بداية يجب ان نذكر ان توافر المقومات الروحية والعلمية التي سبق ذكرها للمرأة الصوفية في القرن السادس الهجري وماتلاه جعلها مؤهلة لأن تتولي مشيخة العديد من الطرق والربط بل وكان لها طريقة في التصوف أخذها عنها الرجال مثلما عرف عند كبار شيوخ الصوفية المشهورين ومن شواهد ذلك علي سبيل المثال لا الحصر :
1-صفية الزاهد ت918 هجرية
وهي من عابدات فارس ، اعتقدت بها جماعة من معاصريها لما اشتهرت به من التقوي والصلاح ، وصار لها مريدون اقتدوا بها .(1)
2-فتحون البزارية ت991هجرية
وهي كما ذكر عنها انها صوفية صالحة أخذ عنها التصوف أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن سيدي بصري امام المسجد الأعظم بمكناس ت991 هجرية ، كما اخذت عنها العابدة ( مريم بنت المعود الأندلسية )(2)
3-فاطمة بنت المثني 618 هجرية
كانت حية في هذا التاريخ وذكر النبهاني أن بن عربي تتلمذ علي يديها ومعه عدد من صوفية الأندلس وكانت تفضله عليهم جميعا ، لانه كما ذكرت : " يدخل عليها بكليته " اي أنه لايتلفت الي الخواطر التي تجعل المرء يفكر بأهله وماله وأغراضه مما ساعده علي تقدمه في سلوك الطريق .
ويصفها بن عربي بقوله : " خدمتها سنتين وهي تزيد في خدمتي اياها علي خمس وتسعين سنة وكنت أستحي أن أنظر الي وجهها وهي في هذه السن من حمرة خديها وحسن نعتها وجمالها تحسبها بنت أربع عشرة سنة ، وكان لها حال مع الله تعالي ، وكانت تؤثرني علي كل من يحضر أمثالي "
وكان ابن عربي قد بني كوخا في أرياض أشبيلية ليعيش بالقرب من هذه المرأة الصالحة عيشة العزلة والزهد ولينهل من تعاليمها وليشاهد عن قرب الحياة الروحانية التي تعيشها وكانت تقول له : " أنا أمك الالهية ونور أمك الترابية "(3) اي انها أمه التي تدله علي الطريق الي الله والسعي لمرضاته وان لم تلده فاعتبرته بمثابة الابن لها .
4- فاطمة النيسابورية ت223 هجرية
اشتهرت بتفسير القرآن الكريم وقد أثني عليها ( أبو يزيد البسطامي ت261هجرية ) وكان مداوما لزيارتها وقد أثني عليها قائلا : " ما رأيت في عمري الا رجلا وامرأة ، والمرأة هي : فاطمة النيسابورية ما أحدثها عن مقام من المقامات الا وكان الخبر لها عيانا " . كما كان ( ذو النون المصري ) يسألها العديد من المسائل ويقول : انها أستاذي ، وهو الصوفي الكبير(4)
فكثيرا هي الشواهد الدالة علي اتيان الناس اليها يستفتونها بل ذهاب كبار الصوفية اليها ايضا حين اختلافهم حول مسألة ما مطمئنين الي رايها ،فبالاضافة لما سبق من نماذج حول هذا الشأن نذكر أنه حين اختلف كبار الصوفية حول معني الولاية قرروا أن يأتوا العابدة ( أمة الجليل بنت عمرو العدوية )
المرأة العابدة ومشيخة الربط والزوايا والتكايا
كان الرباط والزاوية والتكية علي علاقة لاتنفصم مع الخانقاه(5). ووكانت الخانقاه تعد اول العهد بمشيخة المشايخ ، حيث انشا صلاح الدين دار ( سعيد السعداء ) لتكون مقرا للمشيخة الصوفية العامة بحيث تستوعب أنشتطتها المختلفة وسميت باسم الخانقاه ، وكان الصوفية قبل قبل هذا طوائف وفصائل يقيمون شعائرهم بالزوايا الخاصة والربط ، ولانهم مسئولون عن الدعوة الي الله فقد أنشأت هذه الخانقاوات لتقوم بتربية الدعاة وتأسيسهم علميا وفقهيا وخلقيا حتي تحولت او صاحبها المدارس مع تطور الزمن ، وأشهرها المدرسة الصالحية ومدرسة السلطان حسن (6)
وقد تولت المرأة العابدة مشيخة الكثير من هذه الخانقاوات مع تفقهها بفقه المذاهب الاسلامية كشرط في شيخ الخانقاه بالاضافة الي أن يكون معروفا بالتقوي وسعة العلم .
أما بالنسبة للرباط فكما ذكر المقريزي بانه دار يسكنها أهل طريق الله وقيل لكل ثغر يدفع اهله عمن وراءهم رباط ، وكان المرابطون يؤهلون دينيا وروحيا بجانب تدريبهم عسكريا.وقد مورست وظيفة التصوف في هه الابنية جميعا من خانقاواه وزوايا وتكايا وربط (7)
ولم تقتصر الأربطة في الاسلام علي أربطة الرجال فقط ، وانما كان هناك من الأربطة ماخصص للنساء وكانت هذه بمثابة دور لكفالة البنات والنساء من اليتامي والأرامل والمطلقات اللاتي لم يكن لهن عائل ، وقد تولت المراة الصوفية مشيخة الرباط بل كانت من الوظائف التي مارستها المرأة في مصر ولاسيما في العصر المملوكي (8).
وكان الرباط يؤدي دورا تعليميا ودينيا واجتماعيا وممن تولين مشيخة الرباط :
( تذكار باي خاتون ) ابنة الظاهر بيبرس وقد أوقفت علي رباط البغدادية للشيخة الصالحة ( زينب بنت أبي البركات ت 684 هجرية ) والتي أنزلت في الرباط ومعها النساء التي تعظهن وتفقههن كذلك كان في الرباط النساء اللاتي طلقن أو هجرن حتي يتزوجن أو يرجعن لأزواجهن ، صيانة لهن لما كان فيه من شدة الضبط وغاية الاحتراز والمواظبة علي وظائف العبادات (9)
( فاطمة بنت عبدا القادر ت966 هجرية )استلمت مشيخة الخانقتين العادلية والزجاجية معا .و ( ست العلماء ت 712 هجرية )تولت مشيخة درب المهراني بالقاهرة ، واستلمت ( عائشة بنت عبد الله ت 837 هجرية )مشيخة الرباط بمكة ، و ( حجاب بنت عبد الله ت725 هجرية ) مشيخة رباط بغداد (10)
و ( زينب البغدادية والتي كان لها رباط بالقاهرة اسمه رباط البغدادية وكانت تعظ فيه النساء وتذكرهن وتفقههن بامور الدين (11)
و ( فائدة الشيخة ت 872 هجرية )تولت مشيخة رباط الظاهرية اسفل مكة وكانت من ربات الوعظ والارشاد والبر والاحسان .... الي ماهنالك من نماذج عديدة في هذا الصدد وكلهن جمعن بين العلم الشرعي والصلاح والعبادة (12)
الدور الجهادي للعابدات المسلمات
كما سبق ذكره من أن الرباط كان يمثل مكانا لشحن الطاقات الروحية والبدنية للاقبال علي الدفاع عن ارض الاسلام في ثبات وعزم وانه لم يكن قاصرا علي الرجال بل النساء ايضا فمن هؤلاء علي سبيل المثال لا الحصر :
( لالا فاطمة تسومر الزواوية الجزائرية ولدت عام 1246 هجرية )بقرية آيت سوارخ حيث كان والدها شيخ زاوية أحمد أفريان فنشأت لالا في اسرة تنتمي الي احدي الطرق الصوفية الجزائرية الرحمانية ، وفي السادسة عشرة من عمرها تخلت عن لباس الحرير وآثرت التنسك والانقطاع للتبتل والعبادة ، وحينما توغل الاستعمار الفرنسي الي أرض زواوة وحصلت معارك عديدة بين الجيش الفرنسي والمجاهدين الجزائريين ، انضمت لالا فاطمة الي المجاهد محمد بن عبد الله ، وأخذت تحرض شيوخ الزوايا والمقدمين مع أتباعهم علي قتال الفرنسيين وعملائهم لاسيما ( سي الجودي ) الذي طعنته لالا فاطمة وسط المعركة وأردته قتيلا ، وقد تزعمت لا لا فرقة من الفتيات والنساء الجزائريات اللاتي يقاتلن العدو جنبا الي جنب مع الرجال ويساعدن ويساعدن بنقل الزاد والعتاد الحربي ويواسين الجرحي ، وقد تمكنت من الحاق عدة هزائم بالجيش الفرنسي الذي أعاد الكرة بخمس وأربعين الفا من الجنود ضد جيش لالا المكون من سبعة الاف من المقاتلين والمقاتلات ، وبعد معارك طاحنة أسرت لا لا فاطمة مع مائتين من النساء واقتيدت الي المعتقل حيث ظلت نحو 7 سنوات منقطعة للعبادة والتبتل حتي وافاها الاجل داخل المعتقل عام 1280 هجرية (13)
المراجع :
1-أعلام النساء ، ج2 / 337 ومابعدها
2-المرجع السابق ج4 / ص 156
3- جامع كرامات الأولياء : للنبهاني ، ج2 / ص 435: 437
4- الطبقات : للشعراني ، ج1 / ص66
5- الخانقاه كلمة فارسية معناها بيت ، والخوانق بدأت في الاسلام في حدود عام 400 هجرية ونجعلت لتفرغ الصوفية فيها لعبادة الله ، وكانت أول خانقاه عملت بمصر وعرفت بدويرة الصوفية ونعت شيخا بشيخ الشيوخ وكان سكانها من الصوفية ويعرفون بالعلم والصلاح وولي مشيختها الأكابر والأعيان ، فكان شيوخا الأوائل من حملة علوم الشريعة يمتازون بعلوم التزكية وتصفية النفس . وقد شارك صوفية هذه الخانقاوات في حياة المجتمع العلمية وساعد ذلك في الاقبال الكبير عليها ، الي ان انحط امرها في آخر المطاف ويذكر المقريزي حال الصوفية في عهده قائلا : وتلاشي حال الصوفية ومشايخها الآن حتي صاروا من سقط المتاع لاينسبون الي علم ولا ديانة ( الخطط للمقريزي ، ص 28 ومابعدها )
6- خانقاوات الصوفية في مصر : عاصم محمد رزق ، ص28 ومابعدها
7- المرجع السابق ، ص 98
8- المرجع السابق ، ص 100
9- الخطط المقريزية ، ج2 / 428
10- الدرر الكامنة لابن حجر ج2 ،ص 221 ، الوفيات : للسلامي ج1 / 367 ، ص 77
11- الخطط المقريزية ج4/ ص 293
12- اعلام النساء ، ج4 / 13
13-عبد الرحمن الجيلالي : تاريخ الجزائر العام ج4 / ص 315-319