أيها الأحبة: في خطبة سابقة تعرفنا على أثر الصدقة عموماً في زمن البلاء، خاصةً ما يتعلق بالأوبئة والطواعين، واليوم ومع اشتداد فصل الصيف وهذه الأجواء الحارَّة، ثمة صدقةٌ من نوع خاص يحتاج الناس للاستزادة منها فهي تخصُّ نعمةً من أعظم النِّعَم وأجلِّها، ولا غنى لكائن حي عنها، إنها نعمة الماء ﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ﴾[2]، ومن هنا كان لزامًا شكر هذه النعمة من المنعم المتفضِّل سبحانه: ﴿ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ ﴾[3]، ومع أنَّ من أعظم شكرها التصدُّق بما فَضُلَ منها وإهداؤها إلا أنها بإذن الله سبب عظيمٌ لدفع البلاء، ففي حديث سَعْد بْن عُبَادَةَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «سَقْيُ الْمَاءِ». رواه ابن ماجه، وحسَّنه الألباني[4].
وروي في الحديث: «أَيَّمَا مُسْلِمٍ سَقَى مُسْلِمًا عَلَى ظَمَأ سَقَاهُ اللَّهُ مِنَ الرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ»؛ رواه أبو داود[5].
كيف لا؟ ورجل دخل الجنة بسبب كلبٍ سقاه! فكيف ببني آدم وكيف بمسلمٍ إذًا؟
ولما كان الأمر كذلك حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على إضفاء أهمية السقيا للحاجِّ، فقال صلى الله عليه وسلم في حَجة الوداع: «انْزِعُوا بَنِي عَبْدِالْمُطَّلِبِ، فَلَوْلا أَنْ يَغْلِبَكُمُ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ»، فَنَاوَلُوهُ دَلْوًا فَشَرِبَ مِنْهُ؛ رواه مسلم[7].
إذ لولا أن يظن الناس أن نزع الماء، وسقيا الحاج من النُّسُك لفعله صلى الله عليه وسلم.
أيها الإخوة: ولعظم أمر الماء حرَّمت الشريعة بيع ما يفضل من الماء، فقد جاء عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله: «الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: فِي الْكَلَأِ وَالْمَاءِ وَالنَّارِ»؛ رواه أبو داود[8].
وجاء في صحيح مسلم «أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ فَضْلِ الْمَاءِ»[10].
قال الخطَّابي رحمه الله: "معناه ما فضل عن حاجته وحاجة عياله وماشيته وزرعه" اهــ[11].
والحديث يدلُّ على تحريم بيع فضل الماء، والظاهر - والقول لصاحب عون المعبود - أنه لا فرق بين الماء الكائن في أرض مباحة، أو في أرض مملوكة، وسواء كان للشرب أو لغيره، وسواء كان لحاجة الماشية أو الزرع، وسواء كان في فلاة أو في غيرها.
الخطبة الثانية
الحمد لله... وبعد:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾[12]... أيها الإخوة: صَدَقة الماء لا تقتصر على السُّقيا فقط، أو على توزيع قوارير من المياه المعبَّأة، وهذا خيرٌ كثيرٌ؛ ولكن تشمل أيضًا المساهمة في حفر الآبار في الأماكن المحتاجة، وهذا من الصَّدَقات الجارية.
ومن صدقات الماء التي يغفل عنها الناس دفع قيمة فاتورة محتاج، أو المشاركة في ملء خزَّان جيرانك في العمارات السكنية، فهذه كم سينتفع منها من رجال وأطفال ونساء من شرب ووضوء واغتسال، وتطهُّر وفوائد كثيرة[14].