عن الزهري قال: أخبرني عروةُ بنُ الزبير أن زينب بنت أبي سَلَمَة أخبرتْه أن أم حبيبة بنت أبي سفيان أخبرتها أنها قالت: يا رسول الله، انكِحْ أختي بنتَ أبي سفيانَ، فقال: ((أوَتُحبِّين ذلك؟))، فقلت: نعم؛ لست لك بمُخْلِيَةٍ[1]، وأحَبُّ مَن شاركني في خيرٍ أختي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن ذلك لا يَحِلُّ لي))، قلت: فإنا نُحدَّث أنك تريد أن تَنْكِحَ بنتَ أبي سَلَمَة، قال: ((بنت أم سلمة؟))، قلت: نعم، فقال: ((لو أنها لم تكن رَبيبتي في حَجْري، ما حلَّت لي؛ إنها لاَبنةُ أخي من الرضاعة؛ أرضعتني وأبا سلمة ثُويبَةُ[2]، فلا تَعْرِضْنَ عليَّ بناتِكن ولا أخواتكن)).
قال عروة: وثُوَيْبةُ مولاة لأبي لهب، كان أبو لهب أعتقها، فأرضعَتِ النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مات أبو لهب أُرِيَه بعضُ أهله بشرِّ خَيْبَةٍ، قال له: ماذا لقيت؟ قال أبو لهب: لم ألقَ بعدكم خيرًا؛ غير أني سُقِيتُ في هذه بعَتاقتي ثُويبةَ[3].
من فوائد الحديث:
1- في الحديث دلالةٌ على أن الكافر قد ينفعه العمل الصالح في الآخرة، لكنه مخالفٌ لظاهر القرآن، قال الله تعالى: ﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ﴾ [الفرقان: 23].
وأُجِيبَ:
أولاً: بأن الخبر مُرسَل، أرسله عروة، ولم يَذكُر مَن حدَّثه به، وعلى تقدير أن يكون موصولاً؛ فالذي في الخبر رؤيا منامٍ؛ فلا حجَّة فيه، ولعل الذي رآها لم يكن إذ ذاك أسلَمَ بعد، فلا يُحتجُّ به.
وثانيًا: على تقدير القبول؛ فيحتمل أن يكون ما يتعلَّق بالنبي صلى الله عليه وسلم مخصوصًا من ذلك، بدليل قصةِ أبي طالب أنه خُفِّفَ عنه، فنُقل من الغمرات إلى الضحضاح[4].
قال ابنُ المنير في "الحاشية": "هنا قضيتان، إحداهما مُحالٌ، وهي: اعتبار طاعة الكافر مع كفره؛ لأن شرطَ الطاعة أن تقع بقصد صحيح، وهذا مفقود من الكافر.
الثانية: إثابة الكافر على بعض الأعمال تفضلاً من الله تعالى، وهذا لا يحيله العقل، فإذا تقرر ذلك لم يكن عِتْقُ أبي لهب لثُويبةَ قربةً معتبرةً، ويجوز أن يتفضَّل الله عليه بما شاء كما تفضل على أبي طالب..." قلت: وتَتِمَّةُ هذا أن يَقَعَ التفضُّلُ المذكور إكرامًا للبرِّ الذي وقع من الكافر ونحو ذلك، والله أعلم[5].
2- ثبوت حرمة الرَّضاع بين الرضيع والمرضعة، فإنها تَصيرُ بمنزلة أمه من الولادة، ويحرم عليه نكاحُها أبدًا، ويحل له النظر إليها والخلوة بها، والمسافرة معها، ولا يترتب عليه أحكامُ الأمومة من كل وجه، فلا توارث ولا نفقةَ ولا عتقَ بذلك بالملك، ولا تردُّ شهادتُه لها، ولا يَعْقِلُ عنها، ولا يسقط عنهما القصاص بقتلهما، ومن ذلك انتشار الحرمة بين المرضعة وأولاد الرضيع، وبين الرضيع وأولاد المرضعة، وحرمة الرضاع بين الرضيع وزوج المرضعة، ويصير الرضيعُ ولدًا له، وأولادُ الرجل إخوةَ الرضيعِ، وإخوةُ الرجل أعمامَ الرضيع، وأخواتُه عمَّاتِه، ويكون أولاد الرضيع أولادَ الرجل[6].
3- حب الخير والمسارعة إليه من الصحابيات رضي الله عنهن.
4- حب الخير للقريب.
5- بيان الحلال من الحرام، في وقت الحاجة إليه دون تأخير؛ حتى ينتبه المسلم ويأخذ حذرَه، وحتى لا يقَعَ في المحظور.
6- وجوب التثبُّتِ من الأخبار وصحتها قبل نقلها.
7- الحوار الهادف المثمِرُ بين الزوج والزوجة، وهو من أنجع السبل في دوام المحبة، ووَأْدِ المشاكل قبل تَفاقُمِها.
8- يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب.
9- جواز التغليظ في النصيحة وقت الحاجة.
10- الحث على التعدد لمن كان متزوجًا بواحدة.
11- مشروعية عرض الزواج على مَن يُوثَقُ في دينه وأمانته، ويكون الزواج منه مطلبًا ومكسبًا.
12- الكافر لو مات فإنه لن يلقَى خيرًا، بل النار مثواه.
13- الرؤيا يُستأنس بها، ولا يؤخذ منها حكم.
[1] مُخْلِيَة؛ أي: منفردة بك، ولست متفرِّغة ولا خالية من ضرَّة؛ فتح الباري 1 /114، 9 /143.
[2] ثويبة: مولاة أبي لهب، أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم، اختلف في إسلامها. أسد الغابة؛ لابن الأثير 1 /1323، الإصابة؛ لابن حجر 7 /548.
[3] البخاري 5101.
[4] البخاري 3883، مسلم 209.
[5] فتح الباري 9 /145 - 146؛ بتصرف.
[6] عمدة القاري؛ للعيني 29 /242 - 243.