نه لا يَخْفى على ذي العين العُقابيَّة أن بِساطَ الحياة يتحرَّكُ من عصر إلى عصر، ومن جيل إلى جيل، بعقليَّات مختلفة وأفكار متنوعة، سواء كانت هدَّامةً أو بنَّاءةً، في كلٍّ مِن البَدْو والحَضَر؛ لكن لا يختلف اثنان، ولا يتخاصَمُ عاقِلانِ، على فكرة أساسية أصبحَت المشتركَ في عَصْرِنا، ألا وهي أن قِيَمَ العَصْر قد تغيَّرَتْ بشكلٍ عجيبٍ ما بين جيل التسعينيَّات وجيل الألفيَّة الجديدة من القرن الواحد والعشرين.
تغيَّرَ العالم، وتغيَّرَت العقليَّات والأفكار والمنطلقات، إلَّا أن السؤال المطروح: نحو أي اتِّجاه يَصُبُّ هذا التغيُّر؟
سؤال يصعُب الإجابةُ عنه بشكل مباشر؛ إذ يحتاج إلى تدقيق في نوعيَّة التغيير ومجاله والمنطلقات التي يُبْنى عليها، ولا سيَّما أن العالم في الآونة الأخيرة قد شهِدَ طفرةً نوعيَّةً على مستوى العلوم، ما أدَّى إلى انتقالة نوعيَّة في المجتمع، وهذا أسْفَر بشكلٍ مباشرٍ إلى تغيير على مستوى السلوك والأفكار.
هذه الانعكاسات التي انبثقَت من رَحِمِ هذه الطَّفْرة العلمية في حقيقة الأمر، انقلبَتْ بوجهَينِ: أوَّلهما إيجابي، وهذا أمر لا يُنكِره لبيبٌ ولا عاقلٌ؛ إذ سهَّلَتْ أساليبَ العيش على المعمورة، ويسَّرَت التواصُل، وخصوصًا على مستوى الثورة التكنولوجية في مجال الاتِّصال والتواصُل، ومع انتشار وسائل الإعلام، ما أدَّى إلى توسيع المعرفة عالميًّا ومشاركة الثقافات بعضها لبعض.
لكن من جانب آخر، فقد انعكس سَلْبًا هذا التطوُّر على الجيل الحالي على المستوى الفكري، وهنا نضرِب المثال بما أثَّرت به الأفلام الغربية التي تحمِل ثقافةً خاصةً في العالم العربي؛ إذ نرى انحلالًا على المستوى الخُلُقي، وفِقدانًا للموروث الثقافي بتجلِّياته المادية والمعنوية، والمقصود بهذا الكلام أننا على المستوى المادي فَقَدْنا تلك الروابط القائمة بين الجماعات، أو كما يُسمِّيه علماءُ السوسيولولجيا بالعَقْد الاجتماعي، فلم تُعَدُّ روابط الأُخوَّة والمحبَّة والصَّداقة كما سبق العَهْد بها، فبعدما كُنَّا نرى الأصدقاء يلتقُون على جلسة فنجان شاي لمناقشة الأوضاع الاجتماعية والأفكار ومُسْتجدَّات الحياة والتآزُر فيما بينهم على الحلوة والمرَّة، أضحى الحال على فُرْقة قائمة بين صديقَينِ على طاولة واحدة، كل واحد يُعانِق بحميميَّة هاتفه النقَّال، ما جعل جلسة الشاي بحلاوتها الاجتماعية في مقبرة كان.
أما على المستوى المعنوي، فحتى أفكار هذا الجيل تختلف عن أفكار السابقين من الأجيال، وخصوصًا جيل التسعينيَّات وأنا من بين أبناء تلك الحِقْبة، فالمنطلقات الفكرية التي تربَّت عليها أجيالُ ما قبل القَرْن الواحد والعشرين مختلفةٌ تمامًا عن جيل ما بعد هذا القرن، فبعدما كان الاحترام للكبير قبل الصغير هو أساسُ تربيتنا، أضحى الآن عنوان التربية: "الحرية المطلقة"، وحتى وإن كان الفلاسفة والعلماء لا أحد منهم قال بها، ولكن هذا الجيل أخذ الحرية بمفهوم جِد رديءٍ، فالحرية ليست أن تلبَس ما تريد، وأن تقول ما تريد، وأن تعيش كيفما تريد، فهذا يُسمَّى بقانون الغاب؛ لأن المجتمع إذا سار على هذا النهج، أصبحنا وسط زوبعة لا بَرَّ لها؛ ولهذا وُضِعَت القوانين لتحمي السلوك البشري من سيطرة الغريزة عليه.
فالحرية هي أخْذٌ بزمام الحياة والتصرُّف في شؤون الدنيا، وَفْق ما يروقُك مع الانضباط لقوانين المجتمعات، وكذا مع احترام خصوصيات الآخر، ففعلًا لكَ حرية ما تلبَس، لكن ليست لكَ الحرية في أن تلبَس ما لا يقبله المجتمع كيفما كان نَمَط المعيشة فيه.
زِدْ على ذلك أن قِيَم هذا الجيل لا تُراعي مبادئ المحبَّة الحقيقية، (وهذا نموذج من نماذج كثيرة للقِيَم)، فبينما كُنَّا نرى في زماننا أن الحبَّ مفردةٌ تشتمل على كل الأحاسيس، لا نستطيع البَوْح بها أبدًا، وإن نطقناها احمرَّتْ وَجَناتُنا خجلًا، أضحت الآن كلمة "أحبُّك" كأي عنوان لمقهى أو أي اسم لحيوان يُطلَق عبثًا... فاقدًا لحمولته الحقيقية والمركزية.
ولا أنسى أن أُركِّز على أمر أساسي كاد أن يفُوتني، لولا أنني أثناء كتابتي لهذا المقال وجَدْتُ أمامي رسالةً قديمةً، أحبَبْتُ من خلالها أن أُوَصِّلَ لهذا الجيل المعنى الحقيقي لتجلِّيات الحياة من خلال هذه الرسالة؛ إذ ليس المهم مضمونها؛ ولكن أسلوبها ودلالاتها، ففي زماننا وليس بالزمن البعيد، كنا لا نعرف هواتفَ ولا رسائلَ رقميَّةً، فكانت الرسالة المخطوطة هي الوسيلة الوحيدة للتواصُل عن بُعْد، وما أجمل أدب الرسالة! إذ حاليًّا لا أحد يعرِفه، أو لربما ما سمِع عنه أحدٌ من جيل القرن الجديد، دعني أُحدِّثكَ عنه ولو لهنيهة؛ لتعرف الفَرْق الصادم بين جيلَينِ لا يفصِل بينهما إلا عقدانِ:
كانت للرسالة حمولةٌ رمزيةٌ كبيرةٌ، ومَنْ يُتقِنها يُعَدُّ فنَّانًا في الكتابة والأسلوب، فقبل كتابتها تجد نفسَكَ تائهًا بين نوعية المفردات التي ستكتُب وباختصار، ما يدفع كاتبَها ليُصبِح فنَّانًا في اختيار المفردات، ومُبدِعًا في انتقاء أحلاها وأكبرَها استيعابًا للمعاني.
تأخُذ القلم وتبدأ بعبارات السلام، وكلُّها لَحْنٌ يلتصِق بالآذان، وتبدأ في التحيَّة بوِجدان، وتنتقل للتعبير عن مكنون الفؤاد، ولا سيَّما إذا كانت لمحبوبة تائهة بين جُدْران الحياة، أما إذا كانت لفَرْد من العائلة، فهنا يبدأ وابلٌ من الوَصْل بين الأرحام، وتتفنَّن في الوَصْف ونَقْل الأخبار، وتنتهي بعبارات السؤال عن الحال، وتُغلق أبيات رسالتك بأزكى التمنيات بدوام الصحة وطول العمر والحال.
وبين إرسال الرسالة وانتظار جوابها، كان حاجز من الزمن يجعلُكَ دائمًا في ترقُّب واشتياق لمدة طويلة، كحبيبة تنتظر زوجَها ليعُودَ من ساحة الوَغى، وما أجملها من لحظةٍ حين يأتي الجواب من عند ساعي البريد! فإمساك الرسالة يُعَدُّ إفراجًا عن سجين، وقراءتها يُعتبر حُكْمًا بالبراءة.
أعتقد أن في قولي هذا اختصارًا لحال جيلَينِ، لكلٍّ قِيَمُه ومعتقداته ومنطلقاته، فالقديم يبكي على الطَّلَل والجديد لا عِلْمَ له لا بما مضى ولا بما سيأتي؛ لانشغاله بالتفاهات والثانويَّات من أمور الحياة والإغفال عن أساسيَّاتها، أصبحنا وسط دوَّامة من تخبُّط العقليَّات وجفاف الألباب، وسفسطائية المنطلقات وعبثية الأهداف، فشتَّان بين جيل يبحث عن حلول واقعية لمشاكله، وبين جيل يرى في العُزْلة والتعاسة والانتحار سَهْلًا مُنبسِطًا للهروب من المشاكل دون احتساب العواقب.