آية في كتاب الله تعالى استوقفتني وهي تصف حال الذين كذبوا رسل الله تعالى وأصروا على ذلك الضلال المبين رغم الإنذارات الكثيرة التي أنذرهم الله تعالى بها ليعودوا إلى الحق ويؤبوا عن كفرهم وعنادهم , وهي قوله تعالى في سورة الأنعام : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } الأنعام/42-43
قال ابن كثير رحمه الله : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ } يعني : الفقر والضيق في العيش { وَالضَّرَّاءِ } وهي الأمراض والأسقام والآلام { لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ أي: يدعون الله ويتضرعون إليه ويخشعون ... قال الله تعالى : { فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا } أي : فهلا إذ ابتليناهم بذلك تضرعوا إلينا وتمسكنوا إلينا { وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ } أي : ما رقت ولا خشعت { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي : من الشرك والمعاصي . تفسير ابن كثير 3/256
وإذا كانت هذه الآية الكريمة تتحدث عن أقوام كذبوا رسلهم وأصروا على كفرهم حسب ما هو منصوص عليه في كتب التفسير , فإنها نبهتني إلى شدة حاجة المسلمين اليوم إلى تدبرها والاتعاظ بها , فالبأس والكرب والابتلاء الذي نزل بساحة المسلمين في هذه الأيام , لا نرى ما يقابله من التضرع والتذلل والانكسار المطلوب إلى الله تعالى في مثل هذه الظروف والأحوال العصيبة التي تمر بها الأمة .
نعم ....قد تكون هناك فئة قليلة المسلمين يتضرعون إلى الله تعالى بالليل والنهار , ويتذللون بين يديه بالدعاء طالبين منه سبحانه أن يرفع المحنة ويكشف الغمة عن الأمة , إلا أن العدد الأكبر من المسلمين غافلين عن هذه الوسيلة الناجعة في رفع البلاء والنصر على الأعداء .
إن حقيقة الابتلاء - إن تعامل العباد معه بما أمر الله تعالى - منحة وعطاء , فالله تعالى يبتلي عبده ليسمع تضرعه , وهو سبحانه يحب صوت الملحين في الدعاء ، وأنين المتضرعين إليه في الضراء .
قال ابن القيم رحمه الله : " فالله يبتلي عبده ليسمع تضرعه ودعاءه والشكوى إليه , ولا يحب التجلد عليه , وأحب ما إليه انكسار قلب عبده بين يديه , وتذلله له وإظهار ضعفه وفاقته وعجزه وقلة صبره , فاحذر كل الحذر من إظهار التجلد عليه , وعليك بالتضرع والتمسكن وإبداء العجز والفاقة والذل والضعف , فرحمته اقرب إلى هذا القلب من اليد للفم " . من كتاب الروح 1/259
ومن هنا كان تضرع الأنبياء والمرسلين عليهم السلام والتجاؤهم إلى الله سمة بارزة في سيرتهم العطرة حين نزل بهم البلاء واشتد عليهم الكرب , فكان نداء نوح عليه السلام ربه أن ينجيه وأهله من الكرب العظيم , كما كان التجاء ابراهيم عليه السلام إلى الله وحده أن يجعل أفئدة من الناس تهوي إلى زوجه وولده , وافتقار أيوب عليه السلام أن يكشف الله ما نزل به من ضر , و استغاثة يونس عليه السلام في ظلمة جوف الحوت وقاع البحر أن ينجيه من الغم , كما كانت شكوى يعقوب عليه السلام لله وحده : { قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } يوسف/86 .
ويكفي أن يطالع أحدنا سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح من أمته , حتى يتأكد له التزامهم في البأساء والضراء و زمن المحن والابتلاءات بالتضرع وشدة الإلتجاء إلى الله سبحانه وتعالى .
فمع تضرع والتجاء الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى في كل أحواله , إلا أن شدة تضرعه وانكساره وإلحاحه على ربه باستجابة دعائه كانت في وقت الحروب والأزمات , ففي غزوة بدر الكبرى أكثر الرسول الكريم من التضرع إلى الله والإلحاح بالدعاء إليه سبحانه , ففي الحديث الصحيح عن عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلاَثُمِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً فَاسْتَقْبَلَ نَبِىُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ « اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِى مَا وَعَدْتَنِى اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِى اللَّهُمَّ إِنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ لاَ تُعْبَدْ فِى الأَرْضِ ». فَمَازَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ. وَقَالَ يَا نَبِىَّ اللَّهِ كَذَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّى مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ) فَأَمَدَّهُ اللَّهُ بِالْمَلاَئِكَةِ . صحيح مسلم برقم/4687
لم يكن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وحده من يتضرع إلى الله تعالى في وقت الشدة والمحنة والنوازل , بل كان الصحابة الكرام رضي الله عنهم يتضرعون إلى الله تعالى أيضا ويستغيثون به ، ويسألونه النصر والتأييد , وكتاب الله تعالى يؤكد ذلك ويؤيده : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِين } الأنفال/9 , قال الطبري رحمه الله : ومعنى قوله : { تستغيثون ربكم } : تستجيرون به من عدوكم ، وتدعونه للنصر عليهم . تفسير الطبري 13/409
وإذا استعرضنا سيرة خلفاء الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم , وجدنا أن التضرع إلى الله تعالى كانت السمة البارزة في خلواتهم في الشدائد والنوازل , ويكفي أن نذكر في هذا المقام حال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في عام الرمادة , فمع اتخاذه كافة التدابير الكفيلة بإنهاء المجاعة واحتوائها , من خلال استنفار عماله في الأمصار والكتابة إليهم ليرسلوا إلى المدينة الطعام والميرة , والإشراف بنفسه على إطعام الناس ومواساتهم ..... أضاف إلى هذه الأسباب المادية الضرورية شدة تضرعه إلى الله أن يكشف ما نزل بالمسلمين من محنة في ليله وخلوته .
فقد ورد أنه رضي الله عنه كان يتضرع إلى الله تعالى في كل ليلة أن يرفع البلاء ويكشف بأس المسلمين وكربهم , وقد ذكر ذلك عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ذلك بقوله : "كان عمر بن الخطاب أحدث في عام الرمادة أمراً ما كان يفعله ، لقد كان يصلي بالناس العشاء ، ثم يخرج حتى يدخل بيته ، فلا يزال يصلي حتى يكون آخر الليل ، ثم يخرج فيأتي الأنقاب ، فيطوف عليها ، وإني لأسمعه ليلة في السحر وهو يقول : اللهم لا تجعل هلاك أمة محمد على يدي" .
هذا هو حال السلف الصالح في أيام الشدة والكرب والمحنة , تضرع إلى الله تعالى والتجاء , وانكسار و تذلل بين يديه سبحانه , بعد الأخذ بكامل الأسباب بطبيعة الحال .
فهل حال المسلمين اليوم مع ما نزل بهم من بلاء و ضراء فيه اقتداء بما كان عليه الأنبياء والمرسلون عليهم السلام من تضرع وشدة التجاء إلى الله تعالى ؟! وهل نحن متأسون بالسلف الصالح من أمة خاتم الأنبياء ؟! أم إن التقصير في هذا الجانب شديد وظاهر رغم عِظم البلاء ؟!
الآية الكريمة تدعوا إلى ( التضرع ) ليرفع البأس ويلين القلب ... التضرع هو إلحاح وبكاء ، ذل وانكسار ، خشوع وخضوع ، إخبات واستغفار ، توسل وتوبه لله تعالى سبحانه .. حتى تخرج أمراض القلوب كلها ( فتلين )
غفلة العبد عن ربه من أسباب نزول البلاء فيصيبه به ليعود إليه ويتضرع بالدعاء فيلين قلبه وتلك علامة سعادة العبد ... هناك قلوب لاتلين إلا بالتأنيب !.. إذا حرمت من الإفتقار والتضرع لله فاعلم أن قلبك فيه قسوة . يقسو القلب بقدر انصرافه عن الضراعة ( ولكن قست قلوبهم) من لم تقربه الشدائد من الله فقلما تعيده النعم إليه .. وإذا لم يجعلك الابتلاء تخضع للمسأله والمسكنه إلى ربك ، فما انتفعت بالدرس !! .
تتابع المحن ينبغي أن يحفز الأمة لتوبة عامة وعودة لله تعالى وصراطه المستقيم ، كلمة (يارب) تختصر الدروب و تفرج الكروب .. فهنا السلامة والاطمئنان والنجاة ..وإلا فهي علامة على قسوة القلب ..
نحن بين حاليين تضرع أو قسوة ... تعرف عواقب الأمم من موقفها أمام الخطوب والمحن ، فإن تضرعت ولجأت لربها أفلحت فنجت وإن تمادت قست فهلكت . اللهم سلم سلم
عجيب أمر هذه المخلوق الضعيف ما دام في الأمن والاطمئنان فهو قليل الشكر قليل الذكر لا يتفكر فيما هو فيه و يحسب عواقبه بل يرتع ويلهو وكأنه أخذ ضمانات على استمرار هذه الحال وعدم تغيرها عليه، ولكن انظر إلى هذه المخلوق نفسه حين يمرض أو يفتقر أو يصيبه ما يكدر عليه صفوه. هنا يتنبه من غفلته ويندم على ماضيه وكيف قصر في حق خالقه الذي جعله يتقلب في هذه النعم وهكذا يعظم الندم وتقوى الحسرة حينما يكون الابتلاء عظيماً والصدمة كبيرة. ومن أجل ذلك نقول إن في المحن منحاً، فكم ربت من أقوام وكم غيرت من أجيال وكم نبهت من غافلين وأيقظت من راقدين وجمعت متفرقين وأصلحت من بطالين.
كم يكون في الحرمان عطاء وكم يكون في الابتلاء عطاء وكم يكون في الظلمة معرفة قدر النور. لو لم يكن في المحن إلا التذكير بالرجوع إلى المولى الرحيم والخالق العظيم وإحسان الظن به والوقوف بين يديه والالتجاء إليه في خضوع وذله وانطراح صادق يقطع العبد العلائق إلا مع الله ويتجاوز المعوقات ويصدق في دعائه وخضوعه ورجائه ويسأل ربه أن يبدل الله العسر يسراً والكرب فرجاً والضيق مخرجاً وصدق الله إذ يقول (أمَّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء) فالغافل يتذكر والشارد يتدبر والجاحد يتبصر والمؤمن الصادق يتفكر فيدفعه ذلك للعمل بجد وإخلاص وصبر.
قال أحد التابعين -وهو يبين اللجوء إلى الله في الشدائد-: ألم تركب البحر؟ قال: بلى فقال: فهل هاجت بكم ريح عاصف؟ قال :نعم، قال: ألم يتقطع أملك من كل أحد حتى الملاحين ووسائل النجاة الأخرى؟ قال: بلى، قال: هل خطر ببالك أن ينجيك أحد غير الله؟ قال: لا، قال: فالزم طاعته وأكثر من عبادته واصدق في لجؤوك إليه وصدق الله إذ يقول (قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعاً وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون) .
أفضل الدعاء أخفاه وأخشاه .. يحب الله دعاء الخفاء لانه لايناجيه منفردا إلا من هو موقن بقربه سبحانه.
(تدعونه تضرعا) لنستثمر أوقاتا بالتضرع إلى الله الكريم والتوسل إليه بأسمائه وصفاته بأن يجيب مادعوناه خاصة في هذه الأيام والعالم بأثره يتضرع إلى الله ..
قال الله للمشركين (قل من ينجيكم منها ..) من ينجيكم ؟؟ هل تسمعني ؟ كشف الله كربتهم مع علمه أنهم سيشركون !. فكيف مع كربة من قال[ لا إله إلا الله] ؟! عجبا لبعض المؤمنين كيف يعبث اليأس بقلوبهم !. أين اليقين بالله ؟! لاتزلزل قلبك المصاعب ، لايتسلل لروحك اليأس ، ستمضي المحن برحمة الله ، سينجيك ربك كما نجاك دوما ..
أول أبواب الفرج [اليقين] برحمة الله .. الله لايكتفي بأن ينجيكم مما تدعونه فقط بل (ومن كل كرب) فقد ينجيك من كرب لاتعلم أنك ستلاقيه بطريقك فيزيله ويبعده عنك وأنت لاتدري .. إنه الرحمن الرحيم
كان ابراهيم فتي في بيئة كافرة ولما بلغ الحلم أنكر علي أبيه وقومه اتخادهم الأصنام آلهة
والسؤال المتبادر مباشرة بعد انكار ألوهية الأصنام هو عمن يكون الاله الحق؛ والبيئة ليس فيها علم ليستدل به وليس فيها هدي وليس فيها كتاب منير؛ فليستدل بالكون والمخلوقات والآيات الكونية وبالتالي فإن استدلاله كان لطلب اليقين لنفسه
أنكر الباطل الذي عليه قومه؛فهذه أولي الخطوات في طريق الهداية ويقابلها أن ينير الله بصيرته ليريه ملكوت السموات والأرض ليستدل بها علي أنهن مفطورات؛ ويوجه وجهه للذي فطرهن ولا يشرك به شيئا
هل جربت الخروج في الليل لترى ملكوت السموات والأرض؟إنه سيزيد يقينك بربك{وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين}/ محمد الربيعة
( فَلَمَّا رَءَا ٱلشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّى هَٰذَآ أَكْبَرُ ۖ فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ يَٰقَوْمِ ... ) الشمس بعد شروقها تغيب وتأفل ، والعسر لن يدوم سوف يزول ويرحل، كلاهما سنة ربانية ، ثق بربك عزَّ وجلّ ./ عايض المطيري
(لا أحب الآفلين) لفتة جميلة معبرة ، فهو يشير إلى أن العلاقة بالإله علاقة حب قبل أن تكون التزام فحسب ، ومن يغيب عنك وقت حاجتك بدون عذر لايستحق محبتك .
(لئن لم يهدني ربي ..) لاتظن أن إمكاناتك العقلية أو ذكاءك الفطري سيهديك إلى الله .. لايهدي إلى الله سوى الله سبحانه .
في البداية استخدم النبي مصطلحاتهم في حال نقاشهم ليلفت انتباههم ، ثم أنكرها كلها وركز في الحقيقة الثابتة (إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض) الله ربي أعبده وأسير في الطريق إليه ..
(وحاجه قومه...) أخبرهم إبراهيم عليه السلام أنه اختار الكوكب ثم القمر ثم الشمس ربا يعبده ، ولم يجادله أحد .. ولما صدع بالتوحيد والإيمان بالله .. جادلوه !!..
الله ربي .. إنه الشعور بأن تمضي في طريقك لاتريد إلا وجه الله .. قرار عزيز ، من نفس عزيزة تعاهد ربا عزيزا أن لايكون السعي إلا إليه .. فكل الدروب مظلمة إلا دربك ياهادي ... يا الله
قول الله تعالى : ﴿ الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون )
----------------
﴿ الذين آمنوا ﴾ أي : وحدوا الله ، وأخلصوا له العبادة ، وآمنوا أن إلههم الحق . ﴿ ولم يلبسوا ﴾ لم يخلطوا ، ولبس الشيء بالشيء : تغطيته به ، وإحاطته به من جميع جهاته . ﴿ إيمانهم ﴾ توحيدهم . ﴿ بظلم ﴾ الظلم هنا المقصود به الشرك . ولذلك روى البخاري عن عبد الله بن مسعود قال : ( لما نزلت هذه الآية ﴿ ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ﴾ قلنا يا رسول الله ، أينا لا يظلم نفسـه ، فقال : " ليس الأمر كما تظنون ، إنما المراد به الشرك ، ألم تسمعوا إلى قول الرجل الصالح : إن الشرك لظلم عظيم " ) . ﴿ أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ﴾ قيل : ﴿ لهم الأمن ﴾ أي في الآخرة ، ﴿ وهم مهتدون ﴾ أي في الدنيا . وقيل : ﴿ لهم الأمن ﴾ أي الأمن الكامل إذا لم يأتوا بكبيرة ، ﴿ وهم مهتدون ﴾ أي في الدنيا إلى شرع الله بالعلم والعمل ، وفي الآخرة إلى الجنة .
كثيرٌ من النَّاس -اليومَ- يعيشون صُوَرًا مِن الرُّعب، والخوف.. والإرهاب.. والتَّرقُّب.. ولا يَعرِفون (سببًا) ظاهرًا لذلك كلِّه، وإنَّما هو شعورٌ داخليٌّ يُراوِدُهم، سواءٌ في طريقِهم وسُلوكِهم، أم في بيوتِهم و(بُروجِهم)، أم في حياتِهم ورَواحِهم ومجيئِهم!!
ولو نظرَ هؤلاء نظرةً عُلويَّة فاحِصةً؛ لَعَلِموا أنَّ السَّبب الرَّئيسَ في بُعدِهم عن الأمن وإغراقِهم في نقيضِه هو: تَنكُّبُهم سبيلَ الهداية، وتجنُّبهم طريقَ الالتزام بأحكامِ اللهِ -جلَّ شأنُه-:
يقولُ اللهُ -سبحانهُ-: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}.
فالأمنُ والهدايةُ قرينانِ لا يفترقان، إذا زال أحدُهما زال الآخرُ.. بل إذا رقَّ أحدُهما رقَّ الآخَر.
فالأمنُ الحقيقيُّ ليس بكثرةِ الجيوشِ والعساكر، وليس بوفرةِ الحرَسِ والسِّلاح.. إنَّما هو الأمنُ المنبعِثُ من الرُّوح المطمَئنَّة التي رضيتْ بالله ربًّا، وبالإسلامِ دِينًا، وبمحمَّد -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- نبيًّا ورسولًا.
فالأمن الحقيقيُّ -إذَن- هو «الأمنُ مِن المخاوِف والعذابِ والشَّقاءِ، والهدايةُ إلى الصِّراط المستقيم.
فإن كانوا لم يَلبِسوا إيمانَهم بِظُلمٍ مُطلَقًا -لا بِشركٍ، ولا بِمعاصٍ-؛ حصل لهم الأمنُ التَّامُّ، والهدايةُ التَّامَّة.
إحساس المؤمن أن الله يحفظه ويدافع عنه .. هو شعور لايقدر بثمن ! .
الأمن من أكبر نعم الله على عباده ، ونعمة الأمن خاصة بمن آمن .. الأمن في قلبه وحياته ودنياه وآخرته ... كلما زاد إيمانك زاد أمانك .
(نرفع درجات من نشاء) عندما أراد الله أن يرفع يوسف عليه السلام على عرش الملك ، بدأ به من قعر البئر ... فتأمل !! درجات الدنيا والآخرة هي بيد الله ، يرفع ويخفض . إن أردت رفعة فاسأله من فضله ، ولا تمد عينيك لما أعطى غيرك .
(وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم) ونحن نعلم أن إبراهيم عليه السلام (كان أمة) ... فلايملك الحجة والبرهان في نصرة الحق ودحض الباطل ، إلا من رفع الله درجاته إكراما وتوفيقا ، فمن أوتي القوة في المحاجة بالأدلة ، فقد بلغ مرتبة رفيعة من العلم .
(إن ربك حكيم عليم) عند الله تعالى كمال العلم وحسن الفعل والتدبير .. لم يخلق شيئا عبثا .. كل شيء عنده بمقدار وحكمة ، أوامره ونواهيه كلها حكمة ... لنغذ قلوبنا بالعلم والإيمان فإن رفع الدرجات والأقدار ، على قدر معاملة القلوب بتغذيتها الصحيحة والإيمان بالله الحكيم العليم ..