كثيرٌ من الناس يخشع في السجود وتدمع عينه عند تلاوة القرآن، لكنه لا يستطيع أن يتصوَّر ما يحرك قلبه للخشــوع في الركــوع.. ولو فَهِم الواحد منَّــا مدى عظمة الركــوع، لعَرِفَ مذاقهُ .. وكل إنسانٍ لديه رغبــات وحاجــات يومية لابد أن يشبعها .. فمنهم من يحب الجلوس مع أسرته لفترات ومنهم من يحتــاج إلى أن يجلس وحيدًا أحيــانًا، والبعض الآخر يحتــاج لمن يهتم به ويُشعره بأنه محبوبًا .. وإذا لم يُشبِع الإنسان رغبته في يومٍ من الأيـــام، يجد نفسه متوترًا ومنزعجًا ويغضب لأتفه الأسبـــاب .. أتدري ما هي أعظم رغبة تحتاجها روحك؟
———-
إنها العبـــادة؛ أعطش حاجةٍ لديــــك ..
فكما إن للإنسان رغبة في التعزز بمنصب أو سلطان، فإن بداخله رغبة أخرى للتذلل إلى من يحب .. ولكن الناس يأنفون من عبادة بعضهم لبعض؛ لذلك صرفوا حاجتهم إلى العبادة إلى ما حولهم من المخلوقـــات ..
ولقد عبَّد الناس على مدى الأزمـــان أعجب الأشيــاء؛ ليشبعوا تلك الرغبـــة .. فهناك من يعبُد المــاء أو الأصنــام وحتى الأفاعي عبدوها، يبذلون الجهد والتضحيــات ويخشعون ويخضعون لعبادة أشيـــاء ما أنزل الله بها من سلطان .. كل ذلك من أجل إشبــاع رغبــة العبــادة في نفوسهم. ولن يشبع أحدٌ من تلك الرغبة إلا بعبادة الله الواحد القهَّار، ولن يرتوي عطشه إلا بالصلاة الحقِّ لله الواحد الأحد .. وأنت أخي الكريـــم، يــــا من مَنَّ الله عزَّ وجلَّ عليك بنعمة الإسلام والتوحيـــد .. تحتـــاج لإشبـــاع رغبتك من العبــادة، والركــوع يُشْبِع تلك الرغبــة؛ لأن فيه تذلل عجيــب لله ربِّ العالمين ..
لذة الركوع وتعظيــم الربُّ جلَّ وعلا
إنك بحـــاجة لإشبــاع رغبتك من عبادة الله عزَّ وجلَّ، حتى لا تصاب بالقلق والتوتر .. والركــوع يُشبع تلك الرغبة لما فيه من التذلل لله ربِّ العالمين .. فاشبع نفسك من الركوع حتى ترتوي .. فما الذي ينبغي علينا أن نستشعرهُ أثنــاء الركـــوع؟ استشعر لذة الركوع وأنت تقول: سبحـــان ربِّي العظيـــم .. سبحـــان .. فإنك حين تُسبِح تنزه ربَّك سبحانه وتعالى عن جميع النقائص والعيــوب، ولا ترضى أن يعصيه أحد .. ربِّـــي .. ربَّك الذي ربَّــاك فأحسن تربيتك، تربية لم يربِّها لك والديــك أو أي أحد غيرهما .. فهو سبحــانه الذي ألبسك وأطعمك وسقــاك وآواك، وزرع فيك الأخلاق الحميــدة .. والربُّ .. هو السيـــد المُطــاع الرازق المُتكفِّل .. فمن الذي يتكفَّل بحاجاتك سوى ربُّك عزَّ وجلَّ؟ .. ومن الذي يُحقق آمــالك سواه سبحــانه وتعالى؟!
————
فأنت تُعَظِم ربَّك، وقلبـــك ينطق: كم أنت عظيــــــــم يــــا ربِّي،،
يصف ابن القيم المُصلي حــال ركوعه .. فيقول “يرجع جاثيًا له ظهره خضوعًا لعظمته، وتذللاً لعزته واستكانة لجبروته مسبحًا له بذكر اسمه العظيم .. فنزه عظمته عن حال العبد وذله وخضوعه، وقابل تلك العظمة بهذا الذل والانحناء والخضوع قد تطامن (أي: انخفض) وطأطأ رأسه وطوى ظهره وربَّه فوقه يرى خضوعه وذلة ويسمع كلامه .. فهو ركن تعظيم وإجلال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم“فأما الركوع فعظموا فيه الربَّ” [رواه مسلم]” [شفاء العليل (1:228)] فمن عَرَفَ الله عزَّ وجلَّ، عظمَّهُ بقلبه،،
———-
وكلما امتلأ القلب محبةً لله عزَّ وجلَّ، امتلأ تعظيمًا له سبحانه .. حتى إنه يُعَظِّم كل ما يحبه الله جلَّ وعلا .. قال تعالى {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]
يقول ابن القيم “وأدبه في الركوع: أن يستوي ويعظِّم الله تعالى حتى لا يكون في قلبه شيء أعظم منه ويتضاءل ويتصاغر في نفسه حتى يكون أقل من الهباء” [مدارج السالكين (2:387)] وكل ما سبق بمثابة استعدادات للسجــود الذي هو محل الدعــاء؛ لأن الركوع لا دعــاء فيه، فقط تسبيــح وتعظيـــم ..
يقول ابن القيم “وكان الركوع كالمقدمة بين يدي السجود والتوطئة له (أي: التمهيد)، فينتقل من خضوع إلى خضوع أكمل وأتم منه وأرفع شأنًا” [شفاء العليل (1:229)]
———-
وإذا استشعرت هذه المعاني حينما تركع في اليوم أكثر من 17 مرة، لابد أن تزيد محبتك لله .. وتأكد إنك إذا أحببت الله عزَّ وجلَّ؛ فإنه سيحبُكَ أكثر من حبك له بكثيــر .. كما يقول الله جلَّ وعلا في الحديث القدسي “.. وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً” [متفق عليه] وإذا أحبَك الله عزَّ وجلَّ، من ذا الذي يقدر أن يؤذيـــك؟! وما حاجتك إلى الخلق أصلاً، إذ أنت تمسي وتُصْبِح والخالق يُحبُك؟!
ولهذا كان السلف – رحمهم الله – يطيلون هذا الركن شديدًا، حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يركع لمدة مقاربة للوقت الذي يستغرقه في قراءة خمسة أجزاء من القرآن ..
يذكر ابن الجوزي في (صفة الصفوة): أن أحد العُبَّاد وكان يُدعى (أبو مالك العابد) صلى نهاره أجمع وليله حتى بقى راكعًا لايقدر أن يسجد، ثمَّ رفع رأسه إلى السماء ثم قال: قرة عينى، ثمَّ خرَّ ساجدًا فقال وهو ساجد: “إلهي، كيف عزفت قلوب الخليقة عنك؟!!” فمن تذوَّق طعم الركـــوع، عَرِفَ أنه أعظم مما يتصوَّر أي أحد .. نسأل الله تعالى أن يُذيقنا لذة الركـــوع التي غَفَل عنها الكثيــر من النـــاس،،
الرفع من الركوع وأذكـــاره
انتهينا من ركن جميل من أركــان الصلاة؛ وهو الركـــوع .. بنـــا نتذوق ركن آخر ممتع وهو: الرفع من الركوع
كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع صلبه من الركوع قائلاً “سمع الله لمن حمده” حتى يستوي قائمًا، وكان إذا رفع رأسه استوى حتى يعود كل فقار مكانه.
————–
إطالة القيام من الركوع ووجوب الاطمئنان فيه
كثيرٌ من الناس إذا رفع من الركوع لا يكاد يستقر ثمَّ يُكبِّر ويخر ساجدًا، ويجعل هذا الركن من أسرع المواضع في صلاته!! مع أن النبي صلى الله عليه وسلمكان يجعل قيامه من الركوع قريبًا من ركوعه، الذي كان قريبًا من قيــامه .. بل كان يقوم أحيانًا حتى يقول القائل: قد نسي!، من طول ما يقوم. وكان يأمر بالاطمئنان فيه .. فقال صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته “.. ثُمَّ ارْفَعْ رَأْسَكَ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا ..” [متفق عليه]، وفي رواية “.. فإذا رفعت فأقم صلبك وارفع رأسك حتى ترجع العظام إلى مفاصلها ..” [رواه أحمد وحسنه الألباني، صحيح الجامع (324)] .. فيأخذ كل عظمٍ مأخذه وحتى ترجع العظام لمفاصلها. ولا تتم صلاة لأحد من الناس إذا لم يفعل ذلك .. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم“لا ينظر الله إلى عبد لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده” [رواه أحمد وصححه الألباني، صحيح الترغيب والترهيب (531)]
———-
أذكــــار الرفع من الركـــوع
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه عند الاعتدال من الركوع على الوجوه المتقدمة في تكبيرة الإحرام (إما عند المنكب وإما عند فروع الأذنين)، ويقول وهو قائم: 1) ربنا ولك الحمد .. 2) وتارة يقول: ربنا لك الحمد ..
وتارة يضيف إلى هذين اللفظين قوله: اللهمَّ .. 3) فيقول: اللهمَّ ربنا ولك الحمد .. 4) أو: اللهمَّ ربنا لك الحمد .. 5) ربنا ولك الحمد، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه .. عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الزُّرَقِيِّ قَالَ: كُنَّا يَوْمًا نُصَلِّي وَرَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرَّكْعَةِ، قَالَ “سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ”، قَالَ رَجُلٌ وَرَاءَهُ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ “مَنْ الْمُتَكَلِّمُ”، قَالَ: أَنَا، قَالَ “رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلَاثِينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أَوَّلُ” [صحيح البخاري]
————
والحمد: هو وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم، وقد يكون مقابل نعمة أو لا .. أما الشكر فلا يكون إلا مقابل نعمة .. وعليك أن تنوِّع بين هذه الأذكار؛ حتى يكون القلب حاضرًا،،
———-
وكان النبي صلى الله عليه وسلم تارة يزيد على هذه الأذكار قول: ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد ..
أي: ملء السماوات حمدًا وهي العالم العلوي، وملء الأرض وهي العالم السفلي، وملء الفضاء الذي بينهما .. هل تتخيـــل حجم السماوات التي تملأها حمدًا لله عزَّ وجلَّ؟؟
سر الحمد بعد الرفع من الركـــوع
إن سرعة الضوء هائلة جدًا .. بإمكان شعاع من الضوء أن يدور حول الكرة الأرضية ثمان مرات في ثانية الواحدة، ويستغرق ثمان دقائق ونصف تقريبًا حتي يصل الضوء من الأرض إلى الشمس .. ويقطع المجموعة الشمسة بأكملها في خمس ساعات ..
ومع هذه السرعة الهائلة والمسافات الشاسعة التي يقطعها الضوء في وقت قصير جدًا، فإن أقرب نجم للمجموعة الشمسية يقع على بُعد أربع سنوات ضوئية !! فلك أن تتخيـــل مدى سعة وعظمة السماوات .. ومقدار الحمد الذي تذكره حين الرفع من الركوع: ربنــا ولك الحمد ملء السماوات وملء الأرض ..
————
وملء ما شئت من شيء بعد ..
لأنه يوجد عوالم وأشياء أخرى غير السماوات والأرض، لا يمكن لعقولنا أن تحيط بها علمًا .. ومنها عالم الملكوت؛ كالكرسي والعرش وغيرهما مما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى. وفي إحالة الحمد على المشيئة، اعتراف بالعجز عن أداء حق الحمد .. فإنه لم يثني أحدًا من الخلق على الله سبحانه وتعالى بما يستحقه قط .. فالله جلَّ جلاله وحده هو الذي أثنى على نفسه بما يستحقه .. وإلا فكل من أثنى عليه سبحانه وإن كان محسنًا بثنائه إلا أنه غير مكافيء له.
————
يقول الإمام ابن القيم “وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول فى سجوده: “أَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لا أُحْصِى ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِكِ” [صحيح مسلم] ، فلا يحصى أَحد من خلقه ثناءً عليه البتة، وله أسماءٌ وأوصاف وحمد وثناءٌ لا يعلمه ملك مقرب ولا نبى مرسل .. ونسبة ما يعلم العباد من ذلك إلى ما لا يعلمونه كنقرة عصفور فى بحر“ [طريق الهجرتين (19:37)]
————-
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية “المخلوق إذا أنعم عليك بنعمة أمكنك أن تكافئه، ونعمه لا تدوم عليك، بل لا بد أن يودعك ويقطعها عنك، ويمكنك أن تستغني عنه، والله عزَّ وجلَّ لا يمكن أن تكافئه على نعمه، وإذا أنعم عليك أدام نعمه، فإنه أغنى وأقنى، ولا يستغني عنه طرفة عين”
————
لماذا لا نُكبِر عند الرفع من الركوع؟
لأن الركوع والرفع منه بمثابة المقدمة للسجـــود، والسجود هو موضع الدعــاء حيث يكون العبد أقرب ما يكون من ربِّه ويُستجاب فيه دعائه .. وأنت تقول عند الرفع من الركوع: سمع الله لمن حمده ..
أي: استجــاب الله لمن يحمده .. فيكون الذكر التالي مشتملاً على الحمد: ربنـــا ولك الحمد .. ثمَّ تسجد لتدعو الملك جلَّ جلاله ..
————-
فكان الثنـــاء والحمد مقدمة للدعاء؛ لكي يُستجـــاب ..
فإن الملوك يجب أن يُثنى عليهم قبل الطلب منهم؛ لهذا يُثني العبد على الله عزَّ وجلَّ بما هو أهله ثمَّ يسجد ليطلب من ربِّه ويدعوه .. فما أجمل الصلاة التي رتبها الله عزَّ وجلَّ ترتيبًا عجيبًا، لا يمكن أن يؤتى بمثله .. فتمتعوا بالصلاة،،
هيا بنــا لنتمتع بأعظم ركنٍ في الصلاة؛ ركن السجـــود .. لنقترب أكثر من سجود النبي صلى الله عليه وسلم وكأننا نراه يسجـــد سجـــوده الجميــــل .. كان صلى الله عليه وسلميكبر في طريقه إلى السجـــود، ثم يسجد حتى تطمئن مفاصله .. وكان يجافي يديه عن جنبيه قبل أن يسجد.
الخرور إلى السجود على اليدين
وكان يضع يديه على الأرض قبل ركبتيه .. وإن كانت المسألة يسعها الخلاف، إلا إن الراجح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُقَدِم يديه على ركبتيه وكان يأمر بذلك فيقول “إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه” [رواه أبو داوود وصححه الألباني، صحيح الجامع (595)]
وعن نافع عن ابن عمر رفعه قال “إن اليدين تسجدان كما يسجد الوجه، فإذا وضع أحدكم وجهه فليضع يديه وإذا رفع فليرفعهما” [رواه أبو داوود وصححه الألباني (892)]
وكان يعتمد على كفيه ويبسطهما، ويضم أصابعهما، ويوجهها قِبَل القبلة .. وكان يجعلهما حذو منكبيه، وأحيانًا حذو أذنيه.
———- وكان يمكن أنفه وجبهته من الأرض .. فمن الخطأ أن لا تلامس الأنف الأرض أثناء السجود. وكان يُمَكِن أيضًا ركبتيه وأطراف قدميه .. ويستقبل بصدور قدميه وبأطراف أصابعهما القبلة ويرص عقبيه، وينصب رجليه وأمر به وكان يفتح أصابعهما.
—————-
فهذه سبعة أعضاء كان النبي صلى الله عليه وسلم يسجد عليها:
1) الكفان .. 2) والركبتان .. 3) والقدمان .. 4) والجبهة والأنف.
وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم العضوين الأخيرين كعضوٍ واحد في السجود، حيث قال صلى الله عليه وسلم “أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ، عَلَى: الْجَبْهَةِ (وَأَشَارَ بِيَدِهِ عَلَى أَنْفِهِ)، وَالْيَدَيْنِ، وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ، وَلَا نَكْفِتَ الثِّيَابَ وَالشَّعَرَ” [متفق عليه]
—————- وكان لا يفترش ذراعيه، بل كان يرفعهما عن الأرض ويباعدهما عن جنبيه حتى يبدو بياض إبطيه من ورائه .. وحتى لو أن بهمة (أي: دابة صغيرة) أرادت أن تمر تحت يديه مرت.
وكان يبالغ في ذلك حتى قال بعض أصحابه: ” إن كنا لنأوي (أي: نرق) لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما يجافي بيديه عن جنبيه إذا سجد” [رواه ابن ماجه وقال الألباني: حسن صحيح]
وكان يأمر بذلك فيقول صلى الله عليه وسلم” إِذَا سَجَدْتَ فَضَعْ كَفَّيْكَ وَارْفَعْ مِرْفَقَيْكَ” [رواه مسلم] .. ويقول “اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ، وَلَا يَبْسُطْ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الْكَلْبِ” [متفق عليه]
أذكار السجود ومناجـاة الربِّ جلَّ وعلا
كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن تلاوة القرآن في الركوع والسجود، ويأمر بالاجتهاد والإكثار من الدعاء في هذا الركن ..
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ “أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ”[صحيح مسلم]
إطالة السجود
وكان صلى الله عليه وسلميجعل سجوده قريبًا من الركوع في الطول، وربما بالغ في الإطالة لأمرٍ عارض .. كما قال بعض الصحابة: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشاء (الظهر أو العصر) وهو حامل حسنًا أو حسينًا، فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه ثم كبر للصلاة فصلى فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها، قال: فرفعت رأسي وإذا الصبي على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد فرجعت إلى سجودي، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال الناس: يا رسول الله، إنك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أمر أو أنه يوحى إليك، قال “كل ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته” [رواه النسائي وصححه الألباني]
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فإذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره فإذا أرادوا أن يمنعوهما أشار إليهم أن دعوهما فلما قضى الصلاة وضعهما في حجره، وقال “من أحبني فليحب هذين” [حسنه الألباني، السلسلة الصحيحة (312)]
وكان صلى الله عليه وسلم يقول في هذا الركن أنواعًا من الأذكار والأدعية تارة هذا وتارة هذا :
1) سبحـــان ربي الأعلى، ثلاث مرات .. و كان أحيانًا يكررها أكثر من ذلك.
2) سبحان ربي الأعلى وبحمده، ثلاثًا ..
3) سبـــوح قدوس رب الملائكة والروح ..
4) سبحانك اللهم ربنا، وبحمدك اللهم اغفر لي .. وكان يكثر منه في ركوعه وسجوده يتأول القرآن، كما ورد في قوله تعالى {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 3]
5) اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين ..
6) اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك ..
7) اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله، وأوله وآخره، وعلانيته وسره ..
دقه وجله، أي: صغيره وكبيره .. وقدَّم الصغير على الكبير؛ لأن الكبائر عادةً تنشأ من عدم المبالاة بالصغائر، والإصرار عليها .. والإصرار على الصغيرة كبيرة.
وأوله وآخره: ما تقدم من ذنبه وما تأخر .. أي: اللهمَّ اغفر لي الذنوب التي فعلتها في السابق، والتي سأقع فيها في المستقبل.
وعلانيته وسره، أي: ظاهره وخفيه .. وهو ما أظهره أمام الناس، وما أخفاه عنهم فلم يطلِع عليه سوى الله عزَّ وجلَّ.
وفي هذا اللفظ تأكيد الدعاء، وتكثير ألفاظه وإن أغنى بعضه عن بعض .. فإن اكتفى بقوله “ذنبي كله” لشمل جميــع ذنوبــه ..
لكن إطالة الدعاء دلالة على محبة الداعي؛ لأن الإنسان إذا أحب شيئًا أحب طول منــاجاته ..
وما أجمل مناجـــاة ربِّ العالمين،،
،،
السجــود سر السعادة
بعض الناس يسجد لأن السجود مجرد ركنٌ من أركان الصلاة وقد حان وقته، أو لأنه يريد أن يدعو ربَّه فحسب .. ولكن لن تشعر بمدى جمال السجود إلا إذا تحرَّك قلبك وبذلت أفضل ما عندك لاستشعار ذلك الركن العظيم من أركان الصلاة ..
يقول ابن القيم “والسجود سر الصلاة وركنها الأعظم وخاتمة الركعة وما قبله من الأركان كالمقدمات له .. فهو شبه طواف الزيارة في الحج فإنه مقصود الحج ومحل الدخول على الله وزيارته وما قبله كالمقدمات له؛ ولهذا أقرب ما يكون العبد من ربِّه وهو ساجد، وأفضل الأحوال له حال يكون فيها أقرب إلى الله، ولهذا كان الدعاء في هذا المحل أقرب إلى الإجابة” [الصلاة وأحكام تاركها (11:45)]
———
السجـــود بـــاب السعادة
إن السعادة لا توجد إلا عند اقتراب الروح من خالقها عزَّ وجلَّ، وكلما ارتفعت الروح واقتربت أكثر من الملك سبحانه وتعالى كانت أسعد ..
ولهذا حين تخرج أرواح المؤمنين من أجسادهم، فإنها تصعد إلى أعلى وتقترب من الله تعالى .. أما أرواح العصاة، فلا تُفْتَح لهم أبواب السماء ولا يدخلون إلى السعادة ..
وحينما اقترب النبي صلى الله عليه وسلم من موعد سعادته حين وفاته صلى الله عليه وسلم ، جعل ينصب يده ويقول “اللهم الرفيق الأعلى“ [متفق عليه] حتى قُبِضَ ومالت يده صلى الله عليه وسلم..
فإذا أردت أن تصل إلى السعادة، يجب أن تصعد بروحك إلى أعلى .. وهذا لن يحدُث إلا إذا نزلت بجسدك إلى أسفل ..
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ “أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ” [صحيح مسلم]
وكلما سجدت وتذللت لربِّك أكثر، أزددت قُربًا وارتفعت مكانتك أكثر ..
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “من تواضع لله رفعه الله” [صحيح الجامع (6162)]
فالسجود هو سر الفرح والسعادة .. ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءه أمر يُسَرُ به، خرَّ ساجدًا شكرًا لله تعالى. [صحيح الجامع (4701)]
فإنك حين تسجد لا تنزل إلى أسفل، بل تسبح إلى أعلى فتقترب أكثر من ربِّك جلَّ جلاله ..
ولذلك تقول في سجــودك:
سبحـــــان ربِّي الأعلى
فما أحلى السجــــود
حين يلتصق جسدك بالأرض، وتقترب روحك من فاطر السماوات والأرض .. فتحس بالسعادة تتسلل إلى شِغاف قلبك وتسكن فيها ..
ولا تزال تسجد أكثر، فترتفع درجتك في الجنة أكثر ..
إلى أن تصل إلى قمة السعادة .. إلى الفردوس الأعلى من الجنة ..
والتي سقفها عرش الرحمن جلَّ جلاله، فأهلها جارهم هو الله عزَّ وجلَّ ..
عَن رَبِيعَةُ بْنُ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيُّ قَالَ: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ، فَقَالَ لِي “سَلْ”، فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ “أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؟”، قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ، قَالَ “فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ” [صحيح مسلم]
هل علمت الآن ما الذي كنت تفعله طوال سنوات عمرك؟
أرأيت مدى خسارتك لعدم استشعارك لجمال السجــود طوال الفترة الماضية؟
وليس جسدك فقط هو الذي يسجد، بل قلبك أيضًا وهو الأهم ..