ثيرة هي تلك المصطلحات التي تمرُّ دون تمحيص كافٍ؛ حتى تغدو قواعد ومُسَلَّمات نَنطلق منها في تقرير الحق والباطل، ولَم يَدُر بذهننا إمكانيَّة كون المبدأ الذي ننطلق منه ونحتكم إليه خاطئًا، إننا في حاجة ماسَّة لتحرير المصطلحات، ووَضْع الأمور في نصابها دون إفراط أو تفريط.
ومن أهم المصطلحات التي تحتاج إلى تحرير مصطلحا: الهزيمة والنصر؛ لاختلال الموازين في تعيين كلٍّ منهما، فكثيرًا ما ننتصر ولا نُدرك أنَّ ذلك عين الهزيمة، وكثيرًا ما نَنهزم ونحزن، ولا نُدرك أنها مِنحة في مِحنة.
النصر لغة: إعانة المظلوم، نَصَرَه على عدوِّه يَنْصُرُه نَصْرًا[1].
فدلالة المصطلح تنصرف إلى إحقاق الحق، وإبطال الباطل، فالنصر - كل النصر - في إعانة المظلوم، ورَدِّ الاعتبار إليه، وليس نصرًا مَن انتزَع الحقَّ من أهله؛ ليعطي ما لا يَملك لِمَن لا يستحق، وليس نصرًا مَن اعتدى على أرضٍ وشعبٍ، يقضُّ مَضجعه، ويسرق من سِلاله، ويتحكَّم في أقوات الناس ومعاشهم، قُلْ عنه ما تشاء، لكنه ليس نصرًا، إنه عين الهزيمة، وأوَّل درجات الانحطاط الحضاري كما قال توينبي.
الهزيمة لغة: الكسر والفلُّ، يُقال للقِربة إذا يَبِسَت وتكسَّرت: تَهَزَّمَتْ، ومنه الهزيمة في القتال[2].
فالأمة إذا ضَعُف عزمها، وقلَّ نصيرها، ووَهَن الاستمرار على نهجها، فقد تكسَّرت وتهزَّمت، وأما مجرَّد الانكسار العسكري مع وجود العزم والمنهج، فليس بهزيمة، ولكنَّه دَرْسٌ قد نُفيد منه؛ لتحقيق نصرٍ أكبر، وقد لا نَعِيه، فتقع الهزيمة وقتها.
وعلى مستوى الأفراد، قد تكون الطاعة بتحريض من الشيطان؛ ليجد ثغرةَ غُرورٍ، أو لحظة غَفلة؛ ليدخل قلعة القلب، "وبدرهم واحد يوجد اللص حينئذ"، ورُبَّما كانت المعصية نعمة من الله، تُنبهك من غفلة، وتُلبسك خِلعة العبودية لله، فيَنشط القلب - ولا يزال كذلك - حتى يحطَّ رِحاله في الجنة.
فرُبَّ معصية تُدخل صاحبها الجنة، ورُبَّ طاعة تزجُّ بصاحبها في النار، واستحسان الرجل لأعماله السامية، قد يكون هو أوَّل أعماله السافلة، "فيا آدم، لا تَجزع من كأس زللٍ كانت سبب كيسك، فقد اسْتُخْرِج منك داءُ العُجب، وأُلْبِستَ خِلعة العبوديَّة"[3]؛ ولذلك قال تعالى: ﴿ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 19].
ورُبَّما كانت عِلَّة أو معصية سببَ الشفاء التام، وأوَّل خُطوة في طريق الطاعة، فَطِن شاعرنا المتنبي إلى ذلك، فهتَف يقول:
وليس النصر بمادة تَكسبها، أو مُتعة تحصِّلها، بل بخُطوة تَخطوها على طريق الرُّوح، فتَصنع بها نصرًا زمنيًّا ورُوحيًّا، وقد حاول إبليس اللعين تحويلَ نبيِّ الله عيسى عن هذا المسار، فقال: "أَلْقَيتُ به جائعًا في الصحراء لا يجد ما يطعمه، ولا يظنُّ أنه يجد، ولا يرجو أن يظنَّ، ثم قلت له: إن كنت رُوح القدس كما تزعم، فمُرْ هذا الحجر ينقلب خُبزًا، فقال: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، فمثل هذا لو مات جوعًا، لَم يتحوَّل؛ لأن الموت إتمام حقيقته السماوية فوق هذه الدنيا، فليس بالخبز وحده يحيا، بل بمعانٍ أخرى هي إشباع حقيقته السماوية التي لا شهوة لها"[4].
وتلك هي الحقيقة التي أعجَزته في نبيِّنا محمدٍ الذي كان يَبيت طاويًا ليقوم بين يدي الله يتهجَّد؛ لإشباع حقيقته السماوية التي لا شهوة دنيويَّة لها.
فليس هناك من فائدة أن نُحقِّق انتصارات مادية زائلة، طالَما أنَّ بإمكاننا أن نكسبَ انكسارات رُوحيَّة على طريق الله - عزَّ وجلَّ:
وتتَّضح الفكرة بتعريف الهزيمة عسكريًّا، وهي: "احتلال أرض العدو، أو إجباره على التسليم، وتغيير مواقفه الإستراتيجيَّة، والتراجع عن أهدافه ومبادئه، ولا تُقاس الهزائم بعدد القَتلى، وإنما بالنتائج المترتبة عليها"[5].
وإذا طبَّقنا هذا التعريف على أشهر الهزائم التي مُنِيَ بها المسلمون، وجَدنا أنها تنضمُّ لقائمة طويلة من الانتصارات، "ففي غزوة أُحد لَم يَستسلم المسلمون، ولَم يتراجعوا عن مبادئهم وأهدافهم، ولَم يقع أحد منهم في الأَسْر، ولَم يَجرؤ المشركون على مهاجمة المدينة، ولَم يَقدروا على مواصلة القتال، ولَم يأخذوا شيئًا من غنائم المسلمين، ولَم يُقيموا يومين أو ثلاثة في ساحة القتال كعادة المنتصر"[6]، بل كانوا أوَّل مَن غادَر أرض المعركة، وفرُّوا من المسلمين في اليوم التالي في حمراء الأسد، واغتال المسلمون بعدها خالد بن سفيان الهذلي، كما أجلى النبي يهودَ بني النضير من المدينة، أَبَعْدَ كلِّ هذه المكاسب نقول: إن أُحُدًا كانت هزيمة للمسلمين؟!
وما جرى للمسلمين في بلاط الشهداء 114هـ لا يقل أهميَّةً ونصرًا عن يوم أُحد، ولندع المجال للمفكر الفرنسي جوستاف لوبون يؤكِّد ذلك: "إنَّ النصر الذي أحْرَزه شارل مارتل في بواتيه، لَم يكن مهمًّا كما زعَم المؤرخون، بدليل عجز شارل مارتل عن استرداد أيَّة مدينة استولى عليها العرب عسكريًّا في فرنسا، وبدليل بقاء العرب بعد المعركة مدة قرنين في جنوب فرنسا".
ثم يتساءل: ماذا سيصيب أوروبا إذا انتصَر العرب؟ ثم يُجيب بنفسه قائلاً: "كان سيُصيب أوروبا النصرانيَّة المُتبربرة مثل ما أصابَ إسبانيا من الحضارة الزاهرة تحت راية النبي العربي".
ومن ثَمَّ يضع الأمور في نصابها من غير إفراط ولا تفريط، فيقول: "إنَّ النتيجة المهمة الوحيدة التي أسفَر عنها انتصار شارل مارتل هي أن جعَل العرب أقلَّ جُرأة على غزو شمال فرنسا، ونتيجة كهذه لا تكفي لتكبير أهميَّة انتصار هذا القائد الفرنجي"[7]، فكان هذا النصر أكبرَ هزيمة لأوروبا كلها، فيا ليتنا نَعي ذلك!
أيها المسلمون:
ليس هناك نصر وهزيمة مُطلقة، إنما تفكير الإنسان هو الذي يصوِّر النصر والهزيمة للإنسان، فنحن "نسقط لكي نَنهض، ونُهزم في المعارك لنُحرز نصرًا أروعَ، تمامًا كما ننام لكي نصحو أكثر قوَّة ونشاطًا"؛ كما قال براونبخ.
[1] لسان العرب؛ ابن منظور، دار المعارف، 6/ 4439.
[2] السابق نفسه، 6/ 4665.
[3] الفوائد؛ الإمام ابن القيِّم؛ تحقيق أحمد محمود خطاب، مكتبة الإيمان، المنصورة، القاهرة، الطبعة الأولى، 1999، ص 39.
[4] وحي القلم؛ مصطفى صادق الرافعي، الهلال، 2/ 182 وما بعدها.
[5] تاريخ العرب والإسلام في الجاهلية وعصر الرسول؛ د. محمد عبدالحميد الرفاعي، دار النصر، القاهرة، الطبعة الأولى، 2005، ص 208.
[6] الرحيق المختوم؛ صفي الرحمن المباركفوري؛ تحقيق السيد العربي، دار الخلفاء، المنصورة، مصر، 1995، ص 246.
[7] حضارة العرب؛ جوستاف لوبون؛ ترجمة عادل زعيتر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2000، ص 12.