الكثرة لا تعني أبدًا الصحة، الكثرة في القرآن غالبًا ما تأتي في سياق الذم وإن كثيرًا من الناس لفاسقون فلا تتبع الأكثرية المسألة ليست أكثرية وأقلية، المسلمون في مكة كانوا أقلية والأغلبية كانت لكفار قريش من كان على حق ومن كان على باطل؟ الأكثرية أم الأقلية؟!
إذن المسألة ليست أكثرية وأقلية لا، المسألة ليست عدد، المسألة مسألة المبدأ، المسألة مسألة الحق، والحق لا يُعرف بكثرة من يتبعه ويسير خلفه، الحق يُعرف بنفسه يعرف بقيمه يُعرف بذاته، ولذلك كل الأنبياء ما كان أتباع الانبياء هم الأكثرية، معظم أتباع الرسل والأنبياء كانوا أقلية ما كانوا أكثرية، الملأ كانوا من غير أتباع الأنبياء غالبًا ولكن ذلك لم يغير من واقع أن الحق حق وأن الباطل باطل، لا يتغير ولا يحل واحدًا منهما مكان الاخر بكثرة أو قلة، الأتباع، قضية خطيرة جدا لأننا وللأسف الشديد في كثير من الأحيان في مجتمعاتنا ننساق وراء أغلبية الناس.
لذلك النبي صلّ الله عليه وسلم يحذر أن الانسان لا ينبغي أن يكون إمعة إن أحسن الناس أحسن وان اساؤوا اساء لأنه يمشي وراء الناس، القران لا يريد من الإنسان المؤمن أن يمشي وراء الناس يريد إنسانا يمشي أمام الناس.
القرآن أعظم كتاب يصنع الانسان القيادي والانسان القيادي هو من أبرز صفاته ذلك الإنسان لا يسير وراء أهواء الناس ولا وراء ما يقولون ولا وراء ما يرغبون لأنه لديه ميزان دقيق ميزان ما أنزل الله سبحانه وتعالى، ماذا يريد الله منا؟
ما الذي يرضي ربي عز وجل عني وليس الجري وراء ما يرضي الناس ولذلك القرآن العظيم اعتبر ذلك حكم جاهلية
لماذا جاء ذكرها بالذات في هذا السياق في سياق الحديث عن الحكم؟
لأننا في كثير من الأحيان ننجر وننساق وراء الأكثرية ونتأثر يقولها كذلك نتأثر بما يقول الآخرون وأحيانًا نتعرض لإشكالية وتحدي خطير في أنفسنا قد يصل بنا الى حد تغيير المبادئ والقيم والقناعات لأجل إرضاء الأكثرية وإرضاء الناس، لا تكن إمعة! إذن ماذا يكون الإنسان؟
يكون نفسه تلك النفس المؤمنة التي لا يضرها من ضل إذا كانت هي على حق وهداية
قضية الولاية هنا لغير الله ورسوله نوع من أنواع الارتداد والتراجع عن الدين والإيمان وعقد الميثاق، العقد عقد الإيمان وميثاق الإيمان مع الله سبحانه وتعالى، وأعطانا مواصفات لأولئك القوم في حال حدوث عملية الاستبدال هذا فيها وعيد، وعيد واضح جداً لكل أولئك الذين لا يسيرون وفق ما أراد الله سبحانه وتعالى في منهجهم وفي حكمه وفي تشريعاته.
(يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)
والله سبحانه وتعالى لا يعطي ولا يقدم لنا في أي سورة ولا في أي موضع من مواضع الحياة التي تتحدث عن قضية الذل في القرآن، لا يعطينا أي شيء من الإيجابية لهذه الصفة إلا في مواضع محصورة:
الموضع الأول في التعامل مع الوالدين: حين قال:
عند الوالدين لا بأس للإنسان المؤمن أن يكون ذليلاً بين يديهم، بين يدي الوالدين.
ثم بعد ذلك في التعامل مع المؤمنين هو وصفهم فقال:
(أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)
الذل ليس بمعناه السلبي، وإنما بمعنى التذلل بمعنى الليونة في التعامل، بمعنى اليسر والتسامح في التعامل معهم إلى الحد الذي يُشعر الإنسان الآخر أو الطرف الآخر بهذه الصفة.
أما في التعامل مع الكافرين فالموقف مختلف،
لماذا أعزة على الكافرين؟
لأن المطلوب من المؤمن ألا يُظهر لهم أي نوع من أنواع التخاذل أو التواضع أو شيء من أنواع التذلل معهم الذي قد يوهمهم بأن هذا الطرف طرف المؤمن في ضعف. المؤمن حتى إذا كان طبيعة الظروف المحيطة به تفرض عليه شيئا من الضعف فهو لا يظهر هذا الضعف ولا يبديه أبداً؛ لأنه في قرارة نفسه مؤمن بأنه يستمد قوته من الله سبحانه وتعالى، ولذلك أيضاً وصف هؤلاء القوم فقال:
(يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ)
على العكس تماماً من أولئك الذين يخافون لومة لائم.
أولئك الذين يوالون لغير الله، ويدخلون في الولاءات حسب مصالحهم العاجلة، لماذا؟
لأنهم يخافون من هذا وذاك يخافون من الشرق ويخافون من الغرب، يخافون من اللوم ويخافون من كل شيء؛ لأنهم ما عادوا يدركون أن أعظم خوف يجب أن ينصرف هو الخوف من الله سبحانه وتعالى. والإنسان إذا خاف الله عز وجل ربي عز وجل أخاف منه كل شيء، ولكنه إذا خاف من كل شيء، أخافه الله سبحانه وتعالى من كل شيء؛ لأنه لم يخف الله سبحانه، توهم وجود نفع أو ضر من قبل أحد من البشر.
الأحبار والربانيون هنا تشكل فئة العقلاء والحكماء والعلماء الذين وصفتهم آيات أخرى قبل ذلك بما استحفظوا من كتاب الله، على اطلاع ومعرفة حقيقية بالدين وبالكتب السماوية استحفظوا من كتاب الله، ومدركين لهذه التعاليم والتشريعات، هؤلاء لا بد أن يكون لهم موقف من الفساد والمفسدين، لا بد أن ينهوا عن الفساد في الأرض، لا بد من النهي عن الفساد في الأرض، ولكن أن يقفوا صامتين أمام وإزاء كل هذا الفساد الذي يحدث فالقضية لن تقف أبداً عند حد!
ولذلك كان من الواجب على أولئك العقلاء والربانيون والأحبار والعلماء والرهبان أن يكون لهم موقف واضح إزاء ما حدث من سخرية ومن استهزاء ومن تطاول على شخص النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أنا لا أتكلم هنا عن أفراد، أنا أتكلم عن تجمعات، تحالفات، يكون لها صوت قوي مسموع،
ولذلك قال في نهاية الآية الأولى قال:
(لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
والثانية
(لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)
الفساد بكل أشكاله حين لا يجد من يوقفه سيصبح صنعة عند البشر وفي المجتمعات الإنسانية الناس تعتاد عليه، وهذا هو الفرق بين شيء يصنع، وبين عمل، العمل يعمله الإنسان مرة مرتين كذا مرة، ولكن حين يصبح هذا الشيء صنعة له فهو أصبح مهنة، أصبح يزاوله ويزاوله ويديم المزاولة إلى أن أصبحت صنعة له
تدبروا معي هذا الربط العظيم هذه كل الآيات كأنها تحكي عن الواقع الذي نعيش فيه، وهكذا القرآن. القرآن يعالج واقعًا إنسانيًا، واقعاً إنسانياً غير متوقف على زمن معين غير مرتبط بزمن معين، لماذا ربي عز وجل حدثنا هنا عن قضية اليهود والنصارى؟
لأن القضية ليست قضية مرتبطة بزمن، ومعظم التعاملات نستطيع أن نقول كلها اليوم نحن في تعاملاتنا وفي تعاملاتنا الخارجية والعلاقات الخارجية علاقات الدول والأفراد الخارجية هي مع من؟ هي مع هؤلاء القوم، صحيح القضية لم تعد قضية أو هكذا يظهر أن القضية لا تتعلق بأشياء دينية ولكن القرآن حدد لك الإطار العام الذي يتم التعامل فيه ومن خلاله حتى يكون الإنسان والمجتمعات مدركة لواقع هذا التعامل، ولا تتعامل مع هؤلاء القوم، ومع الآخرين من زاوية أو من ناحية الشعور بالضعف، والاستجداء منهم، الأمر الذي يولد عشرات التنازلات حتى عن القيم والمبادئ والدين الذي تؤمن به، إشكالية في غاية الخطورة! والإنسان حين لا يدافع حتى عن الدين الذي يؤمن هو به، ماذا بقي له؟! ماذا بقي له؟!
للأسف الشديد خسرنا كثيراً حين سمحنا للآخرين بطريقة أو بأخرى من خلال ضعفنا ومن خلال عجزنا من خلال تنازلاتنا، خسرنا إنما لم نعالج قضية عدم احترام الآخرين لقيمنا ومبادئنا وديننا، خسرنا ولا زلنا نخسر، لأن هذه القضية جوهرية تماماً.
(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) تدبروا معي! أعظم أسباب وعوامل الرخاء الاقتصادي والاستقرار السياسي والمجتمعي، والأخلاقي في كل المجتمعات: إقامة منهج الله سبحانه وتعالى(وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ ) لو أنهم أقاموا، طبّقوا، نفّذوا، ساروا على المنهج الذي جاء في هذه الكتب، الكتب السماوية، لكانت تغيرت النتيجة.
فاليوم نحن لدينا بمفهوم المخالفة هنا أن كثيرًا من الناس لا يجدون ما يأكلون، ناهيك عن أن يأكلوا من فوقهم أو من تحت أرجلهم. الآيات تتحدث عن رخاء اقتصادي، عن غنى، وفرة في الأموال، في المكاسب، في المطاعم، في المصادر، المصادر بكل أشكالها، مصادر الثروة. ما نجده في عصرنا وفي زماننا اليوم الشكوى المتواصلة من الكوارث الاقتصادية، ومن المجاعات، ومن قضية التقشف، معظم الدول العالم اليوم ومن نزول في قضايا الثروات، ومصادر الدخل، واضح جداً هذا، السؤال: يا ترى لماذا حدثت هذه النتيجة؟
بمفهوم المخالفة: أن واحدًا من أهم أسباب وعوامل حدوث هذا الانهيار والتدهور في الحالة الاقتصادية للبشر، وهو عدم اتباع منهج الله عز وجل، وممكن أن نوضح هذا، كيف؟ أعظم رسالة وقيمة في إقامة منهج الله سبحانه وتعالى التي جاءت في التوراة، جاءت في الإنجيل، جاءت في القرآن: النهي عن الفساد وإيقاف المفسدين في الأرض. ولو تدبرنا في معظم ما نعاني منه من حالات اقتصادية لوجدنا أن السبب الرئيس في حالات التدهور في اقتصاد دول هو الفساد، مستويات الفساد لدينا في كثير من مجتمعاتنا عالية! فساد بكل أشكاله، شخص أو مجموعة أفراد يسيطرون على ممتلكات دول، وينهبون أموالها، هذا الفساد، أو مؤسسات تنهب هذه الأموال، وتبقى هذه المؤسسة والدولة والمجتمع يعاني من أشد الأمراض فتكاً من فقر، ومن تدني في التعليم، من كل الأمراض! والرسالة الجامعة بين كل قيم الأنبياء والرسالات السماوية لو أردنا فعلاً أن نلخصها في كلمات
فالرسالات والرسل جاءوا بالنهي عن الفساد بكل أشكاله، فساد في الدين، وفساد في المال، وفساد في الأخلاق، وفساد في القيم، ومشكلة العالم اليوم ليس قضية قلة الموارد أو مصادر الدخل، أو أن الأرض ما عاد فيها أقوات تكفي لهذه الجموع من البشر كما يتوهم البعض، أو يحاول الترويج له، لا، وإنما الإشكالية الخطيرة إذا استطعنا فعلاً ونريد أن نلخصها في كلمات: (قضية الفساد والمفسدين) أن هناك مجموعات من المفسدين استولوا على تلك الثروات، ثروات البشرية وأهدروها، فكانت النتيجة ما نراه!
هل فعلاً محاصرة الفساد وإقامة ما أنزل الله في واقع الحياة يحقق رخاءً اقتصاديًا؟ قطعاً. لماذا؟ لأن إقامة منهج الله سبحانه وتعالى هو أنجع طريق لمحاصرة الفساد والمفسدين، وإذا قضيت على الفساد والمفسدين، أصبحت في غنى حقيقي، رخاء حقيقي، وهذه هي الرسالة التي أعطانا إياها القرآن.
تدبروا في قضية محورية النهي عن المنكر والفساد. إشكالية خطيرة في مجتمعاتنا الآن بدأت تظهر أن الناس أصبح أيّ واحد منهم حتى في الأسرة الواحدة يرى الخطأ يرى المنكر من أخيه، من أمه، من أبيه، من ابنه، من ابنته، من ابن أخيه، ويقول لك: لا لا لا، لا أريد أن أتدخل هذه حرية شخصية
(لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) نهيك عن المنكر لا يعني أنك تتدخل في حريات الآخرين، لا يعني أنك تقوم بالوصاية عليهم، لا يعني أبداً هذه المعاني، ولكن هو يعني بالفعل أنك إنسان تهتم لأمر الآخرين، تقوم بالواجب الذي يفرضه عليك، عشرات الأمور من العلاقات الإنسانية فيما بينك وبين هؤلاء من الروابط رابطة الإنسانية، رابطة الدم، رابطة القرابة، عشرات الروابط التي تربط بيننا كبشر، كيف نتغافل عن كل هذه الروابط؟! ويهيأ لنا بأن القضية قضية حرية شخصية ولا أتدخل في الآخرين؟! كيف أنت اليوم أنا أتساءل دعونا نضعها في هذا المثال: لو أنك رأيت بيتاً يحترق حريقًا حسيًا حقيقيًا، ورأيت في داخله أشخاصًا كبار وصغار ونساء ورجال، بالله عليك أتتركهم يحترقون؟! أم تسارع لإنقاذهم ونجدتهم؟ الحقيقة أن الطبيعة الإنسانية تفرض عليك أن تفعل كل ما بوسعك لأجل إنقاذهم أليس كذلك؟! البعد عن منهج الله عز وجل، أليس هو نوع من أنواع الاحتراق المعنوي؟! أكل المال الحرام على سبيل المثال، أليس هذا نوع من أنواع الاحتراق؟! الجسد الذي يغذّى بالسحت وبالحرام، أليست النار أولى به؟! فأنت المطلوب منك كإنسان أن تبادر لإنقاذ هؤلاء بالحكمة والموعظة الحسنة والطريقة الجيدة، نعم، ولكن قطعاً لا تتركهم هكذا هذا الشيء منطقي، فلماذا يغيب عنا العقل والمنطق ونحن نواجه المنكر والفساد؟! لماذا؟! هل أحد يلومك إذا أنت قمت بمحاولة إنقاذ هؤلاء من الحريق، أو من الغرق؟! لا، فلماذا إذاً أنت تتوهم أن هناك من يمكن أن يوجه إليك اللوم لو أنك نهيت عن منكر، أو أوقفت فساداً، أو أمرت بخيرٍ أو إصلاح بين الناس لماذا؟! لماذا هذا التناقض لماذا؟!
وروي في بعض الآثار أنهم كانوا ممكن ينهون في بعض الأحوال، ولكنهم يجالسونهم ويمشون معهم وكأن الأمر طبيعي الإشكالية خطيرة جداً إذا ظهرت في الأسرة، إذا ظهرت في المجتمع قامت بتدميره من جذوره!!
<<<<<<<<<<<<<<
احذروا كثرة الحلف
القرآن في سورة المائدة يعرض لنا أشكالاً متنوعة في قضايا التشريع، قضايا تعرض للإنسان في واقعه، فكما أن القضايا في التشريع متعلقة بالطعام والشراب وما شابه، هي كذلك متعلقة بالكلمات بما يتفوه به الإنسان، فبعض الأشخاص قد يأخذ قضية الحلف والأيمان وما شابه وسيلة يحرّم بها أشياء معينة على نفسه، وهذا يعتمد إلى حد كبير على طبيعة البيئة التي يعيش فيها الإنسان، ونحن نرى في بعض المجتمعات الناس يحلفون على بعضهم البعض لأجل دعوة على طعام أو عشاء أو ما شابه، أو تناول صنف معين من أصناف الطعام، هذا ما عبّر عنه القرآن باللغو في أيمانكم، هو لا يقصد به الحلف في ذاته، ولكن هو الذي يقصد به في واقع الأمر مجرد عملية زيادة في التأكيد على شيء معين، ولذلك ربي سبحانه قال
(لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ)
لماذا؟
لأن القضية قضية التزام هنا وربي سبحانه وتعالى حتى في هذه الآية أوصانا بأي شيء؟
قال: (وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ)
كل شيء في هذا الدين العظيم، يقوم على مبدأ الحفظ، يقوم على مبدأ التنبؤ واليقظة، لا شيء في هذا الدين من تشريع يأتي هكذا عفوياً بدون معنى، تصبح في ظل هذه التشريعات أقوال الإنسان، ألفاظه، أفعاله، حتى النية لا بد أن يكون لها موقع لا بد أن يكون لها أهمية واضحة
(كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)
ثم تدبروا معي!! في ذاك التناسب الرائع العجيب الذي جاء موقعه بعده في الآية التي تليها في مسألة تحريم الخمر تحريماً قطعياً، ربي سبحانه في الآية التي قبل قال:
(وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ)
الألفاظ التي يتلفظ بها الإنسان عليه أن يراقبها تماماً، وبالتالي لا يستعمل كلمة الحلف كما جاء ويأتي في كثير من مجتمعاتنا وبيوتنا الناس يحلفون كثيراً، ولكن ليس هم حين يحلفون هم يريدون فعلاً قضية الحلف، وإنما هم فقط هكذا درجت أصبحت كلمة دارجة على الألسنة، ما المطلوب؟ المطلوب أن يتيقظ الإنسان وأن ينتبه لما يقول، وأن يصحح من لسانه، وأن يضبط عملية التفوه بتلك الكلمات التي يقولها
الرب الذي أمرك بأن تحفظ الأيمان، وأن تحافظ على الكلمات التي تتفوه بها، هو الرب الذي يأمرك أن تحافظ على أعظم نعمة أعطاها لذلك المخلوق، لذلك الإنسان، النعمة التي هي مناط التكفير، النعمة التي بدونها لا يمكن أن يكون هناك تكليف في واقع الأمر(إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ)
وبدأ بالخمر، ولماذا الخمر؟
الخمر فيه اعتداء واضح على نعمة العقل، أعظم اعتداء فيها اعتداء على نعمة العقل، نعمة العقل التي بها كُرِّم الإنسان، وبها خوطب في مجال التحريم والتحليل والتشريع، المجنون لا يخاطب بالتشريع، فاقد العقل لا يخاطب بالتكليف وبالت،شريع الذي يخاطَب هو الإنسان العاقل، فكيف لذلك الإنسان أن يأتي إلى الخمر طواعية لتفقده أعظم ما كرّمه الله به ألا وهو العقل؟!
الخمر، والميسر، والأنصاب، والأزلام وربي عز وجل في هذه الآية جمع لنا كل ما يعرف في واقع الأمر من الحفاظ على الضروريات أو مقاصد الشريعة حفاظ على الدين، حفاظ على العرض، الحفاظ على العقل، الحفاظ على المال، الحفاظ على النفس، هذه الآفات الخمر والميسر، والأنصاب والأزلام هي التي تهدر هذه الضروريات التي لا تستقيم حياة البشر أبداً دون الحفاظ عليها، تدبروا معي!
نحن تكلمنا وقلنا أن سورة المائدة تتحدث عن العقود، وهذه الممارسات التي لم تعد ممارسات فردية، بل هي تنسحب على كل طبقات المجتمع: الخمر، والميسر، والأنصاب، والأزلام، ممارسات اجتماعية ليست فقط فردية، ممارسات يتأثر بها الفرد، وتتأثر بها الأسرة، ويتأثر بها المجتمع بأسرة، فكان لا بد من الحفاظ عليها، ولا يمكن أن يكون هناك حديث عن وفاء بعقود أو التزامات بوجود هذه الآفات الاجتماعية التي أمر القرآن العظيم في هذه الآية باجتنابها، وجعل اجتناب هذه المحرّمات مفتاح الفلاح والنجاة والفوز ليس فقط في الآخرة، وإنما في الدنيا الكلام هنا عن الجزاء الدنيوي. وتدبروا معي في الآية التي تليها
آفات اجتماعية تترتب عليها عشرات الممارسات التي تهدم المجتمع، وتهدم الكيان الأسري: العداوة والبغضاء، وقلنا في موقع آخر وقد ذكرت في سورة المائدة قبل ذلك العداوة فيها اعتداء فيها فعل، فيها قول، البغضاء: هو شعور سلبي شعور بالكراهية، ولكن شعور الكراهية إذا تولدت عنه اعتداءات على حقوق الآخرين نتيجة لذلك الشعور أصبح عداوة، أصبح عدوانًا، والله لا يحب المعتدين.
إذاً هذه الآفات السيئة: الخمر، والميسر، القمار بكل أشكاله وصوره، لأن الميسر في الجاهلية كان له شكل معين، ممارسة اعتاد عليها رواد النوادي في الجاهلية، ولكن في واقع الأمر في أيامنا هذه اتخذ أشكالاً مختلفة، متنوعة جداً متعددة، ولكن كل هذه الأشكال تقوم على مبدأ الغشّ، والتدليس، وأخذ أموال الناس وتداول تلك الأموال بالباطل، ربي عز وجل جعل لتداول المال بين الناس قنوات مشروعة، وهذه القنوات لا بد أن تكون من التشريع مباحة، حتى تصبح عملية التداول المالي مشروعة، الميسر فيه تداول مالي، وكذلك الخمر في البيع والشراء والتعاطي، ولكن هذه القنوات قنوات جففها القرآن العظيم، وأمرنا بأن لا نقوم بعملية التداول من خلالها، وذكر بعض وأهم الأسباب الكامنة وراء ذلك التحريم: عداوة، وبغضاء وصد عن ذكر الله وعن الصلاة، فهل أنتم منتهون؟ سبل العداوة فعلاً تنفتح من خلال هذه الوسائل غير المشروعة.
وتدبروا معي!! تقوى وإيمان، تقوى وإيمان وعمل صالح، تقوى وإيمان، تقوى وإحسان، الإيمان درجات، الإيمان يزيد وينقص، يزيد على قدر مراقبة الإنسان وحرصه الشديد على الاستجابة لأمر الله سبحانه وتعالى وتنفيذه في واقعه، كلما كان الإنسان أكثر التزامًا ورغبة من الداخل ونية صادقة في اتباع أمر الله سبحانه وتعالى في حياته في كل الجزئيات، كلما ترقى في مرتبة التقوى والإحسان، الإيمان يزيد بالطاعة، كما أنه ينقص بالمعصية ومخالفة أمر الله سبحانه وتعالى.
ثم إننا في هذه الدنيا نمر بعشرات الابتلاءات، نمر بعشرات الاختبارات والامتحانات وفي بعض الأحيان الاختبارات تكون متعلقة في ذلك الجانب التشريعي فعلاً:
هل تمتد يدي إلى الحرام؟ أم أتوقف ولا أتجاوز الحلال إلى الحرام أبداً؟
الصيد ممكن أن يكون الشيء في أصله مباحًا، ولكن هناك توقيت زمني معين يحرّم ذلك الشيء عليك، أو أحياناً توقيت مكاني، كما في القضايا المتعلقة بالحج وعملية الصيد، أو كما هي متعلقة في رمضان الطعام مباح، ربي أباحه في كل وقت، ولكنه تحديداً في رمضان في نهار رمضان حرم على الإنسان أن يتناول ذلك المباح، فيصبح المباح محرماً توقيت زمني، لماذا؟ قضية امتحان، قضية اختبار، رغم علم الله سبحانه وتعالى من يخافه بالغيب، ولكن كما ذكرنا في مرات سابقة ربي عز وجل أراد أن يقيم الحجة علينا بأعمالنا، وليس بعلمه سبحانه، وهذا من تمام عدله سبحانه، ومن تمام حكمته عز وجل.
ثم تتوالى الآيات بعد ذلك تحدثنا عن المباح وعن الحرام
صيد البحر وطعامه هذا أحلّ لكم، ولكن صيد البر ما دمتم حرماً حُرّم عليكم.
(وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)
هنا ربي عز وجل يبتلينا بقضية الوقوف والحزم في الوقوف عند أوامر الله سبحانه وتعالى، تحديداً في كل الأشياء وخاصة فيما يتعلق بقضية التشريعات.
هناك أشياء جعل الله سبحانه وتعالى مساحة لها ليدرك الإنسان الحكمة في التشريع، ممكن، ولكن كذلك هناك مساحة أخرى في جانب التشريع لا يدرك الإنسان الحكمة من قضية التحريم أو التحليل، ليس كل شيء في الدنيا حُرّم أو أبيح لنا، ممكن أن ندرك فيه الحكمة من التشريع، وليس مطلوب من عندي في قضية التعبد لله سبحانه وتعالى والتزام شرعه أن أدرك كل الحكمة أو أجزاء من الحكمة في التشريع، لا، لأن المطلوب أن يكون لدي رصيد قوي وعالي من الإيمان والتقوى، يمكنني من اتباع أوامر الله سبحانه وتعالى سواء ظهرت لي الحكمة أم لم تظهر
رسالة التوحيد، ولا يقوم معاش الناس ولا حياتهم ولا دينهم ولا دنياهم إلا بالتوحيد. تدبروا معي في هذه اللفتة المناسبة العظيمة: الذهاب إلى الحج، أو إلى العمرة، أو زيارة الكعبة تجديد لمعاني التوحيد في قلب الإنسان المؤمن، ولا تقوم حياة الناس إلا بالتوحيد وتجديده وتصفيته وتنقيته. رسالة التوحيد
لأن هذه الرحلة بكل شعائرها وتعظيم شعائرها وبكل وقوف الإنسان عند كل جزئية فيها من تحريم الصيد، من الأشياء التي جاءت فيها، من تعظيم شعائر الله في الزمان في المكان، تجديد وتنقية وتصفية للتوحيد الذي لا تستقيم حياة الناس إلا به.
وبالتالي هذا المكان، وهذه الشعيرة وهذا الالتزام هو الذي يذكرنا بهذه التصفية العظيمة للتوحيد. وتدبروا معي في الكلمة! قال:
كيف يصبح ذلك المكان فعلاً مكانًا يصلح به الأمور المختلفة أمور الناس في دنياهم وفي آخرتهم، وفي دينهم، كيف؟
ربي عز وجل من خلال قضايا متعلقة بالتشريعات بهذا المكان مكاناً وزماناً أراد من هذه الأمة أن توفّي بذلك العقد والميثاق فتجعل الشعائر والعبادات المتعلقة إقامتها بهذا المكان، بهذا البيت، مصدراً لتبليغ رسالة القرآن للعالم كله، فإذا ما نظر الناس إلى مكة إلى الكعبة البيت الحرام وجدوا كأنها صورة واقعية لشعائر الإسلام وشعائر الدين، بمعنى آخر إذا أراد إنسان أن يتعرف على الإسلام كدين، وأن ينظر إلى شعائر هذا الدين، فما عليه إلا أن ينظر إلى الكعبة البيت الحرام ليرى كل الشعائر متحققة فيه بشكل عملي.
الإنسان بطبيعته جُبِل على أن ينظر إلى مثال إلى شيء واقعي، شيء حسي، شيء يلمسه، وربي سبحانه وتعالى في كل السورة وفي سور أخرى قال:
فتعظيم الشعائر الذي عمل قلبي يبدأ بالتقوى، لا بد أن يكون له رصيد في الواقع. وبالتالي أريد لهذه الأمة التي أُمرت بالالتزام بأوامر الله إيجاباً ونهياً، زماناً ومكاناً، أن تُظهر تعظيم الشعائر في ذلك المكان كأعظم ما تُظهره حتى تصبح فعلاً الكعبة بمجرد أن ينظر إليها أيّ إنسان وإلى ما يدور حولها، يتعرف إلى طبيعة هذه الدعوة، يرى مدى احترام وإيمان المسلمين بشعائر هذا الدين وتطبيقهم له.
وهنا لفتة عظيمة جداً للأسف الشديد نجد أن بعض المسلمين اليوم يعتقدون أو يتوهمون، بعضاً منهم يتساهل في الموضوع، ويتصور أن تعظيم شعائر البيت هذا البيت الحرام تنحصر في قضية متعلقة بقصّ الشعر أو قتل الصيد أو ما شابه القضايا المتعلقة التي نصّ عليها القرآن وجاءت في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وتناولها الفقهاء قديماً وحديثاً، ولكن المسألة أعظم وأعمق وأكبر، الحج هو في حد ذاته في واقع الأمر أريد له أن يكون رسالة سنوية عالمية تقدم للعالم أنموذجاً حياً لتعاليم الإسلام
الآية هنا تعطي قاعدة عظيمة في التعاطي مع الأشياء: لا يستوي الخبيث والطيب، الحرام والحلال ليسوا سواء، البيع ليس كالربا البيع حلال، أحلّ الله البيع وحرّم الربا، الخمر ليس كالماء الخمر حرام والماء مباح، الخبيث ليس كالطيب، الحرام ليس كالحلال، لا،
(وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ)
(فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ)
يا أصحاب العقول، الإنسان في القرآن كلما ازداد تعقلاً وتبصراً وإقامة لكل هذه المفاهيم العظيمة، وتفكراً وتدبراً لأن من وظائف العقل التدبر، لا يمكن أن يتدبر إنسان غير عاقل، أو لديه قدرات محدودة عقلية، لا، الإنسان الذي يتفكر ويتبصر ويتدبر هو الإنسان العاقل، والإنسان الذي يترقى في درجات التدبر هو ذلك الذي هو من أصحاب الألباب أو العقول الكبيرة.
(وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ)
المال الحلال ليس كالمال الحرام، المال الحرام قد يكون كثيراً، هذا جزء من الابتلاء، الإنسان يحصل على مرتب معين، راتب شهري، مقابل عمل يقوم به، حلال، ولكن قد يأتيه عرض مغري جداً اختلاس رشوة، ما شابه ربا، يزيد أضعاف مضاعفة على ذلك المال، عليه أن يستذكر هذه الآية العظيمة
لأن الناس تجري وراء الكثرة، المليون ليس كالألف، طبيعي!
ولكنك إذا أدركت أن ذلك المليون بخبثه وبما فيه من دنس سيحرق حياتي، سيدمر حياة أسرتي وعائلتي، ستعف نفسي عنه، وسأرضى حينها بذلك القليل، الألف، وأدرك تماماً أن الله سبحانه وتعالى سيجعل فيه من البركة ما يكفيني ويزيد، أكثر بكثير من هذا الحرام، فلا أحدّث نفسي أبداً بالاقتراب من الحرام، هذا هو الفرق بين الخبيث والطيب. كما أن أي إنسان مسلم الآن ولا نبالغ في ذلك، الآن غالبية إن لم نقل كل المسلمين، لو تضع له في طبق لحم خنزير طهي بأحسن الطرق ووسائل الطهي والطبخ مزيّن بكل الأشكال والأنواع لا يمكن نفسه تحدثه بأن يقترب منه، هناك ستار وحاجز كثيف يمنعه من أن ينظر حتى إليه، نفسه تعافه، لا رائحة ولا طعم ولا لون ولا شكل لماذا؟ نفسه اعتادت على هذا.
ربي سبحانه في سورة المائدة يريد منا أن يقيم ذلك الحاجز القوي السد المنيع بيننا وبين الحرام، ولذلك جاءت لفظة الخبيث هنا، الخبيث هنا بمعنى الحرام. فهذا الحرام الخبيث لا بد أن يقام في نفسي حاجز نفسي الآن عندي أنا كمؤمن تجاه ذلك الخبيث، فمهما كثر لا يمكن أن تحدثني نفسي أن تمتد يدي إليه. وأنا أقول: أن بناء هذا الحاجز النفسي في نفوسنا ونفوس أبنائنا وشبابنا يحتاج إلى زاد من التقوى، يحتاج إلى زاد بنته هذه السورة العظيمة.
في قصة بني إسرائيل في قضية البقرة في سورة البقرة، بنو إسرائيل عُرف عنهم كثرة السؤال، يسألون ما لونها، ما هي، كيف هي؟ أسئلة كثيرة!
كثرة الأسئلة في الدين ليست هي التي تبني ذلك الحاجز الذي أراد القرآن بناءه في نفس الإنسان المؤمن بينه وبين الحرام، كثرة السؤال ليست هي التي تزيد في نصيبك من التقوى، وإنما الوقوف بالضبط عند أمر القرآن الأمر والنهي، تماماً، ولذلك حتى توقيت السؤال ينبغي أن يكون وفق ما أمر الله سبحانه وتعالى
إذاً الأشياء التي سُكت عنها وسَكت عنها التشريع هو ما سكت عنها نتيجة لعدم معرفة أو إغفال لها، ولا نسيان حاشا لله سبحانه وتعالى!
ولكن هذه المنطقة من عدم إبداء الكلام فيها أو تناولها مقصودة لذاتها، فكثرة السؤال أو التنقيب عن الشيء الذي لا ينبغي السؤال عنه لن يزيد في رصيدك الإيماني ولن يزيد في رصيد التقوى، لأن هناك كثير من الناس يزيد في جانب التنطّع إلى حد التنطّع كثرة السؤال عن التفاصيل والدقائق بشكل بحيث يخرجه فعلاً عن الحكمة من التشريع أو المقصد من ذلك التشريع، ونحن نهينا عن كثرة السؤال وقيل وقال. بنو إسرائيل هم الذين كانت عندهم هذه الإشكالية، فعلينا الحذر والتنبه لهذا، ولكي تحدث عندي هذه القضية قضية الحذر أحتاج أني حين أسأل أتفقد نيتي من السؤال أنا لماذا أسأل؟ من باب التعلم؟ من باب التقرب لله سبحانه وتعالى؟ من باب البحث عن رخصة؟ من باب أي شيء؟ من باب إبداء الرأي وإبداء الأفضيلة أو إبداء أني أنا أعرف؟ أو من أي باب؟
لأن الأبواب كثيرة والله سبحانه وتعالى جعل هذا الباب واحدًا قال
(تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ)
القرآن كان ينزل في أوقات محددة معينة، ولكن الآن هو نزل، وهذا هو الترتيب الذي جاء به ونزل به القرآن العظيم كما هو الآن هو هذا الترتيب، كما هو عليه الآن بين أيدينا، فنحتاج أن ندرك هذه الرسالة، وأن نتأدب بأدب القرآن العظيم،
الكلام هنا إشارة إلى بني إسرائيل الذين كانوا يكثرون من السؤال، والتفاصيل، ولكن تلك التفاصيل لم تقربهم إلى الله، تلك الأسئلة لم تجعلهم إلى الله أقرب، بل كانوا من الله أبعد.
تشريع بغير دليل، تحريم، يشقّون أُذن الناقة أو الأنعام ثم يطلقون أنها هذه حرام، يسيّبون الناقة فترة من الزمن، ثم يقولون: لا هي حرمت علينا لا تُركب ولا تؤكل ولا تُذبح ولا، أشياء ما أنزل الله بها من سلطان!!
الذي يملك حق التشريع هو الخالق الذي خلق فقط، ولذلك قال:
(يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ)
وتدبروا معي!
في تلك المعالجة القرآنية الرائعة لأكبر عائق يمكن أن يقف بين الإنسان وبين التشريع، وإذا قيل لهم: رغم أن الكلام في سياق الحديث عن الجاهلية، ولكن الكلام حتى وهو في هذا السياق هو نزل إلينا، نزل تحذيراً من الوقوع في هذه الإشكاليات، قال:
كثير من الناس يتركون أوامر الله عز وجل ومنهج الله سبحانه، وتشريعاته لأنهم اعتادوا على تشريعات ومناهج في البيئات التي نشأوا فيها سواء كانت تلك البيئات بيئات الأسرة، أو بيئات المجتمع وضغوط المجتمع، أو ضغوط الإعلام، أو أي شيء آخر، (حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ)
عليك أن تختبر المنهج الذي تسير وفقه في هذه الحياة، مجرد أن أهلي وعشيرتي وقرابتي أو كل الناس، بعض الناس وخاصة في زماننا يلهثون وراء رأي الأغلبية، يسيرون وراء الأكثرية كما قلنا في لقاء سابق (لا يكن أحدكم إمّعة) الإمعة الذي يتبنى منهج الأكثرية إن أحسن الناس أحسنوا، وإن أساءوا أساء، شيء من التبعية. القرآن يريد أن يصنع إنساناً له استقلالية في ذاته، استقلالية في تفكيره، استقلالية في اختياره للمنهج الذي يسير عليه في حياته، هذه الاستقلالية ليست استقلالية فوضى، وإنما هي استقلالية مبنية على شعوره بالمسؤولية، فهو لأنه يدرك طبيعة المسؤولية حين يختار عليه أن يحسن الاختيار، وما الذي يكون أحسن اختياراً مما يختاره الله سبحانه وتعالى لك وأنزله إليك، ولذلك الآية التي جاءت بعدها تؤكد هذا المعنى، قال:
كثير من الناس خاصة في زماننا هذا أصبح لديهم قضية الجري وراء قول الأكثرية، ربما يفعل أحياناً شيئاً معيناً ليس لأنه على قناعة فيه، أبداً، ولكن لأنه يرى أن أكثر الناس يقومون به.
اختيارك للهدى، لطريق الهدى هذا اختيار ينبغي أن يكون اختيارًا فرديًا، مبنيًا على قناعة تامة، وليس مبنيًا على طريقة ولا على مقياس الأكثرية والأغلبية. وهذه الآية كما فهمها البعض حتى في العصور الأولى: أن لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إذاً أنا لا دخل لي بالناس لا آمر بالمعروف ولا أنهى عن المنكر، إطلاقاً!
لا تعارض بينهما: أنت تقوم بواجبك، تقوم بما أمر الله سبحانه وتعالى من تبيان للحق، المنهج واضح، لأن الآية لا ينبغي أن تقرأ بمعزل عن الآيات الأخرى، التي تحض على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في نفس السورة التي عابت على بني إسرائيل
مطلوب منك تماماً أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، ولكن في نفس الوقت عليك أن تدرك أن المسؤولية المباشرة تقع عليك على نفسك
(لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ).
وإذا رأيت بعد ذلك أن الناس قد اختاروا من حولك منهجاً آخر، فعليك دائماً أن يكون التركيز والمقياس هو الاختيار الذي أنت اخترت، وليس النظر إلى الناس، مقياس خطير جداً أن تجعل مقياس الصحة لديك في الأمور بحسب ما ينظر إليه الناس، أو من خلال منظار الناس من أخطر الأمراض، من أخطر الأشياء التي لا بد من تداركها.