قال الله تعالى: {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه} [سبأ (39) ] . أي: ما أنفقتم في رضا الله عز وجل فهز يخلفه في الدنيا بالمال، أو بالقناعة، وفي الآخرة بالجزاء المضاعف، قال الله تعالى: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة} [البقرة (245) ] .
قال تعالى: {وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون} [البقرة (272) ] . أي: ما تنفقوا من خير فثوابه لأنفسكم، فلا تمنوا به، وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله. قال عطاء: إذا أعطيت لوجه الله فلا عليك ما كان عمله. {وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم} ثوابه. {وأنتم لا تظلمون} أي: لا تنقصون.
قال تعالى: {وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم} [البقرة (273) ] . أي: فيجازيكم بقدره.
عن ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا، فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة، فهو يقضي بها ويعلمها» . متفق عليه. ومعناه: ينبغي أن لا يغبط أحد إلا على إحدى هاتين الخصلتين. الحكمة: العلم. وضابطها ما منع الجهل، وزجر عن القبيح، والعلم النافع هو القرآن والسنة.
عن ابن مسعود - رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟» قالوا: يا رسول الله، ما منا أحد إلا ماله أحب إليه. قال: ... «فإن ماله ما قدم ومال وارثه ما أخر» . رواه البخاري. فيه: التحريض على ما يمكن تقديمه من المال في وجوه البر لينتفع به في الآخرة.
عن عدي بن حاتم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اتقوا النار ولو بشق تمرة» . متفق عليه. فيه: أن الصدقة تقي من النار، ولو كانت قليلة، وفي الحديث الآخر: «والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار» .
عن جابر - رضي الله عنه - قال: ما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا قط، فقال: لا. متفق عليه. كان - صلى الله عليه وسلم - لا ينطق بالرد فإن كان عنده المسؤول، وساغ الإعطاء أعطى وإلا وعد كما قال تعالى: وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا} [الإسراء (28) ] .
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا» . متفق عليه. فيه: الحض على الإنفاق ورجاء قبول دعوة الملك.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «قال الله تعالى: أنفق يا ابن آدم ينفق عليك» . متفق عليه. الإنفاق الممدوح: ما كان في الطاعات، وعلى العيال والضيفان.
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الإسلام خير؟ قال: «تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف» . متفق عليه. المراد: الإطعام على وجه الصدقة، والهدية، والضيافة، ونحو ذلك. وقوله: «وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف» . المراد به: إفشاء السلام على من لقيت. وفيه: حض على ائتلاف القلوب واستجلاب مودتها.
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أربعون خصلة: أعلاها منيحة العنز، ما من عامل يعمل بخصلة منها؛ رجاء ثوابها وتصديق موعودها، إلا أدخله الله تعالى بها الجنة» . رواه البخاري. وقد سبق بيان هذا الحديث في باب بيان كثرة طرق الخير. في هذا الحديث: أن الإنسان ينبغي له أن يحرص على فعل الخير ولو كان قليلا، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تحقرن من المعروف شيئا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق» . قال ابن بطال: ومعلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - كان عالما بالأربعين، وإنما لم يذكرها لمعنى هو أنفع لنا من ذكرها، وذلك خشية أن يكون التعيين لها مزهدا في غيرها من أبواب البر.
عن أبي أمامة صدي بن عجلان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا ابن آدم، إنك أن تبذل الفضل خير لك، وأن تمسكه شر لك، ولا تلام على كفاف، وابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من اليد السفلى» . رواه مسلم. الفضل: ما زاد على ما تدعو إليه حاجة الإنسان لنفسه ولمن يمونه من زوجة، وعبد، ودابة، وقريب؛ فلا يلام على إمساك ما يكف به الحاجة لذلك
عن أنس - رضي الله عنه - قال: ما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الإسلام شيئا إلا أعطاه، ولقد جاءه رجل، فأعطاه غنما بين جبلين، فرجع إلى قومه، فقال: يا قوم، أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، وإن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يلبث إلا يسيرا حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها. رواه مسلم. في هذا الحديث: جواز إعطاء المؤلفة قلوبهم ترغيبا في الإسلام. وفيه: كمال معرفته - صلى الله عليه وسلم - بدواء كل داء.
عن عمر - رضي الله عنه - قال: قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسما، فقلت: يا رسول الله، لغير هؤلاء كانوا أحق به منهم؟ فقال: «إنهم خيروني أن يسألوني بالفحش، أو يبخلوني، ولست بباخل» . رواه مسلم. في هذا الحديث: ما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - من عظيم الخلق، والصبر، والحلم، والإعراض عن الجاهلين.
عن جبير بن مطعم - رضي الله عنه - قال: بينما هو يسير مع النبي - صلى الله عليه وسلم - مقفله من حنين، فعلقه الأعراب يسألونه، حتى اضطروه إلى سمرة، فخطفت رداءه، فوقف النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «أعطوني ردائي، فلو كان لي عدد هذه العضاه نعما، لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذابا ولا جبانا» . رواه البخاري. «مقفله» أي: حال رجوعه. و «السمرة» : شجرة. و «العضاه» : شجر له شوك. في هذا الحديث: ذم البخل، والكذب، والجبن. وفيه: ما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - من الحلم وحسن الخلق، والصبر على جفاة الأعراب، وجواز وصف المرء نفسه بالخصال الحميدة عند الحاجة.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله - عز وجل -» . رواه مسلم. في هذا الحديث: أن الصدقة لا تنقص المال بل تزيده، لما تدفعه عنه الصدقة من الآفات، وتنزل بسبها البركات. وفيه: أن من عرف بالعفو والصفح ساد وعظم في قلوب الناس، وأن من تواضع رفعه الله في الدنيا والآخرة.
عن أبي كبشة عمرو بن سعد الأنماري - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ثلاثة أقسم عليهن، وأحدثكم حديثا فاحفظوه: ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة صبر عليها إلا زاده الله عزا، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر - أو كلمة نحوها - وأحدثكم حديثا فاحفظوه، قال: «إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالا وعلما، فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقا، فهذا بأفضل المنازل. وعبد رزقه الله علما، ولم يرزقه مالا، فهو صادق النية، يقول: لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان، فهو بنيته، فأجرهما سواء. وعبد رزقه الله مالا، ولم يرزقه علما، فهو يخبط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقا، فهذا بأخبث المنازل. وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما، فهو يقول: لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، فوزرهما سواء» . رواه الترمذي، وقال: (حديث حسن صحيح) . قوله: «ما نقص مال عبد من صدقة» . يشهد له قوله تعالى: {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين} [سبأ (39) ] . قوله: «ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عزا» ، يشهد له قوله تعالى: {ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور} [الشورى (43) ] . قوله: «ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر» وهذا مشاهد بالحس ويشهد له قوله تعالى {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد} [فاطر (15) ] . قوله: «إنما الدنيا لأربعة ... » إلخ فالأول علم وعمل صالحا. والثاني: علم وعزم على العمل الصالح لو قدر، فأجرهما سواء والثالث: لم يعلم ولم يعمل في ماله صالحا. والرابع: لم يعلم وعزم على العمل السيئ، لو قدر على مال فوزهما سواء. وقال بعض العارفين: أربعة تعجبت من شأنهم ... ?? ... فالعين في فكرتهم ساهرة ... ??? فواحد دنياه مبسوطة ... ?? ... قد أوتي الدنيا مع الآخرة ... ?? وآخر دنياه مقبوضة ... ???? ... وبعدها آخرة وافرة ... ????? وثالث دنياه مبسوطة ... ?? ... ليست له من بعده آخرة ... ??? ورابع أسقط من بينهم ... ?? ... ليست له دنيا ولا آخرة ... ??? قال الله تعالى: {انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا} [الإسراء (21) ] .
عن عائشة رضي الله عنها: أنهم ذبحوا شاة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما بقي منها؟» قالت: ما بقي منها إلا كتفها. قال: «بقي كلها غير كتفها» . رواه الترمذي، وقال: «حديث صحيح» . ومعناه: تصدقوا بها إلا كتفها. فقال: بقيت لنا في الآخرة إلا كتفها. فيه: تحريض على الصدقة والاهتمام بها، وألا يكثر المرء ما أنفقه فيها.
عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، قالت: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا توكي فيوكي الله عليك» . وفي رواية: «أنفقي أو انفحي، أو انضحي، ولا تحصي فيحصي الله عليك، ولا توعي فيوعي الله عليك» . متفق عليه. و «انفحي» بالحاء المهملة، وهو بمعنى «أنفقي» وكذلك «انضحي» . في هذا الحديث: أن الجزاء من جنس العمل، وأن من منع ما عنده من المال قطع الله عنه مادة الرزق، وهذا مفهوم قوله تعالى: {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين} [سبأ (39) ] . وفيه: الحث على الإنفاق في وجوهه ثقة بالله تعالى.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «مثل البخيل والمنفق، كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من ثديهما إلى تراقيهما، فأما المنفق فلا ينفق إلا سبغت - أو وفرت - على جلده حتى تخفي بنانه، وتعفو أثره، وأما البخيل، فلا يريد أن ينفق شيئا إلا لزقت كل حلقة مكانها، فهو يوسعها فلا تتسع» . متفق عليه. و «الجبة» : الدرع؛ ومعناه أن المنفق كلما أنفق سبغت، وطالت حتى تجر وراءه، وتخفي رجليه وأثر مشيه وخطواته. القبض والشح من جبلة الإنسان قال الله تعالى: {وكان الإنسان ... قتورا} [الإسراء (100) ] ، والنفقة تستوعب عيوبه. وفي الحديث: وعد للمنفق بالبركة والصيانة من البلاء والبخيل بضد ذلك. قال الله تعالى: {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} ... [الحشر (9) ] .
عن أبي هريرة - رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل» . متفق عليه. «الفلو» بفتح الفاء وضم اللام وتشديد الواو، ويقال أيضا: بكسر الفاء وإسكان اللام وتخفيف الواو: وهو المهر. فيه: أن الله لا يقبل الصدقة إلا من الكسب الطيب، وهو الحلال. وفي رواية: «ولا يصعد إلى الله إلا الطيب. قوله: «بيمينه» . قال الترمذي: قال أهل العلم من أهل السنة والجماعة: نؤمن بهذه الأحاديث، ولا نتوهم فيها تشبيها ولا نقول كيف، هكذا روي عن مالك، وابن عيينة، وابن المبارك، وغيرهم.
عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «بينما رجل يمشي بفلاة من الأرض، فسمع صوتا في سحابة، اسق حديقة فلان، فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة، فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله، فتتبع الماء، فإذا رجل قائم في حديقته يحول الماء بمسحاته، فقال له: يا عبد الله، ما اسمك؟ قال: فلان للاسم الذي سمع في السحابة، فقال له: يا عبد الله، لم تسألني عن اسمي؟ فقال: إني سمعت صوتا في السحاب الذي هذا ماؤه، يقول: اسق حديقة فلان لاسمك، فما تصنع فيها، فقال: أما إذ قلت هذا، فإني أنظر إلى ما يخرج منها، فأتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثا، وأرد فيها ثلثه» . رواه مسلم.
«الحرة» الأرض الملبسة حجارة سوداء. و «الشرجة» بفتح الشين المعجمة وإسكان الراء وبالجيم: هي مسيل الماء. في هذا الحديث: أن الصدقة تنتج البركة والمعونة من الله. وفي الحديث الآخر: «ما نقصت صدقة من مال بل تزيده، بل تزيده»
تطريز رياض الصالحين
موقع الكلم الطيب
التعديل الأخير تم بواسطة امانى يسرى محمد ; 07-12-2022 الساعة 02:50 PM
قال الله تعالى: {وأما من بخل واستغنى * وكذب بالحسنى * فسنيسره للعسرى * وما يغني عنه ماله إذا تردى} [الليل (8: 11) ] .
----------------
البخل: معروف، والشح أبلغ من البخل؛ لأنه يبخل بما عنده، ويطلب ما ليس له. وقوله تعالى: {وأما من بخل} ، أي: بالإنفاق في الخيرات، {واستغنى} ، أي: بالدنيا عن الآخرة، {وكذب بالحسنى} ، أي: بالجزاء في الدار الآخرة، {فسنيسره} نهيئه {للعسرى} لطريق الشر، وهي الأعمال السيئة الموجبة للنار، {وما يغني عنه ماله} الذي يبخل به {إذا تردى} إذا مات، وهو في جهنم.
قال تعالى: {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} [التغابن (16) ] .
----------------
أي: ومن سلم من الحرص الشديد الذي يحمله على ارتكاب المحارم، {فأولئك هم المفلحون} ، أي: الفائزون. قال ابن زيد وغيره: من لم يأخذ شيئا نهاه الله عنه، ولم يمنع الزكاة المفروضة فقد برئ من شح النفس. وقال ابن مسعود: شح النفس: أكل مال الناس بالباطل. أما منع الإنسان ماله فبخل، وهو قبيح. قال ابن عطية: شح النفس فقر لا يذهبه غنى المال بل يزيده.
عن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة. واتقوا الشح؛ فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم» . رواه مسلم.
----------------
أي: استحلوا ما حرم الله عليهم حرصا على المال، كما احتالوا على ما حرم الله عيهم من الشحوم، فأذابوها فباعوها واحتالوا لصيد السمك فحبلوا له يوم الجمعة وأخذوه يوم الأحد، وغير ذلك مما استحلوا به محارمهم وسفكوا به دماءهم.
باب الإيثار والمواساة
قال الله تعالى: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} [الحشر (9) ] .
----------------
يعني: فاقة وحاجة، أي: يقدمون المحاويج على حاجة أنفسهم.
قال تعالى: {ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا} ... [الدهر (8) ] . إلى آخر الآيات
----------------
يعني: ويطعمون الطعام وهم يحبونه، ويشتهونه، مسكينا، ويتيما، وأسيرا، وإن كان كافرا، لوجه الله تعالى لا لحظ النفس، وخوفا من عذاب يوم القيامة، فوقاهم الله شر ذلك اليوم، ولقاهم نضرة في وجوههم، وسرورا في قلوبهم، وجزاهم بما صبروا على ترك الشهوات، وأداء الواجبات جنة وحريرا.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إني مجهود، فأرسل إلى بعض نسائه، فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء، ثم أرسل إلى أخرى، فقالت مثل ذلك، حتى قلن كلهن مثل ذلك: لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من يضيف هذا الليلة؟» فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله، فانطلق به إلى رحله، فقال لامرأته: أكرمي ضيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي رواية قال لامرأته: هل عندك شيء؟ فقالت: لا، إلا قوت صبياني. قال: فعلليهم بشيء وإذا أرادوا العشاء فنوميهم، وإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج، وأريه أنا نأكل. فقعدوا وأكل الضيف وباتا طاويين، فلما أصبح غدا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «لقد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة» . متفق عليه.
----------------
هذا الحديث: أخرجه البخاري في التفسير، وفي فضائل الأنصار. وفيه: استحباب الإيثار على النفس ولو كان محتاجا، وكذلك على العيال إذا لم يضرهم.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «طعام الاثنين كافي الثلاثة، وطعام الثلاثة كافي الأربعة» . متفق عليه.
----------------
وفي رواية لمسلم عن جابر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية» . المراد بذلك: الحض على المكارم، والتقنع بالكفاية، وأنه ينبغي للاثنين إدخال ثالث لطعامهما، وإدخال رابع أيضا بحسب من يحضر. وعند الطبراني: «كلوا جميعا ولا تفرقوا فإن طعام الواحد يكفي الاثنين» . الحديث. فيؤخذ منه أن الكفاية تنشأ من بركة الاجتماع، وأن الجمع كلما زاد زادت البركة. وفيه: إشارة إلى أن المواساة إذا حصلت حصل معها البركة. وفيه: أنه ينبغي للمرء أن لا يستحقر ما عنده فيمتنع من تقديمه، فإن القليل قد يحصل به الاكتفاء.
عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: بينما نحن في سفر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ جاء رجل على راحلة له، فجعل يصرف بصره يمينا وشمالا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد، فليعد به على من لا زاد له» . فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل. رواه مسلم.
----------------
في هذا الحديث: الأمر بالمواساة من الفاضل، وهو كحديث: إنك يا ابن آدم إن تبذل الفضل خير لك، وإن تمسكه شر لك، ولا تلام على كفاف، وابدأ بمن تعول.
عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - أن أمرأة جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببردة منسوجة، فقالت: نسجتها بيدي لأكسوكها، فأخذها النبي - صلى الله عليه وسلم - محتاجا إليها، فخرج إلينا وإنها إزاره، فقال فلان: اكسنيها ما أحسنها! فقال: «نعم» فجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - في المجلس، ثم رجع فطواها، ثم أرسل بها إليه: فقال له القوم: ما أحسنت! لبسها النبي - صلى الله عليه وسلم - محتاجا إليها، ثم سألته وعلمت أنه لا يرد سائلا، فقال: إني والله ما سألته لألبسها، إنما سألته لتكون كفني. قال سهل: فكانت كفنه. رواه البخاري.
----------------
في هذا الحديث: جواز إعداد الشيء قبل الحاجة إليه. وفيه: حسن خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - وسعة جوده وقبول الهدية.
عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعام عيالهم بالمدينة، جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية فهم مني وأنا منهم» . متفق عليه.
----------------
«أرملوا» : فرغ زادهم أو قارب الفراغ. في الحديث: فضيلة الأشعريين، وفضيلة الإيثار، والمواساة، وفضيلة خلط الأزواد عند الحاجة.