رد: لمسات بيانية في القرآن الكريم د.فاضل السامرائي
**لمسات بيانية في سورة الناس للأستاذ الدكتور فاضل صالح السامرائي
المعوذتان هما سورتان في القرآن الكريم جمعتا الإستعاذة من الشرور كلها الظاهرة والخفيّة والواقعة على الإنسان من الخارج والتي تصدر منه من الداخل.
فسورة الفلق تضمنت الإستعاذة من الشرورالظاهرة والخفية الواقعة على الإنسان من الخارج ولا يمكن للإنسان دفعها ولا سبيل لذلك إلا بالصبر لأن الإنسان الصابر إذا صبر على هذه الشرور ينال الأجر من الله تعالى على صبره ويزيد في ميزان حسناته لأن الله تعالى يجزي الصابرين.
والشر في سورة الفلق مما لا يدخل تحت التكليف ولا يطلب منه الكف عنه لأنه ليس من كسبه فهو غير محاسب عليه أما سورة الناس التي بين أيدينا فهي سورة الإستعاذة من شرور الإنسان الداخلية
(النابعة من نفسه) وهي التي تقع على الإنسان نفسه أو على غيره وهي التي يستطيع الإنسان أن يدفعهاويتجنب ظلم النفس والآخرين وهذه الشرور إذا وقع فيها الإنسان يكون في صحيفة سيئاته.والشر المقصود في هذه السورة هو مما يدخل تحت التكليف ويحاسب عليه المرء لأنه يدخل ضمن ما نُهي عنه .
السورتان جمعتا الاستعاذة من الشرور كلها الظاهرة والخفية.. ما يدخل تحت التكليف (ما جاء في الناس)، وما لا يدخل في التكليف (ما جاء في الفلق) ..
ما لا يستطيع دفعه (الفلق) وما يستطيع الناس دفعه وما يدخل سجل الحسنات (الفلق) وما يدخل سجل السيئات (الناس). وكما قال عدد من المفسرين والمحققين: سورة الفلق استعاذة بالله من شرور المصائب وسورة الناس استعاذة بالله من شرور المعايب.
*"قل أعوذ برب الناس(1)"
أعوذ بالله: لغة هي بمعنى ألتجأ وأعتصم بالله. قل: أمر الله تعالى للرسول بأن يقول (قل) والأمر بالقول له أهمية كبيرة هنا ولو حذف الفعل لاختل المعنى المقصود. (قل) للإفصاح عن ضعفه والتجائه إلى ربه، فكلمة (قل) هي من باب الإفصاح والإعلان عن حاجة الإنسان إلى ربه جلّ وعلا،
وهو يفصح عن حاجته هذه بنفسه وينطقها بلسانه. وفيها قتل للغرورلأن الكِبر والغرور يمنعان المرء أحيانا من طلب الإعانة وهو في حاجة شديدة إليها، ولأن الذي يطلب المعونة من غيره يمتنع عن الغرور، ولا يكتفي الإنسان بالشعور بالحاجة إلى ربه لكن ينبغي أن يُعلن حاجته لربه سواء أكان الرسول أو غيره من الناس. قالوا أتشكو إليه ما ليس يخفى عليه
فقلت ربي يرضى ذل العزيز لديه قل: في هذا الإعلان قتل بل علاج للكبر والغرورالذي في نفس الإنسان والذي قد يودي به إلى الطغيان. (إن الإنسان ليطغى. أن رآه استغنى) لذلك لا بد من قولها باللسان ولا يجوز النطق بالاستعاذة دون الأمر (قل) وهذا القول من أسباب الطاعة فإذا استعنا بالله ليعصمنا من الشرور فإنها من أسباب الطاعة له سبحانه.
وإذا صاحب الإستعاذة شعور بالنفس بالحاجة إلى غياث المستغيثين ليأوي إلى ركن شديد فهذا الشعور بالحاجة إلى مولاه فهذا الشعور يُلين القلوب القاسية.
*"قل أعوذ برب الناس (1) ملك الناس (2) إله الناس (3)"
الإستعاذة في السورة هي بـ: رب الناس، بملك الناس، وبإله الناس من شر الوسواس الخنّاس. فالمستعاذ منه شرّ واحد والإستعاذة منه جاءت بالربّ والملك والإله من وسوسة الشيطان المُهلكة. وهذا بخلاف ما جاء في سورة الفلق حيث كانت الإستعاذة بشيء واحد من شرور متعددة. وفي هذا إشارة عظيمة إلى خطورة الوسوسةعلى الإنسان وعلى غيره لأنه إن استجاب لهذها لوساوس فقد يردي نفسه في الدنيا والآخرة، أما الأمر الذي ليس من كسبه (ما جاء في سورة الفلق) فقد استعاذ منه بأمر واحد وهذه لفتة بيانية عظيمة من هاتين السورتين الكريمتين إلى خطورة البشر وخطورة الوسوسة . وجاء الترتيب في سورة الناس على الشكل التالي:
رب، ملك، إله. فالإنسان إذا وقع في حاجة يستعين أولاً بخبرته وعلمه أو بمن له خبرة وتجربة ليرشده وليشير عليه بما يفعل وهذا هو شأن الربّ أي المربي فهو المرشد والمعلم والموجه ولذا بدأت الآيات به (رب الناس). فإذا لم ينجح فيما يريد لجأ إلى السلطة وصاحبها أي الملك (ملك الناس) فإن لم تُجدي السلطة نفعاً التجأ إلى الله تعالى (إله الناس) والترتيب في الآيات في السورة هو على سياق هذا الترتيب وكحاجة الإنسان للتعامل في الحياة. وهو واضح في مراحل حياة الإنسان ومعاشهم، فالأجنة هي البداية ثم يخرج الناس للحياة ليواجهوا المربي الذي يقدم لهم ما يحتاجونه من تربية ورعاية،
فإذا كبروا احتاجوا إلى المجتمع وما ينظم علاقتهم به، ثم يأتي سن التكليف حيث يحاسبه الإله. والمجتمعات عموما بين الربوبية والملك، فكل مجتمع يحتاج صغاره إلى المربي ثم إلى السلطة، أما الألوهية فتتأخر وقد تخفى على بعض الناس وتحيطها الشكوك والأوهام .. والإلحاد .. وتحتاج إلى تذكير.
وقد تدرّجت الآيات من الكثرة إلى القلّة فالربّ هو المرشد الموجّه وقد يكون هناك العديد من المرشدين والمربّين في المجتمع لكن لكل دولة ملك واحد والدنيا فيها ملوك كثر ولكن الإله واحد للكل فانتقل في السياق من الكثرة للقلة من حيث دلالة الكلمة بالعدد (الرب كثير، الملك أقلّ وأما الإله فهو واحد). وردت كلمة الناس 3 مرات في السورة وكل منها تعني مجموعة من الناس مختلفة عن غيرها نوضحها فيما يلي:
كلمة الناس تُطلق على مجموعة قليلة من الناس أو واحد من الناس أو كل الناس. والربّ هو مُرشد مجموعة من الناس قد تكون قليلة أو كثيرة، أما الملك فناسه أكبر من ناس المربي وأما الإله فهو إله كل الناس وناسه الأكثر حتماً. فلو جاءت الآيات برب الناس وملكهم وإلههم لعاد المعنى كله إلى المجموعة الأولى من الناس (ناس الرّب) دون أن يشمل غيرهم ولما تحدد أي مجموعة من الناس. لذلك لا يغني الضمير هنا، بل لا بد من تكرار المضاف إليه مذكورا صريحا، لأن لكل معنى مختلف. .
وكلمة الناس من حيث دلالتها العديدة في السورة تنتقل على عكس كلمة الرب والملك والإله من القلّة إلى الكثرة. فالتدرج في الصفات بدأ من الكثرة إلى القلة، أما في المضاف إليه (الناس) فبالعكس من القلة إلى الكثرة، فناس المربي أقل،
وناس الملك أكثر، وناس الإله هم الأكثر. ولم تأتي الآيات في السورة بواو العطف فيما بينها ولا يجوز أصلاً أن يقول (برب الناس وملك الناس وإله الناس)
وإنما جاءت (قل أعوذ برب الناس* ملك الناس* إله الناس) وهذا حتى لا يُظنّ أنهم ذوات مختلفة لأنها هي ذات واحدة فهو سبحانه المربي وهو الملك وهو الإله الواحد.
وحتى لا يُظن أن المقصود أكثر من واحد، بل هو واحد سبحانه، فمن أراد الرب يقصد رب الناس ومن أراد الملِك يقصد ملك الناس
ومن أراد الإله يقصد إله الناس فلا إله إلا الله
*"من شر الوسواس الخنّاس (4) الذي يوسوس في صدور الناس (5) من الجنّة والناس (6)"
من شر الوسواس الخنّاس:جاءت الآية باستخدام (من شر الوسواس ) وليس (من الوسواس) كما في الاستعاذة من الشيطان : "فاستعذ بالله من الشيطانِ الرجيم"، لأنه هنا لم يحدد الشيطان، بل قال :
من الجِنّة والناس، فجعل الوسواس قسمين: من الجِنّة أو من الناس . قد يكون الوسواس من الجِنّة أو من الناس فالجِنّة فيهم صالحون وفيهم قاسطون " وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون" كما قال تعالى على لسان الجن في سورة الجن،
لذا لا يصحّ الإستعاذة من الجِنّة عموماً وكذلك الناس نحن نستعيذ من الظالمين والأشرار من الناس وليس من الناس كلهم جميعاً ولذا جاءت الآية بتحديد الاستعاذة من الشر (من شر الوسواس الخنّاس) وأما الشيطان فشرّ كله لذلك جاءت الآية بالاستعاذة منها، أما البشر فلا، ورد في الأثرالذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير ممن لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم)
الوسواس كلمة وسواس على صيغة فعلال وهي صيغة تفيد التكرار لأنه لا ينفك عن الوسوسةويسمى في اللغة (تكرار المقطع لتكرار الحَدَث) وفيها تكرار المقطع (وس) كما في كلمة كبكب (تكرار كب) وحصحص (تكرار حص) للدلالة على تكرار الحدث. وصيغة فعلال تفيد المبالغة أيضاً إذن كلمة وسواس تفيد المبالغة والتكرار.
وقد جاء التعبير في الآية بكلمة الوسواس وليس الموسوس لأن لأن الموسوس لا تفيد المبالغة، ولأنها تقال للشخص الذي تعتريه الوسوسة دون أن تفيد المبالغة. وجاءت الإستعاذة بـ(شر الوسواس) وليس شر الوسوسة فقط للدلالة على أن الإستعاذة إنما تكون من كل شرور الوسواس سواء كانت وسوسة أو لم تكن.
الخنّاس:صفة من (الخنوس) وهو الاختفاء، وهي أيضا صيغة مبالغة،وتدل على أن الخنوس صار نوعا من حرفة يداوم عليها. عندما يكون للمرء عدو فإنه يحرص على أن يعرف مقدار عدائه ومدى قوته والأساليب التي تمكنه من التغلب عليه أو النجاة منه، وقد أخبرنا الله تعالى عن عدونا أن قصارى ما يستطيع الإنسان فعله هو أن نخنس وسوسته لأن الشيطان باق إلى يوم الدين ولا يمكننا قتله أو فعل أي شيء آخر به وإنما نستعيذ بالله فيخنس الشيطان أو أن نغفل وننسى فنقع في الوسوسة كما جاء في الحديث: الشيطان جاثم على قلب ابن آدم إن ذكر الله خنس، وإن نسي وسوس
( الذي يوسوس في صدور الناس:)ذُكر في الآية مكان الوسوسة وهو الصدور ولم ترد القلوب لأن الصدور أوسع ، وهي كالمداخل للقلب،فمنها تدخل الواردات إلى القلب، والشيطان يملأ الصدر بالوسوسة ومنه تدخل إلى القلب دون أن تترك خلفها ممرا نظيفا يمكن أن تدخله نفحات الإيمان، بل يملأ الساحة بالوساوس قدر استطاعته مغلقا الطريق إلى القلب.
من الجِنّة والناس:الوسواس قسمان فقد يكون من الجِنّة وقد يكون من الناس والناس هم المعتدى عليهم ولذا جاء الآية رب الناس ولم يقل رب الجِنّة والناس لأن الناس لما وقع عليهم الأذى استعاذوا أو أمروا أن يستعيذوا بربهم ليخلّصهم من شر الوسواس والجِنّة هم الأصل في الوسوسة.وقدم الجنة على الناس لأنهم هم الأصل في الوسوسة، والناس تَبَع، وهم المعتدون على الناس، ووسوسة الإنسي قد تكون من وسوسة الجني. والجِنّة هم الأصل في الوسوسة، ولا تقع الوسوسة في صدورهم بل في صدور الإنس. وفي آية أخرى في القرآن الكريم وردت الأية بتقديم شياطين الإنس على الجنّ وذلك لأن السياق كان على كفرة الإنس الذين يشاركون الجن الوسوسة فلذا تقدّم ذكرهم على الجنّ (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) سورة الأنعام آية 112.
**لمسات بيانية في سورة الناس للأستاذ الدكتور فاضل صالح السامرائي
المعوذتان هما سورتان في القرآن الكريم جمعتا الإستعاذة من الشرور كلها الظاهرة والخفيّة والواقعة على الإنسان من الخارج والتي تصدر منه من الداخل.
فسورة الفلق تضمنت الإستعاذة من الشرورالظاهرة والخفية الواقعة على الإنسان من الخارج ولا يمكن للإنسان دفعها ولا سبيل لذلك إلا بالصبر لأن الإنسان الصابر إذا صبر على هذه الشرور ينال الأجر من الله تعالى على صبره ويزيد في ميزان حسناته لأن الله تعالى يجزي الصابرين.
والشر في سورة الفلق مما لا يدخل تحت التكليف ولا يطلب منه الكف عنه لأنه ليس من كسبه فهو غير محاسب عليه أما سورة الناس التي بين أيدينا فهي سورة الإستعاذة من شرور الإنسان الداخلية
(النابعة من نفسه) وهي التي تقع على الإنسان نفسه أو على غيره وهي التي يستطيع الإنسان أن يدفعهاويتجنب ظلم النفس والآخرين وهذه الشرور إذا وقع فيها الإنسان يكون في صحيفة سيئاته.والشر المقصود في هذه السورة هو مما يدخل تحت التكليف ويحاسب عليه المرء لأنه يدخل ضمن ما نُهي عنه .
السورتان جمعتا الاستعاذة من الشرور كلها الظاهرة والخفية.. ما يدخل تحت التكليف (ما جاء في الناس)، وما لا يدخل في التكليف (ما جاء في الفلق) ..
ما لا يستطيع دفعه (الفلق) وما يستطيع الناس دفعه وما يدخل سجل الحسنات (الفلق) وما يدخل سجل السيئات (الناس). وكما قال عدد من المفسرين والمحققين: سورة الفلق استعاذة بالله من شرور المصائب وسورة الناس استعاذة بالله من شرور المعايب.
*"قل أعوذ برب الناس(1)"
أعوذ بالله: لغة هي بمعنى ألتجأ وأعتصم بالله. قل: أمر الله تعالى للرسول بأن يقول (قل) والأمر بالقول له أهمية كبيرة هنا ولو حذف الفعل لاختل المعنى المقصود. (قل) للإفصاح عن ضعفه والتجائه إلى ربه، فكلمة (قل) هي من باب الإفصاح والإعلان عن حاجة الإنسان إلى ربه جلّ وعلا،
وهو يفصح عن حاجته هذه بنفسه وينطقها بلسانه. وفيها قتل للغرورلأن الكِبر والغرور يمنعان المرء أحيانا من طلب الإعانة وهو في حاجة شديدة إليها، ولأن الذي يطلب المعونة من غيره يمتنع عن الغرور، ولا يكتفي الإنسان بالشعور بالحاجة إلى ربه لكن ينبغي أن يُعلن حاجته لربه سواء أكان الرسول أو غيره من الناس. قالوا أتشكو إليه ما ليس يخفى عليه
فقلت ربي يرضى ذل العزيز لديه قل: في هذا الإعلان قتل بل علاج للكبر والغرورالذي في نفس الإنسان والذي قد يودي به إلى الطغيان. (إن الإنسان ليطغى. أن رآه استغنى) لذلك لا بد من قولها باللسان ولا يجوز النطق بالاستعاذة دون الأمر (قل) وهذا القول من أسباب الطاعة فإذا استعنا بالله ليعصمنا من الشرور فإنها من أسباب الطاعة له سبحانه.
وإذا صاحب الإستعاذة شعور بالنفس بالحاجة إلى غياث المستغيثين ليأوي إلى ركن شديد فهذا الشعور بالحاجة إلى مولاه فهذا الشعور يُلين القلوب القاسية.
*"قل أعوذ برب الناس (1) ملك الناس (2) إله الناس (3)"
الإستعاذة في السورة هي بـ: رب الناس، بملك الناس، وبإله الناس من شر الوسواس الخنّاس. فالمستعاذ منه شرّ واحد والإستعاذة منه جاءت بالربّ والملك والإله من وسوسة الشيطان المُهلكة. وهذا بخلاف ما جاء في سورة الفلق حيث كانت الإستعاذة بشيء واحد من شرور متعددة. وفي هذا إشارة عظيمة إلى خطورة الوسوسةعلى الإنسان وعلى غيره لأنه إن استجاب لهذها لوساوس فقد يردي نفسه في الدنيا والآخرة، أما الأمر الذي ليس من كسبه (ما جاء في سورة الفلق) فقد استعاذ منه بأمر واحد وهذه لفتة بيانية عظيمة من هاتين السورتين الكريمتين إلى خطورة البشر وخطورة الوسوسة . وجاء الترتيب في سورة الناس على الشكل التالي:
رب، ملك، إله. فالإنسان إذا وقع في حاجة يستعين أولاً بخبرته وعلمه أو بمن له خبرة وتجربة ليرشده وليشير عليه بما يفعل وهذا هو شأن الربّ أي المربي فهو المرشد والمعلم والموجه ولذا بدأت الآيات به (رب الناس). فإذا لم ينجح فيما يريد لجأ إلى السلطة وصاحبها أي الملك (ملك الناس) فإن لم تُجدي السلطة نفعاً التجأ إلى الله تعالى (إله الناس) والترتيب في الآيات في السورة هو على سياق هذا الترتيب وكحاجة الإنسان للتعامل في الحياة. وهو واضح في مراحل حياة الإنسان ومعاشهم، فالأجنة هي البداية ثم يخرج الناس للحياة ليواجهوا المربي الذي يقدم لهم ما يحتاجونه من تربية ورعاية،
فإذا كبروا احتاجوا إلى المجتمع وما ينظم علاقتهم به، ثم يأتي سن التكليف حيث يحاسبه الإله. والمجتمعات عموما بين الربوبية والملك، فكل مجتمع يحتاج صغاره إلى المربي ثم إلى السلطة، أما الألوهية فتتأخر وقد تخفى على بعض الناس وتحيطها الشكوك والأوهام .. والإلحاد .. وتحتاج إلى تذكير.
وقد تدرّجت الآيات من الكثرة إلى القلّة فالربّ هو المرشد الموجّه وقد يكون هناك العديد من المرشدين والمربّين في المجتمع لكن لكل دولة ملك واحد والدنيا فيها ملوك كثر ولكن الإله واحد للكل فانتقل في السياق من الكثرة للقلة من حيث دلالة الكلمة بالعدد (الرب كثير، الملك أقلّ وأما الإله فهو واحد). وردت كلمة الناس 3 مرات في السورة وكل منها تعني مجموعة من الناس مختلفة عن غيرها نوضحها فيما يلي:
كلمة الناس تُطلق على مجموعة قليلة من الناس أو واحد من الناس أو كل الناس. والربّ هو مُرشد مجموعة من الناس قد تكون قليلة أو كثيرة، أما الملك فناسه أكبر من ناس المربي وأما الإله فهو إله كل الناس وناسه الأكثر حتماً. فلو جاءت الآيات برب الناس وملكهم وإلههم لعاد المعنى كله إلى المجموعة الأولى من الناس (ناس الرّب) دون أن يشمل غيرهم ولما تحدد أي مجموعة من الناس. لذلك لا يغني الضمير هنا، بل لا بد من تكرار المضاف إليه مذكورا صريحا، لأن لكل معنى مختلف. .
وكلمة الناس من حيث دلالتها العديدة في السورة تنتقل على عكس كلمة الرب والملك والإله من القلّة إلى الكثرة. فالتدرج في الصفات بدأ من الكثرة إلى القلة، أما في المضاف إليه (الناس) فبالعكس من القلة إلى الكثرة، فناس المربي أقل،
وناس الملك أكثر، وناس الإله هم الأكثر. ولم تأتي الآيات في السورة بواو العطف فيما بينها ولا يجوز أصلاً أن يقول (برب الناس وملك الناس وإله الناس)
وإنما جاءت (قل أعوذ برب الناس* ملك الناس* إله الناس) وهذا حتى لا يُظنّ أنهم ذوات مختلفة لأنها هي ذات واحدة فهو سبحانه المربي وهو الملك وهو الإله الواحد.
وحتى لا يُظن أن المقصود أكثر من واحد، بل هو واحد سبحانه، فمن أراد الرب يقصد رب الناس ومن أراد الملِك يقصد ملك الناس
ومن أراد الإله يقصد إله الناس فلا إله إلا الله
*"من شر الوسواس الخنّاس (4) الذي يوسوس في صدور الناس (5) من الجنّة والناس (6)"
من شر الوسواس الخنّاس:جاءت الآية باستخدام (من شر الوسواس ) وليس (من الوسواس) كما في الاستعاذة من الشيطان : "فاستعذ بالله من الشيطانِ الرجيم"، لأنه هنا لم يحدد الشيطان، بل قال :
من الجِنّة والناس، فجعل الوسواس قسمين: من الجِنّة أو من الناس . قد يكون الوسواس من الجِنّة أو من الناس فالجِنّة فيهم صالحون وفيهم قاسطون " وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون" كما قال تعالى على لسان الجن في سورة الجن،
لذا لا يصحّ الإستعاذة من الجِنّة عموماً وكذلك الناس نحن نستعيذ من الظالمين والأشرار من الناس وليس من الناس كلهم جميعاً ولذا جاءت الآية بتحديد الاستعاذة من الشر (من شر الوسواس الخنّاس) وأما الشيطان فشرّ كله لذلك جاءت الآية بالاستعاذة منها، أما البشر فلا، ورد في الأثرالذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير ممن لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم)
الوسواس كلمة وسواس على صيغة فعلال وهي صيغة تفيد التكرار لأنه لا ينفك عن الوسوسةويسمى في اللغة (تكرار المقطع لتكرار الحَدَث) وفيها تكرار المقطع (وس) كما في كلمة كبكب (تكرار كب) وحصحص (تكرار حص) للدلالة على تكرار الحدث. وصيغة فعلال تفيد المبالغة أيضاً إذن كلمة وسواس تفيد المبالغة والتكرار.
وقد جاء التعبير في الآية بكلمة الوسواس وليس الموسوس لأن لأن الموسوس لا تفيد المبالغة، ولأنها تقال للشخص الذي تعتريه الوسوسة دون أن تفيد المبالغة. وجاءت الإستعاذة بـ(شر الوسواس) وليس شر الوسوسة فقط للدلالة على أن الإستعاذة إنما تكون من كل شرور الوسواس سواء كانت وسوسة أو لم تكن.
الخنّاس:صفة من (الخنوس) وهو الاختفاء، وهي أيضا صيغة مبالغة،وتدل على أن الخنوس صار نوعا من حرفة يداوم عليها. عندما يكون للمرء عدو فإنه يحرص على أن يعرف مقدار عدائه ومدى قوته والأساليب التي تمكنه من التغلب عليه أو النجاة منه، وقد أخبرنا الله تعالى عن عدونا أن قصارى ما يستطيع الإنسان فعله هو أن نخنس وسوسته لأن الشيطان باق إلى يوم الدين ولا يمكننا قتله أو فعل أي شيء آخر به وإنما نستعيذ بالله فيخنس الشيطان أو أن نغفل وننسى فنقع في الوسوسة كما جاء في الحديث: الشيطان جاثم على قلب ابن آدم إن ذكر الله خنس، وإن نسي وسوس
( الذي يوسوس في صدور الناس:)ذُكر في الآية مكان الوسوسة وهو الصدور ولم ترد القلوب لأن الصدور أوسع ، وهي كالمداخل للقلب،فمنها تدخل الواردات إلى القلب، والشيطان يملأ الصدر بالوسوسة ومنه تدخل إلى القلب دون أن تترك خلفها ممرا نظيفا يمكن أن تدخله نفحات الإيمان، بل يملأ الساحة بالوساوس قدر استطاعته مغلقا الطريق إلى القلب.
من الجِنّة والناس:الوسواس قسمان فقد يكون من الجِنّة وقد يكون من الناس والناس هم المعتدى عليهم ولذا جاء الآية رب الناس ولم يقل رب الجِنّة والناس لأن الناس لما وقع عليهم الأذى استعاذوا أو أمروا أن يستعيذوا بربهم ليخلّصهم من شر الوسواس والجِنّة هم الأصل في الوسوسة.وقدم الجنة على الناس لأنهم هم الأصل في الوسوسة، والناس تَبَع، وهم المعتدون على الناس، ووسوسة الإنسي قد تكون من وسوسة الجني. والجِنّة هم الأصل في الوسوسة، ولا تقع الوسوسة في صدورهم بل في صدور الإنس. وفي آية أخرى في القرآن الكريم وردت الأية بتقديم شياطين الإنس على الجنّ وذلك لأن السياق كان على كفرة الإنس الذين يشاركون الجن الوسوسة فلذا تقدّم ذكرهم على الجنّ (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) سورة الأنعام آية 112.
1 – إن المشكلات بين الزوجين قد تؤدي إلى أن يحيب أحدهما على الآخر، وينتصر لنفسه فيظلم الآخر.
وإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، كما قال ربنا: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت: 45] فأمرهم بذلك ليرتدعوا ولئلا يبغي بعضهم على بعض.
2 – ثم إنه تعالى أمرهم بالمحافظة على الصلاة لئلا تشغلهم المشكلات العائليَّة عنها فيتركوها أو يتهاونوا في أدائها.
وقد أمرهم بالمحافظة عليها في الوقت الذي هو أشدُّ من ذلك، وذلك عند الخوف فقال: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾ [البقرة: 239]. فكيف فيما هو دون ذلك؟
وهذا يدل على عِظم هذه الفريضة وأنه ينبغي ألا يشغلهم عنها شاغل مهما عظم.
رد: لمسات بيانية في القرآن الكريم د.فاضل السامرائي
قال تعالى في سورة آل عمران: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [آل عمران: 106-107].
سؤال:
لماذا قدَّم أولاً مَنْ تبيضُّ وجوههم على مَن تَسودُّ فقال: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾، ثم قدَّم بعده مَنْ تسودُّ وجوهُهم على من تبيضُّ، فقال: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ﴾، وقال بعده: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ﴾.
وكان المظنون أن يكون التفصيل على نسق ما بدأ، فيقول أولاًفأما الذين ابيضَّت وجوههم)، ويقول بعده: (وأما الذين اسودَّت وجوههم)، نظير قوله تعالى في سورة هود: ﴿فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ [هود: 105-108].
فإنه لما قال: ﴿فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ﴾ فقدّم الشقي كان التفصيل على نسق ذلك، فقال: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا﴾ فقدّم الذين شقوا على الذين سعدوا فما الفرق؟
الجواب:
إنَّ التقديم والتأخير في آل عمران جرى بحسب القرب والبعد، فمَن كان قريباً قدّم القول فيه، ومَن كان بعيداً أخَّر القول فيه.
وإيضاح ذلك أنَّ الكلام كان على صنفين من الناس أحدهما مُخاطب والآخر غائب، ولا شك أنَّ المخاطب أقرب من الغائب فقدَّم ما يتعلق بالمخاطب وأخَّر ما يتعلق بالغائب.
وبيان ذلك أنَّ السياق في آل عمران إنما هو في خطاب المؤمنين فقد خاطبهم بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾ [آل عمران: 100]..
ويستمر الكلام في خطابهم فيقول: ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ [آل عمران: 101-106]، فالمؤمنون هم المُخَاطَبون وهم الذين تَبيضُّ وجوههم.
والذين تفرَّقوا واختلفوا هم الذين تسودُّ وجوههم وهم في السياق غائبون، ألا ترى إلى قوله: ﴿وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ فأخبر عنهم بضمير الغيبة؟.
فقدّم القول في المخاطبين كما ذكرنا فقال:﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ﴾.
وأما الكلام بعد ذلك فإنَّ الذين اسودَّت وجوههم هم المخاطبون فيه، وأما الذين ابيضَّت وجوههم فهم غائبون.
فقد قال تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ [آل عمران: 106].
فقد خاطبهم بقوله: ﴿أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾، ﴿فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾.
وأما الذين ابيضّت وجوههم فهم هنا غائبون فقد قال سبحانه فيهم: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [آل عمران: 107].
فأخبر سبحانه عنهم بضمير الغيبة.
فقدّم القول في المُخَاطبين كما فعل أولاً، فجرى الكلام على نسق واحد في التقديم والتأخير.
وأما التقديم والتأخير في سورة هود فقد جرى على نهج واضح أيضاً، فإنَّ السياق فيها في ذكر الأمم الكافرة الذين عَصَوا رسلَهم وأنزل بهم العقوبات، ثم عقّب بعد ذلك بقوله: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ﴾ [هود: 100-101]، فالسياق في الأشقياء من الناس فقدَّم الأشقياء فقال: ﴿فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ﴾ [هود: 105].
وأما التفصيل فيما بعد فقد جرى على نسق ما ذكر؛ لأنَّهم كلهم غائبون فهم بمنزلة واحدة، فقد قال: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ﴾ [هود: 106].
وقال تعالى بعدها: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ [هود: 108]، بخلاف ما عليه السياق في آل عمران فإنَّ منهم مخاطباً ومنهم غائب، فجرى التفصيل في هود على ما أجمل، فلما قال: ﴿فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ﴾ فقدَّم الأشقياء فصّل الكلام على نسق ذلك، فقال: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا....وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا...﴾ فكانكل تعبير مناسباً في سياقه الذي ورد فيه.
رد: لمسات بيانية في القرآن الكريم د.فاضل السامرائي
حول بشارتي زكريا ومريم
قال الله تعالى في سورة آل عمران على لسان زكريا عليه السلام حين بشَّرته الملائكة بيحيى عليه السلام: ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ [آل عمران: 40]. وقال على لسان مريم حين بشَّرتها الملائكة بالمسيح عليه السلام:﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران: 47].
سؤال:
1 – لماذا قال زكريا عليه السلام: ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَٰمٞ﴾. وقالت مريم عليها السلام: ﴿قَالَتۡ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٞ﴾. فذكر زكريا عليه السلام الغلام، وذكرت مريم عليها السلام الولد؟ 2 – لماذا قال الله تعالى مخاطباً زكريا عليه السلام: ﴿كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾. وقال مخاطباً مريم: عليها السلام: ﴿قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾. فاستعمل (الفعل) مع زكريا، و(الخلق) مع مريم؟
الجواب:
1- أما بالنسبة إلى استعمال الغلام مع زكريا فهو المناسب؛ لأن الله تعالى بشَّره بيحيى، قال تعالى: ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ﴾ [آل عمران: 39]. ويحيى غلام. أما بالنسبة إلى استعمال الولد مع مريم عليها السلام فهو المناسب أيضاً ذلك أن الله تعالى بشَّرها بكلمة منه اسمه المسيح، قال تعالى:﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ [آل عمران: 45]. و(الكلمة) أعمّ من الغلام فهي تصح لكل ما أراد الله تعالى أن يكون، قال تعالى:﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس: 82]. والولد أعمُّ من الغلام، فالولد يُقال للذكر والأنثى، والمفرد والجمع، قال تعالى: ﴿إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ﴾ [الكهف: 39-40]. فلما بشَّرها (بالكلمة) وهي عامَّة، سألت بما هو أعمّ من الغلام وهو الولد، فناسب العمومُ العمومَ، والخصوصُ الخصوصَ. ألا ترى في سورة مريم حين بشَّرها رسولُ ربِّها بالغلام قائلاً: ﴿قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا﴾ [مريم: 19]. قالت: ﴿قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ [مريم: 20]، فناسب كل تعبير مكانه. 2 – وأما قوله تعالى مخاطباً زكريا عليه السلام: ﴿قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ [آل عمران: 40]، وقوله مخاطباً مريم عليها السلام: ﴿قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾ [آل عمران: 47]، فهو المناسب أيضاً. ذلك أن الفعل أيسر من الخلق، فالفعل عام، إلا ترى أنَّه قد يقول لك قائل: لِمَ فعلت كذا؟، ولِمَ فعلت كذا؟ فتقول: أنا أفعل ما أشاء. ولا يصحُّ أن تقول: (أنا أخلقُ ما أشاء) فإنك لا تستطيع ذلك. هذا وإن إيجاد الذرية من أبوين مهما كان شأنهما أيسر من إيجادها من أم بلا أب. فناسب ذكر الفعل الذي هو أيسر من الخلق مع زكريا عليه السلام.
وناسب ذكر الخلق مع مريم عليها السلام التي لم يمْسَسها بشرٌ.
<<<<<<<<<<<<<<<<<<
(ومن لم يطعمه فإنه مني)
قال الله تعالى في سورة البقرة:﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ﴾ [البقرة: 249].
سؤال:
لماذا قال: ﴿وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ﴾، ولم يقل: (ومن لم يشربْه) مع أنَّ الكلام على الماء؟
الجواب:
يقال: (طعم) إذا أكل أو ذاق، والطعم الذوق وهو يكون في الطعام والشراب. يقال: طعمه مُرٌّ أو حُلو أو غير ذلك، ويكون ذلك في كل شيء مما يؤكل أو يُشرب. [انظر لسان العرب (طعم)]. ثم إنَّ الماء قد يُطعم إذا كان مع شيء يمضغ. ولو قال: (ومن لم يشربه) لكان يقتضي أن يجوز تناوله إذا كان في طعام.
فلما قال: ﴿وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ﴾ تبيَّن أنه لا يجوز تناوله على كل حال إلا قدر المستثنى وهو الغَرْفَةُ باليَدِ» [المفردات: (طعم)].
<<<<<<<<<<<<<<<<
بين عذاب الكافرين وإكرام المؤمنين
قال تعالى في سورة آل عمران: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [آل عمران: 56-57].
سؤال:
لماذا قال في الآية الأولى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ﴾ فإسناد التعذيب إلى ضمير المتكلم، وقال في الآية الثانية: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾ بإسناد توفية الأجور إلى الغائب ولم يقل: (فأوفيهم أجورهم) فيكون الكلام على نسق واحد؟
الجواب:
إنَّ الآية الأولى في سياق كلام الله سبحانه عن نفسه قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا﴾ [آل عمران: 55-56]. فناسب إسناد التعذيب إلى نفسه جرياً مع سياق الحديث عن النفس. وأما الآية الثانية فهي مقام الالتفات إلى الغائب وذلك ليكون مدخلاً إلى قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾، فإنَّه لو لم يلتفت لقال: (وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فأوفيهم أجورهم وأنا لا أحب الظالمين). ولم يرد فعل الحب من الله تعالى في القرآن إثباتاً أو نفياً مسنداً إلى ضمير المتكلم، أي: إن الله سبحانه وتعالى لم يقلْ في جميع القرآن مخبرا ًعن نفسه بنحو: (وأنا لا أحب الظالمين أو المعتدين) أو: (وأنا أحب الصابرين أو المحسنين)، بل يسند ذلك إلى لفظ الجلالة في الأغلب أو ضميره كأن يقول: (إنَّه لا يحبُّ المسرفين) أو: (إنه لا يحب المعتدين).
فالمناسب هو الالتفات وليس الاستمرار بالحديث عن النفس.