ليس الفارق هو ما يزيد على ألف وأربعمائة من السنين، وإنَّما الفارق هو الفرق بين تلاميذ مدرسة ناجِحة وتلاميذ مدرسة فاشلة.
المسافة بين الجيلين كبيرة، والسبب - وفيه يكمن معرفة الحلِّ والخلاص - هو:
(1) سبب يرجع إلى مصدر التلقِّي؛ ممَّن نأخذ؟
(2) سبب يرجع إلى منهج التلقِّي؛ لماذا نأخذ؟
(3) وانعكاس ذلك - أي منهج التلقِّي ومصدره - على السلوك، ونَتيجته الالتزام بالإسلام جملةً وتفصيلًا، والانخلاع والانسحاب ممَّا عداه.
(4) سبب أخير: أنَّهم كانوا أوَّابين، نتيجة بناء العقيدة في نفوسهم وعقولِهم، ومَن صحَّت عقيدته سار على الدَّرب سليمًا، فما صحَّت عقيدة مسلِم ثمَّ ضاعَت خطاه.
أولًا: مصدر التلقِّي:
لقد نَهل جيلُ الصَّحابة من النَّبع الأول مباشرة، أخذوا من كتاب الله، وأخذوا من سنَّة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فيما يرَون ويَسمعون ويمارِسون، بينما نَذهب اليوم إلى الشروح - وهذا أهون - وشروح الشروح، والهوامش على هوامش شرح الشروح! وهكذا نشرِّق ونغرِّب ونسمع أقوالَ الرجال، قال فلان وقال علَّان، وقد بعدنا عن النَّبع الأول عن النَّبع الصَّافي، فوجدنا الماءَ الذي وردناه عكرًا علقَت به الشوائب، وقد بعد عن الأصل الذي نَشأ منه، ونظرة واحدة إلى كتب المذاهِب والفروع وما نَشب فيها وبينها من خلافات أجازت الشيءَ ونقيضه، حتى وصلَت إلينا آراء وفتاوى غريبة؛ مثل تلك الفتاوى الرمضانيَّة الشهيرة المنسوبة إلى فضيلة المفتي السابق رحمه الله[1].
وقد تطرقَت مجلَّة التوحيد لهذا الأمر من قبل، وأشارَت إلى أنَّ البعد عن كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم كان من أسباب ضَعف المسلمين، وتسرُّب العقائد الغريبة والبدع والخرافات والشركيَّات إلى دينهم[2].
ثمَّ إنَّ جيل الصَّحابة كانت حوله الحضارات الكبيرة؛ كحضارات فارس والروم، وحضارات الهند والصِّين، بكلِّ هيكلها وهيلمانها، بكلِّ بَرقِها وبريقها، كما تبهر الأبصارَ اليوم الحضارةُ الغربيَّة بشقَّيها؛ الشيوعي، والرأسمالي - فما أخذَته تلك الحضارات ولا الثقافات، ولا المؤلَّفات ولا الدراسات مثلما نطبِّق نحن فِكرَ الشَّرق تارة وفكر الغرب تارة، ونتَّجه مرَّة إلى موسكو، ومرةً إلى واشنطن، وفي بلادنا الخير كله، وعندنا الخلاص من هذا كله.
لقد تربَّى الصحابة على القرآن وبين يدَي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوجيهاته بالفعلِ والقول، وما كان لهم حاجة إلى غير ذلك للتربية، ولا حاجة إلى التَّقريب بين الأديان - كما يقولون - ولا حوارِ الحضارات، إنَّما الإسلام وحده من مَصدره ونَبعه الصَّافي؛ الكتاب والسنَّة، وذلك دون حاجة إلى ذلك الرُّكام الهائل الذي جاءت به الافتراضات والتأويلات، والقول في كتاب الله بالتحليلات اللغويَّة وحدها، أو توظيف الفلسفة أو التاريخ، أو نحو ذلك، لتفسير كتاب الله ودسِّ الأحاديث الموضوعة والإسرائيليات.
فالعودة للأصل أَدعى للفهم وللوعي، وأيسَر وأوضح، فلِمَ الذهاب هنا وهناك، والخضوع للشيخ فلان كالميت بين يدَي الغاسل كما يريد المتصوفة من المريد؟
لقد رأى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في يدِ عمر بن الخطاب رضي الله عنه صحيفةً من صُحف التوراة، فغضب من ذلك غضبًا شديدًا، وقال: ((إنَّه والله لو كان موسى حيًّا بين أظهركم ما حلَّ له إلَّا أن يتَّبعني)).
إنَّ الذين تربَّوا في مدرسة النبوَّة، فهضموا منهجها واستوعبوا درسَها، فكانوا أصحابَ عقيدة جعلَت منهم أساتذة في العقيدة، وعلماء حقًّا، ووُعِدوا الجنَّة - إنَّهم كانوا السَّابقين في أمَّة محمد صلى الله عليه وسلم.
الذين تعلَّموا الكتابَ والسنَّة مباشرة، لا خوف عليهم ولا هم يَحزنون، هم أقوياء، هم العلماء حقًّا، فهذا ربعيُّ بن عامِر رضي الله عنه وقد أرسله سعدُ بن أبي وقَّاص رضي الله عنه، وكان قائد جيش المسلمين إلى (رستم) قائد جيش الفرس، وهو الذي يَلي (كسرى) مباشرة في المنزِلة والنُّفوذ والأهميَّة، جلس رستم لمقابلة (السَّفير) المسلِم، وقد تصوَّرهم صعاليك الجزيرة، أخرجهم الجوع والطَّمَع، فيعطيهم ما يسدُّ جوعتهم وطمعهم ويعودون، جلس في أبهى حُلَلِه، وسط حاشيته، وغاص في الحرير والطنافس، وظنَّ أنَّه في العلياء، والقوم تَحته راكعون، وظنَّ أنَّ ذلك البريق يخلب أبصارَ هذا البدوي الجائع، هذا البدوي الذي يرفل في شِبه الثياب[3].
وجاء ربعيُّ بن عامر، تقدَّم بثِقة واعتزاز، وقال له رستم: ما الذي جاء بكم؟
قال ربعي بن عامر دون تردُّد:
"إنَّ الله ابتعثَنا لنُخرج مَن شاء من عبادة العِباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضِيق الدنيا إلى سعتها".
ذلكم هو الرجل الذي تربَّى تربيةً صحيحة، وتلقَّى عقيدةً صحيحة، حيثما ذهبَ كان كالسِّراج الوهَّاج، وما تكلَّم إلَّا كان منضبطًا، وليس مثلما نفعل اليوم، يُلقي الكثيرون الكلامَ على عواهنه، ويفعلون ما يفعلون ولا يتدبَّرون فيما يَفعلون ولا فيما يقولون - ولي في هذا الموضوع وقفة فيما بعدُ إن شاء الله - فاليوم تَجد مَن يقول: أُمطِرنا بسبب كذا، تَمَّ فَتح مدينة كذا بفَضل فلان وفِطنته وذكائه، لولا الكلب لسُرقَت الدَّار، ما لي إلَّا الله وأنتَ... إلخ هذا الكلام، أمَّا ربعي، فقال: "الله ابتعثنا" ولم يقل: جئنا، فحدَّد المهمَّةَ، ونسَب ذلك إلى الله؛ فَهُم أصحاب رسالة، وقال: "لنُخرج مَن شاء"؛ يعني: مَن شاء الله، ولم يَقل: لنخرجكم، فما يَملك هو ذلك؛ فالله بيدِه كل شيء، فنسب كلَّ شيء إلى الله، وذلكم متاحٌ لكلِّ من اطَّلع على الكتاب والسنَّة، أمَّا الغافلون فأنَّى لهم العلم؟!
وقال: "من عِبادة العباد إلى عبادة الله وحده"؛ وذلك حق، فمَن لم يكن عبدًا لله فهو عبد لغير الله بالضَّرورة، ولطمةٌ وجَّهَها ربعي لِمن يعظِّمون طواغيتهم وأحبارَهم وعظماءهم؛ ينحنون ويركعون لهم ويخشونهم، ويَرجون منهم ما لا يُرجى إلَّا من الله، والله أحقُّ أن يَعبدوه وأن يخشَوْه.
وقال: "مِن ضِيق الدنيا إلى سعتها"، وما كان يدعوهم إلى سعَة العَيش في مكَّة أو المدينة، وهم لا يجدون كسرةَ الخبز، ما كان يَدعوهم إلى سعَة الدنيا في الصَّحراء العربية وهم يتنعَّمون في الحرير والذَّهب، والحليِّ والحلَل، وما كان يَدعوهم إلى سعة الآخرة، وهذا أمر بدهي ليس في حاجة إلى فِطنة.
إنما كان يقصد بضيق الدنيا: الخضوع لها، والوقوع في إسارها، وبدلًا من أن يَمتلكها ويَكُون لها سيدًا وخليفة، تُصبح هي همَّه وهي سيِّدته، ويصبح عبدًا للدُّنيا، وعبدًا للدرهم، وعبدًا للأهواء وعبدًا للشهوات وعبدًا للعادات، إذا انقطع الدُّخان والسجائر عنه أظلمَت في وجهه الدنيا، وإذا لم يَجد اللحمَ أو الدجاج أخذ يَندب حظَّه العاثر، ويسبُّ الزمن الأغبر[4]، ويقف الطوابير الطويلة، ولا يتصبَّر على شيء، ولا يقاوم رغباته، ولأول بادرة لأزمَة تسودُّ الدنيا في عينيه، وتضيق الدنيا في وَجهه، وكلُّ ذلك لأنَّه لم يَجد حاجتَه، أو لمصيبة ألمَّت به؛ فمنهم من ينتحِر، ومنهم من يَنقلب على عقبيه، والمسلم دنياه أوسَع من ذلك؛ صبَّار شَكور، يَصبر على الابتلاء، ورجاؤه في الله كبير، فدنياه واسعة واسعة، تَملؤها رحمة الله، فهل فهمنا ضيقَ الدنيا في وَجه مَن يرجوها، وضيقها على مَن لا عقيدة صحيحة عنده؟
من أين أتى هذا الفهم لربعي بن عامر رضي الله عنه فأوجزَه في كلماتٍ قلائل؟
ما كان ليأتيه ذلك لو أنَّه اطَّلع - ولنفترض أنَّه معاصر - على كتب ماركس ولينين ومَن لفَّ لفَّهم، ولا من فلسفات نيتشه وكيركجارد وسارتر وكامو ومَن على سيرتهم، لا من فلسفات وسفسطات الشَّرق ولا الغرب، ولا من خزعبلات وخرابيط الصوفيَّة والطرقيَّة، ولا من قول هذا الرجل أو ذاك، ولا من نتاج عبقريَّة بشرية أيًّا كانت، ولكن ذلك أتاه من كتابِ الله سبحانه وتعالى ومن سنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم، وعلى هذين المصدرين تكون عقيدتنا، ونربِّي الأجيال عليهما؛ ليَسمو الحسُّ فيهم، ويدق الشعور، وتصفو النفوس، وتَزكو، فيكون عطاؤهم الكبير، ويكون التقدُّم لهم ولأمَّتهم في ظلال الإسلام الوارِفة.
وهم يتلقَّون قولَ الله سبحانه وتعالى، وقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم ليعملوا وينفذوا، لا ليكونوا أصحاب ثقافات ومعلومات، وذلكم هو السبب الثاني الذي نَذكره.
مجلة التوحيد، عدد شهر صفر 1407 هـ
[1] وكانت (التوحيد) قد علَّقَت عليها منذ عامين، ثمَّ أعيد نشرها في العام الماضي بحذافيرها، ولعلَّها نكاية في فضيلة المفتي، وقد تزامنَت وواكبَت الهجمة على الإسلام والحملة على المفتي.
[2] التوحيد / عدد ذي القعدة 1404 هـ؛ (العدد 11 للسنة الثانية عشرة / كلمة التحرير ص 1 - 3).
[3] كما خلبَت الحضارة الصناعية الآلية الغربية بزيفها وضجيجها وعجيجها أبصارَ من تزعزعَت عقيدتهم اليوم واهتزَّت، فانبهروا وتنكروا لدينهم، وحسبوه - لغفلتهم - سبب تخلُّفهم.
[4] في الصحيح عن أبي هريرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((قال الله تعالى: يؤذيني ابنُ آدم؛ يسبُّ الدَّهر، وأنا الدَّهر، أقلِّب الليلَ والنَّهار))؛ وفي رواية: ((لا تسبُّوا الدَّهرَ؛ فإنَّ الله هو الدَّهر)).