منتدى قصة الإسلام

منتدى قصة الإسلام (http://forum.islamstory.com//index.php)
-   لغتنا العربية (http://forum.islamstory.com//forumdisplay.php?f=95)
-   -   قواعد قرآنية (50 قاعدة) للشيخ د. عمر بن عبدالله المقبل (http://forum.islamstory.com//showthread.php?t=123096)

امانى يسرى محمد 29-05-2020 05:48 PM

رد: قواعد قرآنية (50 قاعدة) للشيخ د. عمر بن عبدالله المقبل
 
القاعدة الثالثة : { وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ }




الحمد لله، وبعد:
فهذه قاعدة أخرى في مسرد موضوعنا الممتد: (قواعد قرآنية)، وهي قاعدة سامقة الفروع، باسقة الجذوع، لأنها من القواعد السلوكية التي تدل على عظمة هذا الدين، وشموله، وروعة مبادئه، إنها القاعدة التي دلّ عليها قوله تعالى:
{ وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ }، وهذه الآية الكريمة جاءت في سياق آيات الطلاق في سورة البقرة، يقول ربنا تبارك وتعالى:
{ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)}[البقرة].

والمعنى: أن الله تعالى يأمر من جمعتهم علاقة من أقدس العلاقات الإنسانية ـ وهي علاقة الزواج ـ أن لا ينسوا ـ في غمرة التأثر بهذا الفراق والانفصال ـ ما بينهم من سابق العشرة، والمودة، والرحمة، والمعاملة.

وهذه القاعدة جاءت بعد ذلك التوجيه بالعفو: { إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } كلُّ ذلك لزيادة الترغيب في العفو والتفضل الدنيوي.

وتأمل في التأكيد على عدم النسيان، والمراد به الإهمال وقلة الاعتناء، وليس المراد النهي عن النسيان بمعناه المعروف، فإن هذا ليس بوسع الإنسان.
وفي قوله: { إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } تعليل للترغيب في عدم إهمال الفضل، وتعريض بأن في العفو مرضاة الله تعالى، فهو يرى ذلك منا فيجازي عليه [التحرير والتنوير لابن عاشور بتصرف].

إن العلاقة الزوجية ـ في الأعم الأغلب ـ لا تخلو من جوانب مشرقة، ومن وقفات وفاء من الزوجين لبعضهما، فإذا قُدّر وآل هذا العقد إلى حل عقدته بالطلاق، فإن هذا لا يعني نسيان ما كان بين الزوجين من مواقف الفضل والوفاء، ولئن تفارقت الأبدان، فإن الجانب الخلقي يبقى ولا يذهبه مثل هذه الأحوال العارضة.

وتأمل في أثر العفو، فإنه: يقرّب إليك البعيد، ويصيّر العدو لك صديقاً، بل وتذكر ـ يا من تعفو ـ أنه يوشك أن تقترف ذنباً، فيُعفى عنك إذا تعارف الناس الفضل بينهم، بخلاف ما إذا أصبحوا لا يتنازلون عن الحق.

والله.. ما أعظم هذه القاعدة لو تم تطبيقها بين الأزواج، وبين كل من تجمعنا بهم رابطة أو علاقة من العلاقات.

لقد ضرب بعض الأزواج ـ من الجنسين ـ أروع الأمثلة في الوفاء، وحفظ العشرة، سواء لمن حصل بينهم وبين أزواجهم فراق بالطلاق، أو بالوفاة، أذكر نموذجاً وقفتُ عليه، ربما يكون نادراً، وهو لشخص أعرفه، طلق زوجته ـ التي له منها أولاد ـ فما كان منه إلا أسكنها في الدور العلوي مع أولاده الذين بقوا عندها، وسكن هو في الدور الأرضي، وصار هو الذي يسدد فواتير الاتصالات والكهرباء ويقوم تفضلاً بالنفقة على مطلقته، حتى إن كثيراً ممن حوله من سكان الحي لا يدرون أنه مطلق! وإني لأحسبه ممن بلغ الغاية في امتثال هذا التوجيه الرباني: { وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ }، نعم هذا مثال عزيز، لكني أذكره لأبين أن في الناس خيراً، وكما قال الحطيئة:

من يفعل الخير لا يعدم جوازيه * لا يذهب العرف بين الله والناس
أيها القراء الكرام:
دعونا نتوقف قليلاً عند موقف عملي ممن كان خلقَه القرآن صلى الله عليه وسلم، لنرى كيف كان يتمثل ويمتثل القرآن عملياً في حياته: وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - لما رجع من الطائف، بعد أن بقي شهراً يدعو أهلها، ولم يجد منهم إلا الأذى، رجع إلى مكة، فدخل في جوار المطعم بن عدي، فأمر أولاده الأربعة فلبسوا السلاح، وقام كل واحد منهم عند الركن من الكعبة، فبلغ ذلك قريشاً فقالوا له: أنت الرجل الذي لا تخفر ذمتك!
ومات المطعم مشركاً، لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينس له ذلك الفضل، فأراد أن يعبر عن امتنانه لقبول المطعم بن عدي أن يكون في جواره في وقت كانت مكة كلها إلا نفراً يسيراً ضد النبي صلى الله عليه وسلم، فلما انتهت غزوة بدر قال النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في أسارى بدرٍ :-
« لو كان المُطْعَمُ بنُ عَدِيٍّ حيًا ، ثم كلَّمني في هؤلاءِ النَّتْنَى ، لتركتهم لهُ » [صحيح البخاري:3139].

والمعنى: لو طلب مني تركهم وإطلاقهم من الأسر بغير فداء لفعلت، ذلك مكافأة له على فضله السابق في قبول الجوار، فصلوات الله وسلامه على معلم الناس الخير.

وإن في حياتنا صنوفاً من العلاقات ـ سوى علاقة الزواج ـ إما علاقة قرابة، أو مصاهرة، أو علاقة عمل، أو صداقة، أو يد فضل، فما أحرانا أن نطبق هذه القاعدة في حياتنا، ليبقى الود نهرًا مطردًا، ولتحفظ الحقوق، وتتصافى القلوب كبياض البدر بل أبهى، وكصفاء الشهد بل أنقى، وكرونق الزهر بل أعطر و أزكى، وإلا فإن مجانبة تطبيق هذه القاعدة الأخلاقية العظيمة، يعني مزيداً من التفكك والتباعد والشقاق، ووأداً لبعض الأخلاق الشريفة.

ومن العلاقات التي لا يكاد ينفك عنها أحدنا: علاقة العمل، سواء كان حكومياً أو خاصاً، أو تجارةً، فقد تجمعنا بأحد من الناس علاقة عمل، وقد تقتضي الظروف أن يحصل الاستغناء عن أحد الموظفين، أو انتقال أحد الأطراف إلى مكان عمل آخر برغبته واختياره، وهذا موضع من مواضع هذه القاعدة، فلا ينبغي أن ينسى الفضل بين الطرفين، فكم هو جميل أن يبادر أحد الطرفين إلى إشعار الطرف الآخر، أنه وإن تفرقنا ـ بعد مدة من التعاون ـ فإن ظرف الانتقال لا يمكن أن ينسينا ما كان بيننا من ود واحترام، وصفاء ووئام، وتعاون على مصالح مشتركة، ولذا فإنك تشكر أولئك الأفراد، وتلك المؤسسات التي تعبر عن هذه القاعدة عملياً بحفل تكريمي أو توديعي لذلك الطرف، فإن هذا من الذكريات الجميلة التي لا ينساها المحتفى به، وإذا أردتَ أن تعرف موقع وأثر مثل هذه المواقف الجميلة، فانظر إلى الأثر النفسي السلبي الذي يتركه عدم المبالاة بمن بذلوا وخدموا في مؤسساتهم الحكومية أو الخاصة لعدة سنوات، فلا يصلهم ولا خطاب شكر!

ومن ميادين تطبيق هذه القاعدة: الوفاء للمعلمين، وحفظ أثرهم الحسن في نفس المتعلم.
أعرف معلماً (هو الأستاذ عبدالعزيز بن إبراهيم الخريف من وجهاء حريملاء) من رواد التعليم في إحدى مناطق بلادنا من ضرب مثالاً للوفاء، إذ لم يقتصر وفاؤه لأساتذته الذين درسوه، بل امتد لأبنائهم حينما مات أساتذته ـ رحمهم الله ـ ويزداد عجبك حين تعلم أنه يتواصل معهم وهم خارج المملكة سواء في مصر أو الشام، فلله در هذا الرجل، وأكثر في الأمة من أمثاله.

ورحم الله الإمام الشافعي يوم قال: "الحر من حفظ وداد لحظة، ومن أفاده لفظة".

وفي واقعنا مواضع كثيرة لتفعيل هذه القاعدة القرآنية الكريمة { وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ }:
فللجيران الذين افترقوا منها نصيب، ولجماعة المسجد منها حظ، بل حتى العامل والخادم الذي أحسن الخدمة، ولهذه القاعدة حضورها القوي في المعاملة، حتى قال بعض أهل العلم: "من بركة الرزق أن لا ينسى العبد الفضل في المعاملة، كما قال تعالى: { وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ }, بالتيسير على الموسرين، وإنظار المعسرين، والمحاباة عند البيع والشراء، بما تيسر من قليل أو كثير، فبذلك ينال العبد خيراً كثيراً" [بهجة قلوب الأبرار:37].

إن الوفاء على الكرام فريضة * واللؤم مقرون بذي النسيان
وترى الكريم لمن يعاشر حافظا * وترى اللئيم مضيع الإخوان

نسأل الله تعالى أن يهدينا لأحسن الأخلاق والأعمال لا يهدي لأحسنها إلا هو، وأن يعيذنا من سيئها لا يعيذ منها إلا هو سبحانه.

امانى يسرى محمد 31-05-2020 07:10 AM

رد: قواعد قرآنية (50 قاعدة) للشيخ د. عمر بن عبدالله المقبل
 
القاعدة الرابعة : { بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ }


الحمد لله، وبعد:
فهذه مشكاة أخرى من موضوعنا الموسوم بـ (قواعد قرآنية)، نقف فيها مع قاعدة من قواعد التعامل مع النفس، ووسيلة من وسائل علاجها لتنعم بالأنس، وهي مع هاتيك سلّمٌ لتترقى في مراقي التزكية، فإن الله تعالى قد أقسم أحد عشر قسماً في سورة الشمس على هذا المعنى العظيم، فقال: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9)}[الشمس]، تلكم القاعدة هي قول الله تعالى:
{ بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)} [القيامة].

والمعنى: أن الإنسان وإن حاول أن يجادل أو يماري عن أفعاله و أقواله التي يعلم من نفسه بطلانها أو خطأها، واعتذر عن أخطاء نفسه باعتذارات، فهو يعرف تماماً ما قاله وما فعله، ولو حاول أن يستر نفسه أمام الناس، أو يلقي الاعتذارات، فلا أحد أبصر ولا أعرف بما في نفسه من نفسه.

وتأمل - أيها المبارك - كيف جاء التعبير بقوله: { بَصِيرَةٌ } دون غيرها من الألفاظ، لأن البصيرة متضمنة معنى الوضوح والحجة، كما يقال للإنسان: أنت حجة على نفسك. والله أعلم.

إن لهذه القاعدة القرآنية مجالات كثيرة في واقعنا العام والخاص، فلعلنا نقف مع شيء من هذه المجالات، علّنا أن نستفيد منها في تقويم أخطائنا، وتصحيح ما ندّ من سلوكنا، و ما كَبَتْ به أقدامنا، أو اقترفته سواعدنا، فمن ذلك:

1- في طريقة تعامل بعض من الناس مع النصوص الشرعية:
فلربما بلغ بعضَ الناس نصٌ واضح محكمٌ، لم يختلف العلماء في دلالته على إيجاب أو تحريم، أو تكون نفسه اطمأنت إلى حكمٍ ما، ومع هذا تجد البعض يقع في نفسه حرجٌ! ويحاول أن يجد مدفعاً لهذا النص أو ذاك لأنه لم يوافق هواه!
يقول إبن القيم رحمه الله: "فسبحان الله! كم من حزازة في نفوس كثير من الناس من كثير من النصوص وبودهم أن لو لم ترد؟ وكم من حرارة في أكبادهم منها، وكم من شجى في حلوقهم منها ومن موردها؟" [الرسالة التبوكية].

ولا ينفع الإنسان أن يحاول دفع النصوص بالصدر فالإنسان على نفسه بصيرة، وشأن المؤمن أن يكون كما قال ربنا تعالى: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء].

يقول ابن الجوزي، في كتابه الماتع الذائع الرائع (صيد الخاطر) يقول - رحمه الله - وهو يحكي مشاعر إنسان يعيش هذه الحال مع النصوص الشرعية:
"قدرتُ مرة على لذة ظاهرها التحريم، وتحتمل الإباحة، إذ الأمر فيها متردد، فجاهدت النفس فقالت: أنت ما تقدر فلهذا تترك، فقارِبِ المقدورَ عليه، فإذا تمكنتَ فتركتَ، كنت تاركاً حقيقة، ففعلتُ وتركتُ، ثم عاودت مرة أخرى في تأويل أرتني فيه نفسي الجواز - و إن كان الأمر يحتمل - فلما وافقتها أثّر ذلك ظلمة في قلبي، لخوفي أن يكون الأمر محرماً، فرأيت أنها تارةً تقوى عليّ بالترخص والتأويل، وتارةً أقوى عليها بالمجاهدة والامتناع، فإذا ترخصتُ لم آمن أن يكون ذلك الأمر محظوراً، ثم أرى عاجلاً تأثير ذلك الفعل في القلب، فلما لم آمن عليها بالتأويل،..." إلى أن قال رحمه الله: "فأجود الأشياء قطع أسباب الفتن، وترك الترخص فيما يجوز إذا كان حاملاً ومؤدياً إلى ما لا يجوز " [صيد الخاطر:152].

2- ومن مجالات تفعيل هذه القاعدة في مجال التعامل مع النفس:
أ - أن مِنَ الناس مَنْ شُغف - عياذاً بالله - بتتبع أخطاء الناس وعيوبهم، مع غفلة عن عيوب نفسه، كما قال قتادة في تفسيره لهذه الآية: { بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ } قال: "إذا شئت والله رأيته بصيراً بعيوب الناس وذنوبهم، غافلاً عن ذنوبه" [تفسير ابن جرير]، وهذا - بلا ريب - من علامات الخذلان، كما قال بكر بن عبدالله المزني: "إذا رأيتم الرجل موكلاً بعيوب الناس، ناسيا لعيبه، فاعلموا أنه قد مُكِرَ بِهِ".

ويقول الشافعي: "بلغني أن عبدالملك بن مروان قال للحجاج بن يوسف: ما من أحد إلا وهو عارف بعيوب نفسه، فعب نفسك ولا تخبىء منها شيئاً" [حلية الأولياء:9/146]، ولهذا يقول أحد السلف: "أنفع الصدق أن تقر لله بعيوب نفسك" [حلية الأولياء:9/282].

ب - ومن مواضع تطبيق هذه القاعدة: أن ترى بعض الناس يجادل عن نفسه في بعض المواضع - التي تبين فيها خطؤه - بما يعلم في قرارة نفسه أنه غير مصيب، كما يقول ابن تيمية في تعليقه على هذه الآية: { بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ } فإنه يعتذر عن نفسه بأعذار ويجادل عنها، وهو يبصرها بخلاف ذلك [مجموع االفتاوى:14/445].

ج - ومن دلالات هذه القاعدة الشريفة:
أن يسعى المرء إلى التفتيش عن عيوبه، وأن يسعى في التخلص منها قدر الطاقة، فإن هذا نوع من جهاد النفس المحمود، وأن لا يركن الإنسان إلى ما فيه من عيوب أو أخطاء، بحجة أنه نشأ على هذا الخلق أو ذاك، أو اعتاد عليه، فإنه لا أحد من الناس أعلم منك بنفسك وعيوبها وأخطائها وذنوبها، وما تسره من أخلاق، أو تضمره من خفايا النوايا.

وإليك هذا النموذج المشرق من حياة العلامة ابن حزم: حيث يقول في تقرير هذا المعنى: "كانت فيَّ عيوب، فلم أزل بالرياضة واطلاعي على ما قالت الأنبياء صلوات الله عليهم، والأفاضل من الحكماء المتأخرين والمتقدمين في الأخلاق وفي آداب النفس أعاني مداواتها، حتى أعان الله عز وجل على أكثر ذلك بتوفيقه ومنّه، وتمام العدل ورياضة النفس والتصرف بأزمة الحقائق هو الإقرار بها، ليتعظ بذلك متعظ يوماً إن شاء الله"، ثم ساق الإمام ابن حزم جملة من العيوب التي كانت فيه، وكيف حاول التغلب عليها، ومقدار ما نجح فيه نجاحاً تاماً، وما نجح فيه نجاحاً نسبياً [رسائل ابن حزم:1/354].

د- ومن مواطن استفادة المؤمن من هذه القاعدة:
أن الإنسان ما دام يدرك أنه أعلم بنفسه من غيره، وجب عليه أن يتفطن أن الناس قد يمدحونه في يومٍ من الأيام، بل قد يُفرطون في ذلك، وفي المقابل قد يسمع يوماً من الأيام من يضع من قدره بمنسم الافتراء، أو يخفض من شأنه، وربما ضُرِّس بأنياب الظلم والبغي، فمن عرف نفسه لم يغتر بمدحه بما ليس فيه، ولم يتضرر بقدحه بما ليس فيه، بل يفيد من ذلك بتصحيح ما فيه من أخطاء وزلات، ويسعى لتكميل نفسه بأنواع الكمالات البشرية قدر المستطاع.

وخاتمة هذه المجالات التي تناسب حديثنا هنا - ولعله من أشرفها -:
أن من أكبر ثمرات البصيرة بالنفس، أن يوفق الإنسان إلى الاعتراف بالذنب والخطأ، وهذا مقام الأنبياء والصديقين والصالحين، وتأمل في قول أبوينا - حين أكلا من الشجرة -:
{ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)}[الأعراف]،ثم من بعدهما نوح، وموسى، في سلسلة متتابعة كان من آخرها ما أثبته القرآن عن أولئك المنافقين الذين اعترفوا بذنوبهم فسلموا وتيب عليهم، قال تعالى:
{ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)} [التوبة] " فعلم أن من لم يعترف بذنبه كان من المنافقين " [الصارم المسلول:1/362].

أسأل الله تعالى أن يبصرنا بعيوبنا، وأن يقينا شحها.

ومع توديعة الختام أهمس:
أقرر بذنبك ثم اطلب تجاوزه * عنك، فإن جحودَ الذنب ذنبانِ

امانى يسرى محمد 03-06-2020 07:28 AM

رد: قواعد قرآنية (50 قاعدة) للشيخ د. عمر بن عبدالله المقبل
 
القاعدة الخامسة : { وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى }

الحمد لله، وبعد:

فهذا مَرسى آخر على جُودِيّ موضوعنا الأغر: (قواعد قرآنية)، نقف فيه مع قاعدة من قواعد التعامل مع غيرنا، ومن القواعد التي تعالج شيئاً من الأخلاق الرذيلة عند بعض الناس، تلكم القاعدة هي قوله تعالى: { ... وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61)} [طه].


وهذه الآية الكريمة، وضاءة المعنى، بديعة السبك والحبك، جاءت في سياق قصة موسى مع فرعون ـ الذي قضى حياته افتراء على الله ـ وسحرته الذين هداهم الله، يقول سبحانه وتعالى عن فرعون:

{ قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62)} [طه].


والافتراء يطلق على معانٍ منها: الكذب، والشرك، والظلم، وقد جاء القرآن بهذه المعاني الثلاث، وكلها تدور على الفساد والإفساد [مفردات الراغب:634].


قال ابن القيم: مؤكداً اطّراد هذه القاعدة: "وقد ضمن سبحانه أنه لا بد أن يخيب أهل الافتراء ولا يهديهم وأنه يستحتهم بعذابه أي يستأصلهم" [الصواعق المرسلة4/1212].

وإنك ـ أخي المتدبر ـ إذا تأملت هذه القاعدة وجدت في الواقع ـ وللأسف ـ من له منها نصيب وافر، وحظ حاضر سافر، ومن ذلك:


1ـ الكذب والافتراء على الله، إما بالقول عليه بغير علم بأي صورة من الصور، استمع لقول ربنا تعالى:

{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ ...(93)} [الأنعام].


وقد دلّ القرآن على أن القول على الله بغير علم هو أعظم المحرمات على الإطلاق، قال تعالى:

{ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33} [الأعراف]، وأنت إذا تأملت في هذا الأمر: وجدت أن المشرك إنما أشرك لأنه قال على الله بغير علم، ومثله الذي يحلل الحرام أو يحرم الحلال، كما حكاه الله تعالى عن بعض أحبار بني إسرائيل.


وكذا الذين يفتون بغير علم، هم من جملة المفترين على الله سبحانه وتعالى، قال تعالى:

{ وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116)} [النحل].

وكلُّ من تكلم في الشرع بغير علم فهو من المفترين على الله، سواء في باب الأسماء والصفات، أو في أبواب الحلال والحرام، أو في غيرها من أبواب الدين.


ولأجل هذا كان كثير من السلف يتورع أن يجزم بأن ما يفتي به هو حكم الله إذا كانت المسألة لا نص فيها، ولا إجماع، قال بعض السلف: "ليتق أحدكم أن يقول: أحل الله كذا وحرم كذا فيقول الله له كذبت لم أحل كذا ولم أحرم كذا" [إعلام الموقعين عن رب العالمين1/39]".


ولهذا لما كتب الكاتب بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب حكماً حكم به، فقال: هذا ما أرى الله أمير المؤمنين عمر، فقال: "لا تقل هكذا، ولكن قل: هذا ما رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب".


وقال ابن وهب: سمعت مالكاً يقول: "لم يكن من أمر الناس، ولا من مضى من سلفنا، ولا أدركت أحداً اقتدى به يقول في شيء هذا حلال وهذا حرام، وما كانوا يجترئون على ذلك، وإنما كانوا يقولون نكره كذا، ونرى هذا حسنا فينبغي هذا ولا نرى هذا" [إعلام الموقعين عن رب العالمين1/39].

فعلى من لم يكن عنده علم فيما يتكلم به أن يمسك لسانه، ويقبض مِقوَله، وعلى من تصدر لإفتاء الناس أن يتمثل هدي السلف في هذا الباب، فإنه خير مقالاً وأحسن تأويلاً.


2ـ ومن صور تطبيقات هذه القاعدة القرآنية:

ما يفعله بعض الوضاعين للحديث ـ في قديم الزمان وحديثه ـ الذين يكذبون على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويفترون عليه إما لغرض ـ هو بزعمهم ـ حسنٌ كالترغيب والترهيب، أو لأغراض سياسية، أو مذهبية، أو تجارية، كما وقع ذلك وللأسف منذ أزمنة متطاولة وأيام غابرة.

وليعلم كل من يضع الحديث على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه من جملة المفترين، فلن يفلح سعيه، بل هو خاسر وخائب كما قال ربنا: { وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى }، ولا ينفعه ما يظنه قصداً حسناً ـ كما زعم بعض الوضاعين ـ فإن مقام الشريعة عظيم الشَّأن، وجنابها مصون ومحترم، وقد أكمل الله الدين، وأتم النعمة، فلا يحتاج إلى حديث موضوع ومختلق مفترى، يُضلُّ ولا يكاد يبين، وليست شريعةٌ تلك التي تبنى على الكذب، وعلى منْ؟ على رسولها صلى الله عليه وسلم.

ومن المؤسف المقلق أن يُرى لسوق الأحاديث الضعيفة والمكذوبة رواجاً في هذا العصر بواسطة الإنِّترنت، أو رسائل الجوال، فليتق العبدُ ربَّه، ولا ينشرن شيئاً ينسب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يتثبت من صحته عنه.


3ـ ومن صور تطبيقات هذه القاعدة القرآنية الكريمة المشاهدة في الواقع:

ما يقع ـ وللأسف الشديد ـ من ظلم وبغي بين بعض الناس، وهذا له أسبابه الكثيرة، لعل من أبرزها الحسد ـ عياذاً بالله منه ـ والطمع في شيء من لعاعة الدنيا، أو لغير ذلك من الأسباب، ويَعْظُمُ الخطب حينما يُلبِّسُ بعضُ الناس صنيعه لبوسَ الدين، ليبرر بذلك فعلته في الوشاية بفلان، والتحذير من فلان بغياً وعدواناً.


ولقد وقفتُ على كثير من القصص في هذا الباب، منها القديم ومنها المعاصر، اعترف أصحابها بها، وهي قصص تقطع الكبد ألماً، وتفت الفؤاد فتًا، بسبب ما ذاقوه من عاقبة افترائهم وظلمهم لغيرهم، وكانت عاقبة كذبهم خسرا.


وكما قال الكيلاني:

الصدق من كرم الطباع وطالما * جاء الكذوب بخجلة ووجوم


وأكتفي من ذلك بهذين الموقفين، إذ في ذكرهما عظةٌ وعبرة:

1 ـ تحدثتْ إحداهن ـ وهي أستاذة جامعية ومطلقة مرتين ـ فقالت: حدثت قصتي مع الظلم قبل سبع سنوات، فبعد طلاقي الثاني قررتُ الزواج بأحد أقاربي الذي كان ينعم بحياة هادئة مع زوجته وأولاده الخمسة، حيث اتفقت مع ابن خالتي ـ الذي كان يحب زوجة هذا الرجل ـ اتفقنا على اتهامها بخيانة زوجها، وبدأنا في إطلاق الشائعات بين الأقارب، ومع مرور الوقت نجحنا، حيث تدهورت حياة الزوجين وانتهت بالطلاق.

وبعد مضي سنة تزوجت المرأةُ ـ التي طلقت بسبب الشائعات ـ برجل آخر ذي منصب، أما الرجل فتزوج امرأة غيري، وبالتالي لم أحصل مع ابن خالتي على هدفنا المنشود، ولكنا حصلنا على نتيجة ظلمنا حيث أصبت بسرطان الدم، أما ابن خالتي فقد مات حرقاً مع الشاهد الثاني، بسبب التماس كهربائي في الشقة التي كان يقيم فيها، وذلك بعد ثلاث سنوات من القضية.


2 ـ أما القصة الأخرى فيرويها شخص اسمه حمد: عندما كنت طالباً في المرحلة الثانوية حدثت مشاجرة بيني وبين أحد الطلاب المتفوقين، فقررت ـ بعد تلك المشاجرة ـ أن أدمر مستقبله، فحضرت ذات يوم مبكراً إلى المدرسة، ومعي مجموعة من سجائر الحشيش ـ التي كنا نتعاطاها ـ ووضعتها في حقيبة ذلك الطالب، ثم طلبت من احد أصدقائي إبلاغ الشرطة بأن في المدرسة مروجَ مخدرات، وبالفعل تمت الخطة بنجاح، وكنا نحن الشهود الذين نستخدم المخدرات.

يقول حمد هذا: ومنذ ذلك اليوم وأنا أعاني نتيجة الظلم الذي صنعته بيدي، فقبل سنتين تعرضت لحادث سيارة فقدت بسببه يدي اليمُنى، وقد ذهبت للطالب في منزله أطلب منه السماح، ولكنه رفض لأنني تسببت في تشويه سمعته بين أقاربه حتى صار شخصاً منبوذاً من الجميع، وأخبرني بأنه يدعو عليّ كل ليلة، لأنه خسر كل شيء بسبب تلك الفضيحة، ولأن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب فقد استجاب الله دعوته، فها أنا بالإضافة إلى يدي المفقودة أصبحت مقعداً على كرسي متحرك نتيجة حادث آخر، ومع أني أعيش حياة تعيسة، فإني أخاف من الموت لأني أخشى عقوبة رب العباد .

[نشرت هذه القصص في مقال للكاتب محمد بن عبدالله المنصور، بعنوان: (رسالة بلا عنوان!) في جريدة اليوم الإلكترونية، عدد:11854، الاثنين 26/10/1426هـ، الموافق:28/11/2005 م].


ومن صور تطبيقات هذه القاعدة في عصرنا:

ما يقع من بعض الكُتاب والصحفيين، الذين يعمي بعضَهم الحرصُ على السبق الصحفي عن تحري الحقيقة، والتثبت من الخبر الذي يورده، وقد يكون متعلقاً بأمور حساسة تطال العرض والشرف، وليتدبروا جيداً، هذه القاعدة القرآنية المحكمة:

{ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى }، والقاعدة المحكمة في باب الأخبار:

{ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ ...(6)} [الحجرات].


و مع الختام أهمس بقول القائل:

الصدق في أقوالنا أقوى لنا * والكذب في أفعالنا أفعى لنا

امانى يسرى محمد 05-06-2020 07:37 PM

رد: قواعد قرآنية (50 قاعدة) للشيخ د. عمر بن عبدالله المقبل
 



القاعدة السادسة : { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ }
الحمد لله، وبعد:
فهذه نسمة عنبرية، وزهرة عبهرية مع موضوعنا المرقوم بـ (قواعد قرآنية)، نقف فيها مع قاعدة من القواعد المهمة في بناء المجتمع، وربط أواصره، وإصلاحه، وتدارك أسباب تفككه، إنها قول ربنا العليم الخبير: { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } [النساء:128].
وهذه القاعدة القرآنية الكريمة، وردت مشرقة المعنى، مسفرة المبنى، في سياق الحديث عما قد يقع بين الأزواج من أحوال ربما تؤدي إلى الاختلاف والتفرق، وأن الصلح بينهما على أي شيء يرضيانه خير من تفرقهما، يقول سبحانه:
{ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)} [النساء].

ويمكننا القول: إن جميع الآيات التي ورد فيها ذكر الإصلاح بين الناس هي من التفسير العملي لهذه القاعدة القرآنية المتينة.
ومن المناسبات اللطيفة أن ترد هذه الآية في سورة النساء ، وهي نفس السورة التي ورد فيها قوله تعالى:
{ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)} [النساء].
يقول ابن عطية مؤكداً اطّراد هذه القاعدة: "وقوله تعالى: { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } لفظٌ عام مطلق، يقتضي أن الصلح الحقيقي ـ الذي تسكن إليه النفوس ويزول به الخلاف ـ خيرٌ على الإطلاق، ويندرج تحت هذا العموم أن صلح الزوجين على ما ذكرنا خير من الفرقة" [المحرر الوجيز ـ موافق للمطبوع:2/141].

ومعنى الآية باختصار [مختصر من كلام العلامة السعدي]:
"أن المرأة إذا خافت المرأة نشوز زوجها أي: تَرّفَعه عنها، وعدمِ رغبتِه فيها وإعراضه عنها، فالأحسن ـ في هذه الحالة ـ أن يصلحا بينهما صلحا، بأن تسمح وتتنازل المرأة عن بعض حقوقها اللازمة لزوجها على وجه تبقى مع زوجها، إما أن ترضى بأقل من الواجب لها من النفقة أو الكسوة أو المسكن، أو القسم بأن تسقط حقها منه، أو تهب يومها وليلتها لزوجها أو لضرتها، فإذا اتفقا على هذه الحالة فلا جناح ولا بأس عليهما فيها، لا عليها ولا على الزوج ، فيجوز حينئذ لزوجها البقاء معها على هذه الحال، وهي خير من الفرقة، ولهذا قال: { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ }".
يقول العلامة السعدي: "ويؤخذ من عموم هذا اللفظ والمعنى: أن الصلح بين من بينهما حقٌ أو منازعة ـ في جميع الأشياء ـ أنه خيرٌ من استقصاء كل منهما على كل حقه، لما فيها من الإصلاح وبقاء الألفة والاتصاف بصفة السماح.
وهو ـ أي الصلح ـ جائزٌ في جميع الأشياء إلا إذا أحل حراماً أو حرم حلالاً، فإنه لا يكون صلحاً، وإنما يكون جوراً.
واعلم أن كل حكم من الأحكام لا يتم ولا يكمل إلا بوجود مقتضيه وانتفاء موانعه، فمن ذلك هذا الحكم الكبير الذي هو الصلح، فذكر تعالى المقتضي لذلك ونبه على أنه خير، والخيرُ كلُّ عاقلٍ يطلبه ويرغب فيه، فإن كان - مع ذلك - قد أمر الله به وحث عليه ازداد المؤمن طلبا له ورغبة فيه.
وذكر المانع بقوله: { وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ } أي: جبلت النفوس على الشح، وهو عدم الرغبة في بذل ما على الإنسان، والحرص على الحق الذي له، فالنفوس مجبولة على ذلك طبعاً، أي فينبغي لكم أن تحرصوا على قلع هذا الخلق الدنيء من نفوسكم، وتستبدلوا به ضده وهو السماحة، وهو بذل الحق الذي عليك، والاقتناع ببعض الحق الذي لك.
فمتى وفق الإنسان لهذا الخلق الحسن، سهل حينئذ عليه الصلح بينه وبين خصمه ومعامله، وتسهلت الطريق للوصول إلى المطلوب، بخلاف من لم يجتهد في إزالة الشح من نفسه، فإنه يعسر عليه الصلح والموافقة، لأنه لا يرضيه إلا جميع ماله، ولا يرضى أن يؤدي ما عليه، فإن كان خصمه مثله اشتد الأمر" [تفسير السعدي].

ومن تأمل القرآن، وأجال فيه ناظريه، رأى سعة هذه القاعدة من جهة التطبيق، فبالإضافة إلى ما سبق ذكره من الإصلاح بين الأزواج، فإننا نجد في القرآن الحث على الإصلاح بين الفئتين المتقاتلتين، ونجده يثني ثناء ظاهراً على الساعين في الإصلاح بين الناس:
{ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء:114].

بل تأمل ـ أخي القارئ ـ في افتتاح سورة الأنفال، فإنك مبصرٌ عجباً، فإن الله تعالى افتتح هذه السورة بقوله:
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين (1)} [الأنفال] فلم يأت الجوابُ عن الأنفال مباشرة، بل جاء الأمر بالتقوى وإصلاحِ ذاتِ البين، وطاعةِ الله ورسوله، لأن إغفال هذه الأصول الكبار سببٌ عظيم في شر عريض، ولعل من أسرار إرجاء الجواب عن هذا التساؤل بيان أن التقاتل على الدنيا ـ ومنها الأنفال (وهي الغنائم) ـ سببٌ في فسادِ ذات البين، ولهذا جاء الجواب عن سؤال الأنفال بعد أربعين آية من هذا السؤال.
ولأهمية هذا الموضوع ـ أعني الإصلاح ـ أجازت الشريعة أخذ الزكاة لمن غرم بسبب الإصلاح بين الناس.

إذا تقرر هذا المعنى المتين والشامل لهذه الآية الكريمة { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ }، فمن المهم ـ حتى نفيد من هذه القاعدة القرآنية ـ أن نسعى لتوسيع مفهومها في حياتنا العملية، وأصدق شاهد على ذلك سيرة نبينا - صلى الله عيه وسلم - الذي طبق هذه القاعدة في حياته، وهل كانت حياته إلا صلاحاً وإصلاحا؟

وكما قال شوقي:
المصلحون أصابعٌ جمعت يداً * هي أنت، بل أنت اليدُ البيضاءُ

وبخصوص هذا الموضع الذي وردت فيه هذه القاعدة القرآنية العظيمة، طبق النبي - صلى الله عيه وسلم - هذه القاعدة وأجراها حينما كبرت زوجه أم المؤمنين سودة بنت زمعة رضي الله عنها، وقع في نفسه أن يفارقها، فكانت تلك المرأة عاقلة رشيدة، فصالحته على أن يمسكها وتترك يومها لعائشة، فقبل ذلك منها، وأبقاها على ذلك.

وإذا برحنا مطوفين إلى ميدان سيرته الفسيح - صلى الله عيه وسلم - فإنا واجدون جملةً من الأمثلة السامقة الرائقة، منها:

1- نموذج آخر في قصة بريرة ـ وهي أَمَةٌ قد أعتقتها عائشة رضي الله عنها ـ فكرهت أن تبقى مع زوجها، وكان زوجها شديد التعلق بها، حتى قال ابن عباس - رضي الله عنهما ـ كما في الترمذي ـ وهو يصف حب مغيث لبريرة: وكان يحبها، وكان يمشي في طرق المدينة ـ وهو يبكي ـ واستشفع إليها برسول الله صلى الله عيه وسلم، فقالت: أتأمر؟
قال: لا بل أشفع،
قالت: لا أريده.

فانظر كيف حاول صلى الله عيه وسلم أن يكون واسطة خير بين زوجين انفصلا، وشفع لأحد الطرفين لعله يقبل، فلم يشأ أن يجبر، لأن من أركان الحياة الزوجية الحب، والرغبة.

2ـ خرج مرة صلى الله عيه وسلم ـ كما في الصحيحين ـ من حديث سهل بن سعد: أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة، فأُخْبِرَ رسول الله صلى الله عيه وسلم بذلك، فقال: « اذهبوا بنا نصلح بينهم ».

وعلى هذه الجادة النبوية سار تلاميذه النجباء من أصحابه الكرام وغيرهم ممن سار على نهجهم، ومن ذلك:

3ـ خروج ابن عباس رضي الله عنه لمناظرة الخوارج ـ الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ـ فرجع منهم عدد كبير.
ومن قلّب كتب السير وتنقل بين ردهاتها ألفى نماذج مشرقة لجهود فردية في الإصلاح بين الناس على مستويات شتى، ولعل مما يبشر بخير ما نراه من لجان إصلاح ذات البين، والتي هي في الحقيقة ترجمة عملية لهذه القاعدة القرآنية العظيمة: { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ }.

فهنيئاً لمن جعله الله من خيار الناس، الساعين في الإصلاح بينهم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
ثم الصلاة على المختار سيدنا * وأفضل القول قول هكذا ختما



الساعة الآن 05:37 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Content Relevant URLs by vBSEO 3.3.0 , Designed & TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة لمنتدى قصة الإسلام