة لأبي بكر بن أبي شيبة ضمن كتابه المصنف
· الرد على محمد بن الحسن الشيباني للإمام الشافعي
· مادار بين الليث بن سعد إلى مالك بن أنس من مكاتبات تكشف عن الأدب الجم والتقدير المتبادل
· بيان الوهم والإبهام الواقعين في كتاب الأحكام لعبد الحق الإشبيلي لابن القطان
· إصلاح غلط أبي عبيد في غريب الحديث لابن قثيبة الدينوري وهذا كما يذكر أستاذنا جمال البنا قليل من كثير (31)
ومما يدل على المرونة التي تحلى بها الفكر الإسلامي والتأني عن التعصب المذهبي عن طريق مراجعة الأراء أو تصحيحها حين تقتضي الظروف لذلك دون أن تكون من الشخصيات البارزة لأعلام المذاهب قيدا بكمل الفكر ويسيق غوه ومساره الطبيعي والتي تأي فقهاء المذاهب عن هذا بتسامحهم وتواضعهم أمام الرأي الأخر
ويؤكدهذا المعنى د.يوسف القرضاوي حين معارضة للجمود الذي اتسم به الكثير من فقهاء العصر قائلا: نسمى هؤلاء أن الإمام الشافعي غير مذهبه في مدة وجيزة فكان له مذهب جديد ومذهب قديم وأن أصحاب أبي حنيفة خالفوه في أكثر من ثلث المذهب لإختلاف عصرهم عن عصره وقالوا لو رأى صاحبنا ما رأينا لقال بمثل ماقلنا أو أكثر والإمام أحمد تروى عنه في المسألة الواحدة روايات قد تبلع سبعا أو أكثر وما ذلك إلا لاختلاف الأحوال واللابسات وتغير الظروف والأوضاع في غالب الأحيان(32)
والحملة على هذا الجمود الذى يؤدي إلى ركود الحياة عارضها ابن الذى حمل الفقهاء الجامدين تبعة انحراف الحكام والأمراء باستحداثهم قوانين بمعزل عن الشرع(33). وبالتالي النظرة الأحادية والاستبداد والتعصب محل ذلك لا يحمل على الاسلام وإنما على المسلمين بانحرافهم عن منهج الإسلام بإفساحة المجال الأقصى درجات الحرية وإعمال العقل وصار هذا من المياديء السامية المعمول بهافي عصور الإزدهار الحضاري
وحين نطالع جهود علماء الفكر الإسلامي ومجدديه الذين حاولوا تشخيص الأمراض التى تعانيها أمتنا وأدت بها إلى هذا التخلف الحضارى بعد أن كنا من الرواد والمعلمين للبشرية الحضارة بشقيها المادى والروحي فإنهم أرجعوه إلى الجمود الذي تعالت الدعوات بترسيخه عن طريق التقليد للسابقين وانسحب ذلك على شتى مجالات الحياة التي دب فيها العقم حيث أن العقل هو الأساس لقيام أى حضارة منشورة وحين الأخذ يسنن الله في إعماله فإن الحضارة تقوم بغض النظر عن الجنس أو الدين وهذا مانجده في الحضارة الغربية(34)
أما نحن المسلمون الذين كثيرا مادعانا كتابنا إلى نبذ التقليد وإعمال العقل كما في قوله تعالى: قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق" "اقرأ باسم ربك الذي خلق" وأقسم سبحانه بالقلم في قوله "ن والقلم ومايسطرون" كل ذلك دلائل تؤكد إلى أهمية العلم والعمل والحركة في الأرض بإيجابية ولكننا للأسف نعمل سنن الله في قيام نهضتنا وعمل بها الآخرون فكان لهم الغلبة فى واقع الحياة. وإن كان هذا في الجانب المادى لأنهم قطعوا صلتهم بالوحي الإلاهي وتكون كلمة مدنيه هى الأصوب للتعبير عن حالة التقدم التي يعيشها الغرب
وبالتالي فإن أولى الخطوات الصحيحة لتمكين دين الله ولتكن خير أمة أخرجت للناس هو السير على الطريق الذي يرشدنا إليه علماؤنا وتبد إضفاء القدسية للأفراد مهما بلغوا ماعدا كما يقول الإمام مالك "كل يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب هذا المقام" الرسول صلى الله عليه وسلم
والإمام مالك ينفى عن نفسه القدسية تلك قائلا " إنما أنا بشر أصيب وأخطئ فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة" (35)
والإمام الشافعي يقول "إذا صح الحديث بخلاف قولى فاضربوا بقولي الحائط.. ورأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب"
والإمام أبو حنيفة يقول : هذا رأي وهذا أحسن ما رأيت فمن جاء برأى خير منه قبلنا"(36)
الدعوة إلى الإجتهاد ونبذ التقليد عند علماء المسلمين
إقرارا للتعددية الفقهية ذهب علماؤنا إلى أن الأئمة أكثر من أربعة وهنا نستشهد بقبول د. يوسف القرضاوي بأنه لاتقبل دعوى الذين يحصرون الأئمة الذين يجوز تقليدهم في أربعة ويرفضون ما عداهم من الصحابة والتابعين ومن الأئمة الذين لا يقلون عنهم علما وفضلا عمن هم مثلهم أو أرجح منهم (37) ويؤكد على رأيه بما ذهب إليه ابن تيمية.
فقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية: هل يسوغ تقليد هؤلاء الأئمة كحماد بن أبي سليمان وابن المبارك وسفيان الثوري والأوزاعي وقد قال عنهم رجل هؤلاء لا يلتفت إليهم..؟ فقال: "..ليس في الكتاب والسنة فرق في الأئمة المجتهدين بين شخص وشخص فمالك والليث بن سعد والأوزاعى والثوري هؤلاء أئمة في زمانهم وتقليد كل منهم كتقليد الآخر لا يقول مسلم: إنه يجوز تقليد هذا دون هذا .." (38)
ويقول الإمام السيوطي في كتابه (الرد على من أخلد إلى الأرض):
ذهب الحنابلة بأسرهم إلى أنه لا يجوز خلو الزمان عن مجتهد لقول صلى الله عليه وسلم "ولا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله"(39) قالوا: لأن الإجتهاد فرض كفاية فيستلزم إنتفاؤه إتفاق المسلمين على الباطل(40). وهذا مذهب الحنابلة في أنه لا يجوز خلو العصر من مجتهد كما أشار إلى ذلك د.يوسف القرضاوي
وكذلك ذهب المالكية كما قال ابن عبد السلام أحد أئمة المالكية –لايخلو الزمان من مجتهد إلى زمن إنقطاع العلم كما أخبر به صلى الله عليه وسلم وإلا كانت الأمة مجتمعة على الخطأ.
وقال الرازي في المحصول وتبعه السراج في تحصيله والتاج في كتاب الإجماع لو بقي من المجتهدين واحد كان قوله حجة (41)
وقال الذهبي في "طبقات القراء" في ترجمة أبي عبيد القاسم بن سلام: كان يجتهد ولا يقلد أحدا.(42)
وقال السبكي في "الطبقات الكبرى" في ترجمة إمام الحرفين لايتقيد بالأشعرى ولا الشافعي وإنما يتكلم على حسب تأدية نظره واجتهاده" (43)
وقال الدارقطني في ترجمة شيخه القاضي أبي بكر أحمد بن كليل " أحد أصحاب ابن جرير" كان يختار أحدا. قيل له أما كان جريري المذهب؟ فقال : بل خالفه واختار لنفسه. (44)
ووصف الذهبي في طبقات الحفاظ القاضي أبا بكر بن العربي أحد أئمة المالكية الإجتهاد المطلق (45)
وقال ابن كثير في "تاريخه" كان الشيخ عز الدين بن عبد السلام في آخر آيامه لا يتقيد بالمذهب بل اتسع نطاقه وأفتى بما أدى إليه إجتهاده (46)
وقال الحافظ السيوطي (ت 911 هـ) : الناس يدعون اجتهادا واحدا وأنا أدعى اجتهادات ثلاثا: الاجتهاد في الفقه والاجتهاد في الحديث والإجتهاد في التفسير وقد قام عليه المقلدون وشددوا الحملة عليه فكتب في ذلك كتابه القيم "الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض (47)
فهل نجد بعد كل هذه الدلائل على تعددية الرؤي وحرية اعمال العقل والفكر التي نعم بها المجتمع الإسلامي في عصوره الزاهية شك وذلك عندما فتح الباب على مصراعيه للإجتهاد وعدم التقيد والتقليد والتعصب لرأي أو مذهب معين وعندما وجد من يحيف على هذا الحق كان كبار العلماء يتبارون في الدفاع عن حرية الفكر والاجتهاد ووضع الأمور حين انحرافها في نصابها الصحيح ونستطيع أن نستنسخ أنهم كانت لهم نظرية معينة لإدارة التعددية في الأراء والأحكام الفقهية سمحت بانسياب وتدافع الأفكار بآمان وبالتالي تجلى الإبداع في الفقه وفي شتى مجالات الحياة وكان كل واحد علم بارز في مجاله وكتب الطبقات تشهد على ذلك وهذه هى البيئة الاسلامية الصحيحة التي قامت على إعمال مباديء الإسلام في الإختلاف وأكدت عمليا أن الإسلام دين صالح لكل زمان ومكان حيث "استطاع الفقهاء والمفكرون في فترة وجيزة أن يربطوا بين الأحكام الكلية للشريعة وبين أوضاع تلك البيئات جميعا وأن يحفظوا صيغة لوحدة الأصول والكليات مع التنوع الهائل في الفروع وفي هذا المجال العريض المتنوع نما الفقه الإسلامي والفكر الإسلامي وتفرعت التفاريع على كلياته جرى ذلك بشيوع الإسلام بين الناس وبالصلة المباشرة التي نشأت بين الناس وبين الفقهاء والمفكرين" (48)
المراجع :
1. المستصغى في علم الأصول: أبي حامد الغزالي ص 5
2. الآمدى: الأحكام في أصول الأحكام 1/5
3. ينظر إلى علم تاريخ نزول آيات القرآن الكريم وسورة : أحمد خالد شكري وعمران سميح ننزال ص33، مناع القطان: التشريع والفقه تاريخا ومنهاجا ص25
4. شرعية الإختلاف ص45
5. الإختلافات الفقهية حقيقتها، نشأتها، أسبابها: محمد أبو الفتح البيانونى ص19
6. أثر اللغة في إختلاف المجتهدين: عبد الوهاب عبد السلام الطويلة ص 14، 15
7. الإختلافات الفقهية لدى الإتجاهات الإسلامية المعاصرة، محمد عبد اللطيف محمود، ص116
8. تاريخ المذاهب الإسلامية في السياسة والعقائد وتاريخ المذاهب الفقهية: لشيخ محمد أبي زهرة، ص270، دار الفكر العربي وينظر إلى الإنصاف في بيان أسباب الإختلاف للعلامة ولي الله الدهلوي ص30-34 تحقيق عبد الفتاح أبي غدة
9- رواه البخارى: كتاب صلاة الخوف ج3/ص109 ورواه مسلم كتاب الجهاد ج6 ص340
10- "التشريع والفقه في الإسلام تاريخا ومنهجا" مناع القطان، ص104، 105 وفيها أمثلة كثيرة على ذلك ومصادرها من كتب السنة الصحيحة
11- تاريخ الجدل: محمد أبو زهرة، الجدل في عصر النبوة ص40
12- الكامل في التاريخ ج2 ص334، ابن الأثير
13- الإختلافات الفقهية: لأبي الفتح البيانوني ص24،25 محمد عبد اللطيف محمود ص114
14- ينظر إلى: موقف الخلفاء العباسين من أئمة أهل السنة الأربعة ومذاهبهم وأثره في الحياة السياسية: عبد الحسين على أحمد، قطر1985
15- ينظرإلى مناع القطان "التشريع والفقه الإسلامي أهم القضايا التي اتفق عليها الصحابة والتي اختلفوا عيها ص133-153
16-ينظر إلى شرعية الإختلاف ص42، الإختلافات الفقهيةص116
17- تاريخ المذاهب الإسلامية ص271
18- الصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد ص343
19- الإنصاف في بيان أسباب الخلاف ص108
20- التعددية في مجتمع إسلامي: ص54
21- الإختلافات الفقهية ص28 ورفع الملام عن الأئمة الأعلام لابن تيمية ص10
22- الخلاف بين العماء واسبابه وموقعنا منه: محمد صلاح العثيمين: ص13
23- ينظر إلى الجامع لأحكام القرآن القرطبي ج6 ص91
24- ينظر رفع الملام عن الأئمة الأعلام ابن تيميه ص60
25-المرجع السابق ص15
26- فتاوى معاصرة : يوسف القرضاوي ج2 ص123، 124
27- التعددية في مجنمع إسلامي: ص55
28- شرعية الإختلاف: ص47،49
29- دار الكتب العلمية بيروت وباقي الكتب نشرتها دور بيروت ودمشق قبل دار ابن زيدون ودار الفكر والمكتب الإسلامي
30- نجلة الأمة القطرية العدد9
31- التعددية في مجتمع إسلامي ص 54،55
32- من فقه الدولة في الإسلام، الغلاف
33- المرجع السابق
34- ينظر إلى الأعمال الكاملة "محمد عبده" ، محمد عمارة والإسلام ومشروعات النهضة الحديثة المؤتمر الدولي الفلسفة المنعقد بكلية دار العلوم وأعمال المفكرين المسلمين من مثل مالك بن نبي ، لرفاعه الطهطاوي، جمال الدين الأفغاني، سعيد النورس رشيد رضا
35- فتاوى معاصرة : ج2\ ص113
36- المرجع السابق نفس الصفحة
37- كيف نتعامل مع التراث والمذعب والإختلاف: ص 107
38- مجموع الفتاوي (20/ 583-585)
39- رواه الحاكم وابن ماجه الجامع الصغير ص210 والدارامي 2 /213
40- روضة الناظر لابن قدامة 317، 372 والمختصر في أصول الفقه لابن اللحام 167
41- المحصول للرازي ج2 / ص283
42- معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار: للذهبي تحقيق محمد سيد جاد الحق 1/141
43- طبقات الشافعية الكبرى 5/192
44- ينظر إلى كيف نتعامل مع التراث: يوسف القرضاوي ص 116 ولمزيد ص108 : 125
45- تذكرة الحفاظ 4/1296
46- البداية والنهاية لابن كثير 13 /235، 236
47- كيف نتعامل مع التراث، ص125
48- الملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي، ص49