ذلكم هو الله الذي آمنت به ثلة من الناس بعد أن دعاهم الرسول الكريم محمد بن عبد الله لذلك، آمنت تك المجموعة القليلة من العرب بالله في محيط يعج بالمفاهيم والأفكار المخالفة لما جاء به لهداية الناس للتي هي أقوم من سبل العيش والتعايش في الدنيا، وإسعادهم في الآخرة التي لا يعلمون عنها شيئا سوى أنهم ذاهبون إليها لا محالة لأنهم منشغلون بما يعلمون من ظاهر الحياة الدنيا، هذا الإيمان القوي هو الذي جعل أولئك المستضعفين يضحون بكل بشيء مقابل محافظتهم على إيمانهم بالله رب العالمين، قال تعالى : {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون}(الحشر : 8) فهؤلاء كما وصفهم الحق سبحانه فقراء أولا. ومفرد هذا الجمع هو الفقير. ومعناه الأصلي في اللغة : مكسور الفِقَار التي هي عظام العمود الفقري في ظهر الإنسان، أما الإسم من هذه المادة (فَقَرَ) فهو الفقْرُ : وهو العوَزُ والحاجة (م ج الوسيط 2) وهذا يعني أن هؤلاء المعتدى عليهم لا حول لهم ولا قوة. ومع ذلك فهم مهاجرون، والهجرة كما سبق هي مغادرة مكان مألوف إلى آخر مجهول لأسباب قاهرة، وهذه الأسباب هنا هي تسلط قوى البغي عليهم ظلما وعدوانا، وهو ما يفيده فعل (أخرجوا) في الآية، وأخرج على وزن (أفعل) ومن معانيها التصيير، وهذا يعني أن هؤلاء الفقراء أُحْوِجُوا للاخراج لا أنهم خرجوا بمحض إرادتهم. أما ما أخرجوا منه فهو أعز ما يملكه الإنسان ويوفر له أسباب الهناء والاستقرار، والعيش الكريم إنه (ديارهم) التي يسكنونها، وأموالهم التي يرتزقون منها، ومع ذلك فكل ذلك لا قيمة له عندهم أمام الهدف الأسمى والقصد النبيل إنه ابتغاء مرضاة الله ورضوانه ونصرة الله ورسوله، ويأتي هذا القصد المستهدف بصيغة المضارع (يبتغون) الذي يفيد الاستمرار وتلك هي نتيجة الإيمان الصادق، وكيف لا وقد وصفهم الحق سبحانه بذلك {أولئك هم الصادقون} وفي وصف هؤلاء المهاجرين يقول ابن منظور : >وسُمي المهاجرون مهاجرين لأنهم تركوا ديارهم ومساكنهم التي نشؤوا بها لله، ولحقوا بدار ليس لهم بها أهل ولا مال حين هاجروا إلى المدينة.. قال الله عز وجل : {ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الارض مراغما كثيرا وسعة}<(ل ع 251/5)، وقال سبحانه {إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم}(البقرة : 228).
قبل أن نبرز الروح الاخلاقية النبيلة التي يتحلى بها أولئك المهاجرون نذكر مرحلتي هذا الحدث التاريخي باختصار، يقول الكفوي >والهجرتان : أولاهما هجرة المسلمين في صدر الإسلام إلى الحبشة فراراً من أذى قريش، وثانيهما : هجرة رسول الله والمسلمين قبله وبعده ومعه إلى المدينة فقد كانت الهجرة من فرائض الإسلام بعد هجرة النبي ثم نسخت بعد فتح مكة لقوله : >لا هجرة بعد الفتح< فلا دليل في قوله تعالى : {ألم تكن أرض الله واسعة}(النساء : 97) على وجوب الهجرة من موضع لا يتمكن الرجل فيه من إقامة دينه<(الكليات 962).
تعتبر هذه اللقطة التاريخية الموجزة وما ذكر قبلها من الآيات نصوصا تستوجب التوقف عندها لإبراز نبل الحدث لا على مستوى التحول التاريخي المرتبط بتلك الفترة، ولكن على مستوى مضمون الهدف الذي سيتحول بعد استنفاذ مهمته المرحلية إلى سلوك أخلاقي صالح لمعالجة كثير من مشاكل الانسان في الحياة، وحتى تكتمل صورة هذا الفهم الذي نشير إليه نضيف قوله تعالى : {إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض}(الأنفال : 72).
لقد كانت الهجرة في سبيل الله كما هو واضح في الآية السابقة رقم 228 من سورة البقرة {هاجروا وجاهدوا في سبيل الله} و{يرجون رحمة الله}.
قد يتفق المهاجرون كيف ما كانوا في أسباب الهجرة بنسبة مّا على اعتبار أنّهم جميعاً قد تعرضوا للأذى والظلم مهما كان نوع الهجرة كالهجرة من البوادي إلى المدن، أو هجرة الفقراء والعاطلين للبحث عن لقمة العيش، أو هجرة العقول الممتازة للبحث عن العمل الأنسب، أو هجرة السياسيين لعدم توفر ظروف حرية التعبير عن الرأي..الخ لكن عندما نتأمل الأسباب التي جعلت هذا النوع أو ذاك من المظلومين يهاجرون، ونتأمل الهدف الذي يسعى إليه كل نوع من المهاجرين، عندما نتأمل هذين الأمرين ندرك الفرق بين هجرة وهجرة، فهجرة السياسيين مثلا غير هجرة الباحثين عن الشغل…الخ وعليه فالهجرة في الله غير هجرة هذين النوعين وغيرهما. لأن المهاجرين في الله >يرجون رحمة الله< وهم بذلك يسعون إلى الكسب الأكبر الذي هو رضى الله تعالى. لذا قال عنهم الحق سبحانه الذي هاجروا فيه ويطلبون رضاه {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله أولئك هم الفائزون يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبداً، إن الله عنده أجر عظيم}(التوبة : 24). تتضمن الآية الكريمة ثلاث صفات لهؤلاء المهاجرين، لا تتوفر في أي نوع آخر من المهاجرين مجتمعة وهذه الصفات هي : الإيمان والهجرة، والجهاد، وهي مرتبة ترتيبا منطقيا بحيث يترتب بعضها عن بعض بالضرورة، ولا أثر لحرف العطف هنا في الترتيب، لأن كل كلمة تحمل من السمات ما يجعلها تتقدم على التي بعدها، فالإيمان أولا، وهو الأساس، والهجرة التي هي ترك ما يشغل عن الإيمان الحق ثانيا، ثم الجهاد ثالثا، لأن النفس المؤمنة تسترخص كل شيء في سبيل الله، ولذا جاء القصد النبيل بعد هذه الصفات الثلاث (في سبل الله).
وتتظافر معاني بقية الكلمات في هذه الآية كـ(أعظم درجة) و(النور) و(البشارة) و(الرضوان) و(النعيم المقيم) تتظافر معاني هذه الكلمات لتوضح لنا أن هذا النوع من الهجرة حدث إنساني نبيل لا يوازيه أي نوع من أنواع الهجرة، لأنه مفهوم ثابت رغم مضي الحدث التاريخي الذي أدى مهمته في فترة زمنية معينة من حياة المسلمين، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله >لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا<(صحيح البخاري 497/2).
يستفاد من هذا الحديث أن الهجرة باعتبارها حدثا تاريخيا قد أدت مهمتها وانتهت. ولكن باعتبار المقصود منها الذي هو رضى الله فإنها تعتبر أسلوبا تربويا في حياة المسلمين باستمرار .