أ- في مجال ما حرم الله : عن ابن عباس رضي الله عنهما عــن النبي قال : >المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هاجر ما نهى الله عنه<(صحيح البخاري 14/1).
وما نهى الله عنه يمثل خمسين في المائة من أوامر الحق سبحانه، بل هو الجانب الأقوى الذي لا رخصة فيه عكس ما أمر به المشروط بالاستطاعة مصداقا لقوله : >ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وماأمرتكم به فاتوا منه ما استطعتم<(رواه البخاري ومسلم).
وفي سياق الأمر والنهي يقول الحق سبحانه : {إن الله يامر بالعدل والاحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون}.
وعليه يعتبر مفهوم الهجرة المفصول عن الحدث التاريخي زمانا المتضمن لروح هذا الحدث أخلاقا ميزانا للفصل بين ما هو قبيح وما هو حسن من السلوك الانساني. فمهاجرة ما نهى الله عنه كما جاء في الحديث بكلمة (ما) التي تفيد العموم هو الفحشاء، والمنكر والبغي، وهذه كلمات ذات دلالات عامة تغطي ساحة الجانب السلبي من سلوك الانسان لا لتنوعها الثلاثي (فحشاء) (منكر) (بغي) فحسب ولكن باستغراق كل نوع من هذه الأنواع الثلاثة لافراد جنسه لأنه متصل بحرف (ال) الذي يجعله يفيد هذا العموم. فالعموم هنا عموم نوعي، وعموم جنسي، وهذا ما يجعل كل مسلم لم يحضر ذلك الحدث التاريخي العظيم أي الهجرة، ويرغب في أن ينال من فضله كما جاء في سورة التوبة 24 يطمئن على أنه منتسب لهذه الفئة من المحظوظين عند الله مصداقا لقوله : >ولكن جهاد ونية< وقوله : >والمهاجر من هاجر ما نهى الله عنه< شريطة أن يهاجر ما نهى الله عنه بالشكل المشار إليه أعلاه في الآية والحديث على حد سواء.
وفي سياق اعتبار مفهوم الهجرة قيمة أخلاقية دائمة بين المسلمين يجمع ابن منظور بين حديثين في هذا المعنى حيث يقول >وفي الحديث لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية. وفي حديث آخر : >لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة<، قال ابن الأثير الهجرة في الأصل : الاسم من الهَجْر : ضد الوصل<(ل ع 251/5- 252).
ومما ينبغي أن نقف عنده ونطيل النظر فيه مما أورده ابن منظور هنا هو كلمتا (التوبة) في الحديث و(الهجر : ضد الوصل) في كلامه، وهذا يعني أن لمفهوم الهجرة أبعاد ودلالات في تقويم السلوك الإنساني.
ب- في مجال العلاقات الانسانية بين المسلمين :
يقول ابن منظور : >.. وفي الحديث لا هجرة بعد ثلاث< يقول معلقا على هذا الحديث : >يريد (أي ابن منظور) به الهَجْر ضد الوصل، (و) يعني فيما يكون بين المسلمين من عتب وموجدة أو تقصير يقع في حقوق العشيرة، والصحبة دون ما كان من ذلك في جانب الدين. فإن هجرة أهل الأهواء والبدع دائمة على مر الأوقات ما لم تظهر منهم التوبة، والرجوع إلى الحق، فإنه عليه الصلاة والسلام لما خاف على كعب ابن مالك وأصحابه النفاق حين تخلفوا عن غزوة تبوك أمر بهجرانهم خمسين يوما، وقد هجر نساء شهرا، وهجرت عائشة ابن الزبير مدة..<(ل ع 250/5).
حـ- في مجال العبادة :
يقول ابن منظور ما كان في الحديث : >ومن الناس من لا يذكر الله إلا مهاجراً<.
ويعلق ابن منظور على هذا الحديث بقوله : يريد أن القلب وترك الاخلاص في الذكر، وكأن قلبه مهاجراً لسانه، غير مواصل له. ويضيف ابن منظور : ومنه حديث أبي الدرداء ] : >لا يسمعون القرآن إلا هجرا< يريد الترك له والاعراض عنه. (ل ع 251/5).
هكذا نعتبر الهجرة في الاسلام حدثاً تاريخيا هاما متفرداً، وهكذا يمضي الحدث وتبقى معانيه صالحة للاستعمال في مجالات شتى من حياة المسلم والسؤال إلى أي حد توظف الأمة الاسلامية مفهوم هذا الحدث لعلاج أزماتها ومشاكلها : كهجر بعض الدول الاسلامية لبعضها اقتصاديا وسياسيا، وهل هاجر مسلموا اليوم ما نهى الله عنه في مجالات الحياة اليومية من فحشاء، ومنكر وبغي، وهل يستلهمون من المفاهيم الاسلامية أساليب تربيتهم الاجتماعية والأخلاقية على غرار ما رأينا أن مفهوم الهجرة يمكن اعتماده روحا تربوية للاقلاع عن تناول المحرمات، أو لربط العلاقات الاجتماعية بين المسلمين، أو اخلاصهم في العبادة لله رب العالمين. هل يمكن اعتبار الدول الاسلامية وما فيها من تنظيمات سياسية واجتماعية موحدة فعلا وهي غير مها جرة لما نهى الله عنه. وهل ينتظر منها أي من هذه الشعوب وتنظيماتها أن تؤلف وحدة منقذة للأمة مما هي فيه من ترد وانحطاط مع العلم أن ولاءاتها موزعة على شتى الايديولوجيات والقبلات. وفي هذا السياق عشنا ونعيش تخاذل الاخوة أو تقاتلهم وهم في الهم والغم سواء، لقد جعل الحق سبحانه الهجرة التي نستلهم روحها معيارا للولاء، قال سبحانه {والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا}(الأنفال : 72). وقـــال عز من قائل : {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المومنين والمهاجرين}(الأحزاب : 6) ألا يمكن القول بأن الأمة عاشت منذ زمان، وتعيش اليوم أيضا الهجرة بنوعيها السلبيين الحسي والمعنوي في كثير من مظاهر الحياة بل ومقوماتها الحضارية أيضا. وحتى يتم التكفير عمامضى (من الموروث السلبي) وتقويم اعوجاج ما هو حاضر ماديا ومعنويا، والتخطيط بحزم وعزم لما هو آت، ينبغي أن نهاجر ما نهى الله عنه من فحشاء ومنكر، وبغي، في كل مجالات الحياة {إن أريد إلا الاصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله} .