الآية 1، والآية 2: ﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ ﴾: أي اقَترب أمْرُ اللهِ بعذابكم أيها المشركونَ ﴿ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ ﴾: أي فلا تستعجلوا العذابَاستهزاءً بوعيدِ اللهِ لكم ﴿ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾: أي تَنَزَّهَ اللهُ وتَقَدَّسَ عن شِرك المُشركين الذي جَرَّأهم على الاستهزاء بالعذاب، (واعلم أنه سبحانه لم يقل لهم - بضمير المُخاطَب -: (عما تُشركون)، بعد أن كانَ الخطاب مُوَجَّهاً إليهم في قوله: ﴿ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ ﴾، وذلك تهميشاً لهم، واحتقاراً لأفعالهم التي لا يَرضى عنها العقلاء).
♦ هذا، وقد أنزل اللهُ بهم بعضَ العذاب الذي استعجلوه،فقد قَتَلَ زعمائهم المُستهزئين في بدر، ثم أصابهم القحط سبع سنين، وعَذَابُ يوم القيامة قد اقترب لمن استعجله، ولذلك عَبَّرَ عنه سبحانه بصيغة الماضي - في قوله: ﴿ أَتَى ﴾ - وذلك لتأكيد وقوعه في عِلم اللهِ تعالى واقتراب مجيئه، فإنه آتٍ لا مَحالة، وكلُّ آتٍ قريب.
♦ ولَمَّا بَرَّأَ اللهُ نفسه عَمَّا وَصَفه به أعداؤه، ذَكَرَ الوحي الذي يَجب اتِّباعه، فقال:﴿ يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ ﴾ أي بالوحي الذي به حياة الأرواح والقلوب، وهذا يُشبه قوله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا ﴾، (والمقصود بالملائكة هنا: "جبريل" عليه السلام ومَن معه مِن حَفَظَة الوحي)، إذ يَنزلون بالوحي﴿ مِنْ أَمْرِهِ ﴾: أي بأمْر ربهم سبحانه ﴿ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾ المُرسَلين، بـ ﴿ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا ﴾ أي خَوِّفوا الناس مِن عاقبة الشِرك، لأنه لا معبودَ بحقٍ إلا أنا ﴿ فَاتَّقُونِ ﴾: أي فاتقوني أيها الناس بأداء فرائضيوإفرادي وحدي بالعبادة.
♦ واعلم أنّ اللهَ تعالى قال: ﴿ يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ﴾، ولم يقل (بأمْره)، وذلك لأنّ الوحي من الأمور التي اختَصَّ اللهُ بها نفسه، وهذا كقوله تعالى: ﴿ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ﴾، واللهُ أعلم.
الآية 3:﴿ خَلَقَ ﴾ سبحانه ﴿ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ﴾ أي ليَستدِل بهما العباد على عَظَمة خالقهما وقدرته على إحياء الموتى(لأنّ ذلك أهْوَنُ عليه سبحانه مِن خَلْق السماوات والأرض)، وبأنهوحده الخالق القادر المستحق للعبادة، ﴿ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾: أي تنزَّه - سبحانه - وتعاظَمَ عن شِركهم وافترائهم.
الآية 4: ﴿ خَلَقَ ﴾ سبحانه ﴿ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ ﴾ أي مِن ماءٍ حقير مُستَقذَر، ثم أخرجه تعالى مِن بطن أُمِّهِ لا يَعلم شيئاً، حتى إذا رَبَّاهُ وأصبح رَجُلاً: ﴿ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ﴾:أي فإذا به يَقْوى ويَغترُّ، ويُصبح شديد الجدال لربه في إنكار البعث وغير ذلك، كقوله: "مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟"، ونَسِيَ قدرة ربه الذي خَلَقَه من العدم.
الآية 5، والآية 6، والآية 7: ﴿ وَالْأَنْعَامَ ﴾ - مِن الإبل والبقر والغنم - ﴿ خَلَقَهَا ﴾ سبحانه ﴿ لَكُمْ ﴾ - أيها الناس -﴿ فِيهَا دِفْءٌ ﴾: أي جعل فيأصوافها وأوبارها الدفء، ﴿ وَمَنَافِعُ ﴾ أُخرى في جلودها وألبانها وما يَنتج من اللبن (كالزُبد والسَمن والجُبن) وكذلك تنتفعون بأولادها، ﴿ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾أنواعاً مختلفة من اللحوم، ﴿ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ ﴾ أي: ولكم فيها زينة تُدْخل السرور عليكم، وذلك ﴿ حِينَ تُرِيحُونَ ﴾:أي عندما تَرُدُّونها إلى البيوت فيالمساء،﴿ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ﴾: أي عندما تُخْرجونها للمَرعى في الصباح، ﴿ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ ﴾ أي تحمل ما ثَقُلَ مِن أمتعتكم وأحمالكم﴿ إِلَى بَلَدٍ ﴾ بعيدٍ ﴿ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ ﴾: أي لن تستطيعواالوصول إليه إلا بجهدٍ شديد ومَشَقَّة عظيمة، ﴿ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ حيثُ سَخَّرَ لكم كل ما تحتاجون إليه، إذاً فاعبدوه وحده ولا تُشركوا به.
الآية 8: ﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ ﴾ خَلَقَها سبحانه لكم ﴿ لِتَرْكَبُوهَا ﴾ ﴿ وَزِينَةً ﴾ أي: ولتكون جمَالاً لكم ومَنظرًاحسنًاً، ﴿ وَيَخْلُقُ ﴾ سبحانه ﴿ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ مِن وسائل الركوب وغيرها (ويَدخل في ذلك: السيارات والقطارات والطائرات والغواصات، إذ هو سبحانه الذي خَلَقَ مَصدر صُنعها، وهو الحديد، ثم عَلَّمَ الإنسانَ كيف يَصنعها)، وذلك لتزدادواإيمانًاً به وشُكراً له.
♦ واعلم أنّ هناك خلافٌ بين العلماء في جواز أكْل لحوم الخيل، والراجح: جواز أكْلها (وهو رأي الجمهور)، لحديث أسماء رضي الله عنها - كما في صحيح مسلم - أنها قالت: (فجَزَرنا - أي ذَبَحنا - فرَسَاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة وأكلناه ).
الآية 9:﴿ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ﴾ أي: وعلى اللهِ إيضاحُ الطريق المستقيم لِهدايتكم، وهو الإسلام، ﴿ وَمِنْهَا جَائِرٌ ﴾ أي: ومن الطرق ما هومائل لا يُوصل إلى الهداية (وهو كل ما خالَفَ الإسلام)، ﴿ وَلَوْ شَاءَ ﴾ سبحانه﴿ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ للإسلام، ولكنه لم يَشأ ذلك لحكمةٍ يَعلمها، ولذلك هَدَى سبحانه مَن رَغَبَ في الهداية واتَّبع أسبابها، وأضَلَّ مَن رغب في الضَلال واتَّبع أسبابه.
الآية 10، والآية 11: ﴿ هُوَ ﴾ سبحانه ﴿ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ﴾ ﴿ لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ ﴾ أي ماءٌ تشربونه وتتطهرون به، ﴿ وَمِنْهُ شَجَرٌ ﴾: أي وأخرج لكم بهذا الماءشجرًا (والمقصود بالشجر هنا: جميع النباتات، حيثُ يَتوقف وجودها على الماء)، ﴿ فِيهِ تُسِيمُونَ ﴾: أي تَرْعَوْن مَوَاشيكم في هذا النبات، ﴿ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ ﴾ أي بهذا الماء الواحد: ﴿ الزَّرْعَ ﴾ أي الزروع المختلفة ﴿ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ ﴾ أنواع﴿ الثَّمَرَاتِ ﴾، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ ﴾ الإنبات ﴿ لَآَيَةً ﴾ أي دلالة واضحة على قدرته تعالى، وقد جعل سبحانه هذه الدلالة ﴿ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ أي يَتأملون، فيَعلموا أنه سبحانه الخالق الرازق المستحق وحده للعبادة.
♦ ورغم أنّ الزيتون والتمر والعنب مِن ضِمن الثمرات، إلا إنه سبحانه قد ذَكَرها منفصلة، لإظهار فوائدها ومنافعها (وهذا مِن باب ذِكر العام على الخاص لإظهار فضل الشيئ وشَرَفه)، واللهُ أعلم.
الآية 12: ﴿ وَسَخَّرَ ﴾ سبحانه ﴿ لَكُمُ اللَّيْلَ ﴾ لراحتكم، ﴿ وَالنَّهَارَ ﴾ لمعاشكم، (والمقصود مِن تسخيرهما: كَونهما مَوجودين باستمرار لا يَفترقان أبداً إلى أن يَأذن اللهُ بانتهائهما)، ﴿ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ﴾ سَخّرَهما سبحانه لكم لمعرفة الأيام والشهور، وإضاءة الأرض، وغير ذلك من المنافع، ﴿ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ ﴾ أي مُذلَّلاتٌ لكم بأمْر اللهِ وقدرته، وذلك لمعرفة الأوقات، ونُضج الثمرات، والاهتداء بها فيالظلمات، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ ﴾ التسخير ﴿ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ أي يَعقلون عن اللهِ أدلتهوبراهينه، إذ إنه لا يُعقَلُ أبدًا أن يَخلُقَ سبحانه ويُعبَد غيرُه، وأن يَرزُقَويُشكَر غيرُه!
♦ واعلم أنّ الواو التي قبل كلمة (النجوم) تُسمَّى: (واو الابتداء)، يعني كأنها تبدأ جُملة جديدة، فلذلك جاءت كلمة (النجوم) مرفوعة (لأنها مبتدأ)، ولم تأت مَنصوبة مِثل مَن قبلها (لأنها لم تُعطَف عليهم).
الآية 13: ﴿ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ﴾ أي: وَسَخَّرَ لكم ما خَلَقَه في الأرض - من المَواشي والثمار والمعادن - وغير ذلك مماتختلف ألوانه ومنافعه، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ ﴾ الخَلق واختلاف الألوان والمنافع ﴿ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ﴾ أي لَعِبرةًلقوم يَتعظون، ويَعلمون أنَّ في تسخير هذه الأشياء علاماتٍ على وحدانية اللهِوقدرته، فيَعبدوه وحده ولا يُشرِكوا به.
الآية 14: ﴿ وَهُوَ ﴾ سبحانه ﴿ الَّذِي سَخَّرَ ﴾ لكم ﴿ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا ﴾من الأسماك وغيرها ﴿ وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً ﴾ أي زينةً ﴿ تَلْبَسُونَهَا ﴾ أي تلبسها نساؤكم (كاللؤلؤ وغيره)، (واعلم أنّ المقصود مِن تسخير البحر: هو تمكين البشر من التصرف فيه، وتذليله لهم بالركوب، وتيسير الغوص - لاستخراج اللآلئ - وصيد الأسماك وغير ذلك، فهي نعمة عظيمة، وإلاّ، فلو شاءَ سبحانه لَسَلّطَ البحر عليهم فأغرقهم)، ﴿ وَتَرَى الْفُلْكَ ﴾ أي ترى السفن العظيمة - رغم ثِقَلها - ﴿ مَوَاخِرَ فِيهِ ﴾: أي تَشُقّالماء ذهاباً ومَجيئاً، لتحملكم وتحمل أثقالكم ﴿ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ﴾ أي: وتركبونها لتطلبوا رِزقَ اللهِ بالتجارة والربح فيها (وذلك بنقل البضائع والسِلَع من بلدٍ إلى آخر)﴿ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ربكم على هذه النعم العظيمة، ولا تعبدون معه غيره.
الآية 15، والآية 16:﴿ وَأَلْقَى ﴾ أي وَوَضَعَ سبحانه﴿ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ ﴾ أي جبالاً راسية لتُثَبِّت الأرض﴿ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ﴾: أي حتى لا تميل بكم وتتحرك (إذ لو تَحَرَّكَتْ بكم: ما استقامَ العيشُ عليها، ولَتَهَدَّمَ ما عليها وتَساقط)، ﴿ وَأَنْهَارًا ﴾ أي: وجعل في الأرض أنهارًا لسُقياكم وسُقيا دَوَابِّكموزروعكم وغير ذلك مِن منافعكم، ﴿ وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾أي:وجعل في الأرض طُرُقًاً لتهتدوا بها في الوصول إلى الأماكن التي تقصدونها، ﴿ وَعَلَامَاتٍ ﴾: أي وجعل في الأرض علاماتٍ تَستدلُّون بها على الطُرُق نهارًا (كالهِضاب والأوْدية والأشجار وغير ذلك)، ﴿ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ﴾ أي: كما جعل النجومليَهتدي بها المسافرون ليلاً، (فرُكَّاب البحر لا يَعرفون اتجاه سَيْرهم في الليل إلا بالنجوم، وكذلك المسافرون في الصحارى، وذلك قبل وجود آلة (البوصلة) والتي لم توجد إلا على ضوء النجم وهدايته).
الآية 17: ﴿ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ ﴾: يعني أتجعلون اللهَ تعالى - الذي يَخلق هذه الأشياء وغيرها - كالآلهةالمزعومة التي لا تخلق شيئًا، وتعبدونها معه؟! ﴿ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾: يعني أفلا تتذكرون عَظَمَة اللهِ تعالى، فتتوبوا إليه وتُسلِموا له؟!
الآية 18:﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ﴾: يعني: وإن تعُدُّوا نِعَم اللهِ عليكم لا تستطيعوا حَصْرَها ولا القيام بشُكرها; وذلك لكثرتها وتنوُّعها (لِذا فتذكَّروا نِعَمَهُ سبحانه، واشكروه عليها، مع استشعاركم - أثناء الشكر - بعَجْزكم عن القيام بشُكره كما يَجب)، واستخدِموا نِعَمَهُ في طاعته ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ إذ يَتجاوز عن تقصيركم في أداء شُكر النعم، ولايَقطعها عنكم لتفريطكم، ولا يُعاجلكم بالعقوبة.
الآية 19: ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ ﴾ أي يَعلم سبحانه ما تتحدثون به سِرَّاً وما تُخفونه في نفوسكم ﴿ وَمَا تُعْلِنُونَ ﴾ أي: ويَعلم سبحانه ما تُظهِرونهلغيركم، (ومِن ذلك أنّ اللهَ عليمٌ بما يُدَبِّرُه المشركون مِن الشر والأذى لرسوله صلى الله عليه وسلم، فالآية تَحمل أيضاً تهديداً ووعيداً لكفار مكة).
الآية 20، والآية 21:﴿ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا ﴾ يعني: والآلهة المزعومة التي يَعبدها المشركون لا تَخلق شيئًا (وإنْ صَغُر)، ﴿ وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴾ يعني: بل هي مخلوقات صَنَعَهاالكفار بأيديهم، فكيف إذاً يَعبدونهم وهم يَعلمون أنهم ﴿ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ ﴾ أي جمادات لا حياةَ فيها؟! ﴿ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ﴾ أي: ولا تَشعر هذه الأصنام بالوقت الذي يَبعثها اللهُ فيه هي وعابديها،ليُلقَى بهم جميعاً في النار يومالقيامة.
الآية 22، والآية 23: ﴿ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ﴾ يعني: إلهكم المستحق وحده للعبادة هو اللهُ الواحد الأحد، (والعبادُ قسمان: قِسمٌ مؤمن بهذه الوحدانية، وقِسمٌ جاحد بها رغم وضوح الأدلة وقوَّتها) ﴿ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ ﴾ هم الذين﴿ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ ﴾ لهذه الوحدانية، ﴿ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ﴾ أي يَتكبرون عن قبولالحق، وعبادة اللهِ وحده، و﴿ لَا جَرَمَ ﴾ أي حَقًا ولا شك ﴿ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾ أي يَعلم ما يُخفونه مِن عقائد وأقوال وأفعال وما يُظهرونه منها،وسيُجازيهم على ذلك كله ﴿ إِنَّهُ ﴾ سبحانه ﴿ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ ﴾.
♦ واعلم أنّ اللهَ تعالى قد خَصَّ الذين لا يؤمنون بالآخرة بأنهم هم المُنكِرون للوحدانية - عندما قال:﴿ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ ﴾ - وذلك لعدم خوفهم من العقاب في الآخرة، إذ لو آمنوا باليوم الآخر (الذي هو يوم الجزاء على أعمالهم)، ولو تَخَلَّوا عن أهوائهم وشهواتهم، وخافوا عقابَ اللهِ تعالى: لاَستقاموا على الحق والخير.
الآية 24، والآية 25: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ ﴾ يعني: وإذا جاءَ أُناسٌ من بلادٍ أخرى ليَسألوا عن الإسلام، فقابلوا هؤلاء المشركين وسألوهم عن القرآن: ﴿ قَالُوا ﴾ لهم: إنه ﴿ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾ أي قصص السابقين وأباطيلهم، (وهذا مِن جَهلهم وعِنادهم، وإلاَّ، فكيف يكون هذا الكتاب المُشتمل على الحقوالعدل التام، أساطيرَ الأولين؟!)، فكانوا بذلك يَصرفون الناس عن الإسلام ﴿ لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾: أي لتكون عاقبة افترائهم أن يَحملوا ذنوبهم كاملةً يوم القيامة - لا يُغْفَرُ لهم منها شيء-﴿ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ ﴾ أي: وكذلك سيَحملون مِن ذنوب الذين كَذَبوا عليهم وأضَلُّوهم، ليُبعدوهم عن الإسلام﴿ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾أي: وهم لا يَعلمون أنّ مَن دَعا إلى ضَلالة، كان عليه ذنب مَن عَمِلَ بها إلي يوم القيامة،﴿ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ﴾: أي قَبُحَ ما يَحملونه من الذنوب، لأنها ستقودهم إلى نار جهنم ليُعَذَّبوا فيها.
♦ واعلم أنّ اللام التي في قوله تعالى: ﴿ لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ ﴾ تسمى: (لام العاقبة)، أي: لتكون عاقبتهم أن يَحملوا ذنوبهم، وهذا مِثل قوله تعالى: ﴿ فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ﴾.
الآية 26: ﴿ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾ أي: لقد دَبَّرَ الكفار السابقين المَكايد لرُسُلهم ﴿ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ ﴾: أي فهَدَمَ اللهُ تعالى بُنيانهم مِن أُسُسِه وقواعده، (وهذا كقول العرب: (أتَى عليه الدهر) أى: أهلكه وأفناه، وكما تقول أيضاً: (لقد أُتِيَ فلانٌ مِن مَأمنه) أى نَزَلَ بهالهلاك)، أمّا إتيانُ اللهِ تعالى يوم القيامة فيكونُ إتيَانًاحقيقيًّا بذاتِهِ على الوَجْهِ اللائق بهِ سُبحانه، ففي صحيح مُسلم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال- وهو يتحدث عن يوم القيامة -: (حتى إذا لم يَبْقَ إلاَّ مَنكان يَعْبُدُ اللَّهَ تعالىمِن بَرٍّ وفاجر: أتاهم رَبُّ العالمين سبحانهوتعالى في أدنَى صورةٍ مِن التي رأوهُ فيها).
﴿ فَخَرَّ ﴾ أي فسقط﴿ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ ﴾ ﴿ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ﴾أي: وبذلك قد جاءهم الهلاك - وهم في مَأمنهم - مِن حيثُ لا يتوقعون، وذهب باطلهم وزالَ مَكْرُهم (أفلا يَتعظ كفار قريش بهذا فيَنتهوا عن تدبير السُوءَ لنَبِيِّهم بالقتل أو النفي أو الحبس؟).
الآية 27، والآية 28، والآية 29:﴿ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ ﴾ أي يُذِلُّهم اللهُ بالعذاب يوم القيامة ﴿ وَيَقُولُ ﴾ لهم - توبيخاً -:﴿ أَيْنَ شُرَكَائِيَ ﴾ الذين عبدتموهم مِن دُوني، و﴿ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ ﴾: أي كنتم تحاربونالأنبياء والمؤمنين مِن أجْلهم، فأين هم الآن ليَدفعوا عنكم العذاب؟، وحينئذٍ ﴿ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ﴾ أي قال الأنبياء والعالمون: ﴿ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾: يعني إن الذل في هذااليوم والعذاب سيَكونُ على الكافرين ﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ﴾ أي تقبض الملائكة أرواحهم وهم ﴿ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ ﴾ بالكفر والمعاصي، ﴿ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ﴾: أي فاستسْلَموا لأمْر اللهِ حينَ رأوا الموت، وأنكَروا ماكانوا يَعبدونَ مِن دون الله، فقالوا: ﴿ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ ﴾: أي ما كنا نعمل شيئًا من الشِرك والمعاصي، فيُقال لهم: ﴿ بَلَى ﴾ أي كَذَبْتم، فـ ﴿ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾، وسيُجازيكم على أعمالكم، ﴿ فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ ﴿ فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ﴾ يعني:فإنّ جهنم هي بئس المُستقَرّ للذين تكبَّروا عنعبادة اللهِ وحده.
.................
تفسير الربع الثاني من سورة النحل
الآية 30، والآية 31، والآية 32:﴿ وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ﴾ يعني: وإذا سُئِلَ المؤمنون المُتَّقون: ﴿ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ ﴾ على محمد صلى الله عليه وسلم؟ ﴿ قَالُوا ﴾: ﴿ خَيْرًا ﴾ أي أنزَل عليه الخير والهدى، ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا ﴾: يعني إنَّ للمحسنين - الذين اتقوا ربهم وعبدوه بما شَرَع، ودَعوا الناس إلى توحيده -، هؤلاء لهم في الدنيا (حَسَنَةٌ) أي حياةً طيبة في الدنيا، ﴿ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ ﴾ أي: ولَنعيم الدار الآخرة ﴿ خَيْرٌ ﴾ لهم وأعظم من الدنيا وما فيها، ﴿ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ ﴾ في الآخرة، وهي ﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ ﴾ أي جناتالخلود، التي ﴿ يَدْخُلُونَهَا ﴾ فلا يَخرجون منها أبدًا، ﴿ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾: أي تجري الأنهار مِن تحت أشجارها وقصورها، ﴿ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ ﴾ أي يَطلبونَ فيها كل ما تشتهيه أنفسهم، مِمَّا لَذَّ وطابَ من المطاعم والمشارب والملابس والمراكب وغير ذلك، مِمَّا لم يَخطر على قلب بَشَر من النعيم، (وهذا هو مُنتهَى الإكرام، إذ كَون العبد يَجد كل ما يَشتهي ويَطلب هو نعيمٌ ليس بعده نعيم) ﴿ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ ﴾ وهم ﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ ﴾: أي تقبض الملائكة أرواحهم وقلوبُهم طاهرة من الكفر والشِرك، ﴿ يَقُولُونَ ﴾ أي تقول لهم الملائكة: ﴿ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ﴾ مِن كل خوف وحزن وتعب ﴿ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ من الإيمان والعمل الصالح والتوبة (لأنّ المتقين كانوا إذا وقعوا في ذنبٍ: سارَعوا بالتوبة، كما قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ ﴾، فلذلك ماتوا وهم مغفورٌ لهم، (واعلم أنه تعالى وَصَفَ الجنة بأنها: (دار المتقين)، باعتبار أنهم أهلها والجديرون بها).
الآية 33، والآية 34:﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ ﴾: يعني هل يَنتظر هؤلاء المشركون ﴿ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ ﴾ لتقبض أرواحهم وهم على الكفر، ﴿ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ ﴾ بعذابٍ عاجل يُهلكهم - أو بقيام الساعة - وساعتها سيُؤمنون؟!، ﴿ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾: يعني كما كَذَّبَ هؤلاء المشركون مِن قومك، فكذلك كَذَّبَ الكفار مِن قبلهم،فنزل بهم العذاب، ﴿ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ ﴾ بإهلاكهم ﴿ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ بالكفر والمعاصي، فبذلك استحقوا العذاب، ﴿ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا ﴾: أي فنزلتْ بهم عقوبة ذنوبهم التي عملوها ﴿ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ أي: وأحاط بهم العذاب الذي كانوا يَسخرونمنه، فلم يستطيعوا الفرار.
♦ واعلم أنّ مناسبة هذه الآية لِمَا قبلها: أنّه تعالى لَمَّا أخبر عن العذاب الذي نَزَلَ بالمُكَذِّبين السابقين، وأخبر عن حال تَوَفِّي الملائكة لهم وللمؤمنين، قال - مُنكِراً على كفار مكة عدم مُسارعتهم إلى الإيمان -: ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ ﴾.
الآية 35: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ﴾: ﴿ لَوْ شَاءَ اللَّهُ ﴾ ألاَّ نُشرك به، وألاَّ نُحَرِّم شيئاً مِن عند أنفسنا: ﴿ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ (وهذا جهلٌ منهم بحكمة ربهم وبسُنَّتِهِ في كَوْنِه، مِن هداية مَن اتَّبع أسباب الهدى وإضلال مَن اتَّبع أسباب الضلال).
♦ وقد رَدَّ سبحانه عليهم - في آيةٍ أخرى - بقوله: ﴿ قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا ﴾؟ يعني هل عندكم عِلمٌ صحيح - فيما حَرَّمتم من الأنعاموالزروع، وفيما زعمتم مِن أنّ اللهَ قد شاءَ لكم الشِرك ورَضِيَهُ منكم - فتُظهِروهُ لنا؟! ﴿ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ﴾: أي: ما أنتم إلا تَكذبون في هذا الظنّ، الناتج عن التخمين واتّباع الآباء بغير دليل.
﴿ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾ أي: كذلكاحتَجَّ الكفار السابقون بمِثل هذا الاحتجاج الباطل - وهم يَعلمون أنهم كاذبون - فإنّ الله تعالى قد أمَرَهم ونهاهم، ومَكَّنَهم من القيامبما كَلَّفهم به، وجعل لهم قوة ومَشيئة تصدر عنها أفعالهم، فلذلك بَطلَ احتجاجهم بالقضاءوالقدر مِن بعد إنذار الرُسُل لهم ﴿ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾؟ (والاستفهام للنفي) أي ليس على الرُسُل إلا التبليغ الواضح لِمَا كَلَّفهم اللهُ به.
الآية 36: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا ﴾ آمِرًا لهم ﴿ أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ ﴾ وحده ﴿ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾: أي اتركوا عبادة غير اللهِ تعالى (مِن الشياطين والأصنام والأموات وغير ذلك)، ﴿ فَمِنْهُمْ ﴾ أي مِن هذه الأمم ﴿ مَنْ هَدَى اللَّهُ ﴾ أي هداهُ اللهُ تعالى فاتَّبَعَ المُرسَلين، ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ ﴾ أي: ومنهم المُعاند الذياتَّبع طريق الضَلال، فوجبتْ عليه الضَلالة، فلم يُوَفِّقه الله، فإن كنتم أيها المشركون في شَكٍّ مِن ذلك: ﴿ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ﴾ ﴿ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾ أي كيف كانت نهايتهم، لتَعتبروا.
♦ واعلم أنّ الطاغوت هو كل ما يَعبُدُه الناس مِن دون اللهِ تعالى، بشرط أن يكون هذا الطاغوت راضياً عن عبادة الناس له، لأنّ عيسى عليه السلام لم يكن راضياً عن عبادة النصارى له.
الآية 37: ﴿ إِنْ تَحْرِصْ ﴾ - أيها الرسول - ﴿ عَلَى هُدَاهُمْ ﴾ أي على هداية هؤلاء المشركين ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ ﴾ أي فاعلم أنّ اللهَ ﴿ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ ﴾ فلا يَقدر أحَدٌ أن يَهدي مَن أضله الله، لأنّ إضلال اللهِ تعالى يكونُ على سُنَن ثابتة، لا تَقبل التبديل والتغيير، (ومِن هذه السنن: تفضيلهم الدنيا على الآخرة، والضلال على الهدى، والانقياد للشهوات على الانقياد للحق)، ﴿ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ﴾ يَمنعون عنهم عذابَ اللهِ تعالى (إذاً فلا تُهلِكْ نفسك حُزناً عليهم، فما عليك إلا البلاغ).
الآية 38، والآية 39، والآية 40: ﴿ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ ﴾ أي: وأقسم هؤلاء المشركون باللهِ تعالى - بأغلظ الأيمان - أنّ اللهَ لن يَبعث مَن يَموت بعدما صارَ تراباً، فرَدَّ سبحانه عليهم بقوله: ﴿ بَلَى ﴾ أي سيَبعثهم اللهُ تعالى، وبهذا وَعَدَ ربكم ﴿ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا ﴾ الوفاء به، ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ أي لا يَعلمون قدرة اللهِ على إحياء مَن بدأ خَلْقهم أول مرة.
♦ واعلم أنّ المشركين كانوا يَحلفون بآلهتهم وآبائهم في الأمور التافهة، وأما إذا كان الأمر عظيماً: أقسَموا باللهِ تعالى.
♦ وسوف يَبعث اللهُ جميع العباد يوم القيامة ﴿ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ ﴾ حقيقة البعثِ ﴿ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ ﴾ ﴿ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ ﴾ حينما حَلفوا أنه لا بَعْثَ ولا جزاء، بل، إنّ أمْرَ البَعث يَسيرٌ علينا، فـ ﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ أي فإذا هو كائنٌ موجود.
الآية 41، والآية 42: ﴿ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ ﴾ أي والذين هاجروا في سبيل اللهِ طَلَباً لرضاه، وتركوا ديارهم وأموالهم مِن أجْله تعالى ﴿ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ﴾ وعُذَّبوا: ﴿ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ﴾: أي لَنُسكِننَّهمفي الدنيا دارًا حسنة (والمقصود بها هنا: المدينة المنورة)، وكذلك فإنّ كل مَن هاجر في سبيل الله، فإنّ اللهَ تعالى يُوفيله بهذا الوعد، كما قال تعالى:﴿ وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ﴾أي سعةً في العيش والرزق،﴿ وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ ﴾ - لأنّ ثوابهم فيها هو الجنة - ﴿ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾: (هذه الجُملة لتشجيع المُتباطئين عن الهجرة) أي لو كانالمتخلفون عن الهجرة يَعلمون - يَقيناً - ما أعَدَّهُ اللهُ في الجنة للمهاجرينفي سبيله، ما تخلَّفَ أحدٌ منهم.
♦ ومِنصفات هؤلاء المهاجرين أنهم هم ﴿ الَّذِينَ صَبَرُوا ﴾ على أوامر اللهِ تعالى - وإن كانت مُخالِفةً لِهَواهم - ﴿ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ أي: وعلى ربهم وحده يَعتمدون، فبذلك استحقوا هذه المَنزلة العظيمة.
الآية 43، والآية 44: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ ﴾) - أيها الرسول - ﴿ إِلَّا رِجَالًا ﴾ أي رُسُلاً من الرجال (لا منالملائكة)، وكنا ﴿ نُوحِي إِلَيْهِمْ ﴾ لِيُبَلِّغوا رسالات ربهم للناس، وإن كنتم - يا مشركي قريش - لا تُصَدِّقونَ بذلك ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ ﴾: أي اسألوا أهلالكتب السابقة، ليُخبروكم أنّ الأنبياء كانوا بَشَرًا وليسوا ملائكة ﴿ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾.
♦ واعلم أنّ هذه الآية عامة في كل مسألة من مسائل الدين - إذا لم يكن عند الإنسان عِلمٌمنها - أن يَسأل مَن يَعلمها مِن العلماء المُتمكنين في العلم.
♦ ولقد أَرْسَلْنا الرُسُل السابقينَ ﴿ بِالْبَيِّنَاتِ ﴾ أي بالدلائل الواضحة على وجوب عبادة اللهِ وحده، ﴿ وَالزُّبُرِ ﴾ أي: وأرسلناهم بالكتب السماوية لهداية الناس، ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ﴾: أي وأنزلنا إليك القرآنَأيها الرسول، لتُوَضِّح للناس ما خَفِيَ مِن مَعانيه وأحكامه، (ويُحتمَل أن يكون المقصود بالذِّكر هنا: السُنّة، لأنها هي المُوَضِّحة لمعاني القرآن)، ولِذا فالراجح أنَّ المقصود بالذِكر هنا: (جميع الشريعة) أي القرآن والسُنَّة، لأنّ القرآن لن يتم إيضاح مَعانيه إلا بالسُنَّة، ﴿ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ أي: ولِكَي يَتدبروا القرآن - بعد أن بَيَّنتَ لهم مَعانيه -فيَهتدوا به.
الآية 45، والآية 46، والآية 47: ﴿ أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ ﴾: يعني هل أَمِنَ الذين مَكَروا المَكرات السيئات (فالسيئات وَصْف للأفعال الماكرة التي مَكَروها، مِن محاولة قتل النبي صلى الله عليه وسلم، ومِن الشرك والتكذيب وتعذيب المؤمنين)، (واعلم أنّ هذا يَشمل أيضاً كل مَن يُصِرّ على المعاصي ولا يتوب منها)، أفأمِنَ هؤلاء ﴿ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ ﴾ كما فعل بقارون؟، ﴿ أَوْ ﴾ هل أَمِنوا أن ﴿ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ أي مِن مكانٍ لا يتوقعونه؟، ﴿ أَوْ ﴾ هل أَمِنوا أن ﴿ يَأْخُذَهُمْ ﴾ العذاب ﴿ فِي تَقَلُّبِهِمْ ﴾ أي: وهميَتقلبون في أسفارهم وأشغالهم؟، ﴿ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴾: أي فلن يُعجِزوا اللهَ تعالى إذا أرادَ أخْذَهم وإهلاكهم، ﴿ أَوْ يَأْخُذَهُمْ ﴾ يعني: وهل أَمِنوا أن يأخذهم اللهُ ﴿ عَلَى تَخَوُّفٍ ﴾ أي في حال خوفهم مِن أخْذِهِ لهم (وذلك في حال توقعهم بنزول العذاب لوجود علاماته)، ويُحتمَل أن يكون المعنى: (أن يُهلكهم واحداً بعد الآخر أو جماعة بعد أخرى (يعني يأخذ القرية فتخاف القرية الأخرى وهكذا، حتى لا يَبقى منهم أحد)،﴿ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ إذ لولا رأفته ورحمته: لأَذاقهم عذابه دونَ أن يُمهلهم للتوبة.
♦ واعلم أنّ التقلب: هو الحركة (ذهاباً وعودة) مِن أجل السعي في شئون الحياة (مِن تجارةٍ وعمل وسفر وغير ذلك).
الآية 48: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا ﴾: يعني ألم يَنظر هؤلاء الكفار ﴿ إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ ﴾ له ظِلّ - كالشَجَر وغيره - إذ ﴿ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ ﴾: أي تميلُ ظلالها يَمينًاً وشمالاً (تبعًا لحركة الشمس نهارًاوالقمر ليلاً)، فتكون ﴿ سُجَّدًا لِلَّهِ ﴾ بظلالها، ﴿ وَهُمْ دَاخِرُونَ ﴾ أي: وهي تحت تسخيره وتدبيره وقهره.
الآية 49، والآية 50: ﴿ وَلِلَّهِ ﴾ وحده ﴿ يَسْجُدُ ﴾ كُلُّ ﴿ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ ﴾ تدبّ على وجه الأرض(حتى الكافر، فإنه - وإن لم يَسجد للهِ تعالى عبادةً - فإنه يَسجد له بخضوعه لأحكامه الجارية عليه - مِن غِنىً وفقر، وصحةٍ ومرض وغير ذلك - ولا يقدر أن يَرُدّها).
﴿ وَالْمَلَائِكَةُ ﴾ يَسجدونللهِ تعالى ﴿ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ عن عبادته (وقد خَصَّ سبحانه الملائكة بالذِّكر - من بين مخلوقاته - لشَرَفهموكثرة عبادتهم)، فهُم ﴿ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ﴾ أي يَخافون ربهم الذي هو فوقهم بالذات والقهر وكمال الصفات ﴿ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ فلا يَستطيعونَ أن يَعصوا ربهم، (وفي الآية إثبات صفة العُلُوّ والفوقية للهِ تعالى على جميعخلقه، كما يَليقُ بجلاله وكماله، إذ هو تعالى فوق كل شيء، ذاتاً وسُلطاناً وقهراً).
...................
الربع الثالث من سورة النحل
• الآية 51: ﴿وَقَالَ اللَّهُ﴾ لعباده: ﴿لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ أي لا تعبدوا مَعبودَيْن اثنين، فـ ﴿إِنَّمَا﴾ مَعبودكم الحق ﴿هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ وهو اللهُ الخالق الرازق المالك، ﴿فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾: أي فخافوني وحدي ولا تخافوا غيري، لأنني الإله الحق، والأمر كله بيَدِي.
• الآية 52: ﴿وَلَهُ﴾ سبحانه جميع ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ خَلقًا ومُلكًا وتصرفاً وإحاطة، (إذاً فكل ما تعبدونه مع الله: هو مِلكٌ لله، ولم يَأذن بعبادته)، ﴿وَلَهُ﴾ سبحانه ﴿الدِّينُ﴾ أي له وحده العبادة والطاعة والإخلاص ﴿وَاصِبًا﴾ أي دائمًا، ﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ﴾: يعني أتخافونَ مِن غير اللهِ تعالى، واللهُ هو الذي بيَدِهِ كل شيئٍ؟!
• الآية 53، والآية 54، والآية 55، والآية 56:﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ﴾ - سواء كانت هداية، أو صحة، أو مال أو ولد، أو غير ذلك -: ﴿فَمِنَ اللَّهِ﴾ وحده، إذ هو سبحانه القادر على إعطاء النعم وسَلْبِها، ودَلَّلَ سبحانه على ذلك بشعورهم الفِطري، فقال: ﴿ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ﴾: يعني إذا أصابكم بلاءٌ وشدة:﴿فَإِلَيْهِ﴾ وحده﴿تَجْأَرُونَ﴾ أي ترفعون أصواتكم بالدعاء والاستغاثة، طالبينَ منه كَشْف الضر، ﴿ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ﴾ يعني إذا جماعة منكم يُشركون بربهم المُنْعِم عليهم بالنجاة، فيَعبدونَ معه غيره، ﴿لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ﴾: أي لتكون عاقبتهم أن يَجحدوا بما آتاهم اللهُ مِن نِعَم (ومنها كَشْف البلاء عنهم) فيَستحقوا العذاب، ولذلك قال بعدها: ﴿فَتَمَتَّعُوا﴾: أي استمتِعوا أيها المشركون بدُنياكم الزائلة ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ عاقبة كُفركم وعِصيانكم.
﴿وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾: أي يَجعلون للأصنام - التي لا تعلم شيئًا - جُزءًا مِن أموالهم التي رَزَقهم اللهُ بها (ليتقربوا بها إليهم)، فتوَعَّدَهم سبحانه على ذلك بقوله:﴿تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ﴾ أي يوم القيامة﴿عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ﴾ مِن الكذب على اللهِ تعالى في جَعْلكم معه شركاء في العبادة، وسيُعاقبكم على ذلك بأشد العقاب.
• الآية 57، والآية 58، والآية 59: ﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ﴾ وذلك حين قالوا - كذباً وافتراءً -: (الملائكة بنات الله)، ﴿سُبْحَانَهُ﴾ أي تَنَزَّهَ اللهُ تعالى وتبرَّأَ مِن أن يكون له ولد (ذكراً كان أو أنثى) لأنه رَبُّ كل شيء ومَالكُه، فما الحاجةُ إذاً إلى الولد؟! ﴿وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ﴾ أي: وفي نفس الوقت الذي يَنسبون فيه البنات إلى اللهِ تعالى، يَجعلون لأنفسهم ما يُحبون من البنين ويَكرهون البنات!،﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى﴾: يعني وإذا جاء مَن يُخبِرَ أحدهم بأنه قد وُلِدَ له بنت: ﴿ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا﴾ أي مُتغيِّراً بالسَواد مِن هذه البُشرَى ﴿وَهُوَ كَظِيمٌ﴾ أي مُمتلىء بالحزن والغم، وتَجِده ﴿يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ﴾: أي يَتَخَفَّي مِن قومه حتى لا يَلقاهم بالذل والعار؛ وذلك ﴿مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ﴾: أي بسبب البنت التي وُلِدت له، وتَجِده مُتحيِّرًا في أمْر هذا المولود: ﴿أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ﴾: يعني أيُبقيهِ حَيّاً على ذلٍّ وفضيحة، ﴿أَمْ يَدُسُّهُ﴾ يعني أم يَدفنه حَيّاً ﴿فِي التُّرَابِ﴾؟ - وهو ما كانَ يُعرَف بـ (وأد البنات) -، فقال تعالى مُنكِراً عليهم هذا الإجرام الفظيع: ﴿أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾: يعني قَبُحَ الحُكم الذي حَكَموه مِن قتل البنات وإذلالهنّ (هذا مِن جهة)، ومِن جهةٍ أخرى: (أنهم يَنسبونَ البنات للهِ تعالى ويُبَرِّئون أنفسهم منها).
• الآية 60: ﴿لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ﴾ أي الصفة القبيحة من الجهل وظُلمة النفوس (لأنّ عدم إيمانهم بالحساب والجزاء جَعَلهم لا يَتركون شراً ولا يَعملون خيراً)، ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾ أي: وللهِ تعالى الصفات العُليا من الكمال والاستغناء عن جميع خَلقه، فلا يَحتاجُ سبحانه إلى زوجةٍ أو ولد، ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ الذي قهر جميع المخلوقات، ﴿الْحَكِيمُ﴾ في تدبيره وقضاءه.
• الآية 61، والآية 62: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ﴾ أي بكُفرهم وافترائهم وعِصيانهم:﴿مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ﴾: أي لأَهلَكَهم جميعاً، وما تَرَكَ على الأرض مِن أحدٍ يَتحرَّك، ﴿وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ﴾ سبحانه ﴿إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ يعني إلى وقتٍ مُحَدّد (وهو نهاية آجالهم) ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ﴾ عنه ﴿سَاعَةً﴾ ليعتذروا ويتوبوا، ﴿وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ أي: ولا يَتقدم أجَلُهم عن الوقت المعلوم (ثم يُجازيهم ربهم على أعمالهم السيئة).
﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ﴾ أي يَجعلون للهِ ما يَكرهونه لأنفسهم من البنات والشركاء، ومع هذا: ﴿وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى﴾ أي وتقول ألسنتهم كذبًا: إنّ لهم حُسن العاقبة، كما قال بعضهم: ﴿وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى﴾، فرَدَّ تعالى على هذا الافتراء بقوله: ﴿لَا جَرَمَ﴾ أي حقًا ولا شك ﴿أَنَّ لَهُمُ النَّارَ﴾ ﴿وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ﴾ أي مَتْروكون في النار لا يُنقِذهم أحد.
• الآية 63: ﴿تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا﴾ رُسُلاً ﴿إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ﴾ - أيها الرسول - ﴿فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾: أي فحسَََّنَ لهم الشيطان ما عملوه من الشِرك والتكذيب ﴿فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ﴾ أي: فهو مُتَوَلٍّ لإضلالهم في الدنيا ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ في الآخرة.
• الآية 64: ﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ - أيها الرسول - ﴿إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾: يعني إلا لتوضح للناس ما اختلفوا فيه من التوحيد والشِرك والهدى والضلال (لتقوم عليهم الحُجّة ببَيَانك)،﴿وَهُدًى﴾ أي: وأنزلنا القرآن رشدًا لمن اتَّبعه من الخلق، فيُنَجِّيهِ من الهلاك، ﴿وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ أي وجَعَله سبحانه رحمةً للمؤمنين (وخَصَّهم بذلك لأنهم المُنتفعون به، العاملونَ بهُداه)، وأما الكافرون فلا يَزيدهم القرآن إلا هَلاكاً وخُسراناً، لأنه قد أقام الحُجَّة عليهم.
• الآية 65: ﴿وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ أي فأخرج به النبات من الأرض، بعد أن كانت يابسة لا خيرَ فيها، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ يعني إنّ في إنزال المطر وإنبات النبات ﴿لَآَيَةً﴾ على قدرة اللهِ تعالى على البعث ﴿لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ أي يَسمعون هذه الآيات، سَمَاعَ تدَبُّر وانتفاع.
• الآية 66: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ﴾ - وهي الإبل والبقر والغنم - ﴿لَعِبْرَةً﴾ أي لكم فيها عِبرة عظيمة على قدرة اللهِ تعالى، فقد شاهدتم كيف ﴿نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ﴾ أي مِمّا يَخرج مِن ضُروعها (وهو مكان الإرضاع)، فـ ﴿مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ﴾: أي مِن بين الرَّوث (وهي القاذورات الموجودة في الكِرْش)، ومِن بين الدم: يُخرِجُ اللهُ تعالى ﴿لَبَنًا خَالِصًا﴾ من كل الشوائب (ليس فيه شيء من الفرْث أو الدم، لا في لونه ولا رائحته ولا طعمه)، ﴿سَائِغًا﴾ أي لذيذًاً ﴿لِلشَّارِبِينَ﴾.
♦ وهنا قد يقول قائل: لماذا ذَكَرَ اللهُ تعالى كلمة: (بطونه) في هذه الآية (بصيغة المُذكَّر)، على الرغم من أنه سبحانه قد ذَكَرَ نفس الكلمة بصيغة المؤنث في سورة "المؤمنون" حين قال: ﴿ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ ﴾؟
والجواب: أنّ العلماء قد اختلفوا في ذلك، فمنهم مَن قال بأنّ كلمة: (الأنعام) يَجوز تذكيرها كما يَجوز تأنيثها، ومنهم مَن قال بأنّ المقصود من قوله تعالى: ﴿ نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ ﴾أي نُسقيكم مِمَّا في بطون الذي له لبن (وهم الإناث)، فآية سورة "النحل" تتحدث - بصفة خاصة - عن إسقاء اللبن من بطون الأنعام مِن بين فرثٍ ودم، واللبن لا يَخرج من جميع الأنعام بل يخرج من الإناث فقط، وأما آية سورة "المؤمنون" فهي تتحدث عن منافع عامة لجميع الأنعام (ذكورها وإناثها)، ومنهم مَن قال بأنّ كلمة: (بطونه) جاءت بصيغة المُذكَّر للإشارة إلى أنّ اللبن يتكون بأمْر مِن هرمونات الذَكَر، وذلك لأنّ الأنثى لا تُفرِز اللبن إلا إذا تَسَبَّب ماء الذكَر في إخصاب البويضة وتكوّن الجنين، مِمَّا يَتسبب في إفراز هرمونات خاصة تعمل على تنشيط الغُدَد اللبَنية حتى تكتمل قدرتها على إفراز اللبن بمجرد الولادة، واللهُ أعلم.
• الآية 67: ﴿وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ﴾ يعني: ومِن نِعَم الله عليكم أنه يُنبِت لكم من النخيل والأعناب ثَمَراً ﴿تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا﴾: أي تجعلون بعضه خَمرًا مُسْكِرًا - وكانَ هذا قبل تحريم الخمر - ﴿وَرِزْقًا حَسَنًا﴾: أي: وباقي الثمر يكونُ لكم طعامًا طيبًا، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً﴾ على قدرة اللهِ تعالى واستحقاقه وحده للعبادة ﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ أي يَعقلون البراهين فيَعتبروا بها.
• الآية 68، والآية 69: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾: أي ألْهَمَ ربك النحل بـ﴿أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾: أي اجعلي لكِ بيوتًا في الجبال، وفي الشجر، وفيما يَبني لكِ الناس من البيوت، ﴿ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾ أي مِن كل ثمرةٍ تشتهينها، ﴿فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا﴾: أي فاسلكي طُرُق ربك مُذللةً لكِ، سَهلة عليكِ (لا تَضِلِّينَ عنها)، وذلك لطلب الرزق في الجبال وخلال الشجر، ﴿يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ﴾: أي يَخرج مِن بطون النحل عسلٌ مختلف الألوان (مِن بياضٍ وصُفرةٍ وحُمرة) ﴿فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ﴾ (إذا شَرِبوه بِنِيّة الشفاء، أو إذا ضَمُّوهُ إلى دواءٍ آخر)، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ يعني إنّ فيما يَصنعه النحل ﴿لَآَيَةً﴾ أي لَدلالةً قوية على قدرة خالقها ﴿لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ فيَعتبروا.
• الآية 70: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ﴾ من العدم، ﴿ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ﴾ في نهاية أعماركم، ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ﴾ أي: ومنكم مَن يَصيرُ إلى أردأ العُمر (وهو الهِرَم)، حيث يَفقد الإنسان ما كانَ له مِن قوةٍ وعقل ﴿لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا﴾: أي حتى يَصير لا يَعلم شيئًا مِمَّا كانَ يَعلمه (كما كانَ في طفولته)، ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾ إذ إنّه تعالى - كما رَدَّ الإنسان إلى هذه الحالة - فإنه أيضاً قادرٌ على أن يَبعثه بعد الموت.
♦ واعلم أنّ اللهَ سبحانه قدَّمَ اسمه (العليم) قبل اسمه (القدير) لأنّ القدرة تتعلّق بالعِلم، وبمقدار سعة العلم يكون عِظَم القدرة، واعلم أيضاً أنّ اللام التي في قوله تعالى: ﴿ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ ﴾تُسَمَّى: (لام العاقبة) أي ليَصير الإنسان إلى هذه الحالة.
• الآية 71: ﴿وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ﴾ (فمِنكم الغني ومنكم الفقير، ومنكم المالك ومنكم المملوك)، ﴿فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ﴾ أي: فلا يُعقَل أن يُعطِي المالكونَ لمَملوكيهم المالَ الذي يَصيرونَ به شركاءَ لهم، مُتساوينَ معهم في الرزق! (فإذا لم يَرضوا بذلك لأنفسهم، فلماذا رضوا بأن يَجعلوا للهِ شُركاءَ مِن خَلقه وعبيده؟!) ﴿أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾؟! يعني إنّ هذا مِن أعظم الظلم والجحود لِنعم اللهِ عَزَّ وجَلّ (وذلك لأنهم جحدوا نعمة العقل أولاً، فلم يُفكروا بعقولهم، ثم جحدوا نعمة اللهِ عليهم في خَلقهم ورِزقهم فعبدوا معه أصناماً لا تملك شيئاً ولا تنفع ولا تضر).
• الآية 72: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا﴾ أي خَلَقَ لكم - مِن نفس نوعكم - زوجاتٍ لتستريح نفوسكم معهنّ، (ويُحتمَل أن يكون المقصود مِن قوله تعالى: ﴿ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ﴾ أنّ حواء خُلِقتْ مِن ضِلع آدم، وباقي النساء خُلِقنَ مِن ماء الرجال)، ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً﴾ أي أبناءً وأحفاداً من أبنائكم، ﴿وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ﴾ أي رَزَقكم مِن الأطعمة الطيبة (من الثمار والحبوب واللحوم وغير ذلك)،﴿أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ﴾: يعني أفَبَعْد هذا كله، يؤمنون بآلهتهم الباطلة التي لم تخلق شيئاً ﴿وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ﴾ أي: ويَجحدون بنعم اللهِ التي لا تُحصَى، ولا يَشكرونه سبحانه بإفراده وحده بالعبادة؟!
• الآية 73، والآية 74: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا﴾ أي: ويَعبد المشركون أصنامًا لا تملك أن تعطيهم شيئًا من السماء (كالمطر)، ولا من الأرض (كالزرع)، لأنهم لا يَملكون شيئًا ﴿وَلَا يَسْتَطِيعُونَ﴾ أن يَفعلوا شيئاً مِن ذلك لِعَجْزهم.
♦ فإذا عَلِمتم أنّ الأصنام لا تنفع: ﴿فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ﴾ (وذلك بأن تُطلِقوا لفظ "إله" على صَنَمٍ أو غيره)، فبذلك تجعلون للهِ تعالى نُظَراء وشركاء في العبادة (لا يَملكون لأنفسهم ولا لعابدِيهم نفعاً ولا ضراً) ﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ﴾ أنه تعالى له المَثَل الأعلى وأنّ ما يَضربونه له باطل، ﴿وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ ذلك، فلهذا نَهاكم سبحانه عن أن تَضربوا له مَثَلاً فيه نقصٌ أو تشبيهٌ بخلقه.
♦ واعلم أنّ الأمثال جَمْع (مَثَل)، وهي هنا بمعنى (المُماثِل)، ومعنى أنهم يَضربونَ الأمثالَ للهِ تعالى: أنهم شَبَّهوا الأصنام بالخالق جَلَّ وعَلا (حيثُ عَبَدوها بالذبح والنَذر والدعاء، والحَلِف بها، والعكوف حولها، والاعتقاد بأنها تَشفع لهم عند اللهِ تعالى وأنها تُقَرِّبُهم إليه، وأنها واسطةٌ لهم بمَثابة الوزير للأمير)، (ومِن ذلك أيضاً مَن يَتوسطون بالأولياء والأنبياء فيَدعونهم ويَذبحون عندهم، زاعمينَ أنّ هؤلاء الأولياء مُقرَّبون إلى اللهِ تعالى، وأنه يَستجيب لهم ولا يَستجيب لغيرهم)!، فهؤلاء قد جعلوا اللهَ تعالى كَمُلوك الدنيا الذين يَحتاجون إلى واسِطةٍ بينهم وبين الناس ليقضوا مصالحهم، واللهُ تعالى لا يَحتاجُ إلى واسطةٍ بينه وبين خَلقه في العبادة، قال تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾.
(1) وهي سلسلة تفسير لآيات القرآن الكريم بأسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرة من (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف التركي)، وأيضًا من "تفسير السّعدي" ، وكذلك من كتاب: " أيسر التفاسير" لأبي بكر الجزائري) (بتصرف)، عِلمًا بأنّ ما تحته خط هو نص الآية الكريمة، وأما الكلام الذي ليس تحته خط فهو التفسير.
• واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحدياً لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذا الأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحياناً نوضح بعض الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.
رامى حنفى محمود
الآية 75: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا﴾ بَيَّنَ فيه فساد عقيدة أهل الشِرك، وهو: ﴿عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ﴾ أي لا يَملك شيئًا من الدنيا، ﴿وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا﴾ أي: ورجلاً حُرّاً رَزَقَه اللهُ بمالٍ حلال، يَملك التصرف فيه ﴿فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا﴾ أي يُعطي منه في الخفاء والعَلَن، ﴿هَلْ يَسْتَوُونَ﴾: يعني فهل يقول عاقل بالتساوي بين هذين الرجلين؟! (فكذلك اللهُ الخالق المالك المتصرف، لا يَتساوى مع خَلقه وعبيده، فكيف إذاً تُسَوُّون بينهما في العبادة؟!) ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ إذ هو المستحق وحده للحمد والثناء ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ أي لا يَعلمونَ أنّ اللهَ تعالى هو وحده المُنعِم الرازق المستحق للعبادة.
♦ ويُلاحَظ أنه تعالى قال: ﴿ هَلْ يَسْتَوُونَ ﴾ولم يقل: (هل يستويان)، رغم أنّ المثل المضروب كانَ لرجلين فقط، وذلك لأنه تعالى قال في الرجل الآخَر: ﴿ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا ﴾، فكلمة: (مَنْ) تصلح للواحد وللجماعة، فلذلك قالها بالجمع: ﴿ يَسْتَوُونَ ﴾ لتشملهم جميعاً.
الآية 76: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا﴾ آخر لبُطلان الشِرك بـ ﴿رَجُلَيْنِ﴾ ﴿أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ﴾ أي أخرس أصَمّ، لا يَفْهَم شيئاً ولا يُفْهَم منه شيئ، و﴿لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ﴾: أي لا يَقدر على نَفْع نفسه أو غيره ﴿وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ﴾ أي: وهو عِبءٌ ثقيل على مَن يتولى أمْره ويَعوله، فـ ﴿أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ﴾: يعني إذا أرسله ليَقضي له أمْراً: لا يَنجح، ولا يعود عليه بخير، فـ ﴿هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ أي: فهل يَتساوى هذا الرجل الأخرس مع رجل آخر سليم الحَواس، يَنفع نفسه ويَنفع غيره، ويأمر الناس بالخير والمعروف؟!، فكيف إذاً تُسَوُّون بين الصنم الأخرس الأصمّ وبين اللهِ تعالى القادر، المُنعم بكل خير، الذي يأمر عباده بالتوحيد والاستقامة في كل شيء، القائم على مصالحهم وشئونهم، وهو على طريقٍ مستقيم يدعو الناسَ إلى سلوكه، ليَنجوا ويَسعدوا في الدنيا والآخرة؟!
الآية 77: ﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي: واللهُ تعالى يَعلمُ جميع ما خَفِيَ عن حَواس الناس في السماوات والأرض، ﴿وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ﴾ يعني: وما شأن القيامة في سُرعة مَجيئها - حين يأمر اللهُ تعالى الأرواح أن ترجع في الأجساد بكلمة "كُن" - ﴿إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ﴾: يعني إلا كنظرة سريعة بالبصر ﴿أَوْ هُوَ أَقْرَبُ﴾ أي: بل هو أسرع من ذلك ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
♦ واعلم أنّ حرف: (أو) الذي في قوله تعالى: ﴿ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ﴾، قد أتى هنا بمعنى (بل)، يعني (بل هو أقرب)، وهذا كقوله تعالى: ﴿ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ﴾يعني: بل يَزيدون على مئة ألف.
الآية 78: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾ أي لا تُدرِكونَ شيئًا مِمَّا حولكم، ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ﴾: أي وجعل لكم وسائل الإدراك من السمع والبصر والقلوب ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ أي لتشكروا رَبَّكم على تلك النعم (فتَعترفوا بنِعَمِهِ عليكم، وتُفردوه وحده بالعبادة، وتُطيعوا أمْرَه وتجتنبوا نَهْيه)، كما قال تعالى: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾.
الآية 79: ﴿أَلَمْ يَرَوْا﴾ يعني ألم يَنظر هؤلاء المشركون ﴿إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ﴾ أي مُذلَّلاتٍ للطيران في الهواء بين السماء والأرض بأمْر اللهِ تعالى وقدرته؟ ﴿مَا يُمْسِكُهُنَّ﴾ عن الوقوع ﴿إِلَّا اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى (بما خَلَقه لها وأقدَرَها عليه)، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ التذليل والإمساك ﴿لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ أي يؤمنونَ بما يَرونه من الأدلة على قدرة اللهِ تعالى، وعنايته بخَلقه، (واعلم أنّ التسخير هو التذليل للعمل).
الآية 80: ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه ﴿جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا﴾ أي راحةً واستقرارًا مع أهلكم (هذا في حال إقامتكم في بلدكم)، ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ﴾ في سَفَركم ﴿مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا﴾ أي خِيامًا (تصنعونها من جلود الإبل والبقر والغنم)، فـ﴿تَسْتَخِفُّونَهَا﴾ أي يَخِفُّ عليكم حمْلها ﴿يَوْمَ ظَعْنِكُمْ﴾ أي وقت تَنَقُّلكم أثناء السفر، ﴿وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ﴾: أي وكذلك يَخِفّ عليكم نَصْبُها وقت استراحتكم أثناء السفر، ﴿وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا﴾: أي وجعل سبحانه لكم من أصواف الغنم، وأوبار الإبل، وأشعار المَعز: ﴿أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ﴾: أي أثاثًا لكم (مِن فُرُش وأغطية وملابس وزينة) تتمتعون بها إلى أجلٍ معلوم (وهو الوقت الذي تتمزق فيه وتُرمَى).
الآية 81: ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه ﴿جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا﴾: أي جعل لكم ما تستظلُّون به من الأشجار وغيرها، ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا﴾: أي جعل لكم في الجبال مغاراتٍ وكهوفاً تلجؤون إليها عند الحاجة، ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾: أي جعل لكم ثيابًا من القطن والصوف وغير ذلك، لتحفظكم من الحر والبرد (وإنما اكتفى سبحانه بذِكر الحر، لِيَدُلّ على البرد، وهذا من الحذف البَلاغي في لغة القرآن)، ﴿وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ﴾: أي وجعل لكم من الحديد دروعاً تحميكم من الطعن والأذى في حروبكم، ﴿كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ﴾ يعني: كما أنعم اللهُ عليكم بهذه النعم، فكذلك يُتِمُّ نعمته عليكم ببَيَان الدين الحق ﴿لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ﴾: أي لِتَستسلموا لأمْره، وتُسلِموا له قلوبكم ووجوهكم، فتعبدوه وحده ولا تشركوا به.
الآية 82، والآية 83: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾: يعني فإن أعرَضوا عن دَعْوَتِك - أيها الرسول - بعدما رأوا الآيات فلا تحزن عليهم ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾: أي فما عليك إلا البلاغ الواضح لِمَا أُرْسِلْتَ به، وأمّا الهداية: فأمْرُها إلينا، وقد بَلَّغتَهم وبَيّنتَ لهم - بالحكمة والموعظة الحسنة - وليس عليك شيءٌ من المسئولية بعد البلاغ.
♦ وهؤلاء المُعرِضون ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ﴾ عليهم (وهي التي ذَكَّرهم بها سبحانه في هذه السورة، ومنها إرسال محمد صلى الله عليه وسلم إليهم) ﴿ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا﴾ وذلك بعبادتهم لغير المُنعم بها، وكذلك بجحودهم لنُبُوّة رسوله محمد (رغم مَعرفتهم بصِدقه) ﴿وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ﴾ أي: وأكثر قومه صلى الله عليه وسلم هم الجاحدون لنُبُوَّته، لا المُقِرّون بها.
♦ ويُحتمَل أن يكون المقصود مِن قوله تعالى: ﴿ وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ ﴾أي رؤساء الكُفر الجاحدين المُعاندين، لأنّ هؤلاء مِن شأنهم التعقل والتأمل، ولكنهم بعد أن سَمِعوا دلائل القرآن، وعرفوا نعمة ربهم عليهم، وعرفوا صِدق النبي محمد، أصَرُّوا على الشِرك حِفاظاً على زعامتهم لباقي المشركين.
♦ ويُحتمَل أيضاً أن يكون سبحانه قد ذكَرَ الأكثر وأرادَ الجميع، لأنّ أكثر الشيء يقوم أحياناً مَقام الكل، كقوله تعالى عن الكافرين: ﴿وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ﴾، واللهُ أعلم.
الآية 84: ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا﴾: أي اذكر لهم - أيها الرسول - ما يَحدث يوم القيامة، حينَ نَبعث من كل أُمّةٍ رسولها شاهدًا على إيمان مَن آمن منها، وكُفْر مَن كَفَر، (واعلم أنّ المقصود مِن بَعْث اللهِ تعالى لهذا الشاهد: هو إحضاره أمامَ اللهِ تعالى ليَشهد على أُمَّتِه)، ﴿ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالاعتذار عَمَّا وقع منهم ﴿وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾ أي: ولا يُطْلب منهم إرضاءُ ربهم بالتوبة والعمل الصالح، فقد فاتَ أوانُ ذلك، (فاذكر هذا لقومك، لعلهم يتوبون فينجوا).
الآية 85: ﴿وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ﴾ أي عذاب جهنم بعد دخولهم فيها: ﴿فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ﴾ أي لا يُرفَع عنهم العذاب قليلاً ليستريحوا، ﴿وَلا هُمْ يُنظَرُونَ﴾ أي: ولا هم يُمهَلون بمَعذرةٍ يَعتذرون بها.
الآية 86، والآية 87: ﴿وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ﴾: يعني وإذا رأى المشركونَ مَعبوديهم يوم القيامة: ﴿قَالُوا﴾: ﴿رَبَّنَا هَؤُلَاءِ﴾ هم ﴿شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا﴾ أي الذين كنا نَعبدهم ﴿مِنْ دُونِكَ﴾، ﴿فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ﴾ أي فنَطَقَ المَعبودون بتكذيب مَن عَبَدوهم، وفاجئوهم بقولهم: ﴿إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ حينَ جعلتمونا شركاء مع اللهِ في عبادته، فلم نأمركم بذلك، ولم نزعم أننا مُستحِقون للعبودية، ﴿وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ﴾ أي: وأظهر المشركون - في هذا اليوم - الاستسلام والخضوع للهِ تعالى ﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾: أي ذهب وغاب عنهم ما كانوا يَزعمونه كَذِباً مِن شفاعة آلِهَتهم لهم.
الآية 88: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بوحدانية اللهِ تعالى وبنُبُوّة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ﴿وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾: أي ومَنَعوا غيرهم عن الدخول في سبيل الله (وهو الإسلام)، أولئك ﴿زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ﴾: أي زدناهم عذاباً فوق عذابهم (فالعذاب الأول على كُفرهم، والعذاب الثاني على صَدِّهم للناس عن اتّباع الحق)، وذلك ﴿بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ﴾: أي بسبب تعمُّدهم للإفساد وإضلال العباد.
الآية 89: ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ﴾ أي اذكر لهم يوم نَبعث ﴿فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ وهو رسولهم الذي أرسله اللهُ إليهم مِن قومهم وبلسانهم، ﴿وَجِئْنَا بِكَ﴾ - أيها الرسول - ﴿شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ﴾ أي على مَن أُرسِلتَ إليهم (وهم جميع المُكَلَّفين من الإنس والجن منذ بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، (وإنما اقتصر سبحانه على ذِكر مُشركِي مكة حين قال: ﴿ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ ﴾لأنّ الكلام كانَ جارياً في تهديدهم وتحذيرهم، ولكثرة أذاهم للنبي صلى الله عليه وسلم، واللهُ أعلم)، (ولعل حرف الجر (في) المذكور في قوله تعالى: ﴿ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ﴾معناه أنّ اللهَ يُرسل النبي ليَقف في قومه ليَشهد عليهم، واللهُ أعلم).
♦ ثم قال تعالى - مُقَرِّراً لصِدق نُبُوّة رسوله محمد، ومُوَضّحاً أنه لا عُذرَ لأحد بعد إنزال القرآن -: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ أي: ولقد نَزَّلْنا عليك القرآن توضيحًا لكل أمْرٍ يَحتاج الناس إلى معرفته (كأحكام الحلال والحرام، وإظهار أدلة الحق، وإظهار فساد الباطل، وغير ذلك)، ﴿وَهُدًى﴾ أي: وليكون هِدايةً من الضلال، ﴿وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾: أي ورحمة خاصة لمَن صَدَّق به وعمل بهُداه، وبُشرَى طيبة - لمَن أسلموا وخضعوا للهِ رب العالمين - بحُسن مصيرهم يوم القيامة.
تفسير الربع الخامس من سورة النحل
الآية 90: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ ﴾ عباده في هذا القرآن ﴿بِالْعَدْلِ﴾ في حقه تعالى (وذلك بأن يُعبَد وحده ولا يُعبَدُ غيره، لأنه هو الخالق المُنعِم، وأما غيره فلم يَخلّق شيئاً ولم يُنعِم بشيء)، وكذلك يأمر بالعدل في حق عباده (بإعطاء كل ذي حَقٍّ حقه)، ﴿وَالْإِحْسَانِ﴾ أي: ويأمر سبحانه بالإحسان في حقه (وذلك باجتناب المُحرَّمات، وأداء الفرائض كما شَرَع، مع مراقبة اللهِ تعالى في ذلك، حتى يكون الأداء على الوجه المطلوب إتقاناً وجَودة)، وكذلك يأمر سبحانه بالإحسان إلى الخَلق في الأقوال والمُعاملات، ﴿وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى﴾: أي ويأمر بإعطاء الأقرباء حقوقهم من الصلة والبِرّ، ﴿وَيَنْهَى﴾ سبحانه ﴿عَنِ الْفَحْشَاءِ﴾ وهو كل ما قَبُحَ قولاً وعملاً، ﴿وَالْمُنْكَرِ﴾ وهو كل ما يُنكِره الشرع وتُنكِره الفِطَر السليمة والعقول الراجحة السديدة، ﴿وَالْبَغْيِ﴾: أي ويَنهى سبحانه عن ظلم الناس والتعدي عليهم، واللهُ تعالى - بهذا الأمر وهذا النهي - ﴿يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾: أي لكي تتذكروا أوامره وتنتفعوا بها.
♦ واعلم أنّ هذه الآية تُفَسِّر قوله تعالى في سورة الإسراء: ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا ﴾ أي أمَرناهم بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ولكنهم فسقوا في القرية، ولم يَمتثلوا لأوامر اللهِ تعالى فأهلكهم.
الآية 91: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ﴾: أي التزِموا بالوفاء بكل عهدٍ أوْجبتموه على أنفسكم (بينكم وبين اللهِ تعالى، أو بينكم وبين الناس)، فيما لا يُخالف شرع الله، ﴿وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾: أي ولا ترجعوا في الحَلف بعد أن أكَّدْتموهُ بذِكر لفظ الجلالة (واللهِ) أثناء القَسَم ﴿وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا﴾ أي شاهداً وضامنًا ووكيلاً، عندما حلفتم به وأنتم تعاهدون الناس، ﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ (هذه الجملة تحمل وعيداً شديداً لمن ينقض العهد).
♦ واعلم أنّ هذه الآية قد حَرَّمتْ نقض العهد وعدم الالتزام بالحَلف (إذا كان ذلك لمصالح مادية)، أمّا إذا حلف العبد على شيء، ثم رأى شيئاً خيراً منه، فإنه يَنقض يمينه ويُكَفِّر كفّارة يمين، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (إني واللهِ لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيراً منها، إلا كَفَّرتُ عن يميني وأتيتُ الذي هو خير) (انظر صحيح سنن النسائي ج: 9/7).
الآية 92: ﴿وَلَا تَكُونُوا﴾ - برُجوعكم في عهودكم وحَلفكم - ﴿كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ﴾: أي كامرأةٍ غزلتْ غَزْلاً وأحْكَمَتْهُ بقوة، ثم حَلَّتْهُ وأفسَدَتْهُ، فجعلتْهُ ﴿أَنْكَاثًا﴾: أي مَنقوضاً (يعني أصبح خيوطاً عديدة، كما كان قبل الغزْل)، وذلك حينَ ﴿تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ﴾: أي تجعلونَ حَلِفكم - أثناء التعاهد - وسيلة إلى خِداع مَن عاهدتموه، كأنْ تعاهدوا جماعة معينة، وتحلفوا لهم باللهِ فيُصَدِّقوكم، ثم تنقضوا عهدكم معهم بسبب: ﴿أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ﴾: يعني لأنّ هناك جماعة أخرى أكثر مالاً ومَنفعة من الذين عاهدتموهم، ﴿إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ﴾: يعني إنما يَختبركم اللهُ بهذه الأحوال، ويُهيئ هذه الأسباب، ليرى الصادق الوفي، من الخائن الذي يُفَضِّل الدنيا على الانقياد لأمْر ربه، ﴿وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ﴾ أي: وسوف يُبَيّنُ سبحانه لكم ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ مِن أمْر الدين (ومن ذلك اختلاف أحوالكم في العهود)، فيُعطي الصادق الوفي ما يَستحقه من النعيم، ويُجازي الكاذب الخائن بما يَستحقه من العذاب.
الآية 93: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ أي على دينٍ واحد، وهو الإسلام، ﴿وَلَكِنْ يُضِلُّ﴾ سبحانه ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾ مِمَّن عَلِمَ أنه يُفَضِّل الضلال على الهدى، والدنيا على الآخرة، ﴿وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ مِمَّن عَلِمَ أنه يُفَضِّل الهدى على الضلال، ﴿وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.
الآية 94: ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ﴾ أي: ولا تجعلوا حَلِفكم خَديعةً لمن حلفتم له ليُصَدِّقكم، ثم تنقضوا عهدكم معه مِن أجْل غرض دُنيوي حقير، فإياكم والوقوع في هذه الكبيرة ﴿فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا﴾: أي حتى لا تَزِلّ قدمُ أحدكم عن الإسلام بعد أن رَسَخَتْ فيه، فتَهلَكوا بعد أن كنتم آمنين، ﴿وَتَذُوقُوا السُّوءَ﴾: أي وتذوقوا ما يَسُوؤكم من العذاب في الدنيا ﴿بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي بما تسببتم فيه مِن مَنْع الناس عن الدخول في الإسلام (عندما رأوا غَدْركم وخيانتكم)، ﴿وَلَكُمْ﴾ في الآخرة ﴿عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾.
الآية 95: ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ أي: ولا تنقضوا عهد اللهِ لتأخذوا مكانه عَرَضًا قليلاً مِن متاع الدنيا، ﴿إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ﴾: يعني إنّ ما عند اللهِ من الثواب على الوفاء بالعهد ﴿هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ من هذا الثمن القليل ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ الفرق بين متاع الدنيا ومتاع الآخرة.
الآية 96: ﴿مَا عِنْدَكُمْ﴾ مِن حُطام الدنيا﴿يَنْفَدُ﴾ أي يَذهب، ﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ من النعيم ﴿بَاقٍ﴾ لا يزول ولا يَنقص، فاذكروا هذا ولا تبيعوا الغالي بالرخيص والباقي بالفاني، ﴿وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا﴾ على التكاليف الشاقة - ومنها الوفاء بالعهد - فنُعطيهم ﴿أَجْرَهُمْ﴾ في الآخرة على عباداتهم ﴿بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ أي بمِثل جزاء أحسن عمل كانوا يعملونه في الدنيا (حتى يكون أجر النافلة كأجر الفريضة).
الآية 97: ﴿مَنْ عَمِلَ﴾ عملاً ﴿صَالِحًا﴾﴿مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾ (يعني سواء كان العاملُ ذكرًا أو أنثى)، ولكنْ بشرط: ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ باللهِ ورسوله والدار الآخرة، ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ﴾ في الدنيا ﴿حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ أي حياة سعيدة مطمئنة (بالقناعة والرزق الحلال، والتوفيق إلى الطاعة المُوجِبة لرضوان اللهِ تعالى)، ﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ﴾ في الجنة على عباداتهم ﴿بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ أي بمِثل جزاء أحسن عمل كانوا يعملونه في الدنيا (واعلم أنّ الجزاء يكون بحسب أحسن عمل عملوه مِن كل نوع، ففي الصلاة يُعطَى جزاء أفضل صلاة صلاَّها، وفي الصدقات بأفضل صدقة أعطاها وهكذا).
الآية 98، والآية 99، والآية 100: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ﴾: يعني فإذا أردتَ - أيها المؤمن - أن تقرأ شيئًا من القرآن: ﴿فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ أي المطرود مِن رحمة الله، وذلك بأن تقول: (أعوذ باللهِ من الشيطان الرجيم)، ليَحميك اللهُ تعالى من وسوسته أثناء القراءة، ﴿إِنَّهُ﴾ أي الشيطان﴿لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا﴾ أي ليس له تَحَكُّم أو تسلُّطٌ على إضلال الذين آمنوا ﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ أي والذين هم يَعتمدون على اللهِ وحده في كل أمورهم، (وقد قيل في قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا﴾ أي لا يُوقعهم في ذنبٍ لا يَتوبونَ منه).
﴿إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ﴾: يعني إنما تَحَكُّمه وتَسَلُّطه يكون على الذين أطاعوه ﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ﴾: أي والذين هم - بسبب طاعته - مُشركونَ باللهِ تعالى (فهؤلاء هم الذين يَتسلط الشيطان عليهم فيُضِلَّهم حتى يُهلِكَهم).
الآية 101، والآية 102: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ﴾: يعني وإذا نَسَخَ اللهُ حُكماً في آيةٍ مُعَيّنة من القرآن، واستبدله بحُكمٍ آخر في آيةٍ أخرى ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ﴾ أي: وهو سبحانه الأعلم بمَا يُصلِحُ خَلْقه، فيُنَزِّل لهم الأحكام في أوقاتٍ مختلفة (تدريجاً لهم ورحمةً بهم): ﴿قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ﴾: أي قال الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم: إنما أنت مُختَلِق على اللهِ ما لم يَقُلْه ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ يعني: بل هم الذين لا عِلْمَ لهم بحِكمة ربهم سبحانه، ﴿قُلْ﴾ لهم - أيها الرسول -: ﴿نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ﴾ أي نَزَلَ جبريلُ بالقرآنَ مِن عند ربك ﴿بِالْحَقِّ﴾ أي مُشتمِلاً على الحق الواضح، فلستَ أنت الذي تقولُ ما تشاء، وإنما هو وَحْي اللهِ وكلامه ﴿لِيُثَبِّتَ﴾ بِهِ ﴿الَّذِينَ آَمَنُوا﴾ على إيمانهم (إذ كلما نَزَلَ قرآنٌ: ازدادَ المؤمنون إيماناً، فقلوبهم تحيا بالقرآن، كما تحيا الأرض بالمطر)،﴿وَهُدًى﴾ أي ونَزَلَ القرآنُ هدايةً مِن الضَلال ﴿وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ بالفلاح في الدنيا والفوز في الآخرة، (واعلم أنّ معنى روح القُدُس: أي الروح المُطهَّر، وهو جبريل عليه السلام، كما قال تعالى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ)).
♦ ويُلاحَظ أنَّ اللهَ تعالى قال: ﴿ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ ﴾ رغم أنه كان المتوقع مِن السياق أن يقول له: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ من ربي)، وذلك لأنّ في هذه الآية تصبير ومُواساة للنبي صلى الله عليه وسلم على تكذيبهم وافترائهم، فخرج الكلام عن أسلوب التلقين إلى أسلوب التكريم والتشريف، واللهُ أعلم.
الآية 103: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾ أي نَعلم أنّ المشركين قد زعموا أنك تتلقى القرآن مِن بَشَر (يَعنُونَ بذلك (حداداً) نصرانياً في مكة)، وهم يَعلمون أنهم كاذبون في هذا الافتراء، فـ﴿لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ﴾: أي لسان الذي نَسَبوا إليه تعليم النبي صلى الله عليه وسلم أعجمي لا يُحسن التحدث باللغة العربية ﴿وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾: أي والقرآن عربي، في غاية الفصاحة والبلاغة والوضوح والبيان، فكيف يُعلمه أعجمي؟!
الآية 104: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ﴾ يعني إنّ الذين لا يؤمنون بآيات القرآن (التي هي نورٌ وهدى، وحُجَج قاطعة وبراهين ساطعة)، أولئك المُكَذِّبون ﴿لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ﴾ لأنهم أعرضوا عن طريق الهداية، ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ في نار جهنم.
الآية 105، والآية 106، والآية 107: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ﴾ يعني: إنما يَصدر افتراء الكذب من ﴿الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ﴾ كالمُعاندين الذين كَذَّبوا بما جاءهم من الآيات الواضحة، فهؤلاء لا يَسَعُهم إلا الافتراء لترويج كَذبهم وباطلهم ليَخدعوا به الناس، ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ أي: الكذب مُنحَصِرٌ فيهم وهم أوْلَى به مِن غيرهم، وأما محمد صلى الله عليه وسلم فقد وَصَفه أعداؤه قبل الرسالة بالصدق والأمانة، ولم يُجَرِّبوا عليه كذبة واحدة، فكيف يَترك الكذب عليهم ويَكذب على ربه؟! (وهذا رَدٌّ مِن اللهِ تعالى على وَصْفِهم للنبي صلى الله عليه وسلم بالكذب، فأخبَرَهم تعالى أنّ الكاذب حقاً هو الكافر بآيات الله، لأنه لا يرجو ثوابَ اللهِ ولا يَخافُ عقابه، فلهذا لا يَمنعه شيءٌ عن الكذب).
♦ ثم يُخبر تعالى عن قُبح حال ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ﴾ وارتدَّ من بعد ما تبَيَّنَ له الحق، وفَضَّلَ الدنيا على الآخرة، واختار الانقياد للشهوات والمَلَذَّات على الانقياد لرب العباد، ولكنه سبحانه استثتى طائفة منهم فقال: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾: يعني إلا مَن أُجبِرَ على النُطق بالكفر، فنَطَقَ به خوفًاً من الهلاك (وقلبه ثابتٌ على الإيمان)، فهذا لا لوم عليه، ﴿وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا﴾: يعني ولكنْ مَن نَطَقَ بالكفر، وفتَحَ صدره له، ورَضِيَ به: ﴿فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، و﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ﴾ أي بسبب أنهم ﴿اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ واختاروها ﴿عَلَى الْآَخِرَةِ﴾ لاعتقادهم الفاسد بأنهم سيَتحَرّرون من التقيُّد بالعبادات والحلال والحرام وغير ذلك، ﴿وَأَنَّ اللَّهَ﴾ أي وبسبب أنّ اللهَ ﴿لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ أي لا يُوَفقهم للحق والصواب (عقوبةً لهم على اختيارهم الكفر وإصرارهم عليه).
الآية 108، والآية 109: ﴿أُولَئِكَ﴾ هم﴿الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾: أي خَتَمَ اللهُ على قلوبهم بالكفر واتِّباع الأهواء والشهوات، فلا يَصل إليها نور الهداية، ﴿وَسَمْعِهِمْ﴾: أي وأصَمّ اللهُ سَمْعهم عن آياته فلا يَسمعونها سماعَ تدبُّر وانتفاع، ﴿وَأَبْصَارِهِمْ﴾: أي وأعمى اللهُ أبصارهم، فلا يرون البراهين الدالة على استحقاقه وحده للعبادة، ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ عمَّا أعدَّ اللهُ لهم من العذاب،﴿لَا جَرَمَ﴾: أي حقًا ولا شك ﴿أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ الذين استبدلوا النعيم المُقيم بالعذاب الأليم.
الآية 110: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا﴾ وهم المُستضعَفون الذين عَذَّبهم المشركون في "مكة"، حتى وافقوهم على ما هم عليه ظاهرًا، ففتنوهم بالتلفظ بما يُرضيهم، وقلوبهم مطمئنة بالإيمان، ولمَّا تمكنوا من الخَلاص منهم، هاجروا إلى "المدينة" ﴿ثُمَّ جَاهَدُوا﴾ في سبيل الله ﴿وَصَبَرُوا﴾ على التكاليف الشاقة (ومنها الجهاد): ﴿إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا﴾ - أي مِن بعد هِجرتهم وجهادهم وصَبرهم - ﴿لَغَفُورٌ﴾ لجميع ذنوبهم، ﴿رَحِيمٌ﴾ بهم، فلا يخافوا ولا يحزنوا.
تفسير الربع الأخير من سورة النحل
• الآية 111:﴿ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ ﴾: أي ذَكِّرهم - أيها الرسول - بيوم القيامة حينَ تأتي كُلُّ نَفسٍ ﴿ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا ﴾ وتعتذربكل المَعاذير، ﴿ وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ ﴾: أي ويُوَفي اللهُ كل نفسٍ جزاءَ ما عَمِلَتْه في الدنيا ﴿ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾.
•الآية 112، والآية 113:﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا ﴾بعذابه في الدنيا - للمُنكِرين لنِعَم اللهِ عليهم - وهو: ﴿ قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً ﴾ وهي هنا "مكة" التي كانت في أمانٍ مِن أيّ اعتداء، ﴿ مُطْمَئِنَّةً ﴾ مِن أن يُصيبها ضِيقٌ فيالعيش، وكانَ ﴿ يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا ﴾ أي هَنيئًا سهلاً ﴿ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ ﴾ أي مِن أماكن كثيرة (لأنّ كلمة: (كل) تأتي أحياناً بمعنى الكثرة، كما في قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا ﴾، فكانت مكة يأتيها الرزق من البرّ والبحر (وذلك أثناء رِحلتَيهما - صيفاً وشتاءً - إلى الشام واليمن)،﴿ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ ﴾: أي فجحد أهلُها نِعَمَ اللهِ عليهمفلم يَشكروه، بل أشركوا به سبحانه، وكفروا برسوله وبكتابه ﴿ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ ﴾: أي فعاقبهم اللهُ بالجوع (حيثُ أصابهم القحط سبع سنين حتى أكلوا الصوف)،﴿ وَالْخَوْفِ ﴾ أي وأذاقهم اللهُ الخوفَ من جيوش رسول اللهصلى الله عليه وسلم، وذلك ﴿ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾: أي بسبب كُفرهم وصَنيعهمالباطل.
﴿ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ ﴾ وهو النبي محمد صلى الله عليه وسلم،الذي يَعرفون نَسَبَه وصِدقه وأمانته وأخلاقه ﴿ فَكَذَّبُوهُ ﴾ ولم يَقبلوا ما جاءهم به ﴿ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ ﴾ من الشدائد والجوع والخوف، وقَتْل عظمائهم في "بدر" ﴿ وَهُمْ ظَالِمُونَ ﴾ لأنفسهم بشِركهم باللهِ تعالى، وصَدِّهم عن سبيله.
♦ ولَعَلَّ اللهَ تعالى عَبَّرَ عن الجوع والخوف باللباس، للإشارة إلى شدة ما أصابهم، فكأنه قد أحاطَ بهم كما تُحيطُ المَلابس بالجسد، واللهُ أعلم.
• الآية 114، والآية 115:﴿ فَكُلُوا ﴾ - أيها المؤمنون - ﴿ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ﴾ وجَعَله لكم ﴿ حَلَالًا طَيِّبًا ﴾ ﴿ وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ ﴾ عليكم بالاعتراف بها، وباستخدامها في طاعته سبحانه، ولا تكونوا كالذين كفروا بنعمته (كما في المثال السابق) حتى لا يُصيبكم ما أصابهم، هذا ﴿ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾: يعني إن كنتم حقًّا مُطيعين له، تعبدونه وحده لا شريك له.
♦ إذاً فاشكروا نِعَمه عليكم، وذلك إغاظةً للشيطان الذي قال: ﴿ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾، وأكثِروا مِن قول: (الحمد لله) بألسنتكم وقلوبكم، فقد قال صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح مسلم -: (والحمد لله تملأ الميزان)، فهي كلمةٌ يُدفَعُ بها عنا العذاب، كما قال تعالى: ﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ ﴾.
﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ ﴾ سبحانه ﴿ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ ﴾ وهو الحيوان الذي تُفارقه الحياة بدون ذبْح شرعي، (ويُستثنَى مِن ذلك مَيْتة الجَراد والسمك، فإنهما حلال، كما ثبتَ ذلك في السُنَّة)، ولَعَلَّ الحكمةمن تحريم المَيْتة: هو احتقان الدم في جَوْفها ولَحْمها، مِمَّا يَتسبب في إضرارمَن يأكلُ منها.
﴿وَالدَّمَ﴾: يعني وحَرَّمَ سبحانهعليكم شُرب الدم، ويُستَثنى من الدم: (الكبد والطحال) فإنّ أكْلهما حلال، كما ثبت ذلك في السُنَّة (واعلم أنّ المقصود بالدم المُحَرَّم هنا هو الدم المَسفوح (أي السائل المُراق)، كما ذَكَر تعالى ذلك في آيةٍ أخرى فقال: ﴿ أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا ﴾، (وأما الدم غير المُراق، وهو الذي يَختلط باللحم أو يكون في المخ والعروق وما شابَه ذلك، فإنه لا شيءَ فيه).
﴿وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ﴾: يعني وكذلك حَرّمَ سبحانهعليكم لحم الخنزير، فلا تغتروا بمَن يَستحلونه (افتراءً على الله)، بل هو مُحَرَّم مِن جُملة الخبائث، ﴿وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾: يعني وكذلك حَرَّمَ عليكم الذبائح التي ذُبِحتْ لغير الله، وكذلك ما ذُكِرَ عند ذبْحِهِ اسمُ غيرِهِ تعالى، ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾: يعني فمَن ألجأتْهُالضرورة إلى أكْل شيءٍ من هذه المُحَرَّمات ﴿غَيْرَ بَاغٍ﴾: أي غيرَ طالبٍ للمُحرَّم - لِلذَّةٍ أو غير ذلك، ﴿وَلا عَادٍ﴾: يعني ولا مُتجاوز - في أكْله - ما يَسُدُّ حاجتَه ويَرفع اضطراره ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ ﴾ له، ﴿رَحِيمٌ﴾ به، حيث رَخَّصَ له في أكْل تلك المُحَرَّمات عند الضرورة حتى لا يموت.
• الآية 116، والآية 117:﴿ وَلَا تَقُولُوا ﴾ - أيها المشركون - ﴿ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ ﴾ أي لا تقولوا الكَذِبَ الذي تَصِفُهُ ألسنتكم، وذلك بأن تقولوا لِمَا حَرَّمهالله: ﴿ هَذَا حَلَالٌ ﴾(وَ) تقولوا لِمَا أحَلَّه الله: ﴿ هَذَا حَرَامٌ ﴾ ﴿ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ﴾ أي ليؤدي بكم هذا القول الكاذب إلى الافتراء على اللهِ تعالى (بنسبة التحليلوالتحريم إليه) فتستحقوا العذاب، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ﴾: أي لا يفوزون في الدنياولا في الآخرة، فإنما هو ﴿ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ﴾ في الدنيا، وسوف يَزولُ عنهم عن قريب، ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ في نار جهنم.
• الآية 118:﴿ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ ﴾: أي ولقد حَرَّمنا على اليهود ما أخبرناك به - أيها الرسول - ﴿ مِنْ قَبْلُ ﴾ أي مِن قبل هذه الآية، وهو كل ذي ظُفُر (يعني كل ما لم يكن مشقوق الأصابع من البهائم والطير، كالإبل والنَّعام)،وكذلك حرّمنا عليهم شحوم البقر والغنم (إلا الشحم الذي عَلِقَ بظهورها فإنه حلالٌ لهم،وكذلك الشحم الذي عَلِقَ بأمعائها، والشحم الذي اختلط بعظم الجنب ونحو ذلك، فإنه حلالٌ لهم)، ﴿ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ﴾ بتحريم ذلك عليهم، ﴿ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾: أي ولكنهم كانوا ظالمين لأنفسهم بالكفروالمعاصي، فاستحقوا ذلك التحريم عقوبةً لهم.
• الآية 119:﴿ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ﴾ أي فعلوا المعاصي بجهلٍ منهملِسُوء عاقبة هذه الذنوب، (وبجهلهم بقدْر ربهم الذي عصوه)، ولكنْ بشرط: ﴿ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ ﴾ أي مِن بعد ذلك العمل السيئ، وندموا عليه ﴿ وَأَصْلَحُوا ﴾ نفوسهموأعمالهم، ﴿ إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا ﴾ أي مِن بعد توبتهم وإصلاحهم ﴿ لَغَفُورٌ ﴾ لهم، ﴿ رَحِيمٌ ﴾ بهم.
• من الآية 120 إلى الآية 124:﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ﴾ أي كان إمامًا في الخير، وكان ﴿ قَانِتًا لِلَّهِ ﴾ أي طائعا خاضعًا للهِ تعالى، وكان ﴿ حَنِيفًا ﴾: أي لا يَميل عن دينالإسلام، فكانَ عليه السلام مُوَحِّدًا للهِ تعالى ﴿ وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾، بل كانَ ﴿ شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ ﴾ أي شاكرًا لنعم اللهِ عليه، ولذلك ﴿ اجْتَبَاهُ ﴾ ربه(أي اختاره لرسالته ومَحَبَّته) ﴿ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ أي: وأرشَدَه إلى الطريق المستقيم (وهو الإسلام)، ﴿ وَآَتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ﴾: أي وأعطاه اللهُ نعمةحسنة في الدنيا (من الولد الصالح، والثناء عليه من كل أهل الشرائع السماوية واقتداءهم به، وغير ذلك من أمور الدين والدنيا)،﴿ وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ الذين لهم الدرجات العالية في الجنة، ﴿ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ﴾ - أيها الرسول - ﴿ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ﴾: أي اتَّبع دينَ الإسلام كما اتَّبعه إبراهيم عليه السلام ، فإنه كانَ ﴿ حَنِيفًا ﴾ أي مائلاً عن أيّ دينٍ باطل ﴿ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ (وهذه أعظم صفة لإبراهيم عليه السلام: التوحيد الخالص، ولذلك أعادَ سبحانه ذِكْر هذه الصفة للتأكيد على وجوب اتِّباعها، واللهُ أعلم).
♦ وعندما ادَّعَى اليهود أنهم على دين إبراهيم عليه السلام، أبطلَ اللهُ هذه الدعوى بأنْ ذَكَرَ تعظيمهم ليوم السبت، وتعظيم السبت لم يكن من دين إبراهيم، فقد كان دين إبراهيم سَمْحاً لا تغليظ فيه، وأما السبت فكان تغليظاً على اليهود بترْك الصيد فيه، وذلك بسبب عِصيانهم وتمَرُّدهم، قال تعالى:﴿ إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ ﴾: يعني إنما جَعَلَ اللهُ تعظيم يوم السبت ﴿ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ ﴾ وهم اليهود الذين اختلفوافيه على نبيّهم، واختاروه بدلاً من يوم الجمعة (الذي أُمِروا بتعظيمه)، ففرض اللهُ عليهم تعظيم السبت، وشَدّدَ عليهم بعدم الصيد فيه (عقوبةً لهم)، ﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ ﴾ - أيهاالرسول - ﴿ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ﴾ أي سوف يَحكم بين المختلفين ﴿ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ فيُجازيهم بما يَستحقون بسبب تمَرُّدهم على أنبيائهم.
• الآية 125:﴿ ادْعُ ﴾ الناسَ - أيها الرسول - أنت ومَنِ اتَّبعك ﴿ (إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ ﴾: يعني إلى دين ربك وطريقه المستقيم ﴿ بِالْحِكْمَةِ ﴾: أي بالطريقةالحكيمة التي أوحاها اللهُ إليك في الكتاب والسُنّة، وخاطِب الناس بالأسلوبالمناسب لهم ﴿ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ﴾: أي وانصحهم نُصحًا حسنًا، يُرَغِّبهم في الخير، ويُنَفِّرهم من الشر.
♦ واعلم أنه من آداب النصيحة أنْ تُقَدِّمها بالأسلوب الطيب الذي تُحِبّ أن يَنصحك به الآخرون (كالابتسامة أثناء النصيحة، والدعاء للمنصوح وأنت تُحَدِّثه، وغير ذلك)، حتى وإن لم يَقبل الناس نصيحتك، فإنك تنصحهم لوجه اللهِ تعالى، وطالما أنها لوجه الله، فلا تغضب لنفسك إذا لم يَقبلوها منك، حتى لا يَضيع أجرك، وكذلك على المنصوح أن يَستمع إلى النصيحة، حتى وانْ لم يُعجبه أسلوب الناصح، لأنه - وإن لم يكن قد تَعَلَّم أسلوب النصيحة الحسنة - فإنه بالتأكيد يَنصحك لمصلحتك، فلا تَرُدُّه، بل احمد اللهَ الذي عَلَّمك الأسلوب الطيب ولم يُعَلِّمه لغيرك، رغم كثرة ذنوبك.
♦ واحذر أن تنصح أحداً أمام الناس، أو أن تنصحه بغضب وشدة (بحُجّة أنك خائفٌ عليه)، فهذا لن يَقبل منك أبداً، وكذلك الحال إذا أردتَ أن تعاتب أحداً، فعليك ألاَّ تعاتبه بشدة وغِلظة حتى لا يَتكبر ويُعانِد، وإنما عليك أن تسأله برفق: (لماذا فعلتَ كذا؟) (هل ترضى أن أفعل ذلك معك؟)، فحينئذٍ سيَعتذر لك ويَعترف بخطئه، فإذا كَسَرَ كِبريائه واعتذر: فاقبل عُذره فوراً.
﴿ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾: أي جادِلهم بأحسن طرق المُجادَلة (مِن الرِفق واللين وتَجنُّب الغضب أثناء الجدال)، واعلم أنه ليس عليك إلا البلاغ، وقدبلَّغْتَهم، وأمّا هدايتهم فعلى اللهِ وحده، فـ ﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ﴾﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾.
• الآية 126:﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ ﴾: يعني وإن أردتم - أيها المؤمنون - القصاص مِمّن اعتدى عليكم: ﴿ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ﴾، ولا تزيدوا عَمّا فعلوهبكم، ﴿ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ ﴾ وتركتم المُعاقَبة: ﴿ لَهُوَ ﴾ أي الصبر ﴿ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ﴾ أي خيرٌ لهم من الانتقام، فهو خيرٌ لهم في الدنيا بالنصر، وفي الآخرة بالأجر العظيم، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾.
•الآية 127:﴿ وَاصْبِرْ ﴾ - أيها الرسول - على ما أصابك مِن الأذى في سبيل اللهِ حتى يأتيك الفرج، ﴿ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ ﴾ أي استمِدّ الصبر منه سبحانه، وذلك بلزوم طاعته ودعاءه، لأنه هو الذي يُعِينك على الصبر ويُثَبِّتك عليه.
﴿ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ﴾ أي: ولا تحزن على مَن خالفك ولم يَستجبلدَعْوتك، ﴿ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ﴾ أي: ولا تحزن مِن كيدهم لك، ولا تهتم به، فإنّ ذلك سيعود عليهم بالشر والهلاك.
• الآية 128:﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا ﴾ بامتثال أوامر ربهم واجتناب نواهيه ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ أي يُحسنون أداء فرائضه والقيام بحقوقه، وكذلك يُحسنون معاملة خلقه، فهو سبحانه معهم بالنصروالتأييد والعونوالتوفيق.
♦ واعلم أنّ الإحسانَ قد قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح مُسلِم -: "أنْ تعبُدَ اللهَ كأنك تراه، فإنْ لم تكن تراهُ، فإنه يَراك"، فالإحسان يَتناول المعنيين: (التقوى وإتقان العمل) لأنّ مَن راقبَ اللهَ تعالى، أتقَنَ عمله وحَسَّنه.
(1) وهي سلسلة تفسير لآيات القرآن الكريم بأسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرة من (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف التركي)، وأيضًا من "تفسير السّعدي" ، وكذلك من كتاب: " أيسر التفاسير" لأبي بكر الجزائري) (بتصرف)، عِلمًا بأنّ ما تحته خط هو نص الآية الكريمة، وأما الكلام الذي ليس تحته خط فهو التفسير.
• واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحدياً لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذا الأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحياناً نوضح بعض الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.