من أساليب التربية النبوية
التلميح دون التصريح
الدكتور عثمان قدري مكانسي
قد يتصرف أحد المسلمين ـ وهو يبغي الخير لنفسه ـ تصرفاً لا يرضى عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، والرسول معلم مربٍ يأخذ بأيدي أصحابه إلى الطريق الصحيح والسبيل القويم ، فهل ينبهه مباشرة ؟ ..
قد يفعل ذلك بعيداً عن أعين الناس إن كان الأمر خاصاً ، أو دفعاً للإحراج ، فالنصيحة في السر أبلغ . وقد ينبه إلى الأمر بطريق غير مباشر :
1ـ إذا كان الأمر مُهِمّاً ينبغي أن يعلمه الجميع .
2ـ ويُستحسَنُ أن يُترَك مَنْ فعل الخطأ بعيداً عن عيون الآخرين ، فيظل الاحترام سائداً بين جميع المسلمين .
- فقد جاء ثلاثة من الصحابة إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته ، فلما أخبروا ، كأنهم تقالّوها(1) ، وقالوا : أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم وقد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر !.
قال أحدهم : أما أنا فأصلي الليل أبداً .
وقال الآخر : وأنا أصوم فلا أفطر .
وقال الآخر : وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً .
فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال : أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ .
أما والله إني لأخشاكم لله ، وأتقاكم له ، ولكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني(2) .
هنا نجده صلى الله عليه وسلم يجمعهم . . . وينبههم إلى وجوب اتباع سنته مباشرة . ولكنه يرى ما فعلوه أمراً مهماً يجب أن يبلغَ الناسَ ، فيعلموا أن الدين يسرٌ وليس بعسر ، فيذكر الحادثة دون أسماء أصحابها ، فيقول :
ما بال أقوام قالوا كذا وكذا ؟ . . ( ويذكر ما قالوه ) ، ثم يقول : ولكني أصلي وأنام ، وأصوم وأفطر ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني(3) .
فالنبي صلى الله عليه وسلم حفظ ماء وجوه أصحابه الثلاثة ، ونبه الآخرين إلى وجوب اتباع سنته صلى الله عليه وسلم .
- وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد اصحابه يجمع الزكاة من بعض القبائل ، فعاد الرجل بالزكاة فوضعها أمام النبي صلى الله عليه وسلم وترك أشياء معه ، وقال : إنها أهديت إليه . فأخذها الرسول صلى الله عليه وسلم منه ، وجمع أصحابه ونبههم إلى ضرورة البعد عن الرشا واستغلال المنصب للوصول إلى منافع ماكان يصل إليها لولا عمله هذا .
فعن أبي حميد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
(( ما بال العامل نبعثه فيقول : هذا لك ، وهذا لي ؟ فهلا جلس في بيت أبيه وأمه ، فينظرَ أيهدى له أم لا ؟ والذي نفسي بيده لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته ، إن كان بعيراً له رغاء ، أو بقرة لها خوار ، أو شاة تيعر ، ، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه ، ألا هل بلغت ؟ ثلاثاً (4) .
فأنت ترى استخدام تعبير ( ما بال العامل ) ، وفي الحديث السابق ( ما بال أقوام ) . . .
فليست العبرة بمعرفة الأشخاص ، إنما بمعرفة الحادثة ، والتنبه لها ، والحذر من الوقوع فيها .
ورحم الله الإمام الشافعي العالم الإمامَ والتربويّ الفذ ينبه إلى النصيحة بطريقة لبقة لا تجرح المشار إليه فيقول :
تغـَمـّدني النـّصـيحـة بانفـراد * وجنّبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس ضربٌ * من التوبيخ لا أرضى استماعه
الهوامش:
(1) تقالّوها : عدوها قليلة .
(2) في رياض الصالحين ، الحديث / 643 / .
(3) متفق عليه ، والرجال الثلاثة هم : علي بن أبي طالب ، عثمان بن مظغون ، وعبد الله بن عمرو بن العاص .
الدعاء لغة : الرغبة والابتهال ورجاء الخير .
عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال :
(( . . . . . ثم صلى بنا ، ثم دعا لنا ـ أهل البيت ـ بكل خير من خير الدنيا والآخرة .
فقالت أمي : يا رسول الله ، خُويدمك ، ادع الله له . فدعا لي بكل خير . . . وكان في آخر دعائه أن قال : اللهم أكثر ماله وولده ، وبارك له ))( 1 ) .
فيجمل بالداعية أن يدعو لإخوانه ، ويرجو لهم الخير . . وليكن دعاؤه سراً وجهراً . . أما سراً : فلأنه أقرب للصدق ، وأبعد عن حظ النفس ، والداعية لا يبغي من دعائه للآخرين التقرب إليهم فقط ، إنما يريد أن يرضى الله عنهم حقاً ويجتهد في ذلك .
وأما جهراً : فليبيـّنَ لهم إنه يحبهم فتتآلف القلوب ، وتتوطد الصلة .
وفي هذا الحديث نجد النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لأهل بيت أنس رضي الله عنه دون أن يطلبوا ذلك ، فالرسول صلى الله عليه وسلم دعاؤه سكن للمسلمين ، وخير وبركة ، وهذا يسرهم ويزيدهم تعلقاً به ، وإيماناً بدعوته ، واستزادة من دعائه ،
ونرى ( أم أنس ) تسأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم أن يخص أنساً بالدعاء ، فيفعل ، ويدعو له بالبركة في العمر والمال .
ويظهر أثر ذلك الدعاء الكريم ، فقد عاش أنس رضي الله عنه فوق المائة ، ورأى أكثر من ثمانين من أحفاده ، وكان له بستان يثمر في السنة مرتين . . كل هذا ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم .
ولئن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو لمن يزورهم ، لقد تعلم من ربه سبحانه ذلك :
فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إذا عاد الرجل أخاه أو زاره قال الله تعالى : طبتَ وطاب ممشاك ، وتبوأت منزلاً في الجنة ))(2) .
ويعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نكرم من نطعم عنده بالدعاء والصلاة في بيته ، وكأنك تقول لمن دعاك : أحسنت إلى ضيفانك ، وأكرمتهم ، فجعل الله بيتك طاهراً ، وحياتك طاهرة ، والملائكة زوارَك ، وأبعد عنك السوء ، ووقاك الشياطين وأذاهم .
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زار أهل بيت من الأنصار ، فطعم عندهم طعاماً ، فلما خرج ، أمر بمكان من البيت ، فنضح له على بساط فصلى عليه ، ودعا لهم ( 3 ) .
ولو جاءك رجل لا تعرفه يعودك ـ وأنت مريض لا سمح الله ـ مع أخ لك عزيز ، وكلمك بأدب ، ولم يطل الجلوس عندك ، ولما قام مودعاً جلس قريباً منك ، ثم دعا الله أن يشفيك ويرد عافيتك ، ثم ابتسم وسلم ومضى ، أكنت تعجب لصنيعه ؟ ويكبر في عينك ؟ وتشكر له ما فعل ؟ .
لا شك في ذلك ، وأراك تسأل صاحبك عنه ، تريد أن تتعرف إليه ، هذا ما كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذ عاد مريضاً جلس عند رأسه ثم قال سبع مرات (( أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك )) ( 4 ) .
دعاء مبارك من رسول الله صلى الله عليه وسلم النبي العطوف المحب لأمته ، هاديهم إلى الجنة ، وذابّهم عن النار ، يجلس عند رأس المريض ، قريباً إلى قلبه ، يسأل رب العرش العظيم وفاطر السموات والأرض الرحيم بعباده ، أن يشفيه .
دعاء من كريم إلى كريم !! . . وتفتح السماء أبوابها. . وتحمل الملائكة الدعاء . . وتعود بالشفاء . . الشفاء لجسم المريض من العلة ، والشفاء لقلبه من أدران الدنيا . .
ويكبر النبي المعلم الأول في عيون أصحابه . . وهو كبير كبير . . وتتفتح قلوبهم لشرعته السمحاء ولصاحبها معلم الناس الخير .
وهذا فـَضالة بن عمير الليثي أراد قتل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت عام الفتح ، فلما دنا منه ، قال له النبي صلى الله عليه وسلم : أفضالة ؟
قال : نعم فضالة يا رسول الله .
قال : ماذا كنت تحدث به نفسك ؟ ( وكان الله تعالى قد أطلع نبيه على دخيلته ) .
قال : لا شيء . . كنت أذكر الله . ( كذب ليداري انفعاله من المفاجأة ) .
فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ( ولم يفضَحه لأنه يريده مسلماً ) ثم قال : استغفِرِ الله . ثم وضع يده على صدره فسكن . ( يد رسول الله الشريفة الطاهرة تعكس زاوية الحقد في قلب فضالة مئة وثمانين درجة إلى الحب والإكبار ، ويدعو له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهداية ) .
قال فضالة : والله ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله أحبُّ إلي منه صلى الله عليه وسلم ـ .
ومع تغيير القلب من الحقد والبغضاء إلى الحب والإجلال ، تتغير الأفعال من الشر إلى الخير ، ومن الزنا إلى الطهر والعفاف : ألم يدْعُ رسول الله له ؟ ؟ ألم يضعْ يده الشريفة على صدره فسكن ؟؟ .
قال فضالة : فرجعت إلى أهلي ، فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها ،
فقالت : هلم إلى الحديث . ( وأي حديث بين رجل وامرأة كل منهما غريب عن الآخر ؟! . . )
فقلت : لا . . ( قالها وهو يشعر بالإيمان يغمره ، والضياء يعمره ، فقد انقلب إنساناً آخر ، إنساناً مؤمناً يبعد عن الزنا بُعْدَ السماء عن الأرض ) ، فما له – بعد لقائه بالحبيب – أربٌ بالفساد ، وما عاد يُسيغُه .
وانبعث فضالة يقول ( معلناً حلاوة الإيمان ) :
قالت : هلم إلى الحديث فقلت : لا * يــأبـــى علــيــك الله والإســـــلام
لــو مـا رأيـت مـحـمـداً وقـبـيـلــه * بـالــفـتـح يـوم تـكســر الأصـنــام
لـرأيـت ديـن الله أضــحــى بـيـنـاً * والشرك يعلو وجهـه الإظلام ( 5 )
- وكان صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه أن يدعو بعضهم لبعض ، فما بينهم وبين الله حجاب ، فعن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( إن خير التابعين رجل يقال له أوَيْس ، وله والدة ، كان به بياض ( أي برص ) فمروه فليستغفر لكم )) ( 6 ) .
وكان الرجل من اليمن . . وكلما جاء وفد من اليمن في خلافة الفاروق سأل أمير المؤمنين عمر عن أوَيْس ، حتى رآه ، ورآى فيه الصفات التي ذكرها فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأعلمه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكره ووصفه وأمره أن يدعو للمسلمين . .
ويدعو أويس لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وللمسلمين . .
وأنا – الفقير إلى رحمة الله وعفوه - أرجو أن يدعو كل أخ لأخيه وللمسلمين . .
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه
وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابـه
الـلـهـم انـصـر الإسلام والمسلـميـن
واعــز كــلــمــة الــحــق والــديـــن
خـــذ بــنــواصــــيــنــا إلـى الـحــق
وعـــوِّدْ ألـسـنـتـنـا قـول الـصــــدق
إلـيـك لـجـأنــا فـلا تـردنــا خـائـبـين
يــــــــا أرحـــــــم الــراحــــمـــيـــن
الهوامش :
( 1 ) رواه البخاري في الأدب المفرد الحديث / 88 / .
(2) رواه الترمذي ، وابن ماجه ، وأحمد ، وابن حبان ، والبخاري في الأدب المفرد الحديث / 345 / .
( 3 ) أخرج البخاري في صحيحه (( كتاب الأدب )) ، وفي الأدب المفرد الحديث / 347 / .
( 4 ) الأدب المفرد الحديث / 536 / .
( 5 ) مختصر سيرة ابن هشام : لعفيف الزعبي ، وعبد الحميد الأحدب ص/ 235 .
( 6 ) من رياض الصالحين ، رواه مسلم الحديث / 370 / .
من اساليب التربية النبوية
تكرار الحديث والتمهّل فيه
الدكتور عثمان قدري مكانسي
من الطرائق التي اعتمدها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في عدد وافر من أحاديثه الشريفة (التكرار) . . فلِمَ كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يكرر ؟ .
1ـ لم يكن على عهده ـ صلى الله عليه وسلم ـ ـ كما نعلم ـ آلات تحفظ الصوت لتعيده فيما بعد ، كما أن أدوات الكتابة ـ من ورق ومداد وأقلام . . ـ كانت بدائية ، وكان المسلمون يكتبون على سعف النخل والأكتاف ، والعظام والأحجار المسطحة ، وجلود الأغنام والأبقار الرقيقة ، وما شابه ذلك ، وحملُ هذه الأشياء إلى المسجد متعثر نوعاً ما .
2ـ ولم يكن هنالك مجلس محدد يعلِّم فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المسلمين أمور دينهم ، فقد كانت كل كلمة منه ، بل كل حركة وكل إقرار . . على مدى اليوم والمكان عِلماً ودرساً وتربية وتهذيباً .
3ـ والعرب أمة لا يقرأون ولا يكتبون ـ فعامتهم هكذا ـ فكيف يحفظون عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمور آخرتهم ودنياهم ومعاشهم ؟ . . .
تروي السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يحدث حديثاً لو عدّه العادّ لأحصاه(1) .
وعنها أيضاً : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ (( لم يكن يسرد الحديث كسردكم ))(2) .
تصور معي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جالساً بين أصحابه ، يحدثهم في أمر ما ،
1- جُمَلُهُ فصيحة ،
2- لا يسرع في كلامه ،
3- يلفظ الكلمة فيتوقف عندها ،
4- يكرر التعبير فقرة فقرة ، وجملة جملة ، وكلمة كلمة ،
5- يستعمل المبسوط في موضع البسط ، والإيجاز في موضع الإيجاز .
وبهذا الأسلوب الواضح المستأني ، وبهذا التكرار المفيد ، يستوعب الصحابة الحديث فيحفظونه ، وتثبت ألفاظه ومعانيه في العقل ، وتنغرس الأفكار وظلالها ، والألفاظ وإيحاءاتها في النفوس ، ويتمثلون حديث رسول الله عملاً وتطبيقاً في مجال حياتهم ، ثم تصل إلينا نقية ، لا شائبة فيها ، حية بحيوية حامليها .
من الأحاديث التي ترى فيها مصداق ما ذكرته سابقاً :
ما رواه أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
قال : رغم أنفه ، رغم أنفه ، رغم أنفه .
قالوا : يا رسول الله من ؟
قال : من أدرك والديه عند الكبر ـ أو أحدهما ـ فدخل النار(3).
أية قشعريرة أخذتني وأنا أقرأ هذا الحديث فأفاجأ بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( رغم أنفه ) تتكر ثلاث مرات ، وأنا بعيد عن زمان الحديث ألفاً وأربع مئة وإحدى وثلاثين سنة ، فمادت بي الأرض وأسرعت إلى الوالدة أقبل يديها ورجليها وأسألها الرضا والدعاء . .
أحسست بها على الرغم من البعد الزمني والمكاني كذلك ، لكن الروح والقلب والفكر هناك مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكيف والصحابة بين يديه يسمعون ويرون تعابير وجهه توحي بالتهديد والوعيد لمن عق والديه ؟!
ومن التكرار الرائع ذوي الوتيرة الموسيقية والتفصيل الهادف ما رواه المقدام بن معدي كرب أنه سمع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول :
1- ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة ،
2- وما أطعمت ولدك فهو لك صدقة ،
3- وما أطعمت زوجك فهو لك صدقة ،
4- وما أطعمت خادمك فهو لك صدقة(4) .
فتكرار : ( ما أطعمت ) يوحي بالحث على الإنفاق ، وذكر النفس والولد والزوجة والخادم يؤكد ضرورة الحفاظ على الأسرة . وتكرار ( فهو لك صدقة ) دليل على إحراز قصب السبق لمن فعل ذلك .
والفكرة نفسها نجدها في قالب آخر من التكرار في ما رواه عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال : حدثني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : كلكم راع ، وكلكم مسؤول عن رعيته ،
والرجل راع على أهل بيته ، وهو مسؤول عن رعيته ، وعبد الرجل راع وهو مسؤول عن رعيته ،
ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته(5) .
والملاحظ هنا أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذكر أهم ركن في البيت (الرجل) ، وأقل ركن فيه (الخادم) ، وهذا يعني أنه يقصد ما بينهما من زوجة وولد .
وانظر معي إلى التأكيد على الإيمان بالله وعدم الاعتماد على النسب والمال ، ولئن كانت الدنيا بالمال ، إن الآخرة بالأعمال فقط ، إلا أن تنقذ رحمة ُ الله بعباده الموقفَ المخيف . . والله رحيم بعباده .
فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين أنزل عليه :
( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاَْقْرَبِينَ )(6) .
(( يا معشر قريش : اشتروا أنفسكم من الله ، لا أغني عنكم من الله شيئاً .
يا بني عبد المطلب اشتروا أنفسكم من الله ، لا أغني عنكم من الله شيئاً .
يا عباس بن عبد المطلب اشترِ نفسك من الله ، لا أغني عنك من الله شيئاً .
يا صفية عمة رسول الله اشتري نفسك من الله ، لا أغني عنك من الله شيئاً .
يا فاطمة بنت رسول الله سليني ما شئت لا أغني عنك من الله شيئاً ))(7) .
وتأمل معي كلمة ( تعس ) في الحديث التالي كم هي مخيفة تقرع الآذان ، وتهز النفس والمشاعر :
قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
تعس عبد الدنيا
تعس عبد الدينار
تعس عبد الخميصة(8)
تعس عبد الخميلة(9)
إن أعطي رضي ، وإن لم يُعط سخط
تعس وانتكس ، وإذا شيك فلا انتقش(10) .
إنها جمل فعلية ذات أسلوب خبري ، لكن الغرض البلاغي منها الدعاء بالتعاسة والخسران على هؤلاء الذين اتبعوا شهواتهم . ويذَيِّلُها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالتعليق العميق الأثر في نفوس المسلمين ، فهو يدعو عليهم بالتعاسة والانتكاس في كل ما يفعلون ، حتى إذا أصابت أحدَهم شوكة ٌصغيرة فلا خرجت من جسده ، فكأنه يدعو عليهم بالألم الدائم ، والإرهاق لرضاهم بالحياة الدنيا دون الآخرة .
وقد نجح التكرار من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لجلب الانتباه لما يقال ، والتكرار من الصحابي للإعرابِ عن انتباهه لما يقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ومن صوره ما رواه أنس ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (ومعاذ رديفه على الرحل)
قال : يا معاذ .
قال : لبيك يا رسول الله وسعديك .
قال : يا معاذ .
قال : لبيك يا رسول الله وسعديك .
قال : يا معاذ .
قال : لبيك يا رسول الله وسعديك . . . إلى آخر الحديث(11) .
وقد نرى الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ يكرر الجملة ثلاث مرات . وهذا نجده في أحاديثه الشريفة كثيراً . ومن صوره : ما رواه ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : هلك المتنطعون ، قالها ثلاثاً(12) .
وقد نجده ـ صلى الله عليه وسلم ـ يردد الكلمة دون تحديد عدد ، لبيان أهميتها ، فعن أبي بكرة ـ رضي الله عنه ـ قال :
قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ (ثلاثاً)
قالوا : بلى يا رسول الله .
قال : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين . وجلس وكان متكئاً : ألا وقول الزور ، فما زال يكررها حتى قلت : ليته سكت(13) .
فقد كرر رسول الله : ( قول الزور ) كثيراً حتى ضج بعض الصحابة ، ورجوا أن يسكت لما نالهم من خوف شديد لتهديده ـ صلى الله عليه وسلم ـ قائلي الزور ، وخوفٍ شديد على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يناله الأسى .
فجزاه الله عن أمته كل خير .
الهوامش:
(1) رواه البخاري في صحيحه ( كتاب المناقب ) .
(2) والحديث رواه البخاري في صحيحه ، ( كتاب المناقب ) .
(3) الأدب المفرد الحديث .
(4) الأدب المفرد الحديث / 82 / .
(5) الأدب المفرد ، الحديث / 206 / .
(6) سورة الشعراء : الآية 214 / .
(7) رواه مسلم .
(8) الخميصة : الثوب المزركش الجميل ، والمقصود بذلك : المهتم بثيابه المختال بها على عباد الله .
(9) الخميلة : الشجر المجتمع الكثير الملتف ، الذي لا يرى فيه الشيء إذا وقع في وسطه . والمقصود به : الرجل المهتم برغد العيش وبحبوحته على الإهتمام بدينه .
(10) رواه البخاري .
(11) رياض الصالحين ، الحديث / 413 / متفق عليه .
(12) المتنطعون : المغالون ، المتجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم . والحديث رواه مسلم .