رد: قواعد قرآنية (50 قاعدة) للشيخ د. عمر بن عبدالله المقبل
القاعدة السابعة : { مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ }
الحمد لله، وبعد:
فهذا مَناخ ظليل بين أفنان وخمائل موضوعنا المحجّل، ذي الغرة البهية: (قواعد قرآنية)، نتفيأ فيه ظلال قاعدة من قواعد التعامل الإنساني، تلكم القاعدة هي ما دل عليها قوله تعالى: { مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ } [التوبة:91].
لقد وردت هذه القاعدة في سياق الحديث عن موقفٍ سجله القرآن لبيان أصناف المعتذرين عن غزوة تبوك ـ والتي وقعت في شهر رجب من السنة التاسعة من الهجرة ـ ومَنْ هم الذين يُعذرون والذين لا يُعذرون؟! يقول سبحانه وتعالى:
والمعنى: "ليس على أهل الأعذار الصحيحة من ضعف أبدان أو مرض أو زَمَانة، أو عدم نفقةٍ إثمٌ، بشرط لا بد منه، وهو: { إِذَا نَصَحُوا } أي: بنياتهم وأقوالهم سراً وجهراً، بحيث لم يرجفوا بالناس، ولم يثبطوهم، وهم محسنون في حالهم هذا، ثم أكد الرجاء بقوله: { وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [المحرر الوجيز ـ موافق للمطبوع:3/78، تفسير ابن كثير - دار الفكر:2/464].
وبما أن القاعدة المقررة عند أكثر أهل العلم هي: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهذا يعني توسيع دلالة هذه القاعدة القرآنية التي دل عليها قوله سبحانه: { مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ }، وهذا يدل على أن الأصل هو سلامة المسلم من أن يلزم بأي تكليف سوى تكليف الشرع، كما أن الآية تدل بعمومها أن الأصل براءة الذمة من إلزام الإنسان بأي شيء فيما بينه وبين الناس حتى يثبت ذلك بأي وسيلة من وسائل الإثبات المعتبرة شرعاً.
أيها المحب لكتاب ربه:
لقد كانت هذه الآية ـ ولا زالت ـ دليلاً يفزع إليه العلماء في الاستدلال بها في أبواب كثيرة في الفقه، خلاصته يعود إلى أنه "من أحسن على غيره، في نفسه أو في ماله، ونحو ذلك، ثم ترتب على إحسانه نقص أو تلف، أنه غير ضامن لأنه محسن، ولا سبيل على المحسنين، كما أنه يدل على أن غير المحسن - وهو المسيء - كالمفرط عليه الضمان" [تفسير السعدي:347].
وإذا تجاوزنا الجانب الفقهي الذي أشرتُ إليه بإجمال، فلنتلفت قليلاً إلى ميدان من الميادين التي نحتاج فيها إلى هذه القاعدة، ذلك أن حياتنا تحفلُ بمواقف كثيرة يُفْتَحُ فيها باب الإحسان، وتتاح لآخرين أن يحسنوا على غيرهم فيبادروا بتقديم خدمة ما، وأول هؤلاء هم أهل بيت الإنسان من زوجة أو زوج أو ولد، فمن المؤسف أن يتجانف البعض هداية هذه القاعدة القرآنية، فيلحقوا غيرهم اللوم والعذل، والعتاب الشديد، مع أنهم محسنون متبرعون، فيساهمون ـ بذلك ـ شعروا أم لم يشعروا بإغلاق باب الإحسان أو تضييق دائرته بين العباد.
أخي الموفق: تأمل هذا الصورة:
يسعى أحد الناس في محاولة إتقان عملٍ دعوي بناء، أو اجتماعي مصلح، أو عائلي مثمر، ويبذل فيه جهده، وربما يبذل ماله، ويسير بعزمات ووثبات، وهو في هذا الأثناء يطلب من غيره أن يساعده ويعينه على العمل فلا يجد مواسيا، ولا رفدا، ولا ساعدا مساعدا، فيمضي وحده، ويجتهد مثابراً لينجح العمل ويبدوا وضاح المحيا، متألق الطلعة، فإذا جاء موعد الإفادة من هذا العمل، وظهرت بعض الثغرات، وبعض النقص الذي لا يسلم منه عمل البشر، فإذا به ـ بدلاً من أن يقابل بالشكر والتقدير مع التنبيه على الأخطاء بأسلوب لطيف ـ يقابل بعاصفة من اللوم والعتاب، هي أشبه برمي الشرر، أو وخز الإبر، مع أن هذا الشخص قد يكون استنجد بغيره للمساعدة فلم يجد، فواصل العمل وحده، فلما حان أوان قطف الثمرة، لم يجد إلا اللوم والعتاب والسباب، بسبب قلة حيلته، وضعف قدرته، أليس هذا من أحق الناس بقوله تعالى: { مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ }؟!؟، ثم أو ليس أولئك خليقون أن يقال لهم:
أقلوا عليهم لا أبا لأبيكمُ * من اللوم، أو سدوا المكان الذي سدوا
وأمثال هذه الصورة تتكرر في مواقف أخر، في البيت، في المدرسة، في المؤسسة، وفي الشركة، في الدائرة الحكومية، وفي العمل الإعلامي، مع العلماء والدعاة، والمحتسبين، ومع غيرهم، فما أحوجنا إلى استشعار هذه القاعدة، وطريقة التعامل مع أوهام أو أخطاء المحسنين؛ لكي لا ينقطع باب الإحسان، فإنه إذا كثر اللوم على المحسنين والمتبرعين، وتقاعس من يفترض منهم العمل، فمن يبقى للأمة، ومن يوردها على العذب الزلال؟!
وهذا كلّه ـ بلا ريب ـ لا يعني عدم التنبيه على الأخطاء أو التذكير بمواضع الصواب التي يفترض أن ينبه عليها، ولكن المهم أن يكون ذلك بأسلوب يحفظ جهد المحسن، ولا يفوت فرصة التنبيه على الخطأ، ليرتقي العمل، ويزداد جودة وجمالاً، ونضرة ورواءً.
ومن المهم أيضاً ونحن نتحدث عن هذه القاعدة القرآنية، ألا نخلط بين ما تقدم وبين أن يلتزم الإنسان بشيءٍ ما، ثم يتخلى عنه، بحجة أنه محسن، فإن هذا من الفهم المغلوط لهذه القاعدة، ذلك أن الإنسان قبل أن يلتزم بوعد لطرف آخر فهو في دائرة الفضل والإحسان، لكن إن التزم بتنفيذ شيءٍ، والقيام به، فقد انتقل إلى دائرة الوجوب الذي يستحق صاحبه الحساب والعتاب، ولعل مما يقرب تصور هذا المعنى: النذر، فإن النذر إلزام المكلف نفسه بشيءٍ لم يكن واجباً عليه بأصل الشرع، كمن ينذر أن يتصدق بألف ريال، فهذا قبل نذره لا يلزمه أن يتصدق ولو بريال واحد، لكنه لما نذر، فقد التزم، فوجب عليه الوفاء، وهكذا ما نحن بصدده، وإنما نبهت على هذا لأن من الناس من أساء فهم هذه القاعدة، وطردها في غير موضعها، فصار ذلك سبباً في وجود النفرة بين بعض الناس، لأن أحد الطرفين اعتقد التزام الطرف الآخر، فاعتمد عليه ـ بعد الله ـ ثم تخلى ذلك الطرف عما التزم بحجة أنه محسن فوقع خلاف المقصود من باب الإحسان.
وبما تقدم من هذا الإيضاح، يتبين لك ـ أيها المؤمن الموقر لكلام ربه ـ عظمةُ هذا الكتاب العزيز، حيث تأتي الآية موجزة المبنى، معدودة اللفظ، ثم هي تزخر بمعانٍ آسرة، كبيرة المضمون، كثيرة الدلالة، غزيرة النبع، فيفيد منها العلماء الأجلاء، والمربون الأكفاء، وأمم من الناس تسقي من عيونها المتفجرة إشراقة وجزالة، وجلالة وفخامة، وإيجازا في إعجاز، { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا (82)} [النساء].
وصدق حسان - رضي الله عنه - حين قال:
لقد كان في القرآن لو كنت عالما * به مجدنا في محكمات البصائر
رد: قواعد قرآنية (50 قاعدة) للشيخ د. عمر بن عبدالله المقبل
القاعدة الثامنة : { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى }
أما بعد:
فالمسطور يبدئ ويعيد، في ثوب جديد، ويسفر بادي الحُسن وحروفه زكية، وسيماه: (قواعد قرآنية)، نقف فيه مع قاعدة من القواعد القرآنية العظيمة، التي تؤسس مبدأً شريف القدر، سامي الذرى، إنه مبدأ العدل، وهذه قاعدة طالما استشهد بها العلماء والحكماء والأدباء، لعظيم أثرها في باب العدل والإنصاف، تلكم هي ما دل عليها قوله تعالى: { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [الزمر: 7].
والمعنى: أن المكلفين إنما يجازون بأعمالهم إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، وأنه لا يحمل أحدٌ خطيئةَ أحد ولا جريرتَه، ما لم يكن له يدٌ فيها، وهذا من كمال عدل الله تبارك وتعالى وحكمته، ولعل الحكمة من التعبير عن الإثم بالوزر، لأن الوزر هو الحمل ـ وهو ما يحمله المرء على ظهره ـ فعبر عن الإثم بالوزر لأنه يُتَخّيَلُ ثقيلاً على نفس المؤمن [التحرير والتنوير لابن عاشور:5/293].
هذه القاعدة القرآنية تكرر تقريرها في كتاب الله تعالى خمس مرات، وهذا ـ بلا شك ـ له دلالته ومغزاه.
وإن هذا المعنى الذي دلت عليه القاعدة ليس من خصائص هذه الأمة المحمدية، بل هو عام في جميع الشرائع، تأمل قوله تعالى:
{ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ } [النحل:25]، لأن هذه النصوص تدل على أن الإنسان يتحمل إثم ما ارتكب من ذنوب، وإثم الذين أضلهم بقوله وفعله، كما أن الدعاة إلى الهدى يثيبهم الله على عملهم وعمل من اهتدى بهديهم، واستفاد من علمهم.
ولهذا لما اجتهد جماعة من صناديد الكفر في إبقاء بعض الناس على ما هم عليه من الكفر، أو حث من كان مؤمناً لينتقل من الإيمان إلى الكفر، أغروهم بخلاف هذه القاعدة تماماً، فقالوا ـ كما حكى الله عنهم ـ:
وإنك أخي المتوسم إذا تأملت في كلام العلماء في كتب التفسير والحديث والعقائد، والفقه، وغيرها رأيت عجباً من كثرة الاستدلال بهذه القاعدة في مواطن كثيرة، فكم من رأي نقضه فقيه بهذه الآية، بل كم مسألة عقدية صار الصواب فيها مع المستدل بهذه الآية، والمقام ليس مقام عرض لهذه المسائل، بل المقصود التنبيه على عظيم موقعها.
وإذا أردنا أن نبحث عن أمثلة تطبيقية لهذه القاعدة في كتاب الله، فإن من أشهر الأمثلة وأظهرها تطبيق نبي الله يوسف صلى الله عليه وسلم لها، وذلك أنه حينما احتال على أخذ أخيه بنيامين، بوضع السقاية في رحل أخيه ـ في القصة المعروفة ـ جاء إخوته يقولون كما قال عز وجل:
قارن هذا ـ بارك الله فيك ـ بقول فرعون حينما قال له كَهَنته: إنه سيولد من بني إسرائيل غلامٌ ستكون نهاية ملكك على يده! لقد أصدر مرسومه الظالم الآثم بقتل جميع من يولد من بني إسرائيل ـ وهم آلاف وربما أضعاف ذلك بعشرات ـ من أجل طفلٍ واحد فقط!! ولكن الذي كان يقول للناس: أنا ربكم الأعلى لا يستغرب منه هذا الأمر الخُسْر!
وفي الواقع ثمة أناس ساروا على هدي يوسف،،فتراهم لا يؤاخذون إلا من أخطأ أو تسبب في الخطأ، ولا يوسعون دائرة اللوم على من ليس له صلة بالخطأ، بحجة القرابة أو الصداقة أو الزمالة ما لم يتبين خلاف ذلك!
وفي المقابل فمن الناس من يأخذ المحسنين أو البرءاء بذنب المسيئين.
وإليك هذه الصورة التي قد تكرر كثيراً في واقع بيوتنا:
يعود الرجل من عمله متعباً، فيدخل البيت فيجد ما لا يعجبه من بعض أطفاله: إما من إتلاف تحفة، أو تحطيم زجاجة، أو يرى ما لا يعجبه من قِبَلِ زوجته: كتأخرها في إعداد الطعام، أو زيادة ملوحة أو نقصها، أو غير ذلك من الأمور التي قد تستثير بعض الناس، فإذا افترضنا أن هذه المواقف مما تستثير الغضب، أو أن هناك خطأً يستحق التنبيه، أو التوبيخ، فما ذنب بقية الأولاد الذين لم يشاركوا في كسر تلك التحفة مثلاً؟!
وما ذنب الأولاد أن يَصُبَّ عليهم جام غضبه إذا قصرت الزوجة في شيء من أمر الطعام؟!
وما ذنب الزوجة ـ مثلاً ـ حينما يكون المخطئ هم الأولاد؟!
ومثله يقال في علاقة المعلم والمعلمة مع طلابهم، أو المسؤول في عمله، بحيث لا ينقلوا مشاكلهم إلى أماكن عملهم، فيكون من تحت أيديهم من الطلاب والطالبات أو الموظفين ضحية لمشاكل ليس لهم فيها ناقة ولا جمل!!
هنا يستحضر المؤمن أموراً، من أهمها تذكر هذه القاعدة القرآنية العظيمة: { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } فإن هذا خيرٌ مآلاً وأحسن تأويلاً، وأقرب إلى العدل والقسط الذي قامت عليه السماوات والأرض.
وثمة فهمٌ خاطئ لهذه القاعدة القرآنية، وهو أن بعض الناس يظن أن هذه القاعدة مخالفة لما يراه من العقوبات الإلهية التي تعم مجتمعاً من المجتمعات، أو بلداً من البلاد، حينما تفشو المنكرات والفواحش والمعاصي، وسَبَبُ خطأ هذا الفهم، أن المنكر إذا استعلن به الناس، ولم يوجد من ينكره، فإن هذا ذنب عظيمٌ اشترك فيه كلُّ من كان قادراً على الإنكار ولم ينكر، سواءٌ كان الإنكار باليد أو باللسان أو بالقلب وذلك أضعف الإيمان، ولا عذر لأحد بترك إنكار القلب، فإذا خلا المجتمع من هذه الأصناف الثلاثة ـ عياذاً بالله ـ مع قدرة أهلها عليها استحقوا العقوبة، وإن وجد فيهم بعض الصالحين.
تأمل معي قول الله تعالى:
{ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)} [الأنفال]، يقول العلامة السعدي في تفسير هذه الآية: { وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً }: "بل تصيب فاعل الظلم وغيره، وذلك إذا ظهر الظلم فلم يغير، فإن عقوبته تعم الفاعل وغيره، وتقوى هذه الفتنة بالنهي عن المنكر، وقمع أهل الشر والفساد، وأن لا يمكنوا من المعاصي والظلم مهما أمكن" [تفسير السعدي:318].
ويوضح معنى هذه الآية الكريمة ما رواه الإمام أحمد: بسند حسن ـ كما يقول الحافظ ابن حجر [فتح الباري:13/4] ـ من حديث عدي بن عميرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله صلى الله عيه وسلم يقول: « إن الله عز وجل لا يعذب العامة بعمل الخاصة، حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم ـ وهم قادرون على أن ينكروه ـ فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة » [المسند:29/258/7720].
وروى الإمام أحمد: في مسنده [1/178] بسند جيد عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه خطب فقال: "يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها على غير ما وضعها الله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } [المائدة:105] سمعت رسول الله صلى الله عيه وسلم يقول: « إن الناس إذا رأوا المنكر بينهم فلم ينكروه يوشك أن يعمهم الله بعقابه »".
وفي صحيح مسلم عن زينب بنت جحش رضي الله عنها أنها سألت رسول الله - صلى الله عيه وسلم - فقالت له: يا رسول الله، "أنهلك وفينا الصالحون؟"
قال: « نعم إذا كثر الخبث ».
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة وفيرة، يضيق المقام بذكرها وعرضها، والمقصود إزالة هذا الإشكال الذي قد يعرض لبعض القارئين في فهم هذه القاعدة القرآنية، والله سبحانه وتعالى أعلم.
و قبيل أن أضع شباة القلم، أجره إلى قول المؤمل المحاربي:
قَد بَيَّنَ الله في الكتاب * فلا وازِرَةٌ غَيرَ وِزرِها تزرُ
رد: قواعد قرآنية (50 قاعدة) للشيخ د. عمر بن عبدالله المقبل
القاعدة التاسعة : { وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى }
هذه قاعدة من القواعد القرآنية العظيمة، التي هي أثر من آثار كمال علم الله وحكمته وقدرته في خلقه عز وجل، تلكم هي ما دل عليها قوله تعالى: { وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى }[آل عمران: 36].
وهذه الآية جاءت في سياق قصة امرأة عمران، والدة مريم -عليهما السلام -يقول تعالى: { إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم (36)}[آل عمران].
وخلاصة القصة:أن امرأة عمران قد نذرت أن يكون مولودها القادم خادما لبيت المقدس، فلما وضعت مولودها، قالت معتذرة: { وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى }؛لأن قدرة الذكر على خدمة بيت المقدس، والقيام بأعباء ذلك أكثر من الأنثى التي جبلها الله تعالى على الضعف البدني، وما يلحقها من العوارض الطبيعية التي تزيدها ضعفاً: كالحيض والنفاس ومن اللطائف في تركيب هذه القاعدة: أن الله تعالى قال: { وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى } مع أنه لو قيل: "وليست الأنثى كالذكر" لحصل المقصود،ولكن لما كان الذكر هو المقصود قُدّم في الذكر هنا،ولأنه هو المرجو المأمول؛فهو أسبق إلى لفظ المتكلم. ينظر: التحرير و التنوير: (3/87)..
ولقد بين القرآن هذا التفاوت بين الجنسين في مواضع كثيرة، منها:
قوله تعالى: { وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ }(البقرة: 228)، وذلك لأن الذكورة كمال خلقي، وقوة طبيعية، وشرف وجمال، والأنوثة نقص خَلْقي، وضعف طبيعي، كما هو محسوس مشاهد لجميع العقلاء، لا يكاد ينكره إلا مكابر في المحسوس، وقد أشار جل وعلا إلى ذلك بقوله:
{ أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18)}[الزخرف]؛ فالأنثى تنشأ في الحلية، أي: الزينة -من أنواع الحلي والحلل -لتجبر بذلك نقصها الخَلْقي (أضواء البيان (3/498) ط.الراجحي).
بل يقال: إن بعض ما جبل الله عليه الأنثى هو نوع من الكمال في حقها، وإن كان نقصاً في حق الرجال، "ألا ترى أن الضعف الخَلْقي والعجز عن الإبانة في الخصام عيب ناقص في الرجال، مع أنه يعد من جملة محاسن النساء التي تجذب إليها القلوب"(أضواء البيان: (3/501)).
هذا هو حكم الله القدري:أن الذكر ليس كالأنثى،
وهذا حكم الأعلم بالحِكَمِ والمصالح سبحانه وتعالى، هذا كلام الذي خلق الخلق، وعَلِمَ ما بينهم من التفاوت والاختلاف:
{ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)}[الملك]، وقد تفرع على ذلك:اختلاف بين الذكر والأنثى في جملة من الأحكام الشرعية -وإن كانا في الأصل سواء-.
وهذا الاختلاف في الأحكام الشرعية بين الذكر والأنثى راجع إلى مراعاة طبيعة المرأة من حيث خلقتها، وتركيبها العقلي، والنفسي، وغير ذلك من صور الاختلاف التي لا ينكرها العقلاء والمنصفون من أي دين، وليعلم المؤمن ههنا قاعدة تنفعه في هذا الموضع وفي مواضع كثيرة، وهي: أن الشرع لا يمكن أن يفرق بين متماثلين، ولا يجمع بين متناقضين، وشأن المؤمن الحق أن لا يعارض الشرع بعقله القاصر، بل شأنه أن يتلمس الحكم من وراء ذلك التفريق، أو هذا الجمع.
ومن توهم أنهما سواء فقد أبطل دلالة القرآن والسنة على ذلك:
أما القرآن فإن القاعدة التي نحن بصدد الحديث عنها دليل واضح على هذا.
وأما السنة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال (البخاري ح(5885) من حديث ابن عباس رضي الله عنه)، فلو كانا متساويين لكان اللعنُ باطلاً.
ولنتأمل شيئاً من حِكَمِ الله تعالى في التفريق بين الذكر والأنثى في بعض الأحكام الشرعية، ومن ذلك:
1 -التفريق في الميراث:
اقتضت سنة الله أن يكون الرجل هو الذي يكدح ويتعب في تحصيل الرزق، وهو الذي يطلب منه دفع الميراث، والمشاركة في دفع الدية -عند قيام المقتضي لذلك -فالذكر مترقب دوماً للنقص من ماله، بعكس الأنثى فهي دوماً تترقب الزيادة في مالها: حينما يدفع لها المهر، وحينما ينفق عليها من قبل وليها.
يقول العلامة الشنقيطي: "وإيثارُ مترقب النقص دائماً على مترقب الزيادة دائماً -لجبر بعض نقصه المترقب -حكمتُه ظاهرة واضحة، لا ينكرها إلا من أعمى الله بصيرته بالكفر والمعاصي"(أضواءالبيان: (3/500)).
2 -التفريق في الشهادة:
وهذا نصت عليه آية الدين:
{ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى...(282)}[البقرة]، كما دلت عليه السنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم،وبين أن سبب هذا هو نقصٌ في عقلها.
وهذا التفريق -لمن تأمله -عين العدل، يقول الشيخ السيد رشيد رضا- مبيناً هذا المعنى-: "إن المرأة ليس من شأنها الاشتغال بالمعاملات المالية ونحوها من المعاوضات، فلذلك تكون ذاكرتها فيها ضعيفة، ولا تكون كذلك في الأمور المنزلية -التي هي شغلها -فإنها فيها أقوى ذاكرة من الرجل، يعني أن طبع البشر ذكراناً وإناثاً أن يقوى تذكرهم للأمور التي تهمهم ويكثر اشتغالهم بها، ولا ينافي ذلك اشتغال بعض النساء الأجانب في هذا العصر الأعمال المالية فإنه قليل لا يعول عليه، والأحكام العامة إنما تناط بالأكثر في الأشياء وبالأصل فيها"(تفسيرالمنار: (3/104).انتهى.
ولا يظنن أحدٌ أن في ذلك انتقاصاً لقدرها، بل هو تنزيهٌ لها عن ترك مهمتها الأساسية في التربية والقرار في البيت، إلى مهمة أقل شأناً وسمواً، وهي ممارسة التجارة والمعاملات المالية!
وقد أشار فريق من الباحثين إلى أن المرأة الحامل ينكمش عندها حجم الدماغ، ولا يعود لحجمه الطبيعي إلا بعد أشهر من وضعها.
وليُ علم أن هذا الحكم -أعني كون شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل -ليس مطرداً في جميع الأبواب، بل إنها مثل الرجل في بعض الأحكام، كشهادتها في دخول شهر رمضان، وفي باب الرضاع، والحيض، والولادة، واللعان وغير ذلك من الأحكام.
ونحن بحمد الله مؤمنون بحكم الله وقدره، ولا تزيدنا البحوث الحديثة إلا يقيناً، ونقطع بأن أي بحث يخالف صريح القرآن فنتيجته غلط، وإنما أتي صاحبها من سوء فهمه.
وليس هذا التفريق بين الذكر والأنثى كله في صالح الرجل، بل جاءت أحكام تفرق بينهما تفريقاً لصالح المرأة -إن صحّت العبارة -، ومن ذلك: أن الجهاد لا يجب على النساء لطبيعة أجسادهن، فسبحان العليم الحكيم الخبير.
إذا تبين هذا؛ فعلى المؤمن أن يحذر من كلمة راجت على كثير من الكتاب والمثقفين، وهي كلمة "المساواة" في مقام الحديث عن موضوع المرأة، وهي كلمةٌ لم ترد في القرآن بهذا المعنى الذي يورده أولئك الكتاب، كقوله تعالى:
والصواب أن يعبر عن ذلك بالعدل؛ لأن الله تعالى يقول:
{ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ ...(90)}[النحل]، ولم يقل: يأمر بالمساواة! لأن في كلمة المساواة إجمالاً ولبساً بخلاف العدل، فإنها كلمة واضحة بينه صريحة في أن المراد أن يعطى كل ذي حق حقه.
إن دلالة العدل تقتضي أن يتولى الرجل ما يناسبه من أعمال، وأن تتولى المرأة ما يناسبها من أعمال، بينما كلمة مساواة: تعني أن يعمل كلٌ من الجنسين في أعمال الآخر!
ومدلول كلمة العدل: أن تعمل المرأة عدداً من الساعات يناسب بدنها وتكوينها الجسمي والنفسي، بينما مقتضى المساواة: أن تعمل المرأة نفس ساعات الرجل، مهما اختلفت طبيعتهما!
وهذا كلّه عين المضادة للفطرة التي فطر الله عليها كلاً من الرجل والمرأة!
ولهذا لما أصرت بعض المجتمعات الغربية على هذه المصادمة للفطرة، وبدأت تساوي المرأة بالرجل في كل شيء ذاقت ويلاتها ونتائجها المرة، حتى صرخ العقلاء منهم -رجالاً ونساء -وكتبَوا الكتب والرسائل التي تحذر مجتمعاتهم من الاستمرار وراء هذه المصادمة، ومن ذلك:
1 -ما قالته دافيسون - زعيمة حركة كل نساء العالم -: "هناك بعض النساء حطمن حياتهن الزوجية عن طريق إصرارهن على المساواة بالرجل، إن الرجل هو السيد المطاع، ويجب على المرأة أن تعيش في بيت الزوجية، وأن تنسى كل أفكارها حول المساواة"(العدوان على المرأة (ص102) فؤاد بن عبد الكريم).
2 -وهذه هيلين أندلين - وهي خبيرة في شؤون الأسرة الأمريكية - تقول: "إن فكرة المساواة- التماثل- بين الرجل والمرأة غير عملية أو منطقية، وإنها ألحقت أضراراً جسمية بالمرأة والأسرة والمجتمع"ا.هـ.(قضايا المرأة في المؤتمرات الدولية. فؤاد بن عبدالكريم: (ص278).
3 -أما رئيسة الجمعية النسائية الفرنسية - رينيه ماري - فتقول: "إن المطالبة بالمساواة الكاملة بين الرجل والمرأة تصل بهما إلى مرحلة الضياع، حيث لا يحصل أحد من الطرفين على حقوقه"ا.هـ (السابق (ص269)، ولو رجعنا إلى لغة الأرقام التي أجريت في بلاد الغرب لطال بنا المقام.
4- وهذه كلمات قالتها امرأة من أشهر دعاة الحرية والمساواة بين الرجل والمرأة في منطقة الخليج (الكاتبة ليلى العثمان):
"سأعترف اليوم بأنني أقف في كثير من الأشياء ضد ما يسمى بـ(حرية المرأة)، تلك الحرية التي تكون على حساب أنوثتها، على حساب كرامتها، وعلى حساب بيتها وأولادها، سأقول: إنني لن أحمّل نفسي– كما تفعل كثيرات – مشقة رفع شعار المساواة بينها وبين الرجل، نعم أنا امرأة!
ثم تقول: هل يعني هذا أن أنظر إلى البيت -الذي هو جنة المرأة -على أنه السجن المؤبد، وأن الأولاد ما هم إلا حبل من مسد يشد على عنقي؟
وأن الزوج ما هو إلا السجان القاهر الذي يكبّل قدمي خشية أن تسبقه خطوتي؟
لا، أنا أنثى وأعتز بأنوثتي، وأنا امرأة أعتز بما وهبني الله، وأنا ربة بيت، ولا بأس بعد ذلك أن أكون عاملة أخدم خارج البيت نطاق الأسرة، ولكن-ويا رب أشهد-!: بيتي أولاً، ثم بيتي، ثم بيتي، ثم العالم الآخر"(رسائل إلى حواء (3/85)) ،انتهى.
وبعد هذا كله: فماذا يقال عمن سوّى بين الذكر والأنثى، والذي خلقهما يقول: { وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى }؟
إنك لا تتعجب أن يقع الرد لهذا الحكم القدري من كفار أو ملاحدة، وإنما تستغرب أن يقع هذا من بعض المنتسبين لهذا الدين، والذين يصرحون في مقالاتهم وكتاباتهم بأن هذا الحكم كان في فترة نزول الوحي يوم كانت المرأة جاهلة لم تتعلم! أما اليوم فقد تعلمت المرأة، وحصلت على أعلى الشهادات!
وهذا الكلام خطير جداً،وقد يكون رِدّةً عن الدين؛ لأنه ردٌّ على الله تعالى، فإنه هو الذي قدَّر هذا الحكم، وهو الذي يعلم ما ستؤول إليه المرأة إلى يوم القيامة.
ثم إن التاريخ والواقع يُكذِب هذه المقولة من جهتين:
الأولى:
أن تكوين المرأة النفسي والبدني (الفسيولوجي) لم يتغير منذ خلق الله تعالى،فأمُنا حواء من ضلع أبينا آدم، وإلى أن يرث الله ومن عليها! ولم يربط الله تعالى ذلك بعلمٍ تتعلمه، أو بشهادة تحصل عليها.
والجهة الثانية لبيان خطأ هذه المقولة:
أن هذا الحكم يدخل فيه أمهات المؤمنين -رضوان الله عليهن -، وهن -بلا ريب -أعلم نساء هذه الأمة، وأتقاهن، ومن هي التي تبلغ عشر علمهن؟!
ومع ذلك لم تتعرض واحدة منهن على هذه الأحكام الشرعية التي سمعنها مباشرة من زوجهن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم،بل قابلن ذلك بالانقياد والتسليم، والرضى والقبول، وجرى على هذا الهدي من سار على نهجهن من نساء المؤمنين إلى يومنا هذا.
ولعلي أختم هذه القاعدة بهذه القصة الطريفة-التي سمعتها من أحد الباحثين، وهو يتكلم عن زيف الدعوى التي تطالب بفتح الباب للنساء؛ لكي يمارسن الرياضة كما يمارسها الرجال -يقول هذا الباحث وفقه الله:
إن أحد العدَّائين الغربيين المشهورين تعرّف إلى امرأة تمارس نفس رياض العدو، فرغب أن يتزوجها، وتمّ له ما أراد، لكن لم يمض سوى شهرين على زواجهما حتى انتهى الزواج إلى طلاق! فسئل هذا العدّاء: لماذا طلقتها بهذه السرعة؟! فقال: لقد تزوجت رجلاً ولم أتزوج امرأة!! في إشارة منه إلى القسوة في التمارين -التي تتطلبها رياضة العدو -أفقدتها أنوثتها، فأصبحت في جسم يضاهي أجسام الرجال، وصدق الله العظيم، العليم الخبير: { وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى }،
رد: قواعد قرآنية (50 قاعدة) للشيخ د. عمر بن عبدالله المقبل
القاعدة العاشرة : { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ }
إنها قاعدة جليلة قرآنية محكمة مؤكَّدة، تشع منها القدرة الإلهية؛ لتساند جند الإيمان في كل زمان ومكان، "ومعلوم أن نصر الله إنما هو باتباع ما شرعه: بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه ونصرة رسله وأتباعهم، ونصرة دينه وجهاد أعدائه، وقهرهم حتى تكون كلمته جل وعلا هي العليا، وكلمة أعدائه هي السفلى")(أضواءالبيان: (5/ 265))
إن هذه القاعدة العظيمة هي سنة من سنن الله تعالى الماضية مضي الليل والنهار، الراسخة رسوخ الجبال.
"وقوله سبحانه :{ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ } عطف على جملة { وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ }، أي أمر الله المسلمين بالدفاع عن دينهم، وضمن لهم النصر في ذلك الدفاع؛ لأنهم بدفاعهم ينصرون دين الله، فكأنهم نصروا الله؛ ولذلك أكد الجملة بلام القسم ونون التوكيد (التحريروالتنوير: (1/ 202)
وهذه القاعدة جاءت ضمن آيتني كريمتين، أبرزتا أسباب النصر، يقول تعالى:
ففي هاتين الآيتين الكريمتين وعد الله ُ بالنصر من ينصره وعدا مؤكدا بمؤكدات َمعنوية ولفظية:
أما المؤكدات اللفظية : فهي القسم َّ المقدُر ، لأن التقدير: ( والله لينصرن اللهُ من ينصره ) وكذلك اللام والنون في { وَلَيَنصُرَنَّ } كلاهما يفيد َ التوكيد
وأما التوكيد ُّ المعنوي: ففي قوله { إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } فهو سبحانه قوي َّلا يضعف وعزيز لا يذل ، وكل قوة وعزة ستضاده ستكون ذُلاً ً وضعفا
وفي قوله سبحانه: { وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } تثبيت للمؤمن عندما يستبعد النصر في نظره لبعد أسبابه عنده ، فإن عواقب الأمور لله وحَدُه َ ، يغيرِّ َ سبحانه ما شاء حسب ما تقتضيه حكمته (مجالس شهر رمضان (95) للعثيمين)
وهذه الجملة التي تضمنتها هذه القاعدة جاءت عطفا على جملة: { وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ } بالجهاد وإقامة الحدود { لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا } (( وفي الآية قراءتان: بتخفيف الدال (هُدِمَتْ) وبالتشديد على التكثير، فالتخفيف يكون للتقليل والتكثير والتشديد يختص بالتكثير، ينظر: تفسير البغوي (5 /389 )) .
فإن قيل: لم قدمت مساجد أهل الذمة ومصلياتهم على مساجد المسلمين؟ قيل: لأنها أقدم بناء. وقيل: لقربها من الهدم وقرب المساجد من الذكر، كما أخر السابق في قوله عز وجل: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) } [فاطر] ((ينظر: تفسير القرطبي (12 / 72))
وهذه هي معابد أهل الملل الكبرى ثم قال سبحانه بعد ذلك -مؤكدا هذه القاعدة والسنة الإلهية المطردة - : { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ }
والسؤال: كيف يكون نصر الله؟
وهل الله محتاج إلى نصره وهو الغني القوي العزيز؟
والجواب على ذلك: أن نصره يكون بنصرة دينه، ونصرة نبيه صلى الله عليه وسلم في حياته، ونصرة سنته بعد مماته ، وتتمة الآية التي بعدها تكشف حقيقة النصر الذي يحبه الله ُ، ويريده، بل هو النصر الكفيل باستمرار التمكين في الأرض، قال تعالى: { الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) [الحج]
لذا، ما نُصِرَ دين الله بأعظم من إظهار هذه الشعائر العظيمة:
ُالصلاة: التي هي صلة بين العباد وربهم، وبها يستمدون قوتهم الحسية والمعنوية، وراحتهم النفسية. ِ
وإيتاء الزكاة: فأدوا حق المال، وانتصروا على شح النفس، وتطهروا من الحرص، وغلبوا وسوسة الشيطان، وسدوا خلة الجماعة، وكفلوا الضعاف فيها والمحاويج، وحققوا لها صفة الجسم الحي ( في ظلال القرآن 4/2427)
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وفيه إصلاح لغيرهم، فالناس ما بين جاهل ٍ ، أو غافل، فهؤلاء يؤمرون بالخير ويذكرون به، أو عاص ومعاند فهؤلاء يُنهون عن المنكر.
فمتى ما علم الله من أي أمة من الأمم أو دولة من الدول أنها ستقيم هذه الأصول الأربعة من أصول التمكين؛ أمدها الله بتوفيقه، وعونه وإن تكالبت عليها الأمم، وفي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، ومن سار سيرتهم أصدق الشواهد وأنصعها.
أما إذا علم الله من أحوالهم أنهم إذا عادوا إلى الأرض ومكنوا فيها ما أقاموا صلاة ً ، ولا آتوا زكاة ً ، ولا رجحوا معروفا، ولا قبحوا منكرا، فإن الله تعالى يكلهم إلى أنفسهم، ويسلط عليهم عدوهم، أو يلبسهم شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض، وفي التاريخ عبرة!
وإنك لتعجب - بعد هذا الإيضاح الرباني لأصول النصر والتمكين- من أناس ينتسبون إلى الإسلام، كيف تنكبوا عنه؟ أم كيف استبدلوا به مذاهب لا دينية أصلاً؟ ّ ولا ينسى الناس قول أحد القياديين في منظمة التحرير الفلسطينية -لما أرادوا إعلان الدولة الفلسطينية -: نريدها دولة علمانية!
إن انتصار اليهود على هؤلاء أقرب؛ فهم أهل كتاب ودين وإن كانوا قتلة مجرمين. إن من يقرأ القرآن الكريم بأدنى تأمل، سيجد الحديث فيه ظاهرا وبينا عن أسباب ْ النصر وأسباب الهزيمة في مواطن متفرقة، وهي تحكي مواقف وقعت لأشرف جيش عرفته الدنيا، قائده محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجنوده الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
لقد تساءل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في أُحد عن سبب الهزيمة؟
المسلمون في بلدان كثيرة مضطهدون ً مهزومون، يعيشون ضعفا ً ويذوقون عجزا!
أين النسخ المكررة من يوم الفرقان في بدر الكبرى؟ ويوم الأحزاب؟ واليرموك؟ َ ونهاوند؟ أو يوم كُسرِ التتار حين غزوا بلاد الإسلام في أوائل القرن الثامن؟!
إنني حرصت أن أنقل إجابات أربعة من علماء الإسلام في القديم والحديث، ٍ ومن نواح متفرقة، من المغرب والمشرق؛ لنرى كيف ينظر هؤلاء العلماء إلى الداء والدواء:
يقول القرطبي (ت: 671هـ) مجيبا على هذا السؤال القديم في ضوء هذه القاعدة { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ }
هكذا يجب علينا نحن أن نفعل (أي أن ننصر دين الله) لكن الأعمال القبيحة والنيات الفاسدة منعت من ذلك حتى ينكسر العدد الكبير منا قدام اليسير من العدو كما شاهدناه غير مرة! وذلك بما كسبت أيدينا
وفي البخاري: قال أبو الدرداء: إنما تقاتلون بأعمالكم وفيه مسند (أي في صحيح البخاري حديث مسند) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
( هل تُرْزَقون وتُنْصَرون إلا بضُعَفائِكم ) ( صحيح البخاري ح 2896)
وفي رواية النسائي: إنَّما نصرَ اللَّهُ هذِه الأمَّةَ بضَعَفَتِهم بدعواتِهم وصلاتِهم وإخلاصِهم
، وله شاهد من حديث أبي الدرداء عند أحمد والنسائي بلفظ: إنما تُنصرونَ وتُرزقونَ بضعفائِكم
، قال ابن بطال : تأويل الحديث أن الضعفاء أشد إخلاصا في الدعاء، وأكثر خشوعا في العبادة؛ لخلاء قلوبهم عن التعلق بزخرف الدنيا . فتح الباري لإبن حجر 6/89))
فالأعمال فاسدة والضعفاء مهملون والصبر قليل والاعتماد ضعيف والتقوى زائلة، قال الله تعالى:
فهذه أسباب النصر وشروطه، وهي معدومة عندنا غير موجودة فينا! فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما أصابنا وحل بنا! بل لم يبق من الإسلام إلا ذكره، ولا من الدين إلا رسمه! لظهور الفساد ولكثرة الطغيان وقلة الرشاد، حتى استولى العدو شرقا وغربا برا وبحرا، وعمت الفتن وعظمت المحن! ولا عاصم إلا من رحم (تفسير القرطبي3 /255))
ويقول الإمام ابن تيمية (ت: 728 هـ) مشخصا الداء ومبينًا الدواء:
إذا كان في المسلمين ضعف، وكان العدو مستظهرا عليهم؛ كان ذلك بسبب ذنوبهم وخطاياهم - إما لتفريطهم في أداء الواجبات باطنًا وظاهرا- وإما بعدوانهم بتعدي الحدود باطنًا وظاهرا، قال الله تعالى:
وللعلامة الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله ( ت: 1354هـ ) جواب عن هذا ٍالسؤال يحسن إيراده ، وهو العالم الذي عاش فترة ضعف وهوان شديدين مرت بهما أمة الإسلام:
و لكننا نرى كثيرا من الذين يدعون الإيمان في هذه القرون الأخيرة غير منصورين، فلا بد أن يكونوا في دعوى الإيمان غير صادقين، أو يكونوا ظالمين غير مظلومين، ولأهوائهم لا لله ناصرين، ولسننه في أسباب النصر غير متبعين، وإن الله لا يخلف وعده ولا يبطل سننه، وإنما ينصر المؤمن الصادق وهو من يقصد نصر الله وإعلاء كلمته، ويتحرى الحق والعدل في حربه لا الظالم الباغي على ذي الحق والعدل من خلقه، يدل على ذلك أول ما نزل في شرع القتال قوله تعالى - من سورة الحج-:
فأما الرسل الذين نصرهم الله ومن معهم فقد كانوا كلهم مظلومين، وبالحق والعدل معتصمين، ولله ناصرين. وقد اشترط الله مثل ذلك في نصر سائر المؤمنين، فقال في -سورة القتال-:
والإيمان سبب حقيقي من أسباب النصر المعنوية، يكون مرجحا بين من تساوت أسباهبم الأخرى، فليس النصر به من خوارق العادات ( تفسير المنار )7 /317.))
وأما العلامة عبدالرحمن السعدي رحمه الله (ت: 1376هـ) فيضمن بيانه عن الداء والدواء حديثاً مهما عن الفأل، فيقول:
إيمان ضعيف، وقلوب متفرقة، وحكومات متشتتة، وعداوات وبغضاء باعدت بين المسلمين، وأعداء ظاهرون وباطنون، يعملون سرا وعلنًا للقضاء على الدين، َ وإلحاد وماديات، جرفت بتيارها الخبيث، وأمواجها المتلاطمة الشيوخ والشبان، ودعايات إلى فساد الأخلاق، والقضاء على بقية الرمق!!
ثم إقبال الناس على زخارف الدنيا، وبحيث كانت هي مبلغ علمهم، وأكبر همهم، ولها يرضون ويغضبون، ودعاية خبيثة للتزهيد في الآخرة، والإقبال بالكلية على تعمير الدنيا وتدمير الدين، واحتقار واستهزاء بالدين وما ينسب إليه، وفخر وفخفخة، واستكبار بالمدنيات المبنية على الإلحاد التي آثارها وشرها وشررها قد شاهده العباد...
ولكن مع ذلك: فإن المؤمن لا يقنط من رحمة الله، ولا ييأس من روح الله، ولا يكون نظره مقصورا على الأسباب الظاهرة، بل يكون ملتفتا في قلبه كل وقت إلى مسبب الأسباب، الكريم الوهاب، ويكون الفرج بين عينيه، ووعده الذي لا يخلفه، بأنه سيجعل الله بعد عسر يسرا، وأن الفرج مع الكرب، وأن تفريج الكربات مع شدة الكربات وحلول المفظعات (بهجة قلوب الأبرار ص230)
ُنسأل الله تعالى أن يعز دينه وأن يجعلنا من أنصاره، وأن يُظهر أولياءه، ويذل أعداءه..