رد: قواعد قرآنية (50 قاعدة) للشيخ د. عمر بن عبدالله المقبل
القاعدة الرابعة والثلاثون : { وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ }
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذا لقاء يتجدد مع قاعدة قرآنية عقدية، نزلت قبل أربعة عشر قرناً، ولا تزال معانيها تتجدد لأهل الإسلام في كل زمان؛ تلكم القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: { وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } [البقرة: 120].
ولا يخفى أن هذه القاعدة المحكمة جاءت في سورة البقرة، تلك السورة التي تحدثت بتفصيل عن حقيقة أهل الكتاب، واليهود بشكل أخص ـ لكونهم يسكنون المدينة ـ.
ونزول هذه الآية الكريمة ـ كما أشار إليه جمع من المفسرين ـ جاء عقب مرحلةٍ من محاولات النبي صلى الله عليه وسلم لتأليف اليهود، لعلهم يستجيبون، وينقادون لدين الإسلام، فجاء هذا الخبر القاطع لكل محاولات التأليف التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يمارسها معهم.
يقول شيخ المفسرين ـ ابن جرير الطبري رحمه الله ـ:
"وليست اليهود ـ يا محمد ـ ولا النصارى براضية عنك أبداً، فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم، وأقبل على طلب رضا الله في دعائهم إلى ما بعثك الله به من الحق، فإن الذي تدعوهم إليه من ذلك لهو السبيل إلى الاجتماع فيه معك على الألفة والدين القيم، ولا سبيل لك إلى إرضائهم باتباع ملتهم، لأن اليهودية ضد النصرانية، والنصرانية ضد اليهودية، ولا تجتمع النصرانية واليهودية في شخص واحد في حال واحدة، واليهود والنصارى لا تجتمع على الرضا بك، إلا أن تكون يهودياً نصرانياً، وذلك مما لا يكون منك أبداً، لأنك شخص واحد، ولن يجتمع فيك دينان متضادان في حال واحدة، وإذا لم يكن إلى اجتماعهما فيك في وقت واحد سبيل، لم يكن لك إلى إرضاء الفريقين سبيل، وإذا لم يكن لك إلى ذلك سبيل، فالزم هدى الله الذي لجميع الخلق إلى الألفة عليه سبيل"(تفسير الطبري: 2/484) انتهى.
فتأمل ما تضمنته تتمة هذه القاعدة من وعيد عظيم لمن اتبع أهواءهم، ولمن هذا الوعيد العظيم؟! لمحمد صلى الله عليه وسلم! مع أنه لا يمكن أن يقع منه شيء من ذلك بعصمة الله له، قال تعالى في تتمة هذه القاعدة المحكمة:
{ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)} [البقرة].
وتأمل ـ أيها المؤمن ـ كيف قسّم الله تعالى الأمر ـ في هذا الأصل العظيم ـ إلى قسمين: هدىً وهوىً، فالهدى هو هدى الله، وليس وراء ذلك إلا اتباع الهوى: { وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ }، يقول ابن جرير: في تتمة تعليقه على هذه الآية:
"يعني جل ثناؤه بقوله: { وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ }، يا محمد، هوى هؤلاء اليهود والنصارى - فيما يرضيهم عنك - من تهود وتنصر، فصرت من ذلك إلى إرضائهم، ووافقت فيه محبتهم - من بعد الذي جاءك من العلم بضلالتهم وكفرهم بربهم، ومن بعد الذي اقتصصت عليك من نبئهم في هذه السورة - ما لك من الله من ولي = يعني بذلك: ليس لك يا محمد من ولي يلي أمرك، وقيم يقوم به ولا نصير، ينصرك من الله، فيدفع عنك ما ينزل بك من عقوبته، ويمنعك من ذلك، إن أحل بك ذلك ربك"(تفسير الطبري: 2/484).
فإذا كان هذا الكلام موجهاً للنبي صلى الله عليه وسلم، فمن الناس بعده؟!
وهذه القاعدة المحكمة قالها الذي يعلم السرّ وأخفى، والذي لا يخفى عليه شيءٌ من أحوال خلقه، لا حاضراً ولا مستقبلاً، فالذي قال هذا الكلام، هو الذي قال: { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [الملك]؟!.
وقد أحسن العلامة السيد محمد رشيد رضا رحمه الله ـ حين لخص القواعد التي اشتملت عليها سورة البقرة ـ فجعل من جملة هذه القواعد هذه القاعدة التي نحن بصدد الحديث عنها { وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } فقال رحمه الله، عن هذه الآية إنها:
"آية للنبي صلى الله عليه وسلم كاشفة عن حال أهل الملتين في عصره، ولا تزال مطردة في أمته من بعده، وقد اغتر زعماء بعض الشعوب الإسلامية فحاولوا إرضاء بعض الدول بما دون اتباع ملتهم من الكفر فلم يرضوا عنهم، ولو اتبعوا ملتهم لاشترطوا أن يتبعوهم في فهمها وصور العمل بها، حتى لا يبقى لهم أدنى استقلال في دينهم ولا في أنفسهم"(تفسير المنار: 1/95.) انتهى.
ومع وضوح هذا النص القرآني المحكم، فإنك لتتألم ـ أيها المؤمن ـ من تشكيك بعض المسلمين بهذه الحقيقة، وهذا التشكيك يأخذ صوراً شتى، تبدأ من التشكيك في كون هؤلاء كفاراً أصلاً! وتنتهي عند المطالبة بالتماهي والاندماج التام معهم، في مسخ واضح لأصل من الأصول الكبار، ألا وهو الولاء والبراء!
ولم يفرق هؤلاء بين ما يصلح أن يؤخذ منهم، ويستفاد منه في أمور الدنيا، وبين اعتزاز المؤمن بدينه، وتمايزه بعقيدته! وليس الحديث عن هذه الطوام التي لا يقولها عاقل قرأ التاريخ، فضلاً عمن عقل عن الله ورسوله قولهما.
وإن المؤمن ـ وهو يسمع أمثال هذه الكلمات الفجّة ـ ليتساءل عن هؤلاء الكتاب الذين يحملون أسماء إسلامية: ألم يسمع هؤلاء قول الله عز وجل:
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)} [البقرة]؟.وأين هم من قولَ الله تعالى:
{ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ } [البقرة: 109]؟!
ألم يتأملوا قوله عز وجل عن سائر الكفار:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)}[آل عمران]؟!
هذه شهادة من الله على أعدائنا بما يريدون منا، وما يحاولونه من صدنا عن ديننا، فهل بعد هذه الشهادة من شهادة؟ قال تعالى :
{ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)}(فصلت)؟!
أيها القراء النجباء:
إن هذه القاعدة المحكمة: { وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } وما جاء في معناها من الآيات التي ذكرتُ بعضها خَبَرٌ، والخبر لا ينسخ، لأن نسخه يستلزم أن يكون المخبر بهذا كاذباً، وهذا لو كان في حق آحاد فضلاء الناس لكان من أعظم القدح فيه، فكيف إذا كان المتكلم به هو الله العليم الخبير؟!
ولو أردنا أن نقلب صفحات التاريخ؛ لوجدنا الجواب الذي يزيد المؤمن يقيناً بهذه القاعدة المحكمة!
فمن الذي سمّ الشاة التي وجد النبي صلى الله عليه وسلم أثرها حتى لقي ربه؟!
ومن الذي قتل الفاروق رضي الله عنه؟
ومن الذي سَمَّ جملة من الخلفاء المسلمين الذين كان لهم أثر في ضعف شوكة اليهود أو النصارى؟!
أيها الإخوة الفضلاء:
لقد غرّ بعض هؤلاء المتحدثين ـ بما ذكرناه آنفاً ـ كونهم يتعاملون مع بعض الأفراد من اليهود والنصارى فلا يجدون منهم إلا تعاملاً جيداً ـ كما يقولون ـ وهذا قد يقع، ولكنه لا يمكن أبداً أن يكون قاضياً على هذا الخبر المحكم من كلام ربنا، ذلك أن العلاقة الفردية قد يشوبها من المصالح، أو تكون حالات استثنائية، فإذا جدّ الجدّ، ظهرت أخلاقهم على الحقيقة، ومن له أدنى بصر أو بصيرة أدرك ما فعلته الحروب الصليبية التي غزت بلاد الشام قبل وبعد صلاح الدين! وما فعله إخوانهم وأبناؤهم في فلسطين وأفغانستان والعراق،وما حرب غزة الأخيرة إلا أكبر شاهد، ولا ينكره إلا من طمس الله بصيرته ـ عياذاً بالله ـ!
نسأل الله تعالى أن يثبتنا على دينه الذي ارتضاه لنا
التعديل الأخير تم بواسطة امانى يسرى محمد ; 31-08-2020 الساعة 04:49 PM
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذا لقاء يتجدد مع قاعدة قرآنية إيمانية، لها صلة عظيمة بعبادة من أعظم العبادات، ألا وهي عبادة الدعاء: تلكم القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى:
{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)}[البقرة].
وهذه القاعدة المتعلقة بالدعاء جاءت تعقيباً على جملةٍ من آيات الصيام، فهلمّ ـ أيها القارئ الكريم ـ لنقف على شيء من هدايات هذه القاعدة القرآنية:
1 ـ القرآن اشتمل على أربعة عشر سؤالاً، وكلها تبدأ بـ { يَسْأَلُونَكَ } ثم يأتي الجواب بـ { قُلْ } إلا في آية واحدة { فَقُلْ } في سورة طه، إلا هذا الموضع الوحيد، فإنه بدأ بهذه الجملة الشرطية: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي }، وجاء جواب الشرط من دون الفعل: قل، بل قال: { فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ }، فكأن هذا الفاصل مع قصره (قل) كأنه يطيل القرب بين الداعي وربه، فجاء الجواب بدون واسطة: { فَإِنِّي قَرِيبٌ } تنبيها على شدة قرب العبد من ربه في مقام الدعاء!. وهو من أبلغ ما يكون في الجواب عن سبب النزول ـ لو صحّ ـ حينما سئل النبي صلى الله عليه وسلم: "أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟".
2 ـ تأمل في قوله تعالى : { عِبَادي } فكم في هذا اللفظ من الرافة بالعباد، حيث أضافهم إلى نفسه العليّة سبحانه وبحمده، فأين الداعون؟ وأين الطارقون لأبواب فضله؟!
3 ـ وفي قوله سبحانه: { فَإِنِّي قَرِيبٌ } : إثبات قربه من عباده جل وعلا، وهو قرب خاص بمن يعبده ويدعوه، وهو ـ والله ـ من أعظم ما يدفع المؤمن للنشاط في دعاء ملاه.
4 ـ في قوله عز وجل: { أُجِيبُ } ما يدل على قدرة الله وكمال سمعه سبحانه، وهذا ما لا يقدر عليه أي أحد إلا هو سبحانه!
أيها الإخوة:
إن أي ملك من ملوك الدنيا ـ ولله المثل الأعلى ـ مهما أوتي من القوة والسلطان لا يمكنه أن ينفذ كل ما يطلب منه؛ لأنه مخلوق عاجز، لا يستطيع أن يدفع عن نفسه المرض والموتَ، فضلاً عن غيره، فتبارك الله القوي العزيز، الرحيم الرحمن.
5 ـ مع قوله تعالى: { إِذَا دَعَانِ } ففيها إشارة إلى أن من شرط إجابة الدعاء أن يكون الداعي حاضر القلب حينما يدعو ربه، وصادقاً في دعوة مولاه، بحيث يكون مخلصاً مشعراً نفسه بالافتقار إلى ربه، ومشعراً نفسه بكرم الله، وجوده (ينظر: مفاتيح الغيب 5/84، وتفسير القرآن الكريم للعثيمين 1/345).
6 ـ ومن هدايات هذه القاعدة ودلالتها: أن الله تعالى يجيب دعوة الداع إذا دعاه؛ ولا يلزم من ذلك أن يجيب مسألته؛ لأنه تعالى قد يؤخر إجابة المسألة ليزداد الداعي تضرعاً إلى الله، وإلحاحاً في الدعاء؛ فيقوى بذلك إيمانه، ويزداد ثوابه؛ أو يدخره له يوم القيامة؛ أو يدفع عنه من السوء ما هو أعظم فائدة للداعي؛ وهذا هو السر - والله أعلم - في قوله تعالى: { أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ }(تفسير القرآن الكريم للعثيمين 1/345).
7 ـ وتاج هذه اللطائف المتصلة بهذه القاعدة من قواعد العبادة: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } أنك تلحظ فيها سراً من أسرار عظمة هذا الدين، وهو التوحيد، فهذا ربك ـ أيها المؤمن ـ وهو ملك الملوك، القهار الجبار، الذي لا يشبه ملكه ملك، ولا سلطانه سلطان ـ لا تحتاج إذا أردتَ دعاءه إلى مواعيد، ولا إلى أذونات، ولا شيء من ذلك، إنما هو رفع اليدين، مع قلب صادق، وتسأل حاجتك، كما بكر بن عبدالله المزني ـ أحد سادات التابعين ـ: "من مثلك يا ابن آدم! خلي بينك وبين المحراب تدخل منه إذا شئت على ربك، وليس بينك وبينه حجاب ولا ترجمان"(حلية الأولياء 2/229)، فيا لها من نعمة لا يعرف قدرها إلا الموفق، وإلا الذي يرى ما وقع فيه كثير من جهال المسلمين من التوسل بالأولياء والصالحين، أو ظنهم أن الدعاء لا يقبل إلا من طريق الولي الفلاني أو السيد الفلاني!!
أيها الإخوة:
وإذا تبين وقعُ هذه القاعدة ـ { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } ـ فإننا سندرك أن الحرمان الحقيقي للعبد حينما يحرم طرق الباب، وأن تنسيه نفسه هذا السبيل العظيم! كما قال أبو حازم لأنا من أن أمنع الدعاء، أخوف مني من أن أمنع الاجابة (حلية الأولياء 3/241، 7/288).
ويقول ابن القيم رحمه الله: "وقد أجمع العارفون أن التوفيق أن لا يكللك الله إلى نفسك, وأن الخذلان هو أن يخلي بينك وبين نفسك, فاذا كان كل خير فأصله التوفيق, وهو بيد الله لا بيد العبد, فمفتاحه الدعاء والافتقار وصدق اللجأ والرغبة والرهبة اليه، فمتى أعطى العبد هذا المفتاح فقد أراد أن يفتح له, ومتى أضلّه عن المفتاح بقي باب الخير مرتجا دونه، قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إني لا أحمل هم الإجابة, ولكني أحمل هم الدعاء, فإذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه.
وعلى قدر نية العبد وهمته ومراده ورغبته في ذلك يكون توفيقه سبحانه وإعانته، فالمعونة من الله تنزل على العباد على قدر هممهم وثباتهم ورغبتهم ورهبتهم, والخذلان ينزل عليهم على حسب ذلك,..., وما أتي من أتي إلا من قبل إضاعة الشكر وإهمال الافتقار والدعاء, ولا ظفر من ظفر ـ بمشيئة الله وعونه ـ إلا بقيامه بالشكر، وصدق الافتقار والدعاء" (الفوائد: (181)) انتهى.
ومن المعاني المهمة التي ينبغي أن يستحضرها العبد ـ وهو في مقام الدعاء ـ ما أشار إليه الإمام أبو سليمان الخطابي: ـ وهو يتحدث عن الحكمة من مشروعية الدعاء ـ فيقول: "وقد قضى الله ـ سبحانه ـ أن يكون العبد ممتحناً ومستعملاً، ومعلقاً بين الرجاء والخوف ـ اللذين هما مدرجتا العبودية ـ ليستخرج منه بذلك الوظائف المضروبة عليه، التي هي سمة كل عبد، ونِصْبةُ كل مربوب مُدَبّرٍ"(شأن الدعاء: (9-10)).
أيها القارئ الفطن:
ومن هدايات هذه القاعدة ـ المتعلقة بسياقها ـ: استحباب الدعاء عند الفطر في رمضان وغيره، وهذا ما يدل عليه ظاهر القرآن، وفعل السلف، وفي السنة المرفوعة أحاديث لا تخلو من مقال، ولكن ها أنت ترى ظاهر القرآن يعضدها، ووجه الدلالة من الآيات على هذا المعنى: أن الله تعالى ذكر هذه الآية ـ آية الدعاء ـ بُعَيْد آيات الصيام وقبيل آية إباحة الرفث في ليل الصيام، قال ابن كثير:: "وفي ذكره تعالى هذه الآية الباعثة على الدعاء متخللة بين أحكام الصيام، إرشاد إلى اجتهاد في الدعاء عند إكمال العدة، بل وعند كل فطر"(تفسير ابن كثير (1 / 273)) انتهى.
فما أجمل العبد وهو يظهر فقره وعبوديته بدعاء مولاه، والانكسار بين يدي خالقه ورازقه، ومَنْ ناصيته بيده!
وما أسعده حينما يهتبل أوقات الإجابة ليناجي ربه، ويسأله من واسع فضله في خيري الدنيا والآخرة!
نسأل الله تعالى أن يرزقنا صدق اللجأ إليه، والانطراح بن يديه، وكمال التضرع له، وقوة التوكل عليه، وأن لا يخيب رجاءنا فيه، ولا يردنا خائبين بسبب ذنوبنا وتقصيرنا.
رد: قواعد قرآنية (50 قاعدة) للشيخ د. عمر بن عبدالله المقبل
القاعدة السادسة والثلاثون : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ }
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذا لقاء يتجدد مع قاعدة قرآنية، وقاعدة شرعية من أعظم القواعد الشرعية التي يفزع إليها العلماء في فتاواهم، تلكم القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [التغابن: 16].
وهذه القاعدة القرآنية المحكمة جاءت في سورة التغابن، وفي تدبر سياقها ما يحسن إيراده هنا، خاصةً وأن هذه القاعدة بدأت بالفاء التي يسميها بعض العلماء: الفاء الفصيحة، أو فاء التفريع، فما بعدها فرعٌ عما قبلها، ذلك أن الله جل وعلا قال قبل هذه القاعدة: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)}[التغابن] ثم جاء التعقيب بعد هذا بقوله سبحانه وتعالى:
{ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)}[التغابن].
"أي: إذا علمتم هذا، فاتقوا الله فيما يجب من التقوى في معاملة الأولاد والأزواج ومصارِف في الأموال، فلا يصدّكم حب ذلك والشغل به عن الواجبات، ولا يخرجكم الغضب ونحوه عن حدّ العدل المأمور به، ولا حُبُّ المال عن أداء حقوق الأموال وعن طلبها من وجوه الحلال، فالأمر بالتقوى شامل للتحذير المتقدم وللترغيب في العفو كما تقدم ولما عدا ذلك... ولما كانت التقوى ـ في شأن المذكورات وغيرها ـ قد يعرض لصاحبها التقصير في إقامتها حرصاً على إرضاء شهوة النفس ـ في كثير من أحوال تلك الأشياء ـ زيد تأكيد الأمر بالتقوى بقوله: { مَا اسْتَطَعْتُمْ }، و{ مَا } مصدرية ظرفية، أي مدة استطاعتكم؛ ليعم الأزمان كلها، ويعم الأحوال تبعاً لعموم الأزمان ويعم الاستطاعات، فلا يتخلوا عن التقوى في شيء من الأزمان. وجعلت الأزمان ظرفاً للاستطاعة لئلا يقصروا بالتفريط في شيء يستطيعونه فيما أمروا بالتقوى في شأنه ما لم يخرج عن حدّ الاستطاعة إلى حدّ المشقة، فليس في قوله: { مَا اسْتَطَعْتُمْ } تخفيف ولا تشديد، ولكنه عَدل وإنصافٌ، ففيه ما عليهم وفيه ما لهم"(التحرير والتنوير 28/258 باختصار يسير).
أيها الإخوة:
وبعد هذا العرض المجمل لمعنى القاعدة، يتبين أن هذا القدر من التقوى هو الواجب على العبد فعله ـ وهو تقوى الله ما استطاع ـ، أما التقوى التي يستحقها الله تعالى، فهي التي جاءت في قوله عز وجل:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} [آل عمران]، وهي التي فسرها جمع من السلف بقوله: أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر (ينظر: تفسير السعدي: (141))، وبهذا الجمع يتبين أنه لا يصح قول من قال: إن هذه القاعدة التي نحن بصدد الحديث عنها: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } ناسخة لآية آل عمران: { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ }.
أيها القراء الكرام:
إن هذه القاعدة القرآنية المحكمة تدل بوضوح على أن كل واجب عجز عنه المكلف، فإنه يسقط عنه، وأنه إذا قدر على بعض المأمور، وعجز عن بعضه، فإنه يأتي بما يقدر عليه، ويسقط عنه ما يعجز عنه، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم "(البخاري ح (6858) ومسلم ح (1337)).
فدخل تحت هذه القاعدة الشرعية من الفروع، ما لا يدخل تحت الحصر كما يقول غير واحدٍ من أهل العلم (تفسير السعدي: (141)).
ولعلنا ـ معشر القراء ـ نأخذ بعض الأمثلة التي تجلي هذا القاعدة:
1. ولعل أحرى الأمثلة هو ذلك الموقف الذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول كلمته الجامعة الآنفة الذكر: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ": فقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
" أيها الناس! قد فرض الله عليكم الحج فحجوا،
فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟! فسكت، حتى قالها ثلاثا،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو قلت: نعم لوجبت! ولما استطعتم! ثم قال: ذروني ما تركتكم! فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافِهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه ".
2. ومن تطبيقات هذه القاعدة ـ أيها الإخوة الكرام ـ أنه: "إذا اجتمعت مصالح ومفاسد، فإن أمكن تحصيل المصالح ودرء المفاسد فعلنا ذلك، امتثالا لأمر الله تعالى فيهما لقوله سبحانه وتعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ }، وإن تعذر الدرء والتحصيل فإن كانت المفسدة أعظم من المصلحة درأنا المفسدة ولا نبالي بفوات المصلحة، قال الله تعالى:
{ يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ...(219)} [البقرة]. حرمهما لأن مفسدتهما أكبر من منفعتهما"(قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/110)).
3. أن الواجب عند إرادة الصلاة: التطهر بالماء، فإن عدم أو تعذر استعماله، فإن الإنسان ينتقل إلى التيمم ـ كما هو معلوم ـ.
4. أن صلاة الفريضة الأصل فيها أن يؤديها المصلي قائماً، فإن عجز صلى جالساً، وإلا صلى قاعداً، كما دلّ على ذلك عمران بن حصين رضي الله عنهما، ويدخل في ذلك جميع شروط الصلاة وأركانها وواجباتها.
5. وفي الصيام يجب على المسلم أن يمسك عن جميع المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، فإن كان الصيام يشق عليه افطر وانتقل إلى الإطعام.
6. وفي الحج، فإن مبنى هذا الركنِ كلّه على هذا الأصل العظيم: الاستطاعة، كما قال سبحانه وتعالى:
{ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)}[آل عمران] وكما سبق في حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
7. ومن فروع هذه القاعدة في مناسك الحج: أن من لم يجد مكاناً في منى أو مزدلفة سكن حيث تيسر له، وقل مثل فيمن عجز عن الرمي لأي سبب معتبر شرعاً، ولعل الحج من أكثر أركان الإسلام فروعاً تطبيقيةً لهذه القاعدة العظيمة.
8. ومن تطبيقات هذه القاعدة العظيمة: في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أن المكلف يجب عليه أنه ينكر باليد إذا قدر عليه، فإن عجز فباللسان، وإلا فبالقلب، كما دل على ذلك حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه المخرج في الصحيح (صحيح مسلم (49)).
9. وفي باب النفقات: فإن من عليه نفقةٌ واجبة، وعجز عن جميعها، بدأ بزوجته، فرقيقه، فالولد، فالوالدين، فالأقرب ثم الأقرب. وكذلك زكاة الفطر.
10. ومن تطبيقات هذه القاعدة العظيمة: مسائل الولايات والوظائف الدينية والدنيوية كلُّها - صغارُها وكبارُها – داخلة تحت هذه القاعدة العظيمة، فكل ولاية يجب فيها تولية الأصلح الذي يحصل بتوليته مقصود الولاية، فإن تعذرت كلها، وجب فيها تولية الأمثل فالأمثل، وقد سبق حديث مفصّل ـ في حلقة سابقة من حلقات هذا البرنامج ـ عند الكلام على قاعدة: { إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)} [القصص](وهي القاعدة السابعة عشرة).
وبما سبق من أمثلة يتجلى لنا عظيم موقع هذه القاعدة من هذا الشرع المطهر، الذي مبناه على اليسر والسعة،
فنسأل الله تعالى الذي هدانا لهذا الدين القويم، أن يثبتنا عليه حتى نلقاه، وأن يرزقنا الفقه في دينه، والبصيرة فيه، والحمد لله رب العالمين.
رد: قواعد قرآنية (50 قاعدة) للشيخ د. عمر بن عبدالله المقبل
القاعدة السابعة والثلاثون : { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ }
الحمد لله،وصلى الله وسلم على عبده ورسوله ومصطفاه، أما بعد:
فهذه حلقة جديدة مع قاعدة قرآنية، وكلمات جامعة، تضمنتها تلك القاعدة التي تمثل أصلاً من أصول الوصايا القرآنية، تلكم القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ }[هود: 112](ينظر: فتاوى ابن تيمية 20/112).
وهذه القاعدة القرآنية المحكمة جاءت في سورة هود، تلك السورة العظيمة التي بيَّن الله فيها سبيل الحق والباطل، ثم ذكر فيها مصير هؤلاء وأولئك، ونماذج تاريخية من واقع الرسل مع أقوامهم، ثم ختمت تلك القصص كلها بقول الله عز وجل:
{ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)} - إلى قوله سبحانه وتعالى-:
{ وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)} [هود].
والمتأمل في هذه السورة العظيمة يلحظ فيها بجلاء كثرة الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم سواء بضمير الخطاب في عشرات المواضع ـ وهو أكثرها ـ أو بغير ضمير الخطاب، ومنها: هذا الموضع الذي نحن بصدد الحديث عنه في هذه القاعدة المحكمة: { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير }، ولنا مع هذه القاعدة عدة وقفات:
الوقفة الأولى: ما حقيقة الاستقامة؟ وما سر هذا الأمر الصريح له ولأتباعه بلزوم الاستقامة؟
أما حقيقة الاستقامة، فإن كلمات السلف من الصحابة ومن بعدهم تدور على معنى واحد في الجملة، ألا وهو أن الاستقامة: "هي سلوكُ الصِّراط المستقيم، وهو الدِّينُ القيِّم من غير تعريج عنه يَمنةً ولا يَسرةً، ويشمل ذلك فعلَ الطَّاعات كلّها، الظاهرة والباطنة، وتركَ المنهيات كُلِّها كذلك، فصارت هذه الوصيةُ جامعةً لخصال الدِّين كُلِّها" (جامع العلوم والحكم: شرح الحديث (21) حديث سفيان بن عبدالله).
وأما عن سر هذا الأمر الصريح للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه بالاستقامة، فإن الجواب عن هذا يطول جداً، لكن من أجلى ما يوضح ذلك: أن يعلم المؤمن أن أعظم غرض يريده الشيطان من بني آدم هو إضلالهم عن طريق الاستقامة، ألم يقل عدو الله كما ورد في القرآن الكريم: { قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)}[الأعراف]؟! ولهذا أمرنا أن نكرر في اليوم والليلة 17 مرة على أقل تقدير قوله تعالى: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)}[الفاتحة]، فاللهم اهدنا صراط المستقيم، وثبتنا عليه يا رب العالمين.
الوقفة الثانية مع هذه القاعدة المحكمة { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ }:
فهذا الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالاستقامة هو أمرٌ بالثبات على الاستقامة، ولغيره أمر بها وبالثبات عليها، يقول ابن عطية رحمه الله: "أَمْرُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالاستقامة ـ وهو عليها ـ إنما هو أمر بالدوام والثبوت، وهذا كما تأمر إنساناً بالمشي والأكل ونحوه، وهو ملتبس به"(المحرر الوجيز (3 / 225))، ويوضح كلام ابن عطية هذا ما سبقت الإشارة من تكرار الدعاء في الفاتحة: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ }.
ويوضح هذا أن القرآن الكريم مليء بالأمر بهذا الأصل العظيم أو الثناء على أهله في مواضع متنوعة، وبأكثر من أسلوب، ومن ذلك:
1 . ما جاء في سورة الشورى ـ التي تحدثت عن الشرائع السابقة واتفاقها في جملة من الأصول ـ فقال سبحانه وتعالى:
{ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ... (13)}إلى أن قال: { فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ... (15)}[الشورى].
2 . ومن ذلك ـ أيضاً ـ أن الله تعالى أمر بهذا الأصل غير واحد من الأنبياء والمرسلين ـ عليهم الصلاة والسلام ـ فقد قال لموسى وهارون:
{ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)}[يونس]،
بل لقد امتنّ الله بهذا الأصل على جميع الأنبياء والمرسلين، فإنه عز وجل لما ذكر عدداً كبيرا من الرسل ـ في سورة الأنعام ـ قال:
{ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ...(88)}[الأنعام].
3 . وفي صدر سورة فصلت ملحظ مهم في ترسيخ معنى هذه القاعدة، فإن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم:
{ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6)... الآيات}
وفي نفس السورة يبشر الله عباده المستقيمين على دينه بأعظم بشارة تتمناها نفس ، فقال سبحانه وتعالى:
{ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)}.
واستعراض الآيات الواردة في الاستقامة نصاً أو معنى ليس مقصوداً لنا هنا، وإنما الغرض التنبيه على ذلك.
الوقفة الثالثة، مع هذه القاعدة المحكمة { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ }:
إن من تأمل هذا الأمر الإلهي للنبي صلى الله عليه وسلم تبين له عظم وخطورة هذا الأمر ـ أعني الاستقامة والثبات على الدين ـ كيف، وهما اللتان أقضتا مضاجع الصالحين؟!
روى البيهقي في "الشعب" عن أبي عبدالرحمن السلمي قال: سمعت أبا علي السري يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام! فقلت: يا رسول الله! روي عنك أنك قلت: "شيبتني هود"؟
فقال: "نعم"
فقلت له: ما الذي شيبك منها؟ قصص الأنبياء وهلاك الأمم؟!
فقال: "لا، ولكن قوله: { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ }"(شعب الإيمان 4/82).
وهذه الرؤيا ـ كما لا يخفى ـ هي كغيرها لا يعتمد عليها في الأحكام الشرعية، ولا في تصحيح أو تضعيف الأحاديث، ومنها: الحديث المشهور: " شيبتني هود وأخواتها "(أخرجه الترمذي وغيره ح (3297)، وينظر: العلل لابن أبي حاتم رقم (1826)، ولصديقنا د.سعيد الرقيب الغامدي بحث مفصل في بيان طرق وعلل هذا الحديث منشور على موقع ملتقى أهل الحديث) فإنه حديث مضطرب الإسناد، كما بين ذلك جمع من الحفاظ كالترمذي والدارقطني وابن حجر رحمهم الله جميعاً، وإنما الغرض هنا الاستئناس بهذه الرؤيا على عظيم موقع هذا الأمر الإلهي من نفس النبي صلى الله عليه وسلم.
الوقفة الرابعة مع هذه القاعدة المحكمة { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ }:
أن الإنسان مهما بلغ من التقوى والإيمان، فهو بحاجة ماسة إلى التذكير بما يثبته، ويزيد استقامته، ولو كان مستغنياً عن ذلك؛ لكان نبينا صلى الله عليه وسلم أولى الناس بهذا، يقول ابن تيمية رحمه الله: "وإنما غاية الكرامة لزوم الاستقامة، فلم يكرم الله عبداً بمثل أن يعينه على ما يحبه ويرضاه، ويزيده مما يقربه إليه ويرفع به درجته"(مجموع الفتاوى: (11 / 298)).
الوقفة الخامسة مع هذه القاعدة المحكمة { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ }:
أن يعلم المؤمن أن أعظم مدارج الاستقامة هي استقامة القلب، فإن استقامته ستؤثر على بقية الجوارح ـ ولا بد ـ قال ابن رجب رحمه الله: "فأصلُ الاستقامةِ استقامةُ القلب على التوحيد، كما فسر أبو بكر الصِّديق وغيرُه قولَه عز وجل: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا } بأنَّهم لم يلتفتوا إلى غيره، فمتى استقام القلبُ على معرفةِ الله، وعلى خشيته، وإجلاله، ومهابته، ومحبته، وإرادته، ورجائه، ودعائه، والتوكُّلِ عليه، والإعراض عما سواه ... استقامت الجوارحُ كلُّها على طاعته، فإنَّ القلبَ هو ملكُ الأعضاء، وهي جنودهُ، فإذا استقامَ الملك، استقامت جنودُه ورعاياه (كما في الحديث المتفق عليه: " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ")،... وأعظم ما يُراعى استقامتُه بعدَ القلبِ مِنَ الجوارح اللسانُ، فإنَّه ترجمانُ القلب والمعبِّرُ عنه"(جامع العلوم والحكم: شرح الحديث (21) حديث سفيان بن عبدالله رضي الله عنه) "ومن استقام على هذا الصراط حصل له سعادة الدنيا والآخرة، واستقام سيره على الصراط يوم القيامة، ومن خرج عنه فهو إما مغضوب عليه، وهو من يعرف طريق الهدى ولا يتبعه كاليهود، أو ضال عن طريق الهدى كالنصارى ونحوهم من المشركين"(فتح الباري لابن رجب (4 / 500)).
نسأل الله تعالى أن يهدينا صراطه المستقيم، وأن يجعلنا ممن استقام ظاهره وباطنه على ما يحبه ويرضاه، وأن يثبتنا على الإسلام والسنة حتى نلقاه، والحمد لله رب العالمين.