منتدى قصة الإسلام

منتدى قصة الإسلام (http://forum.islamstory.com//index.php)
-   أعلام وعلماء وقادة (http://forum.islamstory.com//forumdisplay.php?f=37)
-   -   الخاتون عصمة الدين ودورها في تحرير الأقصى........ (http://forum.islamstory.com//showthread.php?t=125534)

نبيل القيسي 29-08-2020 12:25 AM

الخاتون عصمة الدين ودورها في تحرير الأقصى........
 
عصمة الدين خاتون من أبرز الشخصيات النسائية التي لعبت دورًا مهمًّا في مرحلة حرجة من تاريخ الأمة، وذلك أثناء الهجمة الصليبية الشرسة على العالم الإسلامي، حيث أسهمت بشكل غير مباشر في التمهيد لتحرير بيت المقدس من براثن الصليبيين.

نالت الشرف مرتين؛ مرَّة حين تزوجت من البطل نور الدين محمود زنكي سلطان مصر والشام، والمرة الثانية حين تزوجت من خَلَفه الناصر صلاح الدين الأيوبي، رحمهما الله.

نشأة جهادية
نشأت عصمة الدين في بيت منشغل بقضايا الأمة، متفاعل معها؛ فأبوها الأتابك معين الدين أنر كان القائم بتسيير أمور الدولة بدمشق في عهد حكم (السلاجقة الأتابكة)، واستطاع أن يسيطر على الحكم الفعلي للدولة في ظل ضعف الملك "مجير الدين أبق" حاكم دمشق وتوابعها.

في بداية أمره تحالف مع الفرنجة لحماية دولة دمشق من الوقوع في سيطرة آل زنكي حكّام حلب والمَوْصل، إلا أنه عاد عن ذلك وتحالف مع السلطان نور الدين زنكي في عام 542هـ/ 1148م.

ويذكر صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي صاحب كتاب (الوافي بالوفيات)، والإمام الذهبي في كتابه (العِبَر في خبر من غبر) أنه "كان عاقلاً سائسًا مدبِّرًا، حسن الديانة، ظاهر الشجاعة، جليل القدر، عالي الهمة، موصوفًا بالرأي، مُحِبًّا للعلماء والصُّلَحاء، كثير الصدَقة والبِر".

وورد في السيرة الزِّنكية لمؤلفه د. علي محمد محمد الصَّلاَّبي أنّ عصمة الدين ظلّت في قلعة أبيها في دمشق حتى وقع عدد من التغيُّرات في الخريطة السياسية للعالم الإسلامي كان لها أثرها الكبير على حياتها، أبرزها محاولات البطل نور الدين زنكي الذي انتهج مع الإمارات الإسلامية سياسة التآلف والتناصح، فتحوَّل الصراع بين دمشق وآل زنكي إلى محاولات للوحدة والتقريب، وترددّت المراسلات بين نور الدين ومعين الدين أنر حاكم دمشق، واستقرّت الحال بينهما على أجمل صفة، وتأكّدت الأمور على ما اقترح كل منهما، ولتأكيد هذه العلاقة خطب نور الدين من "معين الدين أنر" ابنته عصمة الدين ووافق الأخير، وكتب كتاب العقد في دمشق بمحضر من رسل نور الدين في شهر شوال، وما إن تمّ إعداد الجهاز حتى قفل الوفد عائدًا وبصحبته ابنة معين الدين.

نِعْم الزوجة
لم يكن التحالف مع معين الدين أنر هو الغرض الوحيد من التقدُّم للزواج من عصمة الدين، وإنما السمعة الطيبة التي كانت تحظى بها، إذ قال عنها المؤرخون ومنهم ابن كثير في (البداية والنهاية): "كانت من أحسن النساء، وأعفّهنَّ وأكثرهن خدمة، متمسِّكة من الدين بالعُروة الوثقى". هذه السيرة دفعت صلاح الدين بعد وفاة نور الدين ليتقدم لخِطبتها ويعقد عليها، فكانت له نِعْم الزوجة، قال أبو شامة المقدسي صاحب كتاب (الروضتين في أخبار النورية والصلاحية): "وفي آخر صَفَر تزوّج السلطان بالخاتون المنعوتة عصمة الدين بنت الأمير معين أنر، وكانت في عصمة نور الدين -رحمه الله تعالى- فلما توفي أقامت في منزلها بقلعة دمشق، رفيعة القدر، مستقلة بأمرها، كثيرة الصدقات، والأعمال الصالحات. فأراد السلطان حفظ حرمتها، وصيانتها وعصمتها، فأحضر (شرف الدين بن أبي عصرون) وعُدُوله، وزوَّجه إياها بحضرتهم أخوها لأبيها الأمير سعد الدين مسعود بن أنر بإذنها، ودخل بها وبات عندها، وقرن بسعده سعدها". كما ذكر ابن كثير في تاريخه "محبة صلاح الدين لها، وأنه كان يكتب لها أثناء مرضه في حران كل يوم كتابًا طويلاً".

كما تميزت الخاتون عصمة الدين برجاحة العقل، اكتسبتها أثناء نشأتها في بيت والدها حيث اطّلعت على أوضاع أمتها، وأدركت حجم المخاطر التي تتعرض لها وتفاعلت معها؛ مما انعكس على حياتها الزوجية مع نور الدين زنكي الذي كان كثيرًا ما يأخذ برأيها.. ومن القصص الطريفة التي تُروى أن نور الدين شبهها ذات مرة بالقاضي الفاضل لرجاحة عقلها وسداد رأيها -وكان قاضيًا حكيمًا ووزيرًا من الوزراء- فابتسمت الخاتون عصمة الدين وقالت لزوجها: "ولكني أجمل منه". كما ذكر الإمام الذهبي أن "صلاح الدين كان يصدر عن رأيها".

غراس صالح
أثمر زواج الخاتون عصمة الدين من نور الدين زنكي عن ابنة وولدين، هما أحمد الذي توفي طفلاً، والصالح إسماعيل الذي توفي عنه أبوه وهو بعد غلام، فاهتمت أمه عصمة الدين بتربيته ولم تفسده بتدليلها -كونه ابنها الوحيد- بل عملت على تأهيله للقيام بالأعباء العِظام التي تنتظره..

فمَلَك الشام والجزيرة بعد وفاة أبيه سنة 569هـ، وكان عمره إحدى عشرة سنة، وتلقّب بالملك الصالح. اشتُهر بتقواه وورعه، ذكر المؤرخ ابن الأثير في كتابه (الكامل في التاريخ) أنه رفض الأخذ برأي الأطباء في شرب شيء من الخمر للتداوي عندما ألحّت عليه علة "القولنج" -التي أودت بحياته- فقال: لا أفعل حتى أستفتي الفقهاء. فاستفتى، فأفتاه فقيه من مدرِّسي الحنفية بجواز ذلك، فقال له: أرأيت إن قدر الله -تعالى- بقرب الأجل، أيؤخره شرب الخمر؟ فقال له الفقيه: لا. فقال: والله لا لقيت الله -سبحانه- وقد استعملت ما حرَّمه عليَّ. ولم يشربها، فتُوفي -رحمه الله- ولم يبلغ العشرين من العمر.

صلة قوية بالله
كانت الخاتون عصمة الدين تُكثر من تدارس القرآن وقيام الليل وتجتهد في الطاعة، ذكر ابن كثير في تاريخه أنها نامت ليلة عن وِرْدها فأصبحت وهي غَضْبى، فسألها نور الدين عن أمرها، فذكرت نومها الذي فوَّت عليها وِرْدها، فأمر نور الدين عند ذلك بضرب الطبول في القلعة وقت السَّحَر؛ لتوقظ النائمين حينذاك للقيام، ومنح الضاربين أجرًا جزيلاً.

كما كانت الخاتون عصمة الدين نموذجًا للمرأة الصابرة؛ ذكر الدكتور ياسر نصر في كتابه (فجر أمة) أنها ظلت وزوجها نور الدين صابرين على قضاء الله وقدره لمدة عشرين عامًا حتى ولد لهما إسماعيل.

أعمال الخير
لم يقف دور عصمة الدين عند تربية الأبناء ومساندة زوجَيْها نور الدين ثم صلاح الدين -مجدِّدا حركة الجهاد في الأمة في القرن السادس الهجري- وشدّ أزرهما وعدم البخل عنهما بأية مشورة أو رأي، وإعانتهما على طاعة الله رغم عظم هذا الدور وأهميته.. لكنها تجاوزت ذلك إلى محاولة إصلاح المجتمع والنهوض به، وفي سبيل ذلك أوقفت أموالاً طائلة على أعمال الخير وتعليم الأمة وتربيتها، قال عنها عبد القادر بن محمد النُّعيمي الدمشقي في كتابه (الدارس في تاريخ المدارس): "هي من أعف النساء وأعصمهن وأَجَلّهن في الصيانة وأحزمهنّ، متمسكة من الدين بالعُروة الوثقى، ولها أمر نافذ ومعروف وصدقات ورواتب للفقهاء، وذلك سوى وقوفها على معتقيها وعوارفها وأقاربها".

وُصِفَت الخاتون عصمة الدين بأنها فقيهة في المذهب الحنفي، ولشدة اعتنائها بهذا المذهب بنَت المدرسة الخاتونية سنة 573هـ على مذهب الإمام الحنفي بدمشق بمحلّة كانت تُعرف بحجر الذهب، وقد اهتمت بها؛ وتكفلت بتمويلها ماديًّا عن طريق الوقف وتسخير إيراداته للمدرِّسين والطلبة، ولقد توالى على التدريس في هذه المدرسة مجموعة من أكابر علماء الفقه الحنفي.

بيت قيادة
هكذا كان بيت عصمة الدين بيت قيادة، أسرة يتوق أفرادها لتحرير بيت المقدس، ويحملون بين جَنَباتهم همَّ الإسلام ونُصرته... كم نحن بأمسِّ الحاجة إلى الاسترشاد بهذه النماذج وإسقاطها على واقعنا روحانيًّا وفكريًّا وتربويًّا! وهذا -بلا أدنى ريب- سيكون له أثر كبير في تنشئة جيلٍ يحذو حذو البطلين نور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي، رحمهما الله.

توفيت رحمها الله عام 581هـ، قبل أن تكحّل عينيها برؤية المسجد الأقصى محررًا، ودُفنت بالتُّربة التي بنتها على سفح قاسيون على نهر بردى.


الساعة الآن 05:20 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Content Relevant URLs by vBSEO 3.3.0 , Designed & TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة لمنتدى قصة الإسلام