داء خطيرا جدا داء كفيلا كذلك بهدم العلاقات الاجتماعية، داء عرفته الجاهلية ولا تزال الجاهليات المعاصرة تعرفه، داء الرياء.
الرياء يعطي صورة وشكل العمل الصالح الخيّر ولكن هذا الشكل القرآن العظيم جاء ليعلمنا أن العمل الخيّر لا يقف فقط عند الشكل والصورة، العمل الخيّر الذي فعلا أراد القرآن أن تؤتى ثماره هو عمل يحفل بالمضمون وبالظاهر ولذلك كان لا بد من الاهتمام بباطن العمل، بداخل العمل. يقول الله عز وجلّ
الآية بدأت بقوله عز وجلّ (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ) في إطار العلاقات الزوجية والأسرية والمجتمعية الفرد يحتاج إلى الإنفاق إنفاق المال لا يمكن أبدًا أن تصحح العلاقات بدون قدر من الإنفاق، إنفاق مادي حقيقي، إنفاق للمال.
لذلك لو نظرنا وتأملنا في كثير من المبادئ والتعاليم النبوية لوجدنا إنفاق المال عنصر مهم جدًا فيها: الهدية، الإحسان إلى الجيران، الإحسان إلى الأقارب، الإنفاق، الصدقات، إنفاق مال.
ولكن القرآن لا يريد مني إنفاقًا صوريًا فقط في الشكل، خاوي، فارغ لا تصاحبه سلسلة من العلاقات الإيمانية المنبثقة من التوحيد، لا تصاحبه سلسلة من المشاعر الإنسانية. وتدبروا لو ربطنا بين قضية الإنفاق الشكلي وما قاله الله عز وجلّ في سورة البقرة (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى) [البقرة: 263] لدينا صورتان متقابلتان: صدقة حقيقية بالمال، إنفاق ويقابلها قول معروف ومغفرة، مشاعر إنسانية، سلوكيات وعلاقات إنسانية، يا ترى أيهما أجدى نفعا للطرف الآخر حتى لو كان ذلك الطرف الفقير أو المسكين أو المحتاج؟؟ المسكين أو المحتاج؟ أيهما أنفع؟ أيهما أجدى؟ أيهما أقرب إلى مقاصد القرآن وقيم التوحيد؟
الصدقة والإنفاق بالمال، الجانب المادي أو الجانب الإنساني؟
قطعًا الجانب الإنساني ولذلك قال تعالى في سورة البقرة (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى). وهنا في هذه السورة وفي الآية العظيمة (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ)
القرآن يريد منا الإحسان ويطلب منا الإنفاق بالمال ولكن ما يطلبه ليس إنفاقًا صوريًا شكليًا يريد منا إنفاقا حقيقيًا إنفاقا في المشاعر الإنسانية عطاء تجود به النفس البشرية الإنسانية التي صاغها التوحيد وليس عطاءً شكليًا فما قيمة أن يعطي وينفق الإنسان ولو حتى الآلآف والملايين من الدنانير والدراهم ولكن في نفس الوقت لا تصاحب ذلك الإنفاق مشاعر إنسانية عطاء، جود، حُبّ، إحسان، مشاعر؟!
الرجل على سبيل المثال ملزم بالإنفاق وسورة النساء وردت فيها العديد من الآيات قبل وبعد على قضية النفقة لكن أي نوع من النفقة؟ هل فقط النفقة المادية غير المصحوبة بالعطاء الإنساني والمشاعر الجياشة التي أراد القرآن أن يبنيها؟ أبدًا. النفقة في القرآن ليست نفقة مادية فحسب فالزوج حين ينفق على زوجته وأسرته وأبنائه المطلوب منه ألا يتوقف فقط عند الإنفاق المادي من مطعم ومشرب ومسكن وملبس وما شابه، المسألة ليست مادية لا بد أن يصاحبها عطاء نفسيا وجودا وسخاء في المشاعر والعواطف، هذا ما صنعته هذه الآيات العظيمة في النفس وكيف يصنع ذلك من قلب لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ينتظر العطاء من الآخرين؟!
ولذلك الآية هدمت صفة الرياء القبيحة لأن الإنسان المرائي حين يعطي يعطي وهو ينتظر المقابل من الآخرين مدحا، ثناء، والقرآن العظيم يريد من الإنسان المؤمن أن يعطي ولكنه حين يعطي لا ينتظر المقابل أو الأجر من الآخرين، ينتظره من الرب الذي يؤمن به ولمنهجه ولتوحيده يخضع في حياته، نوع من أنواع التحرير للإنسان. ولذلك قلنا سابقا أن التوحيد جاء ليحرر الإنسان ليس فقط من عبادة الأحجار والأصنام ولكن كذلك من الخضوع للبشر وما يعطونه وما لا يعطون، الإنسان حين يتحرر من هذه الإشكالية يعطي بسخاء وهو بالضبط ما نحتاج إليه في عالمنا المعاصر
.................
عش حياتك
على مبدأ :كـن مُحسناً
حتى وإن لم تلق إحساناً، ليس لأجلهم بل لأن الله يحب المُحسنين
كثير من الأزواج وكثير من الأفراد في محيط العلاقات الاجتماعية حتى بين الأقارب المشكلة الخطيرة في تلك العلاقات أنها أصبحت تقام على أساس المعاملة بالمثل: أعطاني أعطيه، سلّم عليّ أسلم عليه، وصلني أصله، منعني أمنعه والقرآن لا يريد هذا النوع من التعامل!
يريد القرآن أن تقام العلاقات الأسرية والعلاقات الاجتماعية على محبة غير مشروطة عطاء غير مشروط بتعامل الطرف الآخر وهذا هو الإحسان.
هناك شيء يسمى التعامل بالمثل أعطاني سأعطيه لكن هذا التعامل بالمثل إذا طبق في مجال العلاقات الزوجية والعلاقات المجتمعية يمكن أن يصل بها إلى مرحلة لا تستقيم بها تلك العلاقات، لا تدوم!.
إذا منع على سبيل المثال القريب عن قريبه الفضل أو الإحسان أو السلام أو الزيارة أو التواصل الاجتماعي إذا قوبل المنع بمنع مثله السؤال إلى أين سنصل؟
لن نصل إلى أقل من القطيعة أبدًا بكل الأحوال هذا ما يحدث للأسف اليوم في كثير من المجتمعات. إذن القرآن يريد أن يرتقي بالنفوس المؤمنة إلى درجة أرقى، مستوى أعلى، هذا المستوى الأعلى لا يمكن أن يتحقق إلا بالإحسان والعطاء غير المشروط، العطائ الذي لا ينتظر المقابل من البشر بل ينتظر من رب البشر.
تأملوا لو أننا طبقنا هذه الآية في محيط التعامل الذي تكلمنا عنه وماذا عليك لو آمنت بالله وأنفقت وأعطيت دون أن نتنظر المقابل من البشر؟ ماذا على الزوج أو الزوجة لو أنهم آمنوا أن الله سبحانه هو المعطي هو الرزاق وأنفقوا برًا وخيرا وإحسانا عطاء ماديا ومعنويا ماذا عليهم؟ ما الذي سيخسر الإنسان؟ ماذا ستخسر حين تعطي دون أن تنتظر المقابل من البشر، ماذا ستخسر حين تسلم حتى لو لم يرد عليك الآخرين التحية والسلام؟ ماذا عليك لو أنك وصلتهم حتى لو قطعوا ومنعوا؟ ماذا ستخسر؟ هل أنت بالفعل ستخسر أم ستربح؟ وتدبروا نهاية الآية (وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا) عليمًا بما تعطي عليمًا بما سيقابل ذلك العطاء، عليمًا بنفسيات الآخرين إن منعوا عنك العطاء وإن قابلوا إحسانك بالإساءة إن قابلوا عطاءك بالمنع. وتأملوا التناسب بين الآيات في السورة، الآية التي تليها
تدبروا كيف يعالج القرآن العظيم الشح في النفوس كيف يُطلق ويحرر تلك النفوس من جانب الشح والبخل إلى فضاء العطاء الواسع
(إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ)
يجعل التعامل الأسري والاجتماعي ليس تعامل علاقات بين فرد وفرد بين إنسان وآخر وإنما علاقات مبنية على تعامل بين إنسان وبين خالق سبحانه وتعالىليحرر الإنسان من النظر إلى جزاء الآخرين أو انتظار الجزاء من الآخرين ويجعل الإنسان المؤمن لا ينتظر الجزاء إلا من الخالق سبحانه الذي لا يضيع ولو كان مثقال ذرة (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا) الإحسان لا يضيع عند الله سبحانه وتعالى وإن ضاع عند الخلق وإن ضاع عند الناس وإن ضاع في محيط الأسرة وفي محيط الأقارب
.................
الصلاة في سورة النساء ذُكرت أكثر من مرة وفي أكثر من موضع، صلاة في السفر والإقامة، صلاة في الخوف وفي الأمن، صلاة في الحرب وفي السلم، كل هذا الوقوف الطويل في آيات سورة النساء عند الصلاة يدل على قيمة هذه العبادة العظيمة، أهمية هذه العبادة العظيمة في إرساء قيمة العدل والحرية والأمانة والمساواة وتجديد العهد الذي هو التوحيد بين العبد وربه
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ)
وكانت الخمر في ذلك الوقت الذي نزلت فيه الآية لم تُحرّم بعد والناس كانوا قد اعتداوا على الخمر، ألفوها، أصبحت الخمر جزءًأ لا يتجزأ من الحياة الاجتماعية والأُسرية والمجتمعية بشكل عام في ذلك العصر ولذلك القرآن عالجها بحكمة وتدرج لكن الذي يلفت النظر فعلًا أن الحديث عن أشكال الطهارة قبل الوقوف أمام الله سبحانه وتعالى في الصلاة واضح في هذه الآيات حدثتنا أولًا عن تطهير النفس من التباهي والعالي والتفاخر على الآخرين والبخل والشح والرياء ثم انتقلت بعد ذلك إلى طهارة العقل فجاء النهي عن الخمر فقال (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) الخمر تدنس العقل، العقل الذي هو محط التكليف، محط تشريف الإنسان،
فالله سبحانه انتقل من طهارة النفوس من تلك الأمراض إلى طهارة العقل من الخمر ثم إلى طهارة الجسد أو البدن عن طريق الصلاة والتيمم والطهارة والوضوء.
ثم بعد ذلك الحديث عن طهارة البدن. قيمة الصلاة، الصلاة من أعظم العبادات التي ينبغي للمؤمن أن يتحرى فيها تلك الأشكال من الطهارات
لا يمكن لعلاقات زوجية أو أُسرية أو اجتماعية أو العلاقات الاقتصادية والسياسية التي ستحدثني عنها سورة النساء لا يمكن أبدًا أن تستقر من دون وجود فضيلة الإحسان، وفضيلة الإحسان لا تُبنى إلا على نفوس طاهرة وعقول نظيفة واعية مدركة لعظمة الأمانة التي حمّلت إياها من قبل الله سبحانه وتعالى. وختمت الآية بقول الله عز وجلّ (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا) مساحة العفو والمغفرة لأننا ونحن نحاول ونبذل كل ما نستطيع لأجل أن نطهر نفوسنا وعقولنا وأبداننا بالشكل اللائق بالله سبحانه وتعالى. ونحن في كل هذه الرحلة إنما هي محاولات جهود بشرية لا يمكن في كثير من الأحيان إلا أن يعلو فيها جوانب الخطأ والنسيان والتقصير والزلل فكان الحديث عن العفو والمغفرة مناسب تمامًا لتلك المعاني العظيمة.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ )
ثم بعد ذلك
(مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا)
والآية بطبيعة الحال وهي تكلمنا هنا عن أهل الكتاب وعن بني إسرائيل اليهود لا تخرج أبدًا عن سياق العدل في الحديث عن الآخرين وهو أدب قرآني بامتياز واضح قال الله سبحانه وتعالى (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا) ليس كل الذين هادوا واليهود يحرفون الكلم عن مواضعه (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا) وربما خصّت كثير من الايات سواء آيات سورة النساء وسور أخرى فئة العلماء أحبار اليهود هؤلاء العلماء الذين حُمّلوا أمانة نقل العلم وتأديته لأمتهم وأهلهم ومجتمعهم لكنهم كانوا في ذات الوقت كانوا يتميزون بمنهج التحريف، التحريف الذي ذكرته الآيات هنا تحريف الكلم عن مواضعه، تحريف بالكلمات. ولذلك هناك آيات أخرى في سورة البقرة وغيرها من سور القرآن حدثتنا عن أشكال وأصناف من تحريف أهل الكتاب
(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ البقرة) شكل من أشكال التحريف. ولماذا الحديث عن التحريف في المنهج والله سبحانه وتعالى سيعطيني بعد قليل آيات ستحدثني عن الأمانة؟! تنبيه لنا جميعًا، نحن حُمّلنا أمانة أمانة هذا الكتاب العظيم علينا أن نحسن أداء تلك الأمانة بدون تحريف ولكن التحريف ربي سبحانه وتعالى تكفل بأن يحفظ هذا القرآن من أيّ تحريف فهو الذي نزّل الذكر وهو الذي تكفّل بحفظه (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (الحجر)).
إذن فلماذا ربي سبحانه وتعالى يؤكد هذه المعاني ويحذّر من الوقوع فيما وقع فيه علماء بني إسرائيل؟! التحريف ليس شكلًا واحدًا، صحيح التحريف الذي وقع هنا والذي جاء سياق الحديث عنه كان تحريف كلمات، تحريف الكلم عن مواضعه كان كتمانًا للحق وخاصة بما يتعلق بمواضع نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ولكن ربي يحذرنا من شكل آخر من أشكال التحريف، شكل أن تأتي أفعالي وسلوكي وأخلاقياتي وتعاملاتي اليومية مناقضة لما في كتاب الله عز وجلّ، هذا تحريف!
بمعنى آخر: أن يقول لي المنهج شيء ولكني أفعل شيئًا آخر ولذلك ربي سبحانه وتعالى عاتب عباده المؤمنين فقال
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ
كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (الصفّ))
من أعظم قواعد التدبر أن نتعلم كيف نربط بين الآيات ولو كانت في مواضع مختلفة في كتاب الله، فكتاب الله عز وجلّ يفسر فيه الآية بآية أخرى في موضع آخر وعلى المتدبر أن يدرك تلك المعاني العظيمة ولذلك حذرنا من هذا المسلك في التعامل مع المنهج، مع الكتاب فقال عن أهل الكتاب (وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ) المناسبة واضحة، سياق تحذير ولذلك ربي عز وجلّ في خواتيم سورة البقرة قال عن المؤمنين (آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ).
إذن هناك أشكال للتعامل مع المنهج، هناك شكل كالشكل الذي وقع هنا في بني إسرائيل (سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا) وهذه هي العاقب والنتيجة جاءت في الآيات، وهناك شكل آخر ينبغي أن نقوم به وهو الذي ينبغي أن تقوم به أمة القرآن (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) ولكن والذي سنأتي عليه بعد قليل في آيات في موضعها في سورة النساء السمع والطاعة ليس عملية ادّعاء، السمع والطاعة ليست كلمات تقال باللسان، السمع والطاعة اتباع وسير على المنهج الذي جاء به هذا الكتاب العظيم وطبقه نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم في حياته وتعاملاته وسلوكياته المختلفة. الطاعة لما جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى وإلا فالعاقبة أوضحتها هذه الآيات العظيمة (وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا) عاقبة واضحة!.
.............
ازدواجية السلوك عند بعض المسلمين
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا )
لنا أن نقف طويلًا عند هذه الآية. الآية تقول (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) والسؤال: وهل هذا الكتاب جاء ليخاطب الله سبحانه وتعالى به الذين أوتوا الكتاب؟!
وتدبر في أول آية في سورة النساء (يا أيها الناس) هذه الخطابات والنداءات في كتاب الله تدل على أي شيء سوى عالمية هذا القرآن العظيم؟
عالمية رسالته وقيمه، عالمية تعاليمه ومبادئه وتشريعاته وتوجيهاته. وبالتالي ربي بعد قليل في الآيات التي تليها بعد عدد من الآيات سيأتي الحديث عن الأمانات (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) نحن حُمِّلنا أمانة أن نحمل رسالة القرآن إلى أمم العالم بأسرها ولكن الحمل ليس بالضرورة فقط أن يكون من خلال الكلمات أو من خلال تبليغ الرسالة فقط شفهيًا، الحمل الحقيقي لرسالة القرآن وقيمه أن تصبح واقعًا في مجتمعاتنا وأُسرنا أن نقدّم أنموذجًا لأمم العالم وشعوب العالم، أنموذجًا للعدالة أنموذجًا فعليًا وتطبيقًا عمليًا لواقع هذا القرآن وتعاليمه في حياتنا حتى لا يُفتن الناس، حتى لا ينظر الناس إلى مضمون الكتاب فيرون شيئا وينظرون إلى واقعنا فيرون أشياء أخرى لا تمت إلى ذلك المنهج بصلة فتحدث فتنة كهذه التي تحدث اليوم.
اليوم العالم بأسره ينظر إلى القرآن فيرى شيئا ويسمع شيئا وينظر إلى واقعنا في داخل أُسرنا ومجتمعاتنا ومؤسساتنا فيرى شيئا يصل إلى حد التناقض في بعض الأحيان فيحدث الفتنة هذه الفتنة هي فتنة الصد عن منهج الله سبحانه وتعالى فتنة أشبه ما تكون بالتحريف ولكنه شكل جديد من أشكال التحريف الذي وقع فيه من قبل بنو إسرائيل، تحريف بمعنى أيّ شيء؟ تحريف ليس بالكلمات فالقرآن مصان ومحفوظ من قبل الله سبحانه وتعالى تكفّل بحفظه، بحفظ حروفه وكلماته لكن التحريف جاء من قبل من يناقض في سلوكياته وأعماله منهج القرآن، القرآن يقول اعدلوا وهو يظلم القرآن يقول أدوا الأمانة وهو يخون الأمانة هذه الازدواجية والتناقض في حياة بعض منا شكل من أشكال التحريف، تحريف المنهج الرباني الذي نزل على هذه الأمة لتحمل به الرسالة إلى أمم العالم.
ولذلك جاء الحديث عن الشهادة
(فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا )
النبي صلّ الله عليه وسلم شهيدًا على أنه قد أدّى الرسالة ووفى بالأمانة وبلّغ الرسالة ونصح الأمة وسنُسأل وسيشهد علينا إن كنا قد قمنا بأداء تلك الأمانة أم لا.
والكفر بالآيات ليس شكلًا واحدًا، الكفر بالآيات كما ذكرنا في التحريف ليس على شكل واحد، الإيمان الحقيقي بالآيات أن تصبح آيات الكتاب واقعًا وتطبيقا في الحياة بكل مجالات الحياة المختلفة. ولذلك تدبروا في الآيات التي تليها كيف جاءت تحكي عن الإيمان
آمنوا وعملوا الصالحات، آمنوا بالمنهج فكان العمل الصالح إيمانًا بذلك المنهج، العمل الصالح جزء لا يتجزأ من الإيمان ولا تكاد تذكر في كتاب الله في آياته كلمات عن الإيمان إلا ويذكر معها العمل الصالح، التطبيق، الفسير الحقيقي لمعنى الإيمان
تدبر واقرأ الآيات وأنت فعلًا مستحضرًا لكل مبادئها ومعانيها العظيمة، قيمها ومقاصدها (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) إيمانك أمانة. وتدبروا جاء الحديث عن الأمانة بعد الآية التي قالت (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) انظر إلى الربط، إيماني بالله سبحانه وتعالى أمانة عليّ أن أحسن أداءها وجزء من ذلك الأداء أن أعمل بمقتضى الإيمان، آمنت بالله وآمنت برسوله صلى الله عليه وسلم فعليّ بالتطبيق ولذلك جاءت الآية التي تليها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) إيمان دون طاعة أنّى له أن يكون إيمانًا! وتدبروا ذلك التلازم الواضح بين الإيمان والأمانة.
الأمانة إيمان وكلما ازداد وترقى الإنسان في إيمانه ازداد أمانة،
ازداد حرصًا على أداء الأمانات،
وكل ما نقوم به في حياتنا أمانات، الكلمة أمانة، النظرة أمانة، الحواس المختلفة التي وهبنا الله سبحانه وتعالى أمانات كيف أقوم بوظائفها، كيف أوظفها في حياتي أمانة كيف أستعملها أمانة، كيف أحافظ عليها أمانة، العلاقات الزوجية والأسرية الاجتماعية أمانات، علاقات الجيرة والصداقة والزمالة والعمل أمانات، الأعمال أمانات.
الأمانة في القرآن ليست أمانة درهم ودينار فحسب، هي جزء يسير شكل واحد من أشكال الأمانة ولكن الأمانة هي تلك الأمانة التي قال الله تعالى عنها في موضع آخر
أمانة، أداء المنهج والقيام بهذا القرآن العظيم في الحياة والتطبيق وحمله إلى أمم الأرض أمانة آن للمسلمين أن يسألوا أنفسهم قبل أن يُسألوا ويقفوا بين يدي خالقهم هل فعلًا أدينا الأمانة؟ هل استطعنا أن نحمل قيم القرآن إلى أمم الأرض؟ قيمة العدالة، هل فعلًا تمكنا من ذلك؟ هل أدينا الأمانة؟ لذلك تدبروا في نهاية آية الأمانات (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ) من الذي يراقب مستوى الأمانة في قلبي وأخلاقي وسلوكي؟ الأمانة الفردية والأمانة الجماعية؟ السميع البصير.
الكلمة أمانة بكل أشكالها وصورها سواء ما تحدّث به نفسك
أو ما تقوله عن الآخرين، الكلمة أمانة.
واعلم أن من يحاسِب على هذه الكلمة هو السميع البصير تدبروا كيف تنضبط قيمة العدالة في المجتمع، العدالة كقيمة يعرفها البشر، الآن على سبيل المثال في مجتمعات الدول المعاصرة تتشدق بالكلام عن العدالة والحرية والمساواة لكن من الذي يجرؤ أن يقول لدولة أو لقوة عظمى هنا أو هناك أنت تطبقين العدالة أم لا تطبيقينها، وكيف تُضبط؟!
هذه لا تضبط بمقاييس البشرية، هذه تحتاج إلى رقابة ذاتية والرقابة الذاتية التي تصنعها سورة النساء: إن الله كان عليكم رقيبا، إن الله كان سميعا بصيرا، خبيرا عليما. تدبروا كيف تُبنى الرقابة على الضمير في نفس الإنسان المؤمن.
...............
الحكم بالعدل بين الناس تشريع إلهي
تدبروا في الآية
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا)
قبل أن يقول تعالى
(وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ)
ونحن لا زلنا نتعامل مع القرآن بنفس تلك القرآءة التي أشرنا إليها فيم سبق القرآءة العضين المجتزأة المقتطعة من سياقاتها نقتطع من الآيات! ولذلك في بعض المؤسسات أو بعض المحاكم الآية تقتطع هذا الجزء من الآية فقط
(وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ)
أين الجزء الأول من الآية؟!
لا ينفصل عن أداء الأمانات لهم ثم إن الله سبحانه وتعالى قدّم أداء الأمانة على الحكم بين الناس والقضاء بينهم لماذا؟
ليجعل الفرد الإنسان المسلم رقيبًا على أمانة نفسه وإذا أصبح الإنسان المسلم المؤمن رقيبًا على ذاته في أداء الأمانة ما احتاج إلى القضاء، ولا احتاج إلى التحاكم ولا احتاج إلى أن يرفع مظلمته إلى محكمة هنا أو هناك.
لو أقيمت فضيلة أداء الأمانات في بيوتنا وفي أُسرنا وبين الأزواج يا ترى هل كنا سنحتاج إلى الوقوف في تلك الطوابير المضنية ساعات لأجل رفع قضية طلاق أو ضرر أو نفقة أو ما شابه؟! لو أدى الناس الأمانات إلى أهلها فعلًا هل كان سيكون هناك فعلًا حاجة حقيقية لما يحدث في المحاكم الشرعية والمحاكم الأسرية محاكم الأحوال الشخصية وقضاياها التي لا تكاد تنتهي ولو قلبنا في إضبارات وملفات ودفاتر تلك القضايا المختلفة المرفوعة هنا وهناك في مختلف دول العالم ولكن نتكلم عن عالمنا الإسلامي ومجتمعاتنا المسلمة التي أُمرت ووجِّه لها خاصة هذا الخطاب القرآني أن تؤدي الأمانة إلى أهلها لو بحثنا لوجدنا فعلًا أن الكارثة الأصل غياب الأمانة!
قضايا النفقة المرفوعة، المطالبات بالنفقة،
الرجل يريد مخرج قانوني لأجل أن يتحايل على النصوص الشريعة والقانونية فيتخلص من النفقة على سبيل المثال!
هذا جزء من مثال، هذا لو أدرك أداء الأمانة إلى أهلها أكنّا بحاجة إلى ما نحن فيه؟! أداء الأمانة إلى أهلها! لكن القرآن كتاب واقعي يعالج الواقع الإنساني ما كان من الممكن أن يترك الناس دون تحاكم دون وجود من يحكم بينهم بالعدل دون وجود من ترفع إليه المظالم، القضاء، نظام القضاء ولذلك جاءت الآية (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) الحكم بين الناس، قيمة العدل الحقيقية أمانة، القضاء أمانة. وأنا أريد أن أقف - ونحن في سياق الحديث عن القضايا الأُسرية والمشاكل الزوجية وما شابه - تأخير العدالة ظلم وغبن، تأخير إعطاء الحقوق وردّ الحقوق إلى أصحابها، التأخير فقط في الأجَل، التأجيل في الزمن في المدة هذا ظلم، وهذا ليس من العدل في شيء. ولنا أن نقف طويلًا عند كل تلك طوابير الانتظار عند المحاكم في المجتمعات المختلفة في مجتمعاتنا المختلفة سنجد عشرات وربما مئات من القضايا أُجّل النظر فيها مرة بعد مرة، لماذا يؤجل؟
تدبروا في كل هذه المعاني
(وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ)
فمن العدل وتمام العدل أن يعجل الحاكم في رد الحقوق إلى أصحابها متى ثبت عنده ذلك.
.................
اذا اختلفنا فالى اى شئ نرجع ؟
(فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ)
ذكرنا أن سورة النساء من أعظم السور التي تعلم الإنسان والمجتمع والأسرة المسلمة كيفية إدارة النزاعات والصراعات والخلافات الزوجية والشقاق بين الزوجين بكل هذه المفردات التي جاءت بها. فهنا قال
(فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)
الكتاب والسنة وبخاصة ما قام به النبي صلى الله عليه وسلم من السُنة الفعلية وطبقها في حياته سلوكًا وعملًا. النبي صلى الله عليه وسلم ما ترك تفسيرا مكتوبا إلا بضع آيات ذكر لها معاني ولكن الحياة التي عاشها السنوات التي قضاها سلما وحربا، رجل أمة ورجل أسرة وزوج أب وأخ وجار وقائد في ميدان المعركة وأشكال عشرات الصور مربي معلم بائع مشتري حاكم هذه الصور بأكملها تشكل التفسير العملي لهذا المنهج الرباني القرآني الذي نحتاج إلى أن نرد الخلافات حين تقع فيما بيننا إليه لذلك المنهج نتعلم من حياته وسنّته كيف أدار النزاع لا نذهب بنزاعاتنا إلى الخارج!
والآية العظيمة هنا تبين لي مبدأ عظيمًا جدًا:
النزاعات والخلافات ينبغي أن تُحلّ في البيت الاجتماعي، بيت المجتمع، الأسرة هي البيت الصغير، والقرآن في الآيات التي سبقت في سورة النساء أكد أهمية أن يقوم الزوجان بحلّ الخلافات فيما بينهما إلا إذا وصلت إلى سقف وإلى حد لا يمكن إلا أن يتدخل فيه حكم من أهله وحكم من أهلها وفي حالة النزاعات في المجتمع في المؤسسات، في المصارف، مؤسسات الدولة، طوائف مختلفة في المجتمع فئات مختلفة في المجتمع، حدث النزاع، النزاع وحدوث النزاع ليس بالشيء المستغرب، هذا واقع إنساني من خلال التعامل والاحتكاك يحدث سوء فهم وسوء الفهم يؤدي إلى نزاع، لا إشكالية في ذلك، الإشكالية في أن لا نحسن التعامل مع نزاعاتنا وأن نذهب بنزاعاتنا إلى طرق من هنا ومن هنا بعيدًا عن الردّ إلى الله وإلى الرسول، هذه هي الإشكالية الخطيرة! لأن ربي عز وجلّ ربطها بعد ذلك فقال
(فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ
ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)
لا تذهب به إلى محاكم دولية هنا وهناك.
النزاعات التي تحدث في واقعك وفي مجتمعك عليك أن تقوم بحلّها أنت حل داخلي ولكن لأجل أن تقوم بحلها وتحسن إدارة هذه النزاعات ومحاولة استيعابها واحتوائها عليك أن تؤمن بالله واليوم الآخر حتى تحسن الرد لأنك إن لم تؤمن بالله واليوم الآخر كيف ستقوم برد هذه النزاعات ومعالجتها من خلال الرجوع إلى الله والرسول، إلى المنهج إلى القرآن وإلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة. هذا ما نحتاج إليه ولذلك آيات سورة النساء تعالج قضايا مجتمع، قضايا دول، قضايا أمم ونحن اليوم نتخبط هنا وهناك،
لماذا التخبط؟ ذاك الضعف في ذاك الجانب؟!
ليس لأننا لا نؤمن ولكن كما ذكرت سورة النساء قبل قليل، الإيمان إحساس وشعور وعمل وقول وتطبيق وتنفيذ وأخلاق وسلوك، كلٌّ متكامل لا يكفي أن تأخذ منه جزءًا وتقول يكفيني هذا الجزء لأعيش حياتي بطريقة صحيحة سليمة، لا يمكن! أنا بحاجة إلى أن آخذ المنهج كاملًا وأجعله منه مرجعًا لي في حياتي في سلوكي وتعاملي مع القريب والبعيد، مع الصديق ومع العدو، في السلم وفي الحرب في الاستقرار وفي الخلاف والنزاع، هذه حقيقة.
ولذلك تدبروا في عظمة التناسب الواضح لكل من يتدبر في آيات هذه السورة الكريمة
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا )
صورة واقعية تجيب عن تساؤلاتنا تجيب عن خواطرنا حين نقرأ القرآن ونرى الواقع شيئًا يخالف القرآن!
زعم، (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ) قد يزعم الإنسان أنه آمن بما أنزل الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، يزعم ولكن إذا كان هذا وأصبح مجرد زعم فالواقع سينبئك بذلك يتحاكم إلى الطاغوت، إلى مناهج مختلفة، مناهج ما أنزل بها من سلطان، مناقضة لهذا المنهج في الوقت الذي أمر أن يكفر بالمنهج الطاغوتي،
هذا هو الضلال الحقيقي.
الرسالات لا لأجل أن تكون فقط رسالة شفوية، القرآن لا لأجل فقط أن يحفظ ككلمات وآيات وسور، صحيح حفظ القرآن أمر عظيم جدًا ولكن الرسل جاءت بتلك الرسالات والمناهج لأجل الطاعة،
لأجل أن يُطاعوا في رسالاتهم والنبي صلى الله عليه وسلم جاء ونزل عليه القرآن لأجل أن يطاع والطاعة سلوك وتنفيذ وتطبيق، تأمل
تأملوا باب التوبة، الخطأ وارد، والنسيان وارد وصدور التناقض في حياتنا والإشكاليات المختلفة ووقوع الظلم فيما بيننا أمر وارد قد يحدث ولكن الإشكالية في حياتنا أن يبقى الإنسان مصرّا على خطئه أن يبقى الظلم على ظلمه فلا تبرأ ذمته من ذلك الظلم ولا يفكر في يوم أبدًا أن يعيد الحقوق إلى أصحابها ويرد المظالم إلى أهلها! تلك هي الإشكالية. أن نخطئ فيما بيننا ونقع في الخطأ في علاقتنا الزوجية والأُسرية والاجتماعية وارد ولكن المهم أن تصحح الخطأ المهم أن تستغفر الأبواب مفتوحة (لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا) تواب لأنه رحيم ومن رحمته بعباده أنه فتح باب التوبة للخاطئين، فتح باب التوبة لأولئك الذين يريدون أن يعودوا إلى المنهج من جديد، الباب مفتوح في أي وقت في أي زمن في أي لحظة ما عليك إلا أن تستدرك ما فات قبل فوات الأوان، هذا هو القرآن.
تدبروا كيف يفتح القرآن باب الأمل، التوبة أمل، أمل للعاصين، أمل للمذنبين، أمل للظالمين، أمل للمخطئين، أمل لأولئك الذين لا يزال في قلوبهم شيء من الإيمان شيء من محبة الله عز وجلّ والرغبة في الرجوع إليه. الباب مفتوح، ارجع، استدرك ما فات، صحح، عدِّل أوضاعك، عدّل إيمانك، عدّل صلتك بالله سبحانه وتعالى، استسمح واطلب السماح من الآخرين ممن ظلمت في يوم من الأيام ولو بكلمة في سر أو علانية، صحح علاقاتك، صحح تصرفاتك، أمر مهم.
إذن أنت لا تقاتل في سبيل أهوائك ولا في سبيل مطامع دنيوية ولا عروض زائلة ولا لأجل نهب ثروات الشعوب ونفطها ومصادرها ومائها وأنهارها وأقواتها، لا تقاتل لأجل كل تلك الترهات الزائفة القائمة على هوى النفس وعبادة الذات بل تقاتل لأجل من؟ وفي سبيل من؟
سبيل الرب عليك أن تقاتل وفق منهج الله لا وفق أهواء النفوس، لا تحرك الجيوش الأهواء، في الإسلام في ذلك النهج والتطبيق الذي قام به النبي صلى الله عليه وسلم، جنود النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن تحرّكهم الأهواء، حركتهم آيات الكتاب والمنهج الذي جاء في كتاب الله عز وجلّ، هذا الذي حرّكهم (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ) باعوا الدنيا بكل عروضها بكل أموالها ومكاسبها وأطماعها وأهوائها وشهواتها ليشتري الآخرة
والسؤال: الإنسان الذي يبيع الدنيا بكل ما فيها أهو إنسان يقاتل لإرضاء لنزوة أو شهوة أو تحصيل مطمع أو غاية دنيوية؟!
إذن هو قتال لأجل حماية حقوق المستضعفين، قيم، حماية العدالة، حماية الضعيف، نصرة للضعيف وتدبروا في واقع المجتمعات المعاصرة اليوم، اليوم الجيوش تخرج لكن السؤال ألنصرة الضعفاء أم الأقوياء؟ ألنصرة الضعفاء الذين ظُلموا أم لنصرة الأقوياء الذين ظَلموا؟ فارق عظيم بين مقصد ومغزى القتال في سبيل الله في الإسلام وبين القتال في سبيل الطاغوت ولذلك جاءت الآية
طاغوت والظلم والعدوان والافتراء والكذب وسفك دماء ونهب أموال الشعوب وتخريب الأرض التي أمر الله أن تعمّر. الفارق شاسع والتناسب واضح ولذلك قال الله عز وجلّ (فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) لماذا يا رب؟
لأن المعركة واضحة، لأن معركة الواقع الإنساني واضحة في الصراع بين الحق والباطل، هنا حق وهناك باطل، هناك قيم أمر الله بأن تطبق، حقوق حرية عدالة مواساة أمانة تؤدّى، وهناك قيم كانت موجودة في المجتمع الجاهلي والآن بدأت تعود للمجتمعات المعاصرة، الظلم، الاستعباد والاستبداد، التفرقة العنصرية لا المساواة،
الحق والعدل والحرية والمساواة لا بد لها من من يدافع عنها ولن يدافع عنها أولئك الذين لا يؤمنون بها ولن يدافع عنها أولئك الذين لا يطبّقونها في أُسرهم وبيوتهم وحياتهم وعلاقاتهم الأسرية والمجتمعية ومؤسساتهم المختلفة صغيرة كانت أو كبيرة ولذا ربي عز وجلّ قال - والآيات لا تزال تتكلم في سياق القتال -
الحياة أجمل من القتال، القتال قد يفقد فيه الإنسان حياته وأغلى شي عند الإنسان الحياة الروح! ليست كل حياة غالية، الحياة القائمة على الظلم وقبول الاعتداء على الناس وأعراضهم وأموالهم وتصفية وسفك دمائهم هذه ليست بحياة تستحق أن يعيشها الإنسان! الحياة ليست مجرد أنفاس ولو كانت أنفاسًا مكتومة تكتم الحق والعدل والحرية والمساواة! هذه ليست الحياة التي يريدها القرآن، تدبروا في الآية
الموت سنة من السنن مكتوب على كل الأحياء القوي والضعيف لظال والمظلوم المرأة والرجل الصغير والكبير المريض والصحيح. إذن إذا كان الأمر هكذا ربي سبحانه وتعالى شرع للبشر أن يعيشوا حياة إنسانية كريمة تليق بإنسانيتهم فإن لم يكن ذلك فهنا في هذا الموضع هنا يشرع لقتال لأجل أن تبقى الحياة الإنسانية ويبقى الإنسان على كرامته ولا تهان وتهدر كرامة الإنسان. القتال ما شرع في القرآن لأجل الموت في الإسلام، القتال شرع لأجل الحياة الكريمة. وهذا الفهم فهم غير صحيح أن يتصور البعض وينشر هكذا عن الإسلام أن الإسلام شرع القتال لأجل الموت في سبيل الله والواقع أن القتال شُرع لأجل إبقاء الحياة الإنسانية الكريمة. ولكن إذا مات الإنسان في سبيل هذه الحياة الكريمة وإعلاء قيمتها وإحيائها الحفاظ عليها فليكن فالموت نهاية كل حيّ ولكن موته عندئذ سيكون شهادة.
.............
تدبر القرآن
(أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا )82
هنا تدبر القرآن. لماذا جاء الكلام عن التدبر واستنكار على من لا يتدبر في هذا السياق؟
لأن التدبر يقودك إلى التطبيق والتنفيذ في الواقع فإذا لم يقدك التدبرإلى التنفيذ في الواقع ستجد الاختلاف ستجد الشجار والنزاع والصراع والحروب وسفك الدماء وانتهاك الأعراض وسلب الأموال والتشتيت والتهجير من قبيل عدم تطبيق المنهج، ولماذا لا يحدث عدم التطبيق؟
لغياب التدبر ولذلك خسر المسلمون كثيرًا في واقعهم حين أعرضوا عن تدبر هذا الكتاب، التدبر فريضة على كل مسلم عاقل يقرأ هذا الكتاب أنزله لأجل أن نتدبره لأنه بدون تدبر لا يحصل طاعة وتدبر في حياتك أنت كلما ازددت قربًا من هذا الكتاب وتدبرا في آياته ازددت طاعة لله واستسلامًا لمنهجه وسيرا على هدى نبيه صلى الله عليه وسلم. التدبر يولّد فيك الطاعة يولّد فيك الانقياد والخضوع لأمر الله ومنهجه في الواقع وهو ما أراده القرآن
(أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ)
قد يقول قائل لو ما أدرك التناسب بين الآيات، ما دخل الكلام عن التدبر في الآية؟
الكلام عن الطاعة
(مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا )80
التولي والصدود والإعراض عن منهج الله لا يكون إلا بالإعراض عن تدبر هذا الكتاب وعدم تفهّم معانيه نتيجة طبيعية والتدبر يقودك إلى الطاعة والانقياد والاستسلام لأمر الله نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه وأن يجعلنا من أهل القرآن الواعين المتدبرين المنفذين لأوامره وتعاليمه وأن يلحقنا بأولئك الرفقة الطيبة التي أدركت كيف يتدبر المؤمن القرآن وينفذ تلك الأوامر في واقعه وحياته.