أخبَرَنا إبراهيمُ عن ابنِ حَرْمَلَةَ عن ابنِ الْمُسَيَّبِ أنهُ رآهُ في المسجدِ ومَطَرَت السماءُ وهوَ في السِّقَايةِ فخَرَجَ إلى رَحْبَةِ المسجدِ ثمَّ كَشَفَ عن ظَهْرِهِ للمَطَرِ حتى أصابَهُ، ثُمَّ رجَعَ إلى مَجلسِهِ) انتهى.
ثالثاً: من هديهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (كانَ إذا رَأَى المَطَرَ قالَ: اللَّهُمَّ صَيِّبَاً نافِعاً) رواه البخاري، (ويقُولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ إذا رَأَى الْمَطَرَ: رَحْمَةٌ) رواه مسلم.
رابعاً: من هديهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: الحثُّ على الدُّعاءِ: قال صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: (اثنتانِ لا تُردَّانِ أو قلَّ ما تُردَّانِ: الدُّعاءُ عندَ النداءِ، وعندَ البأسِ حينَ يَلتحمُ بعضُهُم بعضاً) رواه ابن خزيمة وصحَّحه النووي، وفي روايةٍ: (وتَحْتَ الْمَطَرِ) رواه الحاكم وحسنه ابن حجر.
خامساً: من هديهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: الدُّعاء عند سماع صوت الرعد والصواعق، فعن ابن عمر (أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ كانَ إذا سَمِعَ صَوْتَ الرَّعْدِ والصواعِقِ قالَ: اللَّهُمَّ لا تَقْتُلْنا بغَضَبكَ، ولا تُهْلِكْنا بعذابكَ، وعافنا قبلَ ذلِكَ) رواه الترمذي وحسنه الحافظ العراقي.
وعن عبدِ اللهِ بنِ الزبيرِ (أنهُ كانَ إذا سَمِعَ الرعدَ تَرَكَ الحديثَ، وقالَ: سُبْحَانَ الذي يُسبِّحُ (الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ)، ثُمَّ يقولُ: إنَّ هذا لَوَعِيدٌ لأهلِ الأرضِ شديدٌ) رواه مالك وصحَّحه النووي.
سادساً: من هديهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ إذا كَثُرَ المَطَر أن يقول في دُعائه: (اللهمَّ حوالينا ولا علينا): ففي الحديث: (فلَمَّا قامَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يَخْطُبُ صَاحُوا إليهِ: تَهَدَّمَتِ البُيُوتُ، وانقَطَعَتِ السُّبُلُ، فادعُ اللهَ يَحْبِسْها عنَّا، فتَبَسَّمَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، ثُمَّ قالَ: «اللَّهُمَّ حَوالَيْنا ولا علَيْنَا»، فكَشَطَت المدينَةُ، فجَعَلَتْ تَمْطُرُ حَوْلَها ولا تَمْطُرُ بالمدينةِ قَطْرَةٌ) رواه البخاري.
سابعاً: من هديهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَالترخيص للناسِ في الصلاةِ في البُيوت عند التأذِّي بالخروج للمسجد في الطِّين والزَّلَق: فعن عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رضيَ اللهُ عنهما (أنهُ قالَ لمُؤذِّنهِ في يومٍ مَطِيرٍ: إذا قُلْتَ: أشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ، أشهدُ أنَّ محمَّداً رسولُ اللهِ، فَلا تَقُلْ: حَيَّ على الصَّلاةِ، قُلْ: صَلُّوا في بُيُوتِكُمْ، قالَ: فكأَنَّ الناسَ استَنْكَرُوا ذاكَ، فقالَ: أتعجَبُونَ مِنْ ذا، قدْ فَعَلَ ذا مَنْ هوَ خيْرٌ منِّي، إنَّ الجُمُعَةَ عَزْمَةٌ، وإنِّي كَرِهْتُ أنْ أُحْرِجَكُمْ فتَمْشُوا في الطِّينِ والدَّحْضِ) رواه مسلم.
ثامناً: قالت اللجنة الدائمة للإفتاء برئاسة الشيخ ابن باز رحمه الله: (يُرخَّص في الجمع بين المغرب والعشاء جمع تقديم بأذانٍ واحدٍ وإقامةٍ لكلٍّ منهما من أجل المطر الذي يَبُلُّ الثياب، ويحصل معه مشقة، من تكرار الذهاب إلى المسجد لصلاة العشاء على الصحيح من قولي العلماء، وكذا يجوز الجمع بينهما جمع تقديم للوَحَلِ الشديد على الصحيح من أقوال العلماء دفعاً للحَرَج والمشقة، قال الله تعالى:(وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)، وقال: ﮋ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَاﮊ، وقد جَمَعَ أبَانُ بن عثمان رضي الله عنهما بين المغرب والعشاء في الليلة المطيرةِ ومَعَهُ جماعةٌ من كبار علماء التابعين، ولم يُعرف لهم مُخالفٌ فكان إجماعاً، ذكَرَ ذلك ابن قدامة في المغني) انتهى.
وقالت أيضاً برئاسته رحمه الله: (الذين يُسارعون إلى الجمع لمجرَّدِ وُجود غيمٍ أو مطَرٍ خفيفٍ لا يحصل منه مشقة، أو لحصول مطَرٍ سابق لم يَنتج عنه وَحَلٌ في الطُّرُق، فإنهم قد أخطؤوا خطأً كبيراً، ولا تصحُّ منهم الصلاة التي جَمَعُوها إلى ما قبلها، لأنهم جَمَعُوا من غيرِ عذرٍ، وصَلَّوا الصلاة قبل دخول وقتها) انتهى.
الخطبة الثانية
عباد الله:
تفكَّرُوا في قُدرة ربكم في هذا المطر، قال ابنُ القيمِ رحمه الله: (وبالجُمْلَةِ فإذا تأمَّلتَ السحاب الكثيف المظلم كيفَ تراهُ يجتمع في جوٍّ صافٍ لا كُدورة فيهِ، وكيف يخلقه الله متى شاءَ وإذا شاءَ، وهو مَعَ لينه ورخاوته حاملٌ للماء الثقيل بين السماء والأرض إلى أن يَأذن لهُ ربُّه وخالقه في إرسال ما مَعَه من الماء، فيرسله ويُنزله منه مقطعاً بالقطرات، كل قطرة بقدرٍ مخصوص اقتضته حكمته ورحمته، فيرش السحاب الماء على الأرض رشَّاً، ويُرسله قطرات مفصلة لا تختلط قطرة منها بأُخرى، ولا يتقدَّم متأخرها ولا يتَأخَّر مُتقدِّمُها، ولا تُدرك القطرة صاحبتها.. فلَو اجتمع الخلقُ كلُّهم على أن يخلقوا منها قطرة واحدة أو يُحصُوا عدد القطر في لحظةٍ واحدةٍ لعَجَزُوا عنهُ، فتأمَّل كيفَ يَسوقهُ سُبحانهُ رزقاً للعبادِ والدَّواب والطيرِ والذرِّ والنمل، يَسوقهُ رزقاً للحيوان الفُلانيِّ في الأرضِ الفُلانيَّة بجانب الجَبَل الفُلانيِّ، فيصلُ إليه على شدَّةٍ من الحاجة والعطش في وقتِ كَذا وكَذا، ثمَّ كيفَ أودعه في الأرض ثمَّ أخرج بهِ أنواع الأغذية والأدوية والأقوات) انتهى.
وقال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ ﴾ [النور: 43]، أي: ألم تشاهد ببصرك عظيم قدرة الله، وكيف يسوق سَحَاباً قطعاً متفرقةً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بين تلك القطع، فيجعله سحاباً متراكماً مثل الجبال، فَتَرَى الْوَدْقَ، قيل: البرق، وقال الجمهور: المطر، ﴿ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ ﴾ [النور: 43] قال القرطبيُّ رحمه الله: (قيلَ: خَلَقَ اللهُ في السَّماءِ جِبالاً مِنْ بَرَدٍ، فهوَ يُنزِلُ منها بَرَداً.. وقيلَ: إنَّ اللهَ تعالى خَلَقَ في السَّماءِ جِبَالاً فيها بَرَدٌ.. وقيلَ: المعنى ويُنَزِّلُ منَ السَّماءِ قَدْرَ جبالٍ أو مِثلَ جبالٍ منْ بَرَدٍ إلى الأرضِ.. والله أعلم) انتهى.
﴿ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ ﴾ [النور: 43]، قال الشيخ السعدي رحمه الله: (أي: يكاد ضوء برق ذلك السحاب، من شدَّته ﴿ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ ﴾ [النور: 43]، أليس الذي أنشأها وساقها لعباده المفتقرين، وأنزلها على وجه يحصل به النفع وينتفي به الضرر، كامل القدرة، نافذ المشيئة، واسع الرحمة؟) انتهى.
فاعترفوا رحمكم اللهُ بنعمهِ التي لا تُعدُّ ولا تُحْصى، وأكثروا من الثناءِ عليه سِرَّاً وجَهْراً، واستعينُوا بها على طاعةِ الْمُنعِمِ فبذلك تَدُومُ النِّعمُ وتقوى، وبذلكَ يَتِمُّ لكُم شُكرُ الْمَلِكِ الْمَولى، وهذا هو المقصودُ من خلْقِكُم، فإنَّ اللهَ أمرَكُم بما أمرَ به المرسلينَ فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [المؤمنون: 51] وقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ ﴾ [البقرة: 172].