منتدى قصة الإسلام

منتدى قصة الإسلام (http://forum.islamstory.com//index.php)
-   أعلام وعلماء وقادة (http://forum.islamstory.com//forumdisplay.php?f=37)
-   -   صحابيات - أم سلمة هند بنت أمية (http://forum.islamstory.com//showthread.php?t=125377)

نبيل القيسي 21-08-2020 12:35 AM

صحابيات - أم سلمة هند بنت أمية
 
سنتحدث اليوم عن صحابيةٍ جليلة صبرت على المحن والأهوال في سبيل تمسكها بدينها وطاعتها لرسولها، صحابية بدأت حياتها امرأةً عادية وانتهى بها المطاف لأن تكون أمًا للمؤمنين رجالهم ونسائهم إلى يوم الدين إنها السيدة أم سلمة هند بنت أبي أمية ماهي قصتها وكيف ولماذا اختارها النبي الكريم زوجةً له؟ أعود إلى الوراء قليلًا إلى زمنٍ كانت فيه أم سلمة جالسةً في بطحاء مكّة ترفع يديها بضراعةٍ وابتهال تدعو ربّ السماء، فكل يوم تأتي هند بنت أبي أمية ابن المغيرة المخزوميّة والملقّبة بأم سلمة إلى هذا المكان تعتكف فيه من الصباح وحتى المساء لا تبالي بحر الشمس ولا لهيب الرمال تبكي وتبكي وتشكو بثّها وحزنها إلى الله ترفع يديها وتقول بصوتٍ مرتجف: "ياالله ياغياث المستغيثين يا مجير المستجيرين يا أمان الخائفين فرّج كربتي يارب واجعل لي مع العسر يسرًا يا أرحم الراحمين". كانت أم سلمة تردد ياالله ياالله والشعور بالأمان والفرج القريب يتسرب إلى نفسها القلقة المضطربة فَيَهَبُها الثبات والطّمأنينة والسكينة. مابالها تردد بصرها تجاه المدينة المنورة تارة وصوب مكّة تارةً أخرى، كتب التاريخ والسيرة تخبرنا أن لها بمكّة ابنًا اسمه سلمة بينما زوجها أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد هناك في المدينة مع رسول الله عليه الصلاة والسلام ابن عمّته وأخيه من الرضاعة من ثُويبة مولاة أبي لهب في اليوم الذي عزم فيه أبو سلمة على الهجرة إلى المدينة المنوّرة بعد أن سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحثّ أصحابه على الهجرة إلى المدينة هربًا بدينهم وإيمانهم من إيذاءات قريش المتوالية، ركب أبو سلمة وزوجته على بعير ومعهما ابنهما سلمة، خرج أبو سلمة يقود بعيره خلسةً عن أعين قريش، عند انبلاج الصباح. وإن رجالًا من بني المغيرة أي من عشيرة أم سلمة لمحوهم فقاموا إليه وهم يصيحون بأبي سلمة قائلين: "نفسك غلبتنا عليها فعلامَ تصطحب معك صاحبتنا هذه وعلامَ نتركك تسير بها في البلاد!" ثمّ نزعوا خِطام البعير من يده وقادوه بعيدًا عن أبي سلمة وعلى ظهر البعير أم سلمة وابنها الطفل الصغير الذي لاحول له ولا قوة، عندما فشل أبو سلمة في إقناعهم بترك زوجته وابنه يهاجران معه لم يجد بُدّاً من الفرار وحده بدينه إلى الله إذ لا طاقة له بقتال القوم فولّ وجهه شطر يثرب ودموعه تكسو وجهه البائس وقلبه يهتف: "إلهي لقد استودعتك زوجتي وابني وأنت خير راحم وآمن مستودع"، توجه أبو سلمة نحو المدينة وحده وقلبه مملوءٌ ثقةً وإيمانًا بالله الذي توكّل عليه وأوكل له زوجته وابنه. أرادت أم سلمة أن تعود إلى دار أهلها وعشيرتها محزونة الفؤاد باكية العين لكن مشكلتها لم تنتهي عند تفريقها عن زوجها فهاهم أهل زوجها بنو عبد الأسد يهرعون إليها يريدون انتزاع ابنها سلمة من رعايتها، صاح أحدهم: "والله لا نترك ابننا عندها". لكن أم سلمة تمسّكت بابنها ضمّته إلى صدرها فجذبه منها قوم زوجها وتجاذبت أم سلمة ورهط أبي سلمة الغلام حتى كانت الغلبة لرهط أبي سلمة فانتزعوه منها بعد أن خُلِعت يده. بقيت أم سلمة عامًا كاملًا تتلوّى بين شوق الأمومة وحنانها وبين لوعة فراق الأحبّة الثلاثة الولد الغالي والزوج الحبيب والنبي العظيم. رغم صعوبة الأيام وبطء سيرها إلّا أن الفرج يأتي بأمر الله وتقديره فبعد سنةٍ من العسر الطويل الشاق جاء اليسر المنتظر فقد رقّق الله تعالى قلب قومها بني الغيرة فقال أحدهم: "ألا ترحمون هذه المسكينة فرّقتم بينها وبين زوجها وبين ابنها"، الحمد لله لاقت هذه النصيحة آذانٌ صاغية لديهم فقالوا لها: "ألحقيه بزوجك إن شئتِ" ردوا عليها بعيرها وأيضًا رد قوم أبي سلمة ابنها إليها فركبت هي وابنها يجدان السير باتجاه المدينة دون معين ولا معيل ولاصاحب ولا أنيس إلا الله تعالى سبحانه أنيسًا ومعيلًا. كانت الفرحة فرحة الفرج وفرحة اللقاء المرتقب تملأ قلبها، لم تكن المسافة الشاقة الطويلة بين مكة والمدينة والتي كان عليها أن تقطعها بمفردها هي وابنها بالتي تفسد على أم سلمة فرحتها رغم مخاطر السفر ومخاوف السفر، لعل أم سلمة تذكرت وهي تودع مكة وبيت الله الحرام، اليوم الذي هاجرت فيه إلى الحبشة بناء على نصيحة النبي عليه الصلاة والسلام بصحبة بضعة عشر رجلًا من المسلمين ومعهم أربع نسوة، لعلها تذكرت أيضًا عودتها إلى مكة من الحبشة برفقة زوجها وابنها سلمة الذي أنجبته هناك عندما وصلتهم الأخبار الزائفة تنبئهم بإسلام مكّة يومها، لم يستطع أحد من هؤلاء أن يدخل مكة إلّا تحت جوار أحد ساداتها أو متخفيًا تحت جنح الظلام والكتمان، يومها دخلت أم سلمة وزوجها وابنهما في جوار أبي طالب عمّ الرسول عليه الصلاة والسلام، ظلّ المسلمون في مكّة يعانون صنوف الأذى وألوان العذاب إلى أن أذن الله تعالى لرسوله والمسلمين بالهجرة إلى يثرب دار الأمن والإيمان وشوق أم سلمة إليها، بعد أيام ستصل إليها بإذن الله وستحظى برؤية الزوج الحبيب وبرؤية النبي الكريم الّذين طال الشوق لرؤيتهما واكتوى القلب لهفةً إليهما. لاحت لأم سلمة ولإبنها معالم التنعيم من بعيد إنها على وشك أن تبتعد عن مكة المكرمة إذن، ومع ذلك تسير مبتهجةً مسرورة لا تشعر بخوف رغم خيوط الليل التي تستعد لتغطّي الدنيا بسوادها الحالك، كان قلبها المملوء إيمانًا ويقينًا وشوقًا وحنينًا أكبر من القلق ومن الخوف. قبل أن تغادر أم سلمة حدود التنعيم لقيها أحد وجهاء مكة وساداتها عثمان بن طلحة، استغرب من سفرها وحدها فسألها: "إلى أين يا بنت أبي أمية؟" فقالت: "أريد زوجي في المدينة"، سألها: "فهل معكِ أحد؟" أجابت: "لا والله إلا الله وابني هذا" عندها أخذته الحمية وكان لا يزال كما ذكرنا مشركًا فانطلق يقود بعيرها أيامَ ولياليَ حتى أوصلها إلى المدينة، طبعًا هذا موقف شهامة ونخوة من رجلٍ مشرك -بتنا اليوم نفتقده من كثيرٍ من الناس الذين لم يبقَ فيهم من الإسلام إلا اسمه ومن القرآن إلا رسمه-. دخلت أم سلمة وابنها قباء استقبلهم أهل قباء بالترحاب حتى قبل أن يعرفوا من هما، يكفي أنهما مهاجران في سبيل الله قطعا الفيافي هربًا بدينهما من الفتنة والإيذاء، لا تسَلْ عن فرحة الزوجين باللقاء فذلك أمرٌ يفوق الوصف والخيال. ما أريد قوله هنا هذا ما فعلته الصحابية الجليلة أم سلمة تلك الصادقة المخلصة التي عانت ماعنته في هجرتها امتثالاً لأمر الله تعالى وطلبًا لرضائه. السؤال ماذا فعلنا نحن؟ هل هاجرنا في سبيل الله ولو لمرةٍ واحدةٍ في عمرنا؟ لربّ قائلٍ يقول قد انتهى عهد الهجرة وولّى منذ أن فتحت مكّة قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لاهجرة بعد الفتح ولكن جهادٌ ونية» (صحيح البخاري[2825])، لهذا القائل أقول: المقصود بهذا الحديث أن الهجرة من مكة إلى المدينة لم تعد مفروضة بعد الفتح لأن مكة بذاتها صارت دار إسلام أما هجرة المعاصي وبلد المعصية التي لا يستطيع المسلم أن يمارس فيها شعائر إسلامه بحريةٍ فيها فذلك فرضٌ واجبٌ باقٍ إلى قيام الساعة، وإذا كنا نتحدث اليوم عن هجرة أم سلمة فإن أم سلمة لم تنفرد وحدها بشرف الهجرة فجميع الصحابة من أهل مكة هاجروا إلى يثرب دار الإسلام والتي سميت فيما بعد بالمدينة المنورة. حقًّا إنه لجهاد وأي جهاد، تركوا المال والوطن والأهل والدور والأمتعة تركوا كلّ ذلك في سبيل الله، في سبيل أن يسلم دينهم وإيمانهم وعقيدتهم كل شيءٍ دون ذلك هيّن وسهلٌ ومحتمل، نعم أخي المؤمن وأختي المؤمنة إنه والله لبيعٌ رابح فهلّا بعنا أنفسنا لله تعالى لنربح جزاء الدنيا والآخرة. هلّا هجرنا المعاصي وجاهدنا أنفسنا في عمل الصالحات، قد يستصعب أحدٌ أن يهجر فراشه ليلًا لأداء صلاة الليل أو صلاة الفجر يستصعب أن يهجر بيته إلى المسجد لحضور مجالس العلم والذكر إن أحدنا لَيجبُن على العدو أن يقاتله وعن المال أن ينفقه وعن البصر أن يغضّه وعن الحرام أن يجتنبه ثمّ بعد ذلك يرجو أن ينال ثواب العابدين المهاجرين المجاهدين، لله درّ الشاعر حين قال: تضع الذنوب على الذنوب وترتجي *** درج الجنان وطيب عيش العابدِ ونسيت أن الله أخرج آدمًا *** منها إلى الدنيا بذنبٍ واحدِ الحقيقة أن للهجرة ثوابًا لا يحصله إلا من يهاجر في سبيل الله حسب المفهوم الواسع للهجرة لاهجرة المكان فقط بل هجرة المعاصي والآثام، يقول الله تعالى في ثواب المهاجرين: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [التوبة:9]. في يثرب التي سميت بعد هجرة النبي إليها والصحابة بالمدينة المنورة جمع الله تعالى شمل أم سلمة بعائلتها وهناك أنجبت أم سلمة ثلاث أولاد في غضون أربع سنوات عمر وزينب ودرّة وعملت على تربيتهم مع أخيهم سلمة تربيةً صالحة زرعت فيهم حبّ الله وحبّ رسوله، كانت أم سلمة شديدة الحرص على مجالس العلم التي كانت تعقد في المسجد النبوي بينما تفرغ زوجها أبو سلمة للجهاد في سبيل الله تعالى فشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوتي بدرٍ وأُحد وأصيب في غزوة أحد في سهمٍ في عضده مكث بعد ذلك يداويه مدّةً طويلة حتّى ظنّ أنه التأم، في السنة الرابعة للهجرة عقد النبي عليه الصلاة والسلام لواءً على سريّةٍ لبني أسد وذلك عندما بلغ النبي أنهم عازمون على محاربته في دار هجرته، كان النصر حليف المسلمين في تلك السرية وفرح المسلمون بنصر الله وتهيّأت زوجات المجاهدين لاستقبالهم خفق قلب أم سلمة فرحًا بالنصر وطربًا بلقاء الحبيب المجاهد ولكن فرحتها لم تدم طويلًا فقد جاء زوجها متّكئًا على اثنين من رفاقه وقد لفّت عضده بخرقةٍ ينفر منها الدم كان جرحه الذي أصابه يوم أحد قد انفضّ من جديد لم تستطع الجهود المبذولة إيقاف الدم النازف وأخلد أبو سلمة إلى فراشه وقامت أم سلمة بتمريضه، لم يغمض لها جفن ولم يرقأ لها دمع. كان شبح الموت يؤرّقها لم يكن قلبها يحتمل فكرة أن يفارقها زوجها الحبيب إلى غير رجعة، أفكار كثيرة كانت تشغل بال أم سلمة لم تكن أم سلمة تتصور نفسها في كنف زوج آخر ولذلك آلت على نفسها أن تعرض عن الأزواج بعد أبي سلمة ففي رأيها لا رجل على وجه الأرض يوازي أبا سلمة في أخلاقه وفي محبته. يروي ابن سعد في طبقاته أن أم سلمة أرادت أن تعاهد زوجها على أن لا تتزوج بعده طمعًا في أن يكون هو وحده زوجها في الجنة فسألها الزوج الرفيق: "أتطيعينني يا أم سلمة؟" فقالت: "نعم"، قال: "فإذا متُّ فتزوجي" ثمّ رفع يديه إلى السماء ودعا: "اللهم ارزق أم سلمة بعدي رجلًا خيرًا مني لايحزنها ولايؤذيها"، لم تطل الحياة بأبي سلمة فما هي إلا مدةٌ وجيزةٌ حتى وافته المنية وانتقل إلى خير جوار؛ جوار ربه الرحمن وحسن مقامًا ومستقرًا، وقعت تلك المصيبة على أم سلمة موقعًا عظيمًا حسّت بالدنيا تضيق عليها مارحُبت، شعرت بسهام الألم والحسرة تصيبها في الصميم، قفز إلى ذهنها حديث النبي صلى الله عليه وسلم «ما من عبدٍ يُصابُ بمصيبةٍ فيَفزعُ إلى ما أمرهُ الله بهِ من قول إنّا لله وإنّا إليه راجعون, اللهم أجُرني في مصيبتي وعوّضني خيراً منها إلّا آجره الله في مصيبته وعوّضه خيرًا منها» (صحيح ابن ماجه [1309])، أحسّت أم سلمة ببرودة الإيمان واليقين بوعد الله فتوجهت نحو القبلة ورفعت يديها الواهنتين وردّدت: "إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وعوّضني خيرًا منها"، ومع ثقتها بوعد الله وبكلام النبي عليه الصلاة والسلام إلا أن نفسها العاشقة لأبي سلمة جعلتها تردد في سرّها وأنّ أُعاضُ خيرًا من أبي سلمة ولكني أرجو أن يكون الله قد آجرني في مصيبتي. صبرت أم سلمة على فراق الحبيب ووجدت في استسلامها لأمر الله ورضاها بقدره خير بلسمٍ وأفضل شفاء لقد زادت تلك المصيبة في عزم أم سلمة جرّاء صبرها واحتسابها لمصيبتها عند الله، أما أجرها الثاني فكان بعد أن انقضت عدتها وحين تهافت الخُطّاب على دارها وهي المرأة الأرملة ذات الأربعة أولاد كان من خطابها أبو بكرٍ وعمر وكانت أم سلمة تردّ الخُطاب عنها برفق فقد كان أبو سلمة في نظرها خيرًا منهم جميعًا فكيف إذن تقبل بأن يحلّوا بديلًا عنه لكن لكل آتٍ قريب، جاء اليوم الذي تحقق فيه دعاء أبي سلمة: "اللهم ارزق أم سلمة بعدي رجلًا خيرًا مني لا يحزنها ولا يؤذيها". فقد أرسل إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم من يخطبها لنفسه وعقدت الدهشة لسانها حقًّا إن رسول الله خيرٌ من أبي سلمة فأنّ لها إذن أن ترفض زوجًا تتىمناه كل مسلمةٍ على وجه الأرض تذكرت أم سلمة في تلك الحظة الدعاء الذي توجهت به إلى ربّها بناءً على تعاليم الرسول الكريم: "اللهم أجُرني في مصيبتي وعوضني خيرًا منها" تذكرت أيضًا ما رددته في سرّها آن ذاك وأنّ أُعاض خيرًا من أبي سلمة وفاض جبينها خجلًا من الله تعالى. هذا درسٌ جديد من دروس العبر والعظات تتحفنا به أم سلمة هند بنت أبي أمية أمنا أم المؤمنين -جعلنا الله منهم أجمعين- درسٌ لكل مصابٍ مبتلى بفقد حبيبٍ غالٍ ليدعو ربه بهذا الدعاء لابدّ أن يتحقق وعد الله أن يؤجره في مصيبته وأن يخلفه خيرًا منها ولكن يبقى أن نقول للمؤمن المبتلى أخي المؤمن قد يعوضك الله في الدنيا وفي الآخرة وقد يعوضك فقط في الآخرة جناتٍ عرضها السموات والأرض أعدّت للصابرين فهو القائل عزّ وجلّ: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]، وفي كلٍّ من الجزاءين خير ولو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع. نعود إلى أم سلمة ماذا كانت ردة فعلها أمام هذه المفاجأة الحقيقة أنها رغم فرحها بهذا العرض غير المتوقع طبعًا فقد كان يصدّها عن قبوله إشفاقها على النبي عليه الصلاة والسلام فهي امرأةً تجاوزت سن الشباب تكاد تقارب الأربعين من العمر معها أربعة عيالٍ صغار وهي فوق هذا امرأةٌ غيورة لابد من طرح هذه النقاط على بساط البحث السريع، وأرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تخبره بهذه الصفات فقال لها عليه الصلاة والسلام: «أما أنّكِ مسنة فأنا أسنّ منك وأما الغيرة فيذهبها الله عنكِ وأما العيال فإلى الله ورسوله» لم يبقى لها في هذه الحالة إلا أن توافق أو ترفض فوافقت والفرحة تغمرها. تمّ الزواج المبارك عام أربعةٍ للهجرة وانتقلت أم سلمة هي وأولادها الأربعة إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم وقد سبقها إليه سودة بنت زمعة ثمّ عائشة بنت أبي بكرٍ الصديق ثمّ حفصة بنت عمر ثم زينب بنت خُزيمة وكانت هي الخامسة في ترتيب زواجها بالنبي صلى الله عليه وسلم طبعًا إذا استثنينا أم المؤمنين خديجة التي لم يضم النبي عليه الصلاة والسلام زوجة أخرى حتى توفّيت. يحلو لنا هنا أن نتساءل كيف كان موقف الضرائر من هذا الزواج وخصوصًا عائشة وحفصة، طبيعة المرأة تجعلنا نؤكّد أنّهنّ لم يكنّ مسرورات، تروي كتب السيرة شيئًا عن حزن عائشة وامتعاضها من هذا الزواج لكنّ أمّ سلمة كانت حيادية مع نساء النبي اللواتي سبقنها واللواتي جئن بعدها لم ينقل عنها أي موقفٍ يدل على غيرتها من ضرائرها رغم أنها امرأةٌ غيورةٌ كما وصفت نفسها إلا أن دعوة النبي عليه الصلاة والسلام لها بأن يُذهب الله غيرتها قد تحققت فعاشت بين باقي ضرائرها لاتشغر تجاههنّ إلا بهناءة السريرة وصفائها، كانت حياتها في بيت النبي صلى الله عليه وسلم حياة الزوجة الصالحة التقية المخلصة المطيعة، الأمر الذي كرّس لها مكانةً مرموقة في قلب النبي عليه الصلاة والسلام. وقد ساندت السماء أيضًا أم سلمة فشاركت أم سلمة مع عائشة في شرف نزول الوحي على النبي وهو في بيتها بعد أن كانت عائشة تنفرد بتلك الميزة وتتباهى بها على ضرائرها، من هذا آياتٌ هامّة من سورة الأحزاب بدأت بقوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيْ} ووصلت إلى قوله تعالى: {إنَّمَا يُريدُ االلهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِجْسَ أَهْلَ البَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهيرَا} [الأحزاب:32-33]، مما يعني أن أمهات المؤمنين نساء النبي هنّ أهل بيته المقصودون في هذه الآية الكريمة وهو معنى كثيرًا ماكان النبي صلى الله عليه وسلم يؤكّده لأم سلمة حين يصفها بأنها من آل البيت رضوان الله على آل البيت أجمعين وعلى الصحابة الأكرمين وعلى من تبع هديَ النبي إلى يوم الدين. أما أولاد أم سلمة فقد تربّوا جميعهم في بيت النبي صلى الله عليه وسلم وكان صلى الله عليه وسلم يعتني بهم ويوليهم اهتمامه فهم أولاد زوجته أولًا وأولاد أخيه من الرضاعة ثانيًا ومسلمون من أمته ثالثًا، يروي كُتّاب السيرة كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يداعب زينب بنت أم سلمة ويقول لها يا زُوَيْنِب ويمضح الماء في وجهها مداعبًا حتى إن أثر ذلك الماء زيّن وجهها بنضارة الشباب حتى كبُرت وعجّزت. يحلو لنا هنا أن نذكر أمرًا هامًا، كان لأم سلمة شرف مصاحبة النبي صلى الله عليه وسلم في غزواتٍ كثيرة منها غزوة خيْبَر وفتح مكة وفي غزوة هوازٍ وثقيف و صحبته أخيرًا في حجّة الوداع ولكن في صحبتها له في صلح الحُدَيبية وقعًا خاصًّا سجلها لها التاريخ؛ يوم دعمٍ ونجاةٍ وخلاصٍ للمسلمين - معظم الأخوة- يذكرون أن قريشًا منعت النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته من أداء العمرة بعد أن وصلوا إلى حدود الحديبية محرمين بالعمرة وقّع النبي صلى الله عليه وسلم مع قريش عقد صلحٍ من ضمن شروطه أن لا يعتمر المسلمون ذلك العام بل يؤجّلون العمرة للعام المقبل، وقّع النبي عليه الصلاة والسلام عقد الصلح هذا وهو يرى بعين حكمته ونور بصيرته في ثنايا هذا الصلح نصرًا مؤزّراً للمسلمين ولأن الصحابة رضوان الله عنهم كانوا توّاقين للطواف بالبيت الحرام وللسعي بين الصفا والمروة كانوا ينظرون من هذه الزاوية فيرون أنه يمنعهم من تحقيق مايصبون إليه وكان من الطبيعي إذن أن يروا غير ما رآه النبي عليه الصلاة والسلام وأكثر من هذا فلقد رآى بعضهم في ذلك الصلح خَزيًا ومهانةً وإذلالًا للمسلمين حتى إن النبي عليه الصلاة والسلام لما أمرهم بأن يتحللوا من الإحرام فينحروا إبِلهم ويحلقوا رؤوسهم لم يتحرّك منهم أحد رغم تكرار النبي عليه الصلاة والسلام لذلك ثلاث مرات لم يستوعبوا أن يتحللوا من إحرام العمرة دون أن يؤدّوها، كيف سيعودون إلى المدينة مكسوري الخاطر بعد أن منعتهم قريش من دخول مكّة؟! دخل النبي عليه الصلاة والسلام خيمته مغمضًا مهمومًا وهو يقول هلك المسلمون يا أم سلمة أمرتهم فأعرضوا ولم يستجيبوا، عند هذه اللحظة الحساسة الحرجة في تاريخ الدعوة الإسلامية الفتية، برز ماتملكه أم سلمة من عقلٍ راجح ومشورةٍ صائبة وحكمةٍ نافذة فقالت مواسية: "اعذرهم يارسول الله" ثم أردفت: "أتحب أن يفعلوا ما أمرتهم؟" قال: «نعم يا أم سلمة» فقالت: "اخرج إليهم ولاتكلم أحدًا منهم حتى تنحر إبلك وتدعو حالقك فيحلق لك"، استصوب النبي عليه الصلاة والسلام هذا الرأي الوجيه فخرج ولم يكلّم أحدًا، نحر ناقته ودعا حالقه فحلق له فلما رآى ذلك الصحابة قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق شعر بعض حتى كاد بعضهم أن يؤذي أخاه وهو يحلق له غمًا وهمًا. هنا تبرز مسألةٌ هامة هي إعجاب النبي عليه الصلاة والسلام بمشورة أم سلمة واستجابته لهذه المشورة واستجابته لها أيضًا وهو رسول الله وهي إمرأة. كانت نظرة المجتمع الجاهلي إلى المرأة في غالب الأحيان على أنها متاعٌ موروث أو أدنى من المتاع لكن نظرة الإسلام ونبي الإسلام إليها لم تكن كذلك، لم يقل النبي لأم سلمة أتشورين عليّ وأنا رسول الله، لم يقل لها أنا الذكر وأنتِ الأنثى وعلى الذكر أن يأمر وعلى الأنثى أن تطيع، لم يقل كما يزعم بعض الناس شاورهنّ وخالفهنّ، فهاهو ذا عليه الصلاة والسلام يشاور زوجته ويتبنّى رأيها لما وجد فيه من الحكمة والصواب، كيف يقول هذا والدين الذي أتى به يرفع المرأة إلى درجة المساواة مع الرجال، كان النبي عليه الصلاة والسلام مافتئ يعلم أصحابه إنما النساء شقائق الرجال وهذه القصة التي ذكرناها عن مشورته لأم سلمة هي خير برهانٍ على أن للمرأة في الإسلام دورًا لا يقل عن دور الرجال، هي أيضًا دليلٌ على أن شاورهنّ وخالفهنّ كلامٌ لا أصل له في الإسلام بل هو من اختراع مخترعٍ ما في عصرٍ ما، ظنّه الناس لشهرته حديثًا نبويًّا ولكنه ليس بحديث. إلى جانب هذا كله كانت أم سلمة عالمة وفقيهة وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونها ويستفتونها في كثير من الأمور، روت عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثمئةٍ وسبعةً وثمانين حديثًا، توفيّت أم سلمة هند بنت أبي أمية سنة إحدى وستين من الهجرة عن عمرٍ يناهز التسعين عامًا وهي آخر من مات من أمهات المؤمنين رضوان الله عنهم أجمعين. هذه هي أم سلمة أم المؤمنين المناضلة المجاهدة في سبيل الله، فسلامٌ عليكِ يا أمنا يا أم المؤمنين وتحيّةٌ مفعّمةٌ بعبير الحبّ وعبق الاحترام والتقدير. لينا الحمصي. المصدر: موقع قناة الرسالة الفضائية


الساعة الآن 08:32 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Content Relevant URLs by vBSEO 3.3.0 , Designed & TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة لمنتدى قصة الإسلام