قال أميرُ البَيان شكيب أرسلان تعليقًا على خَبَر غزو المسلمين لسواحل نيس، وبروفنس، وسيفيتة فكشيا بقرب روما الذي نقله عن المسيو رينو بقوله[1]: الذي عَرَفْتُه في رومة من روايات بعض أُدَباء الطّليان، والمُطَّلِعِيْن منهم على التواريخ، أنه يوجد على مسافة أربعين كيلو متر من رومة قرية، يُقال لها: سراسينشكو، أصل أهلها من المسلمين، كان سَلَفُهم غُزاة، وَقَعوا إلى تلك الأرض، وأحاط بهم الأهالي، فقتلوا جانبًا، واسْتَسْلَم لهم الباقون، وتَنَصَّروا[2]، وعَمَروا تلك القرية، ويُقال: إن سَحَنَهم[3] لا تزال تدل على أصلهم العربي، وأن مآكلهم، ومشاربهم، وصَنْعَة الغِناء عندهم تدل على عُروبتهم، وحتى هذا اليوم تَراني أَتَرَقَّب الفُرصة؛ لمُشاهدة تلك القرية، والتَنْقيب عن صِحَّة ما سمعته، انتهى[4].
وقد عانَت الأَمْلاك البابَوِيَّة الأَمَرَّيْن حين ازداد ضَغْط المسلمين على الشاطئ الغَرْبِي لإيطاليا - المُطِلِّ على البَحْر التيراني - بفِعْل غارات إسلامية حدثت خلال عامي 868، 872 م على مدينتي جايتا، وسالرنو، فأرسل البابا حنا الثامن إلى مَلِك الفِرَنْجة شارل الثاني، وإلى الإمبراطورية البيزنطية، وإلى مدن: أمالفي، وجايتا، ونابولي، يَلْتَمِس لنفسه، ولأَمْلاكه الحِماية، ولكنه لم يَظْفَر إلا بنجاح ضَئيل؛ لأن القسطنطينية لم تطمئن إلى تَقَرُّب البابا من الفرنجة الكارولنجيين، ولأنها كانت مَشْغولة بأَمْر صِقِلِّيَّة، وبشؤون مُمْتلكاتها في بلاد الشَّرْق، وأما الملك شارل الفرنجي؛ فلم يكن لديه أُسْطول يبعث به[5]، وأما حِلْف مُدن كمبانيا؛ فلم يرغب في مُعاداة المسلمين أصدقائه حينئذ.
وقد ترتب على تَخَلِّي هؤلاء جميعًا عن بابا روما أن مُمْتَلَكات الكَنِيسة في وسط إيطاليا لم تَحْظَ بشيء من السَّكِيْنة، إلا بعد أن قام البابا بدَفْع جِزْيَة للمُسْلِمين، قَدْرُها خمس وعشرون ألف (25000) قطعة فِضِّيَّة[6].
محاولة العثمانيين فتح روما:
بعد أن فتح الجيش العثماني في عهد السلطان محمد الفاتح رحمه الله تعالى مدينة أوترانت الإيطالية عَنْوَة في شهر أغسطس من سنة 1480 م - وقد مَرَّ ذكر هذا عند الحديث عن تاريخ الإسلام في ولاية بوليا - كان السلطان محمد رحمه الله تعالى ينوى إكمال فتح جميع إيطاليا، ويُقال: إنه أقسم بأن يَرْبِط حِصانه في كنيسة القِدِّيْس بُطرس بمدينة روما، ولكن السلطان محمد رحمه الله تعالى توفي في شهر مايو من العام الذي يليه[7].
[1] انظر: تاريخ غزوات العرب لشكيب أرسلان حاشية (ص141).
[2] لا يشك عاقل أن ذلك التَنَصُّر - لو صح وقوعه بهذه الصورة - كان تحت وقع الإكراه أخذًا بالرُّخْصة، ولا يُعْقَل أن مجاهدًا مسلمًا يقع في أسر أعدائه، يكون مستعدًا للتخلي عن دينه بمجرد الوقوع في الأسر، إلا على سبيل التقية، والمداراة، ولا ننسى ما كان يفعله النصارى في مُسْلِمي الأندلس؛ لإجبارهم الدخول في النصرانية الكاثوليكية، ولا شك أيضًا أن بقاء الأجيال تلو الأجيال تحت حكم الكفار - مع العجز عن الهجرة إلى ديار الإسلام - يؤول إلى نُشوء أجيال تتأقلم مع الأوضاع القائمة في البلاد التي نشأت فيها، ويتلاشى مع مرور الوقت استحضار حالة الإكراه، واستصحاب نية الهجرة إلى دار الإسلام، فيصير النسل نصرانيًا قُحًّا مع تعاقب الأزمان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
[4] وقال في مجلة المنار، عدد شهر المحرم، من عام 1342هـ بعد أن وصف دخول المسلمين لروما بالاجتياح: ورد في التواريخ: أن العرب صعدوا إلى رومة من مصب نهر التيبر، واجتاحوا البلدة، وأخذوا من كنيسة مار بطرس تابوتًا من فضة، ولكنهم لم يستقروا برومة، ثم إن العرب كانوا يختلفون إلى ضواحي رومة، ويَشُنُّون الغارات فيها، وفي إحدى المرار اجتمع عليهم الأهالي، فهزموهم، فخَلُص منهم فئة إلى البحر، وفئة استؤصلت بالسيف، وفئة من بقايا السيوف لاذت بمكان منيع هناك، وناضلت عن نفسها، وبقيت تحمي نفسها، إلى أن وقع الصلح بينها وبين أهل البلاد، ولأسباب مجهولة عندنا تفاصيلها، تركوا تَوَطُّن تلك الأرض، فالآن على مسافة 40 كيلو متر من رومة، قرية اسمها (سارازينسكو) Sarrasinesco، من اسمها يعرف أن أهلها أصلًا مسلمون؛ لأن (سارازينو) معناه مسلم كما لا يخفى، وليس الدليل على كون أهل هذه القرية عربًا هو الاسم فقط، بل حدثني الكونت كولالتو صاحب جريدة رومة الإيطالية التي تصدر بالقاهرة - وهو من جِلَّة أُدباء الطليان وفُحول الكتاب - أن أهالي قرية سارازينسكو هم إلى يومنا هذا حافظون عاداتهم العربية، ومآكلهم العربية، ولا يزالون يعزفون بآلات الطرب العربية، مما لا يوجد عند قوم سواهم في إيطالية، وإن سحناتهم إلى هذا اليوم سحنات العرب، لا يتمارى في ذلك من رآهم، انتهى.
[5] تَقَدَّم معنا عند الحديث عن جهود ملوك أوروبا لمواجهة الزحف الإسلامي في إيطاليا ما ذكره المسيو رينو من أن الملك شارل الثاني الفرنجي قد نوى أن يذهب بجيش إلى إيطاليا بعد استيلاء الأغالبة على جنوبها، وتَعَرُّض الباباوية في روما للخطر من جَرَّاء ذلك، ولكنه توفي في سنة 876 م، ولم يُعَلِّل رينو عدم ذهابه هناك بعدم وجود أسطول لديه.
[6] انظر: تاريخ القوى البحرية والتجارية (ص219). وقد تم التصرف في بعض العبارات التي لا تخلو من النزعة الصليبية في عبارات المؤلف المذكور.
[7] انظر: تاريخ الدولة العلية العثمانية (ص176،175).