إن الشيطان ليغار أشد الغيرة من العبد إذا وقف بين يدي ربِّه، فيحاول أن يُشغله ما استطاع لكي يُخرجه من مقام الصلاة العظيم مذمومًا لا ممدوحًا ..
يقول ابن القيم “والعبد إذا قام في الصلاة غار الشيطان منه، فإنه قد قام في أعظم مقام وأقربه وأغيظه للشيطان وأشده عليه فهو يحرص ويجتهد أن لا يقيمه فيه” .. ويُقال أن الشيطان في الصلاة كالذبــــاب .. كلما ذُبَّ أي: دُفِع، آب أي: عــــاد مرةً أخرى. وها نحن قد وصلنا إلى قول::
أعـــوذ بالله من الشيطان الرجيـــــم ..
فمعركة الشيطان مع العبد تشتد أثناء الصلاة .. فهو دائمًا ما يدخر الحلول الممتازة لجميع المشاكل لوقت لصلاة .. فيجعل العبد يُفكر فيها وينشغِل بها عن الخشوع، حتى يخرج من الصلاة بلا إستفادة .. والأدهى إن ينسى هذه الحلول فور إنتهاءه من الصلاة، فيخسر دنيــاه وآخرته ..
يقول ابن القيم “فيذكره في الصلاة مالم يذكر قبل دخوله فيها حتى ربما كان قد نسي الشيء والحاجة وآيس منها فيذكره إياها في الصلاة ليشغل قلبه بها ويأخذه عن الله عز وجل فيقوم فيها بلا قلب فلا ينال من إقبال الله تعالى وكرامته وقربه ما يناله المقبل على ربه عز وجلَّ الحاضر بقلبه في صلاته، فينصرف من صلاته مثل ما دخل فيها بخطاياه وذنوبه وأثقاله لم تخف عنه بالصلاة .. فإن الصلاة إنما تكفر سيئات من أدى حقها وأكمل خشوعها ووقف بين يدي الله تعالى بقلبه وقالبه، فهذا إذا إنصرف منها وجد خفة من نفسه وأحس بأثقال قد وضعت عنه فوجد نشاطًا وراحة وروحًا حتى يتمنى أنه لم يكن خرج منها؛ لأنها قرة عينه ونعيم روحه وجنة قلبه ومستراحه في الدنيا”
فكم مرة قد هزمك الشيطان في معركة الصلاة؟
وكم مرة قد ألهاك عنها، ثم ولَّى مدبرًا وهو يضحك ويقهقه فرحًا بإنتصاره عليك ؟!
عن عمار بن ياسر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول “إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته تسعها ثمنها سبعها سدسها خمسها ربعها ثلثها نصفها”[رواه أبو داوود وحسنه الألباني] فالشيطان يُنقِص من أجرك، بقدر ما يأخذ من خشوعك في الصلاة .. وأنت كم تتعب في جمع الحسنـــات، فتتهيأ بالوضوء وترك مشاغلك والذهــاب إلى المسجد .. ثم تُضيِّع ذلك كله، بشرود ذهنك وسرحانك في الصلاة !!
يقول ابن القيم “بإجماع السلف: أنه ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها وحضره بقلبه ” .. فبقدر الوقت والقوة التي خشعت فيها في الصلاة، تحصل على قدر من الحسنات وإن أكثر فأكثر وإن أقل فأقل.
لأنه كأنك قد أُعطيت كمية من الحسنات لحراستها في الصلاة لمدة عشر دقائق، ثمَّ بعد ذلك ستكون ملكًا لك .. فقمت بحراستها لمدة دقيقتين ثمَّ نمت، فإذا الشيطان يسرق من هذه الحسنــات .. ثمَّ استيقظت لحراسة البقية، فبدأت تنام مرة أخرى وبدأ الشيطان يسحب .. وهكذا إلى أن إنتهت العشر دقائق .. فبعض الناس قد خسر نصف حسناته، والبعض الآخر قد خسر جزء بسيط فقط، وبعضهم لم يتبق له أي حسنة !!
الحل لعداوة الشيــطـــان
بعد أن علمنا العداوة الضارية التي بين العبد والشيطان .. إذًا، ما هو الحل لعداوة الشيـــطــان؟؟ عليك باللجوء إلى ربِّك سبحانه وتعالى .. يقول تعالى {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 36] وللشيــطان طرق ووسائل للدخول على العبد في الصلاة .. فإذا أُغلقت هذه الأبواب، لن يتمكن من الدخول ..
يقول ابن القيم في (الوابل الصيب) “وقد روي أن العبد إذا قام يصلي قال الله عز وجل: ارفعوا الحجب، فإذا التفت قال: ارخوها .. وقد فُسِّر هذا الإلتفات بإلتفات القلب عن الله عز وجل إلى غيره، فاذا إلتفت إلى غيره أرخى الحجاب بينه وبين العبد فدخل الشيطان وعرض عليه أمور الدنيا وأراه إياها، وإذا أقبل بقلبه على الله ولم يلتفت لم يقدر الشيطان على أن يتوسط بين الله تعالى وبين ذلك القلب .. وإنما يدخل الشيطان إذا وقع الحجاب فإن فرَّ إلى الله تعالى وأحضر قلبه، فرَّ الشيطان فإن إلتفت حضر الشيطان .. فهو هكذا شأنه وشأن عدوه في الصلاة”
فعليك أن تستحضِر قلبك في الصلاة .. لكي لا تدع للشيطان فرصة لكي يسرق من خشوعك وبالتالي حسناتـــك. واعلم أن عداوة الشيطان ليس لها حد، فهو لا يقنَّع منك بالمعصية فقط .. بل إن غايته الكبرى هي أن تكفر، لأنه قد طُرِد من الجنة بسببك .. ولذلك يريد أن يحرمك من دخولها بأن يوقعك في الكفر والعياذ بالله، يقول تعالى {.. إِنَّهُ ُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}[المائدة: 72]
فإن لم يستطع أن يوقعك في الشرك، أوقعك في البدعة .. فإن لم يستطع أن يوقعك في البدعة، حاول معك حتى تخوض في كبائر الذنوب .. فإن كنت متوقي الحذر من الكبائر، رضي منك بالصغائر وصغيرة على صغيرة حتى تصل إلى الكبائر .. فإن كان الإنسان موفقًا ولا يقع حتى في الصغائر، فإنه يحاول أن يجعله يغوص في بحر المباحات حتى لا يصل إلى المستحبات .. فإن كنت ترتع في حدائق المستحبات وتركت المباحات، فإنه يحاول أن ينقلك من المستحب الأعلى إلى المستحب الأدنى.
قال تعالى {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا..}[فاطر: 6]
بدائـــع البسملة
وصلنا إلى اسمٍ جميل، فاسم الله سبحانه وتعالى أحلى ما يكون على قلوب المؤمنين وأقرُّ شيء لقلوبهم .. فلا تطيِّب الدنيــا إلا بذكره سبحانه، ولا تطيِّب الآخرة إلا برؤيته .. وصلنا إلى البسملة .. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
بسم الله نبدأ وبسم الله ننتهي .. فلا يُذكر اسمه على القليل إلا كثَّره ولا على الكثير إلا بارك فيه .. ولا على آفة إلا أذهبها .. ولا على شيطان إلا رده خاسئًا داحرًا .. واسم الله يحفظك في مكانك .. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم“إذا نزل أحدكم منزلا فليقل أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، فإنه لا يضره شيء حتى يرتحل عنه”[صحيح الجامع (805)] ويحفظك في زمانــك .. عن أبان بن عثمان قال: سمعت أبي يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم“ما من عبد يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات فيضره شيء”.. فكان أبان قد أصابه طرف فالج (وهو مرض) فجعل الرجل ينظر إليه، فقال له أبان: ما تنظر إلي؟ أما إن الحديث كما حدثتك ولكني لم أقله يومئذ ليمضي الله علي قدره. [رواه الترمذي وصححه الألباني]
يقول ابن القيم “وكمال الاسم من كمال مسماه، فإذا كان شأن اسمه الذي لا يضر معه شيء في الأرض ولا في السماء فشأن المسمى أعلى وأجل” والمحب إذا أحب شيئًا، أحب ذكر اسمه .. ولا شيء أطيَّب لقلوب المؤمنين من ذكرهم لربِّهم ..يقول ابن القيم “ولهذا أمر الله سبحانه عباده بذكره على جميع الأحوال وأمرهم بذكره أخوف ما يكونون، فقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45].. والمحبون يفتخرون بذكرهم أحبابهم وقت المخاوف وملاقاة الأعداء كما قال قائلهم:
ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ مني وبيض الهند تقطُّر من دمي
فوددت تقبيــــل السيــوف لأنـها برقت كبارق ثغرك المتبسم”
ويقول ابن القيم في روضة المحبين “أقر شيء لعيون المحب خلوته بسره مع محبوبه، حدثني من رأى شيخنا (أي: شيخ الإسلام ابن تيمية) في عنفوان أمره خرج إلى البرية بكرة (أي: في الصباح الباكر) فلما أصحر (أي: بلغ الصحراء) تنفس الصعداء ثم تمثل بقول الشاعر:
وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك القلب بالسر خاليا”
فأنت إذا ذكرت اسم الله عزَّ وجلَّ، تفرح بذكر اسم محبوبك .. إلهك الواحد الأحد، الذي ليس لديك سواه ..
فإذا قلت بسم الله الرحمن الرحيم، فإنها بداية الحوار الذي سيكون بينك وبين الله عزَّ وجلَّ .. لإنه سبحانه وتعالى يرد عليك أثناء قرائتك للفاتحة ..
يقول ابن جرير “إني لأعجب ممن قرأ القرآن ولم يعلم تأويله وتفسيره، كيف يتلذذ بقراءته؟!” فأنت لا تعلم ما يحدث عند قرائتك للفـــاتحة وما بها من أسرار ..
أن السورة الوحيدة التي قد بلَّغنا أن الله تعالى يرد فيها على عبده هي الفـــاتحـــة ..
والتي تبدأ بـــ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.. والْحَمْدُ: هو إثبـــات الكمـــال لله تعالى مع المحبــة .. والحمــد عظيمٌ جدًا، لدرجة أنه يملأ ميـــزانك بالحسنـــات .. يقول النبي صلى الله عليه وسلم“.. والحمد لله تملأ الميزان..” [رواه مسلم]
وإن وفقك الله عز وجلَّ لقول الحمد لله ..فإنك بحاجة لأن تحمده على هذه النعمة؛ لأن الله تعالى هو الذي ألهمَّك نعمة الحمد، يقول تعالى {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29] .. وما أعطاك الله في الدنيا عطاءً إلا وهو نعمة منه سبحانه، فإن حمدته على هذا العطاء كانت نعمته عليك بأن حمدته أعظم من نعمته عليك بالعطاء. والرَبَّ: هو الرازق المالك المُدبِّر ..
والْعَالَمِينَ:جمع عالم وهي كل ما سوى الله تعالى .. فالملائكة والإنس والجن والحيوانات والحشرات وحتى البكتريا والخلايا عالم .. والله تعالى هو رب كل هذه العوالم، يُدبِّر كل صغيرة وكبيرة فيها .. حتى دقائق الأمور التي لا تُرى بالعين المجردة، جعل الله تعالى تدبيرها إليه. ولتدرِّك مدى عظمة تدبير الله تعالى للأمور .. يكفيك أن تُشاهد العملية الدقيقة التي تحدث داخل خلية واحدة لكرة دم بيضاء، لكي تنزلق وتخرج من شُعيرة دموية إلى أخرى .. ولتعلَّم أن جسم الإنسان مكوَّن من مليارات من الخلايا، وأن المللي الواحد من الدم به عشرة آلاف خلية من كرات الدم البيضـــاء .. فالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ..
رحلة عبر الكون
بنـــا نتعمــق أكثر مع أبعـــاد {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.. ولقد أمرنا الله عزَّ وجلَّ أن ننظر ونتفكَّر في خلق السماوات والأرض، فقال تعالى {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ..} [يونس:101] وبعد أن غُصنَّا المرة السابقة بداخل الخلية وأدركنا مدى صغرها .. فلنسبح اليوم في رحلة عجيــبة جميـــلة، تأخذنا إلى أبعــــاد أكبر وأبعد بكثيــــر ..
ستنطلق رحلتنا من مدينة البُندقية بإيطاليـــا، ثمَّ نبتعد أكثر فأكثر إلى أن نخرج خارج كوكب الأرض .. ويبدأ الكوكب في الابتعاد والتقلُص إلى أن يصير كالقمر في السمــــاء .. ثمَّ نمُّر بجانب القمر الحقيقي .. وكلما ابتعدنا أكثر، صار منظر الأرض كإنها نجمة من النجوم التي نراها في السمـــاء ..
وأثنــاء تجولنا في المجموعة الشمسية، تمر علينا مسارات لكواكب المجموعة المختلفة .. وسنقطع المجموعة الشمسية بأكملها في أكثر من خمس ساعات ضوئية ..
وسنخرج خارج المجموعة الشمسية، إلى أن تصير الشمس وتوابعها كالنجم المُعلَّق في الفضـــاء .. فلربما إذا رأيت نجمة في السماء، تكون لمجموعة كاملة كما هو الحال مع المجموعة الشمسية ..
وأقرب النجوم إلى مجموعتنا الشمسية تُسمى: سنتوري أ وسنتوري ب .. وتبعُد عنا بمسافة أربع سنوات وربع ضوئية .. وعدد النجوم بمجرة درب التبانة وحدها = 10,000000,000000,000000,0000 نجم !!
فلنخرج خارج مجرتنا (درب التبانة)، وسنُلاحظ أن مجموعتنا الشمسية تقع بطرف المجرة .. وأقرب المجرات إلينا، هي مجرة المرأة المُسلسلة (Andromeda) ..
ولقد انتقلنا خلال رحلتنا من مرحلة الكواكب إلى النجوم، إلى المجرات التي تحتوي على مجموعات من النجوم .. وكلما ابتعدنا أكثر، صارت المجرات كالنقطة في السمـــاء ..
ونبتعد أكثر فأكثر إلى أن نصل إلى مرحلة التجمعـــات، التي هي مجموعة من المجرات ..
وبعد أن ابتعدنا بمليارت السنين الضوئية، وصلنا إلى المرحلة التي لا نستطيع أن نرى معها شيئًا من كثرة التجمعــــات التي في السمــــــاء .. والآن، هل أدركت كم هو حجمك مقارنة بالمجرات الموجودة حولك؟ وكم هو البُعد بينك وبين السمـــــــاء؟ {.. أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ}[الأنعام: 50]
شرف العبودية لله عزَّ وجلَّ
إن السمـــاء التي شاهدناها في رحلتنا السابقة هي مجرد جزء من السمـــاء الدنيـــا، وهو الجزء الذي توصَّل العلماء لتقديره حتى الآن .. والله أعلم بقدر ما لم نستطع أن نصل إليه بعد.
وفوق هذه السمــاء الدنيـــا توجد سمـــاء أخرى أعظم منها، وفوقها سماء ثالثة أعظم .. إلى أن نصل إلى السمــاء السابعــة، وهي أعظم السمــاوات وفوقها عرش الرحمن وكرسيه .. ولتدرك عِظَم كرسي عرش الملك جلَّ جلاله .. فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول “ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة”[السلسلة الصحيحة (109)] .. فالسماوات السبع بما فيها بالنسبة للكرسي، كإنها حلقة أُلقيَّت في الصحراء .. والكرسي بالنسبة للعرش، كإنه حلقة أُلقيَّت في الصحراء أيضًا .. قال تعالى {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ..}[لقمان: 11] .. فمن أنا؟ ومن أنت؟ ومن نحن جميعًا مقارنة بخلق الله عزَّ وجلَّ؟؟ بالله عليك، أي وقوف هذا الذي نقفه بين يدي الله عزَّ وجلَّ؟!! —————–
وبعد هذا التدبُّر والتفكُّر في خلق الله .. يحق لنا أن نستحي من قول النبي صلى الله عليه وسلم“إن الله أمركم بالصلاة فإذا صليتم فلا تلتفتوا، فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت ..”[رواه الترمذي وصححه الألباني].. فلك أن تشعر بالهيبة .. فكل هذه الخلائق تعمل كل لحظة دون كلل أو ملل أو كسل .. فالنجوم تسبح في مجرَّاتها والكواكب تسير في مداراتها والخلايا تؤدي وظائفها في جميع أماكنها والنباتات تكبُر والحيوانات تفترس والنيازك تسقط والشمس تُشرِّق والمد والجزر يتبادلان والبدر ينكمش .. {.. وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40] والذي يُدبِّر أمرها كله، هو الله رَبُّ العالميـــــن .. {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [غافر: 64] فالحمدُ لله الذي جعل الربوبية عنده ..{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
والعجيب في الأمر، إنك عندما تقف بين يدي هذا الإله العظيـــم وتحمده على ربوبيته فتقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فإن الله عزَّ وجلَّ يرد عليك قائلاً: حمدني عبدي ..
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول “قال الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}،قال الله تعالى: حمدني عبدي .. وإذا قال {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، قال الله تعالى: أثنى علي عبدي .. وإذا قال {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، قال: مجدني عبدي .. فإذا قال {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل .. فإذا قال {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}،قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل”[رواه مسلم]
يقول ابن القيم “فيا لذة قلبه وقرة عينه وسرور نفسه بقول ربِّه: عبدي ثلاث مرات، فوالله لولا ما على القلوب من دخان الشهوات وغيم النفوس لاستطيرت فرحًا وسرورًا بقول ربِّها وفاطرها ومعبودها: حمدني عبدني وأثنى علي عبدي ومجدني عبدي” ومما زادني شرفًا وفخرًا وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيَّرت أحمدَ لي نبيا
لذلك عندما شرَّف الله تعالى نبيه بالقُرب منه في رحلة الإسراء، قال {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ ..}[الإسراء: 1] .. فوصفه بالعبودية دون غيرها لأنها أشرف المواطن، وعلى الرغم أن العبودية ذُل ولكن الذل لله عزَّ وجلَّ مع المحبة هو كمال الشرف. فهل يوجد أحلى من أن تُناجي الله عزَّ وجلَّ، فتُكلمه ويكلمك وهو رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ استشعر هذه المعاني الرائعة، وسيزيد خشوعك إن شـــــاء الله تعالى،،
في أعظم سورة على الإطلاق نقلنا الله تعالى من حمده على ربوبيته للعالمين إلى رحمته بالعالمين،
وبين كل آية وآية يرد الله عزَّ وجلَّ علينا ويخاطبنا كما أخبر بذلك الصادق المصدوق .. فما أحلى الفاتحة، ووالله إنها لأكثر سورة يجب أن يخشع العبد فيها ..
ولكن للأسف بعض الناس لا يبدأ بالتركيز إلا بعد إنتهاءه من الفاتحة ويستبعد أن يكون هناك ما يشدهُ فيها ..
مع أن الذي يطلِّع على أسرارها، يجد لها طعمًا آخر. والسبب في أن قول الله تعالى {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} أتى عقب قوله {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ..
كما يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله “إن ربوبية الله عزَّ وجلَّ مبنية على الرحمة الواسعة للخلق، لأنه تعالى لما قال {.. رَبِّ الْعَالَمِينَ}كأن سائلاً يسأل ما نوع هذه الربوبية؟ هل هي ربوبية أخذ وانتقام أم ربوبية رحمة وإنعام؟ فقال بعدها ربي {الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ }“
————
والرحمن والرحيم يدلان على الرحمة ..
ولكن بينهما فرق ..
فالرحمن ..
أي ذو الرحمة الواسعة ولذلك جاء على وزن فعلان الدال على السعة،ويدُل على أن صفة الرحمة قائمة به سبحانه. أما الرحيـــــم .. فهو الذي يوصل الرحمة إلى من يشاء من عباده، ولهذا جاءت على وزن فعيل الدال على وقوع الفعل.
يقول ابن القيم ” ألا ترى أنهم يقولون: غضبان للممتليء غضبا وندمان وحيران وسكران ولهفان لمن ملىء بذلك، فبناء فعلان للسعة والشمول .. ولهذا يقرن استواءه على العرش بهذا الاسم كثيرا كقوله تعالى { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[طه: 5]، و{.. ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا}[الفرقان: 59] .. فاستوى على عرشه باسم الرحمن لأن العرش محيط بالمخلوقات قد وسعها والرحمة محيطة بالخلق واسعة لهم، كما قال تعالى {.. وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ..} [الأعراف: 156] .. فاستوى على أوسع المخلوقات بأوسع الصفات، فلذلك وسعت رحمته كل شيء”
ويقول “والرحيم دال على تعلقها بالمرحوم فكان الأول للوصف والثاني للفعل .. فالأول: دال أن الرحمة صفته، والثاني: دال على أنه يرحم خلقه برحمته .. وإذا أردت فهم هذا فتأمَّل قوله: { .. وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}[الأحزاب: 43] وقوله تعالى{.. إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}[التوبة: 117] ولم يجيء قط رحمن بهم، فعُلِّم أن الرحمن: هو الموصوف بالرحمة ورحيم: هو الراحم برحمته”
ورحمة الله تكون في ما منعك، كما تكون في ما منحك .. فإذا منعك الله تعالى من شيءٍ تحبه وتريده، فهذا هو عين العطاء لك .. لإنه إن كان هذا الشيء في الظاهر محبباً لك، فإن فيه مفاسد هي أعظم من منافعه والله تعالى يراها وأنت لا تراها .. فهو الخالق سبحانه {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الملك: 14] .. فيكون منعك منه فيه منفعة لك أكثر من حصوله لك سواء في العاجل أم في الآجل، قال تعالى {.. وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}[البقرة: 216]
فالأمر كله رحمةً للعبد، ولكنه يقف بين يدي الله تعالى مُتسخطًا في الصلاة بدلاً من أن يقف فرحًا متلذذًا برحمة الله التي وسعت كل شيء،،
——– والسبب في أن قول الله تعالى {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} تقدَّم على قوله {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} .. يقول الغرناطي في (ملاك التأويل) “الله عز وجل يخاطب عباده بخطاب الرحمة والتلطف والاعتناء، فيقول للنبي صلى الله عليه وسلم{عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة : 43] .. فقدَّم العفو على ما ظاهره العتاب، لكي لا ينصدع قلب النبي صلى الله عليه وسلم.. وكذلك تلطَّف على عباده من أمة النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم {الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ليؤنسهم في ذلك اليوم الشديد” فكما آنس الله عز وجلَّ نبيه صلى الله عليه وسلم، فقد قدَّم قوله الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ لكي يؤنس أمته في هذا اليوم العصيب لما فيه من أهوال،،
– سعة رحمة الله عزَّ وجلَّ
إن الله تعالى لا يُخيِّب أحدًا رجاه ولا يطرد أحدًا من رحمته .. بل إن بعض الناس هم الذين يطردون أنفسهم من رحمة الله، بأن يرى طريق الرحمة فيتركه ويرى طريق العذاب فيسلكه .. قال تعالى {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 3] ورحمة الله تعالى بعباده عظيمة جدًا .. عن عمر بن الخطاب قال: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبي فإذا امرأة من السبي تسعى إذا وجدت صبيا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم“أترون هذه طارحة ولدها في النار ؟”، فقلنا: لا وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال “لله أرحم بعباده من هذه بولدها” [متفق عليه] .. فرحمة الله بعباده يوم القيامة كبيرة جدًا، وسيرون منها ما لم يخطر لهم على بال من العفو والصفح والمغفرة والتجاوز والتغاضي عن بعض الهفوات والزلات. ولكن بشرط أن يعملوا لاستحقاق هذه الرحمة .. يقول تعالى {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى}[طه: 82].. فعليك أن تُريَّ الله أنك تريد رحمته، لأن الله تعالى يحب أن يرى من عبده سعيًا إليه. ولقد امتلأ الكون كله من أوله إلى آخره برحمة الله تعالى، كامتلاء البحر بالماء وامتلاء الجو بالهواء .. حتى إنه قد أوضع الرحمة في قلوب الحيوانات المُفترسة ..
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم“إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون وبها يتراحمون وبها تعطف الوحش على ولدها وأخر الله تسعا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة”[متفق عليه] وكما مُليء الكون بالرحمة، فقد مُليء بذكر الله عز وجلَّ وشكره أيضًا .. يقول تعالى {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}[الإسراء: 44]..
فهلَّ كنا جزءًا من هذا الكون الذي يسبح بحمد ربه ولا ننشز عنه؟ وإذا قلت الرحمن الرحيم في الصلاة، قال الله عزَّ وجلَّ لك: أثنى علي عبدي .. فتذكَّر أن المفتاح السحري للخشـــوع هو أن تُخاطب ربَّك عز وجلَّ في الصــلاة،،