الآية 114: ﴿ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ ﴾: يعني لا نفعَ في كثير من كلام الناس سِرّاً فيما بينهم ﴿ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ﴾: يعني إلا إذا كان حديثًاً داعيًاإلى بذل المعروف من الصدقة، أو الكلمة الطيبة، أو التوفيق بين المتخاصمين، ﴿ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ﴾: يعني ومنيفعل تلك الأمور ﴿ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ ﴾: يعني طلبًا لرضا الله تعالى راجيًا ثوابه ﴿ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾.
الآية 115: ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ ﴾: يعني ومَن يُخالف ﴿ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى ﴾: يعني مِن بعد ما ظهر له الحق ﴿ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾: يعني ويَسلك طريقًاغير طريق المؤمنين وما هم عليه من الحق، (وأوَّلهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتابعيهم بإحسان)، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم - كما في الصَحِيحَيْن-: (خيرُ الناس قَرْني، ثم الذين يَلونهم، ثم الذين يلونهم)، فمن اتَّبَع طريقاً غير طريقهم: ﴿ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى ﴾: يعني نتركه وما توجَّه إليه، فلا نوفقهللخير ﴿ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ﴾: يعني ونُدخِله نار جهنم يقاسي حرَّها، ﴿ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾.
• واعلم أنّ في قوله تعالى: ﴿ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ دليل على أن (إجماع المسلمين) هو مصدر من مصادر التشريع (بعد القرآن والسُنَّة)، بمعنى أنه إذا أجمعتْ أمَّة محمد صلى الله عليه وسلم على شيء فإنه يجب الأخْذ به وعدم مخالفته، فما شَهدَتْ له هذه الأمّة بالقبول، فهو مقبول، وما شَهدَت له بالرَدّ، فهو مَردود، وذلك في جميع علوم الدين (كإجماع أهل التفسير وإجماع أهل الحديث وغيرهم).
• ونحن نقول لمن يخالفون الإجماع ولا يأخذون به: (عندما مات موسى عليه السلام: حَرَّفَ اليهود التوراة، فأرسل الله لهم عيسى عليه السلام ليوضح لهم ما حَرَّفوه، ثم لمَّا رُفِعَ عيسى عليه السلام: حَرَّفَ النصارى الإنجيل، فأرسل الله محمداً صلى الله عليه وسلم ليبين لهم ما حَرَّفوه، وعندما مات محمد صلى الله عليه وسلم: تطاوَلَ بعض الخلق على القرآن، وحاولوا أن يُحَرِّفوه (فأفشلهم الله تعالى، وأبطل مَكْرهم، وفضَحَ أمْرهم)، هنا نسأل: (هل كان الله سَيُرسِل نبياً بعد محمد صلى الله عليه وسلم لِيَرُدّ على هؤلاء المفترين؟) بالطبع لا، لأن الله قد أخبر أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتَم النبيين)، إذن مَن سَيَرُدّ عليهم؟! لا يوجد غير إجماع المسلمين بأن هذا القرآن قد نُقِلَ إلينا مُتَواتِراً (يعني من جماعات كثيرة تنقل بعضها عن بعض)، وذلك بحِفظ الله تعالى له، لأنه سبحانه قد تعَهَّدَ بحِفظه وجَمْعِه، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾، وقال تعالى: ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ ﴾، وذلك لأنه هو الدين الخاتَم، الذي ارتضاه الله لجميع الخلق إلى قيام الساعة، قال تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾، وقال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ﴾، وقال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾.
الآية 117، والآية 118، والآية 119: ﴿ إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا ﴾: يعني ما يَعبد المشركون من دون الله تعالى إلا أوثانًا لا تنفع ولا تضر (وهم يُسَمُّونهم بأسماء الإناث، كاللات والعُزَّى ومَناة)، ﴿ وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا ﴾: يعني كما هم في واقع الأمر يَدعون شيطاناً متمردًا على الله، إذ هو الذي دعاهم إلى عبادة الأصنام فعبدوها، فهم إذاً عابدون للشيطان في باطن الأمر لا الأوثان، وهذا الشيطان قد ﴿ لَعَنَهُ اللَّهُ ﴾ ﴿ وَقَالَ ﴾ الشيطان لله تعالى: ﴿ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ﴾: يعني لأتخِذنَّ مِن عبادك عدداً كبيراً يعبدونني ولا يعبدونك، وهم معروفون بمعصيتهم إياك، وطاعتهم لي، ﴿ وَلَأُضِلَّنَّهُمْ ﴾: يعني ولأصرفَنَّ مَن تبعني منهم عن طريق الحق، ﴿ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ ﴾: يعني سأعوقهم عن طاعتك بالأماني الكاذبة بأنهم لن يُعذَّبوا، أو بأنه سيُغفَر لهم (حتى وإن استمروا على المعاصي ولم يتوبوا)، ﴿ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ ﴾: يعني ولأدعونَّهم ليجعلوا لآلهتهم نصيباً من الأنعام، فيَقطعون آذانها لتكون علامة على أنها ستُذبَح للآلهة، ﴿ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ﴾: يعني ولأدعونَّهم إلى تغيير ما خلقه الله تعالى في الفِطرة، (بالبِدَع والشرك والمعاصي)، وتغيير هيئة ما عليه الخَلق (كالوَشْم والنَمْص (وهو تخفيف الحاجب للمرأة)، وغير ذلك)، ﴿ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا ﴾.
الآية 121: ﴿ أُولَئِكَ ﴾ المتبعون للشيطان ﴿ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ﴾ ﴿ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا ﴾: يعني ولا يجدون عنها ملجأً يهربون إليه منها.
الآية 123، والآية 124: ﴿ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ﴾: يعني اعلموا أيها المسلمون أنَّ فضْل الله تعالى وثوابه العظيم لا يُنال بأمنياتكم الخالية من العمل، ﴿ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ﴾ من اليهود والنصارى، وإنما يُنالُ بالإيمان الصادق بالله تعالى،وإحسان العمل الذي يُرضيه، فسُنن الله تعالى ثابتة، وهي أنَّ ﴿ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِه﴾ - إلا لو تاب منه وقَبِلَ الله توبته - ﴿ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا ﴾ يتولى أمره وشأنه، ﴿ وَلَا نَصِيرًا ﴾ ينصره، ويدفع عنه سوء العذاب، ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ﴾ بالله تعالى وبما أنزلمن الحق ﴿ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ﴾ دار السعادة والراحة والنعيم، التي فيها ما تشتهيه الأنفس وتَلَذُّ الأعين، التي فيها ما لا عَينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعتْ، ولا خطر على قلب بشر من أنواع المآكل والمشارب اللذيذة، والمناظر العجيبة، والقصور، والغُرَف المُزَخرَفة، والأنهار الجارية، والأشجار المُتَدَلِّية، والفواكه الغريبة، والأصوات العذبة، وأعلى من ذلك كله تمتع الأرواح بقُرب ربهم، وتلذذ العيون برؤيته، وتلذذ الأسماع بخطابه الذي يُنسيهم كل نعيم، ولولا الثبات من الله لهم لطاروا وماتوا من الفرح والسرور.
﴿ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ﴾: يعني ولا يُنْقَصون من ثوابأعمالهم شيئًا، ولو كان مقدار النُقرة التي في ظهر النواة.
الآية 125: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا ﴾: يعني لا أحد أحسن دينًاً ﴿ مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ﴾: يعني وهو مُتقِن للعبادة ومُؤديها على النحو الذي شرعه الله تعالى في كتابه وعلى لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ﴿ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ﴾ ﴿ وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ﴾: يعني وقداصطفى الله إبراهيم عليه السلام، واتخذه خليلاً، والخُلّة (هي أعلى مقامات المحبةوالاصطفاء) وقد شَرَّفَ الله أيضاً بالخُلَّة محمداً صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم خطبهم آخر خطبة، فقال: "أما بعد أيها الناس: فلو كنتُ متخذاً من أهل الأرض خليلاً، لاتخذتُ أبا بكر ابن أبي قحافة خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله".
الآية 127: ﴿ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ ﴾: يعني وما زالوا يستفتونك في النساء (أي: في شأن ما لَهُنَّ وما عليهنَّ من حقوق، كالميراث والمهر وغير ذلك)، ﴿ قُلِ اللَّهُ ﴾ وحده ﴿ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ ﴾، وقد أفتاكم سبحانه فيهنَّ وبَيَّنَ لكم حقوقهنَّ وواجباتهنَّ في الآيات الأولى من هذه السورة، حيث قررتْ الآيات حق المرأة والطفل في الميراث، وحثتْ على المحافظة على مال اليتيم.
• وقوله تعالى: ﴿ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ ﴾: أي: وما يُتلَى عليكم في يتامى النساء في أول السورة كافٍ لا تحتاجون معه إلى مَن يُفتيكم، إذ بَيَّنَ لكم سبحانه أنه إذا كانت تحت أيديكم يتيمات وكنتم ترغبون في نكاحهنّ فأعطوهنّ مهورهنَّ كاملة مثل باقي النساء، وإذا كنتم لا ترغبون في نكاحهنّ فأعطوهنّ مالهنّ وزَوِّجوهُنَّ غيركم، ولا يَحِلّ لكم أن تحبسوهنّ في بيوتكم من أجل أموالهنّ.
﴿ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ ﴾: أي وكذلك قد بَيَّنَ الله لكمأمر الضعفاء ﴿ مِنَ الْوِلْدَان ﴾ الصغار، حيث قد أعطاهم حقهم وافياً في آيات المواريث، ﴿ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ ﴾: أي وكذلك بَيَّنَ لكم وجوب القيام لليتامى بالعدل، وترْك الظلم عليهم فيحقوقهم، ﴿ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا ﴾ لا يَخفى عليه شيء،وسيجازي كُلاً بما يستحق.
الآية 128: ﴿ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا ﴾: يعني وإذا خافت الزوجة ترَفُّعَ زوجها عنها وعدم رغبته فيها، ﴿ أَوْ إِعْرَاضًا ﴾ عنها بوجهه، فلا يكلمها ولا يَأنَس بها (وذلك لِسُوء خُلُقِها، أو لِكِبَر سِنِّها وعدم رغبتها في المعاشرة الزوجية، أو غير ذلك)، وأراد أن يفارقها، فآثَرَتْ هي البقاءَ معه: ﴿ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ﴾: يعني فلا بأس ولا حرج في هذه الحالة ﴿ أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا ﴾: يعني فلها أن تُجْري مع زوجها صُلحاً (وهو ما يُسَمُّونه: تفاوُضاً) يَحفظ لها بقاءها في بيتها عزيزة محترمة، وذلك بأن تتنازل له عن بعض حقها في الفراش (فتَهَبُ بعضَ أيامها لزوجته الثانية)، أو تتنازل عن بعض ما كان واجباً لها من النفقة أو الكسوة، فإنّ هذا خيرٌ لها من الفراق، ولهذا قال: ﴿ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ﴾: يعني والصلحأوْلَى وأفضل من الفراق، وذلك لضمان النفقة عليها وغير ذلك.
• وقوله تعالى: ﴿ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ ﴾: يعني وقد فُطِرَتْ النفوس على البخل، فهو مُلازمٌ للنفس البشرية لا يفارقها (والمرأة كالرجل في هذا)، إلا أن المرأة أشَحّ منه في أن تُعطي شيئاً مِن حقها لغيرها، إذاً فليُراعِ الزوج هذا، ولا يَستغل اضطرارها لهذه المصالحة فيُنقِصها كثيراً من حقوقها، ولهذا قال تعالى بعدها: ﴿ وَإِنْ تُحْسِنُوا ﴾ معاملة زوجاتكم ﴿ وَتَتَّقُوا ﴾ اللهَ فيهنّ، ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾ لا يَخفىعليه شيء، وسيَجزيكم بالإحسان إحساناً وبالخيرِ خيراً.
الآية 129: ﴿ وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا ﴾ أيها الرجال ﴿ أَنْ تَعْدِلُوا ﴾ العدل التام ﴿ بَيْنَ النِّسَاءِ ﴾ في المحبة وميلالقلب، أما في النفقة والكِسوة والعِشرة بالمعروف فهذا مُستطاع.
﴿ وَلَوْ حَرَصْتُمْ ﴾ على تحقيق العدل في الحب فلن تستطيعوا، ولذلك لا يؤاخِذ الله تعالى به، ولكنْ بشرط: ﴿ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ ﴾: يعني فلا تُعرِضوا عن المرغوب عنها كُلَّ الإعراض﴿ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ ﴾: أي حتى لا تتركوها كالمرأة المُعلَّقة التي (ليست متزوجة ولا هي مُطلَّقة) فتأثموا، ﴿ وَإِنْ تُصْلِحُوا ﴾ أعمالكم فتَعدِلوا في النفقة والعطاء بين زوجاتكم ﴿ وَتَتَّقُوا ﴾ الله تعالى وتخشوه فيهنّ:﴿ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا ﴾ يغفر لكم ما عجزتم عن القيام به لِضَعفكم ﴿ رَحِيمًا ﴾ يرحمكم في دنياكم وأخراكم بسبب تقواكم له.
الآية 130: ﴿ وَإِنْ يَتَفَرَّقَا ﴾: يعني: فإذا تعذر الاتفاق بين الرجل وامرأته، فلا بأس بالفراق، فإذا تفرقا: ﴿ يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا ﴾ منهما ﴿ مِنْ سَعَتِهِ ﴾ وفضله، فيُغني الزوج بزوجةٍ خيرٍ له منها، ويُغني الزوجة بزوجٍ خيرٍ لها منه، وإن انقطعتْ نفقتها من زوجها (بعد الفراق)، فإنَّ رِزقَها على المتكفل بأرزاق جميع الخلق، القائم بمصالحهم، ولذلك قال بعدها: ﴿ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾، فمَن كان كذلك قهو قادرٌ على إغنائهما، ﴿ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا ﴾ في فضله وعطائه ﴿ حَكِيمًا ﴾ فيما يقضي به بين عباده.
الآية 131: ﴿ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾ وما بينهما، ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾ من اليهود والنصارى، ﴿ وَإِيَّاكُمْ ﴾: أي وكذلك عَهِدنا إليكم يا أمة محمد ﴿ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ ﴿ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾: يعني فإنه سبحانه غنيٌ عنكم; لأنّ له جميع ما في السمواتوما في الأرض ﴿ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا ﴾ عن خلقه، فلا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين وجحود الجاحدين، وكان سبحانه ﴿ حَمِيدًا ﴾ في صفاته وأفعاله، مُستحقاً للثناء في كل حال.
الآية 134: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا ﴾: يعني مَن كانت هِمَّتُهُ وإرادته دَنِيَّة غير متجاوزة ثواب الدنيا، وليس له إرادة في الآخرة فإنه قد قَصُرَ سَعْيُهُ ونَظَرُه، ومع ذلك فلا يَحصل له من ثواب الدنيا سوى ما كَتب الله له منها، فإنه تعالى هو المالك لكل شيء، ﴿ فَعِنْدَ اللَّهِ ﴾ وحده ﴿ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ ﴾: فلْيَطلبهما منه ولْيَستعن به عليهما، فإنه لا يُنالُ ما عنده إلا بطاعته، ولا تُدرَكُ الأمور الدينية والدنيوية إلا بالاستعانة به، والافتقار إليه على الدَوام.
• وله سبحانه الحكمة في توفيق مَن يوفقه، وخذلان مَن يَخذله، وله الحكمة كذلك في عطائه ومَنْعِه، ولهذا قال: ﴿ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا ﴾ لأقوال عباده ﴿ بَصِيرًا ﴾ بأعمالهم ونياتهم، وسيجازيهمعلى ذلك.
تفسير الربع العاشر من سورة النساء
الآية 135: (﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ ﴾: يعني كونوا قائمين بالعدل في كل أموركم، ﴿ شُهَدَاءَ لِلَّه ﴾:ِ أي مؤدينللشهادة لوجه الله تعالى، ﴿ وَلَوْ ﴾ كانت ﴿ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ﴾ ﴿ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا ﴾: يعني: ومهما كان شأن المشهود عليه غنيًّا أو فقيرًا، فلا يَحمِلَنَّكم غِنى الغنى ولا فقْر الفقير على تحريف الشهادة أو كتمانها (ظناً منكم أنَّ ذلك في مصلحته)، فإنَّ الله تعالىأوْلَى به منكم، وأعلم بما فيه صلاحه، ﴿ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا ﴾: يعني فلا يَحمِلَنَّكم الهوى والتعصب للغير على ترْكالعدل، ﴿ وَإِنْ تَلْوُوا ﴾: يعني وإن تحرفوا الشهادة بألسنتكم فتأتوا بها على غير حقيقتها، ﴿ أَوْ تُعْرِضُوا ﴾ عنها بترْك أدائها أو بكتمانها: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾: أي عليمًا بدقائق أعمالكم،وسيجازيكم بها.
الآية 136: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا ﴾: أي داوِموا على ما أنتم عليه منالتصديق الجازم ﴿ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ ﴾ على رُسُله الكرام، ﴿ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴾ عن طريق الحق.
الآية 138، والآية 139: ﴿ بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾: يعني أخبِرهم بخبرٍ يَظهرُ أثره على بَشرَةِ وجوههم ألماً وحسرة، (وهو العذاب المؤلم في النار).
• وهؤلاء المنافقون هم ﴿ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ ﴿ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ ﴾: يعني أيَطلبون بذلك النُصرة والقوة عند الكافرين؟ إنهم لا يملكونذلك، ﴿ فَإِنَّ الْعِزَّةَ ﴾ والنُصرة والقوة ﴿ لِلَّهِ جَمِيعًا ﴾: أي جميعُ ذلك للهِ وحده.
الآية 140، والآية 141: ﴿ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ ﴾: أي نَزَّلَ عليكم في القرآن ﴿ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ ﴾: أي فلا تجلسوا مع الكافرين والمستهزئين ﴿ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) (إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ ﴾: يعني إنكم إذا جالستموهم، وهم على ما همعليه من الكفر والاستهزاء، فأنتم مِثلهم؛ لأنكم رضيتم بكفرهم واستهزائهم، والراضي بالمعصية كالفاعللها.
• وكذلك السامع لغَيْبَةِ أخيه (يعني بما يَكرهه في غيبته)، وكانَ في استطاعته أن يدافع عنه، أو أن يقول لهم: (الله يهديه ويغفر له)، ليمنعهم بذلك من غيبته، أو كانَ في استطاعته أن يترك مجلس الغيبة ولم يفعل، وكان راضياً بذلك، ومُقِرَّاً للمغتابين على ما هم عليه: فإنه مغتابٌ مثلهم يأكل لحم أخيه ميتاً.
﴿ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ﴾ يلْقَونفيها سوء العذاب، وهؤلاء المنافقون هم ﴿ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ ﴾: يعني ينتظرون ما يَحِلُّ بكم من الفتن والحرب:﴿ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ ﴾ ونَصَرَكم على عدوكم وغَنِمتم: ﴿ قَالُوا ﴾ لكم: ﴿ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ ﴾ نناصركم؟، ﴿ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ ﴾: يعني قَدْرٌ من النصر والغنيمة، ﴿ قَالُوا ﴾ لهم: ﴿ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾: يعني ألم نساعدكم ونَحْمِكُم من المؤمنين؟ ﴿ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ ﴾ وبينهم ﴿ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ ﴿ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ﴾: يعني ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين طريقًا ليغلبوهم بالحُجَّة والبرهانً في الآخرة، وإنما قلنا (في الآخرة) لأن السِياق كان يتحدث عن أن الله سوف يحكم بين المؤمنين والكافرين يوم القيامة.
الآية 142، والآية 143: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ ﴾:أي يعتقدون بجهلهم أنهم يُخادعونَ اللَّهَ،بما يُظهرونه من الإيمان ومايُبطنونه من الكفر، ظنًّا منهم أنّ ذلك يَخفى على الله تعالى، ﴿ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ﴾ومجازيهمبمثل عملهم، ﴿ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى ﴾: أي قاموا إليها في فتور، ﴿ يُرَاءُونَ النَّاسَ ﴾ ﴿ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾، ولذلك أمر الله المؤمنين - في آيةٍ أخرى - أن يذكروا الله ذكراً كثيراً، لأن الذكر الكثير براءةٌ من النفاق.
• وإنَّ مِن شأن هؤلاء المنافقين أنهم﴿ مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ ﴾: يعني حَيارَى مترددين بين الكفر والإيمان، لا يستقرون علىحال، فـ﴿ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ ﴾: يعني فلا هم مع المؤمنين ولا هم مع الكافرين، ﴿ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ ﴾: يعني ومَن يَصرف الله قلبه عن الإيمانوعن الاستمساك بهديه: ﴿ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ﴾: يعني فلن تجد له طريقًا إلى الهداية واليقين.
الآية 144: (﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ بالنصرة والمحبة والإعانة وبإفشاء أسرار المؤمنين لهم، ﴿ أَتُرِيدُونَ ﴾ بمودَّة أعدائكم ﴿ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ﴾: أي حُجَّةً ظاهرة على عدم صِدق إيمانكم؟
الآية 145، والآية 146: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ﴾: يعني في أسفل منازل النار يوم القيامة، ﴿ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ﴾ يدفع عنهم سوء هذا المصير، ثم ذكر تعالى الأمل الوحيد لهم في النجاة من ذلك العذاب الأبدي فقال: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا ﴾ ﴿ وَأَصْلَحُوا ﴾ ما أفسدوه من أحوالهمباطنًا وظاهرًا، ﴿ وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ ﴾ من شر النفس والشيطان، واستمسكوا بدين الله، (﴿ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾) في الدنيا والآخرة، ﴿ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾.
الآية 147: ﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ ﴾: يعني ماذا يستفيد الله تعالى من تعذيبكم ﴿ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ ﴾ فإنه سبحانهغني عن ذلك، وإنما يعذب العباد بذنوبهم إن لم يتوبوا وأصَرُّوا على ما هم فيه، ﴿ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا ﴾ لعباده علىطاعتهم له، ﴿ عَلِيمًا ﴾ بكل شيء.
الآية 148، والآية 149: ﴿ لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ ﴾: أي: لا يُحِبُّ الله أن يَجهر أحدٌ بقوْل السُوء من السَبّ والغيبة وغير ذلك ﴿ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ ﴾: يعني: لكنْ يُباح للمظلوم أن يدعو على ظالِمِه، وأن يَذكُره بما فيه من السوء، لِيبيِّن مَظْلمته، ﴿ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا ﴾ يَسمع أقوالكم، فاحذروا أن تتكلموا بما يُغضبه فيعاقبكم على ذلك، وَكَانَ اللَّهُ ﴿ عَلِيمًا ﴾ بنيَّاتكم وأعمالكم، ثم حَبَّبَ اللهُ تعالى إلى عباده المؤمنين فِعل الخير في السر أو العَلَن، وإلى العفو عَمَّن ظلَمهم فقال: ﴿ إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ ﴾: يعني إن تُظهِروا الخير أو تُخفوه، فإنَّ الله تعالى سيُعطِي فاعلَه خيراً، ﴿ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوء ﴾: يعني أو تعفو عَمّن أساء إليكم في أبدانكم أو أموالكم أو أعراضكم، فإنَّ الجزاء من جنس العمل، فمَن عفا عن الخَلق: عفا اللهُ عنه، ومَن أحسن إلى الخلق: أحسن الله إليه، فلهذا قال: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا ﴾: أي يعفو عنعباده مع قدرته عليهم، وسيعفو سبحانه عن صاحب العفو حينما تزِلّ قدمه، فيَجني - في حق الله - ما يستوجب به العقوبة، فيَشكر اللهُ له عفوه السابق فيعفو عنه.
الآية 150، والآية 151: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ﴾ من اليهود والنصارى ﴿ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِه ﴾ بأن يؤمنوا بالله ويُكَذِّبوا رسله الذين أرسلهم إلى خَلقه، ﴿ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ ﴾: أي ببعض الرسل (﴿ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ ﴾ ﴿ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ﴾: يعني ويريدون أن يتخذوا طريقاًبين الكفر والإيمان، وليس هناك إلا طريق واحد (وهو الإيمان أو الكفر)، فمَن آمن بكل الرسل فهو المؤمن، ومَن آمن ببعضهم وكفر ببعضهم فهو الكافر، ولهذا قال: ﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ﴾، أما المؤمنون فإنهم يُقرُّون بنبوَّة الرُسُل أجمعين، ولا يفرقونبين أحدٍ منهم في الإيمان بهم، وبما جاؤوا به من التوحيد.
الآية 153: ﴿ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ ﴾ وهم هنا اليهود، الذين جاؤوا يسألونك (على سبيل العناد) سؤالاً يتوقف عليه تصديقهم أو تكذيبهم، وهو أن تأتي إليهم بمعجزة تشهد لك بالصِدق، وهي ﴿ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاء ﴾:ِ أي تُنَزِّلَ عليهم القرآن جُملةً واحدة كما نَزَلت التوراة والإنجيل، وهذا غاية الظلم منهم والجهل، فإنَّ الرسولَ بشر، ليس في يده من الأمر شيء، بل الأمر كله لله، وهو الذي ينزل ما يشاء في الوقت الذي يشاء (بحسب الأحوال والأحداث)، وذلك لتربية عباده، وتثبيت المؤمنين، والرد على المخالفين، مما يدل على اعتناء الله برسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام، كما قال تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ﴾، فلاتَعجب أيها الرسول مِن طلب هؤلاء اليهود ﴿ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً ﴾: أي عياناً بالبصر، ﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ﴾: أي بسبب ظُلْمِهم أنفسهم حين سألوا أمرًا ليس منحقِّهم، ﴿ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾: يعني: وبعد أن رأوا من الآيات بأبصارهم ما لم يَرَهُ غيرهم (حيث فلق الله لهم البحر وأنجاهم وأغرق عدوهم)، وبعد أن شاهدوا الآيات البينات (القاطعة بنفي الشرك) على يد موسى: اتخذوا العجل إلهاً يعبدونه من دون الله، ﴿ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ ﴾: أي فعَفونا عن عبادتهم العجل بسببتوبتهم، ﴿ وَآَتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا ﴾: يعني وآتينا نبيهم موسى حُجَّة عظيمة تؤيِّد صِدق نُبُوَّتِه، فقهر بها أعداءه، ولم يؤثر ذلك في طباعهم.
الآية 154، والآية 155: ﴿ وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ ﴾: يعني ورفعنا فوق رؤوسهم جبل الطور - تهديداً لهم - حين امتنعوا عن الالتزام بالعهد المؤكَّد الذيأعطوه بالعمل بأحكام التوراة، ﴿ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا ﴾: يعني وأمرناهم أن يدخلوا باب "بيت المقدس" سُجَّدًا،فلم يفعلوا، ﴿ وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ ﴾: أي وأمرناهم ألا يَعْتَدُوا بالصيد في يوم السبتفاعتدَوا، واصطادوا، ﴿ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ﴾: أي وأخذنا عليهم عهدًا مؤكَّدًا على أن يعملوا بما في التوراة، فنقضوا هذا العهد، إذاً فلا غَرابة في سؤالهم إيَّاك أن تنزل عليهم كتاباً من السماء.
﴿ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ ﴾: أي فبسبب نقضهم للعهود لعنَّاهم، لأن هذا نظير قوله تعالى في آيةٍ أخرى: ﴿ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ ﴾، ﴿ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللَّهِ ﴾: يعني وكذلك لَعَنَّاهُمْ بسبب كفرهم بآيات الله الدالة على صِدق رسله، وكذلك بسبب: ﴿ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ﴾، وكذلك بسبب: ﴿ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ﴾: أي عليها أغطية فلا تفقه ما تقول، ﴿ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ ﴾: يعني بلطمس الله عليها بسبب كُفرهم، ﴿ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا ﴾ إيمانًا ﴿ قَلِيلًا ﴾ لا ينفعهم (كإيمانهم بموسى وهارون والتوراة)، ولكن كُفرهم بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم أضاع هذا الإيمان.
الآية 156: ﴿ وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ﴾: يعني: وكذلك لَعَنَّاهُمْ بسبب كُفرهم وافترائهم على مريم بما نسبوه إليها من الزنى، وهيبريئة منه.
الآية 157: ﴿ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ ﴾: يعني ولَعَنَّاهُمْ أيضاً بسبب قولهم - على سبيل التَهَكُّم والاستهزاء -: (إننا قتلنا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مريم الذي يَدَّعِي أنه رسولَ اللَّه)،وهذا مثل قول فرعون وهو يتحدث عن موسى: (﴿ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ﴾)).
فأكْذَبَهم اللهُ تعالى في ذلك بقوله: ﴿ وَمَا قَتَلُوهُ ﴾: يعني وما قتلوا عيسى عليه السلام ﴿ وَمَا صَلَبُوهُ ﴾ ﴿ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ﴾: يعني: بل صلبوا رجلا شبيهًا به ظنًّا منهم أنهعيسى، ﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ﴾: يعني: ومَن ادَّعى قَتْلَهُ من اليهود قد وقعوا في شك وحَيْرَة: هل هذ الرجل (الذي ألْقِيَ عليه شبه عيسى) هو عيسى؟ أو غيره؟ إنهم لم يجزموا أبداً بأنّ مَن ألقوا عليه القبض فصلبوه وقتلوه هو المسيح عليه السلام، و ﴿ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ ﴾: يعني لا عِلْمَ لديهم في ذلك ﴿ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ﴾ ﴿ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ﴾: يعني وما قتلوه مُتيقنين بأنه هو،بل كانوا شاكين مُتوهمين.
• فإذا كانوا يزعمون أنه هو الذي صُلِب، ويّزعمونَ أنه إلهٌ (فهل هناك إلهٌ - يتعَذب على أيدي بعضِ خَلقِهِ - يَستحق أن يُعبَد؟!)، (وهل يُعقل أن يُعبَد الصليب الذى قتِلَ عليه إلهٌ وأغرقه دماً، أمْ يُكسَر وَيُدَنَّسُ؟!)، (وإذا كانوا يعتقدون أنَّ الصَلب كانَ من أجل تكفير خطيئة آدم عليه السلام، فهل يتحمل الأبناء خطيئة الآباء؟ أمْ أنَّ اللهَ لم يكن قادراً أن يغفرَ مِن غير تعذيب؟!)، (ومَن الذى كان يَحكم الكون، وَيُسَيّر المخلوقات ويرزقها، ويُمسِك السماء حتى لا تقع على الأرض عندما ماتَ الإله؟!)، (وإنْ كانوا يزعمون أنّ الإله قد مات، فمَن الذى أحياه؟ هل هو الذى أحيا نفسه؟ أمْ أنّ هناك إلهاً آخر هو الذى أحياه؟، ولماذا لم يَقهر الموتَ عندما جاءه لينتزع روحه، أليس هو إلههم كما يزعمون؟!)، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، بل هو سبحانه - جَلَّ في عُلاه - الحي الذي لا يموت، القيوم الذي لا ينام، الجبار القهار ذو القوةِ المتين.
الآية 158: ﴿ بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ﴾: يعني: بل رفع اللهُ عيسى إليه ببدنه وروحه حيًّا، وطهَّره من الذين كفروا، ﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا ﴾ في مُلكه ﴿ حَكِيمًا ﴾ في تدبيره وقضائه.
الآية 159: ﴿ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ ﴾: يعني: وما مِن أحد من أهل الكتاب (المختلفين في أمر عيسى عليه السلام) يكون موجوداً وقت نزول عيسى في آخر الزمان إلاَّوسيؤمن بأنه عبدٌ لله ورسولٌ منه، وذلك ﴿ قَبْلَ مَوْتِهِ ﴾: يعني بعد نزوله من السماء (لأنه لن يموت حتى ينزل في آخر الزمان)، فحينئذٍ يُوقِنُ أهل الكتاب أنه ماقُتِلَ وما صُلِبَ (لأن بنزوله ورؤيته: قد زالت الشُبهة التي كانت عندهم)، وعندما يَنزل: يَقتل الدجال، ويؤمن به أهل الكتاب مع المؤمنين، حتى تكون المِلَّة واحدة (وهي مِلَّة الإسلام).
﴿ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ ﴾ عيسى عليه السلام ﴿ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ﴾ بتكذيب مَنكَذَّبَه، ولم يتبع بشارته بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويَشهد بتصديق مَن صدَّقه وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك يشهد على اليهود أنهم كَذَّبوه وطعنوا فيه، وعلى النصارى أنهم جعلوه شريكاً مع الله تعالى في عبادتهم، وأنه بَرِيءٌ مِمَّن فعل ذلك، قال تعالى - حاكياً عن عيسى عليه السلام: ﴿ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ﴾.
الآية 160: ﴿ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا ﴾: يعني فبسبب ظلم اليهود بما ارتكبوه من الذنوب العظيمة: ﴿ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ ﴾ منالمأكولات ﴿ أُحِلَّتْ لَهُمْ ﴾: أي كانت حلالاً لهم، ﴿ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا ﴾: يعني وكذلك كان هذا التحريم بسبب صدِّهم أنفسهم وغيرهم عن دين الله القويم، وهو الإسلام.
الآية 162: ﴿ لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ ﴾: يعني: لكنِ المتمكنون في العلم بأحكام الله من اليهود، ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾ بالله ورسوله ﴿ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ ﴾ وهو القرآن ﴿ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ﴾ كالتوراة والإنجيل، ﴿ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ ﴾ أي وأخُصّ الْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ - لِمَزيدِ فضلِهم - وهم الذين يؤدُّون الصلاة في أوقاتها بخشوع، وكذلك: ﴿ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ وهو الجنة.
الربع الأخير من سورة النساء
الآية 164: ﴿ وَرُسُلًا ﴾: أي وأرسلنا للناس رُسُلاً، فمنهم مَن ﴿ قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ ﴾ في القرآن ﴿ مِنْ قَبْلُ ﴾: أي مِن قَبلِ هذه الآية، ﴿ وَرُسُلًا ﴾ أخرى ﴿ لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ﴾ لِحكمةٍ أردناها، ﴿ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ﴾.
• وفي هذه الآية إثبات صفة الكلام لله تعالى كما يليق بجلاله، وأنه سبحانهكَلَّمَ نبيه موسى عليه السلام حقيقةً بلا وَساطة، وهذا مِثل قوله تعالى: ﴿ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ﴾، وفي هذا ردٌ قاطع على مَن يُنكرون صفة الكلام لله تعالى، ويتحَجَّجون بأنه لا يليق به سبحانه أن يتكلم، فهذا قولٌ باطل، وافتراءٌ على الله عز وجل، بل على العكس تماماً، فإنَّ الذي يتكلم خيرٌ وأكمل مِن الذي لا يتكلم، والذي يسمع ويُبصِر خيرٌ وأكمل مِن الأصَمّ والأعمى، وإنَّ فاقد الشيء لا يعطيه، ولَمَّا أراد الله تعالى إبطال عبودية هذه الآلهة المزعومة مِن دونِه: كانَ يُظهِر صفة النقص التي فيها، كما قال تعالى - حكايةً عن ابراهيم عليه السلام: ﴿ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ﴾، فكيف تُعبَدُ آلهةً صَمَّاء لا تسمع ولا تُبصِر ولا تتكلم؟، وكذلك لما أراد إبطال عبودية النصارى لعيسى عليه السلام وأمِّه قال عنهما: ﴿ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ﴾، فكيف تُعبَدُ آلهة تحتاج إلى الطعام والشراب وتفتقر إليه، وبالتالي تحتاج إلى قضاء حاجتها؟!
الآية 166: ﴿ لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ ﴾: يعني: إن يَكفُر بك اليهود وغيرهم، فاللهُ يَشهد لك بأنك رسوله الذيأَنْزَلَ عليه القرآن العظيم، فقد ﴿ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ﴾ ﴿ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ ﴾: أي يشهدونَ كذلك بصِدق ماأُوحِيَ إليك، ﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ﴾: يعني وشهادة الله وحدها كافية.
الآية 167: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ بالله وبرسوله، ﴿ وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾: يعني وصَدُّوا الناسَ عن الإسلام، أولئك ﴿ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا ﴾ عن طريق الحق.
الآية 170: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ ﴾ محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ بِالْحَقِّ ﴾: أي بالإسلام، الذي هو دينُ الحق ﴿ مِنْ رَبِّكُمْ فَآَمِنُوا ﴾ به واتبِّعوه ﴿ خَيْرًا لَكُمْ ﴾ ﴿ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾: يعني وإن تُصِرُّوا على الجحود والعِناد: فإن الله غنيٌ عنكم وعن إيمانكم; لأنه سبحانه مالِكُ السموات والأرض وما فيهما، فإذا كانت السموات والأرضقد خضعَتا لله تعالى (كَوْنًا وقدَرًا)، فأوْلَى بكم أن تؤمنوا باللهوبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وبالقرآن الذي أنزله عليه، وأن تنقادوالذلك (شرعًا) حتى يكون الكونُ كلُّه خاضعًا لله (قدرًا وشرعًا)، ﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾.
• وفي الآية دليلعلى عموم رسالة نبي الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم للناس أجمعين.
الآية 171: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ ﴾ وهم هنا النصارى: ﴿ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ﴾: يعني لا تتجاوزوا الاعتقاد الحق في دينكم، ﴿ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ﴾ فلا تجعلوا له صاحبةً ولا ولدًا، فـ ﴿ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﴾ ﴿ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ ﴾ وهي كلمة: "كُن" التي خلقه الله بها، ﴿ وَرُوحٌ مِنْهُ ﴾ وهو جبريل عليه السلام، الذي أرسله الله إلى مريم بكلمة "كُن"، فنفخها جبريل في مريم بأمر ربه، واعلم أن الروح هو اسم من أسماء جبريل عليه السلام،والدليل على ذلك: قوْل الله تعالى: ﴿ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ ﴾، وقوله تعالى: ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ﴾.
﴿ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ﴾ ومنهم محمد صلى الله عليه وسلم للناس الذي تجدونه في كتبكم، ﴿ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ ﴾ بأن تجعلوا عيسى وأمه شريكين مع الله، ﴿ انْتَهُوا ﴾ عن ذلك ﴿ خَيْرًا لَكُمْ ﴾ ﴿ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ ﴾ ﴿ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ﴾: أي تنزَّهَ اللهُ تعالى عن ذلك، فإنه ليس مُحتاجاً إلى ولدٍ كما يحتاجُ البشر، فإنّ البشر يحتاجون إلى ولدٍ يَخدمهم ويرعاهم في كِبَرهم، وعند مرضهم، وحالَ ضَعفِهم، أما اللهُ تعالى فهو - سبحانهُ - القوي الغني الذي لا يحتاجُ إلى شيءٍ مما يحتاجُه البشر، فلا يحتاجُ إلى زوجةٍ أو ولد، لأنه سبحانه ﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾: يعني كل ما في السموات والأرض ملْكُه، فكيفيكون له منهم صاحبة أو ولد؟ ﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾ على تدبير خلقه وتصريف معاشهم.
• فسبحان الله العظيم، أحياناً يقولون عن المسيح إنه هو الله، وأحياناً يقولون إنه ابن الله، وأحياناً يقولون إنه ثالثُ ثلاثة، فمَن إلههم الذي يعبدون؟!
الآية 172: ﴿ لَنْ يَسْتَنْكِفَ ﴾: أي لن يَأْنف (يعني لن يَتقزَّز) ولن يمتنع ﴿ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ ﴾ ﴿ (وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) ﴾: يعني وكذلك لن يأنَفَ الملائكةالمُقَرَّبون من الإقرار بالعبودية لله تعالى، ﴿ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ ﴾: يعني ومن يأنف عن الانقياد والخضوع ﴿ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ ﴾ كلهم ﴿ إِلَيْهِ جَمِيعًا ﴾ يوم القيامة، ويَفصلُ بينهم بحُكمه العادل ويُجازيكُلاً بما يستحق.
الآية 174، والآية 175: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ وهو رسولنا محمد، وما جاء به منالبينات والحجج القاطعة، وأعظمها القرآن الكريم (المعجزة الخالدة التي تشهد له بصِدق نبوته ورسالتهالخاتمة)، ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا ﴾ وهو القرآن، ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ ﴾ اعتقادًا وقولا وعملا، ﴿ وَاعْتَصَمُوا بِهِ ﴾ من شر النفس والشيطان وكذلك استمسكوا بالنور الذيأُنزل إليهم، ﴿ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ ﴾: يعني فسيُدخلهم الجنة رَحمةً منه وفضلاً، ﴿ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ﴾: أي ويوفقهم إلى سلوك الطريقالمستقيم المُوصل إلى روضات الجنات.
من سلسلة تفسير لآيات القرآن الكريم، وذلك بأسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرة من (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف أ.د. التركي)، وأيضًا من "تفسير السّعدي"، وكذلك من كتاب: " أيسر التفاسير" لأبي بكر الجزائري) (بتصرف) واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحدياً لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذا الأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحياناً نوضح بعض الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.