رد: سلسلة كلمات في القرآن الكريم / الدكتور عثمان قدري مكانسي
{ يَسْأَلُونَكَ } / القسم الأول :
وصف أمير المؤمنين عمرُ بن الخطاب عبد َالله بن عباسٍ رضي الله عنهم جميعاً بكلمة ذهبت في الأجيال مثلاً ، قال : " إنه فتى الكهول ، له لسان سؤول ، وقلب عقول " . ولم يبلغ ابن عباس مرتبة الصدارة في العلم لولا السؤال .
والسؤال له بالإضافة إلى الاستعلام والاستفهام فوائد كثيرة نذكر بعضها – من القرآن الكريم - على سبيل المثال لا الحصر
أ- التأكد من المعلومة :
فهذا يوسف عليه السلام حين أرسل إليه الملك ساقيه ليخرج من السجن وقد عفا الملك عنه ، رغب يوسف عليه السلام أن يخرج بريئاً من التهمة الشنيعة ، ليكون قدوة في الطهر والشرف ، أما العفو فللمذنبين ، ويوسف بريء مما اتهموه به ، فرد المراسل قائلاً له كما في سورة يوسف :
{ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ۚ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)}.
حيث قبل أن تظهر براءته : { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ }
وبعد البراءه ارتفعت مكانته وعظُم في عين الملك كما ورد في نفس السورة :
{ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)} .
ب- طرح الشك :
لقد أذن الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم أن يسأل الأنبياء قبله حين التقاهم في مسجد بيت المقدس وصلى بهم قبل أن يصعد للسماء ليطمئن قلبه – إن خالجه شك ، وحاشاه أن يشك ، فهو صاحب الدعوة – ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم المؤمنين وأكثرهم يقيناً بالله ، ولكن السؤال مشروع لكل من يشك في أمر ما قال تعالى في سورة يونس :
{ فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94)}
وفي تفسير قوله تعالى في سورة الزخرف :
{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَـٰنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)} ؟ .
يقول القرطبي رحمه الله تعالى فيما يرويه عن ابن عباس رضي الله عنهما : لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْمَسْجِد الْحَرَام إِلَى الْمَسجِد الأقصى - وَهُوَ مَسْجِد بَيْت الْمَقْدِس - بَعَثَ اللَّه لَهُ آدَم والمرسلين جميعاً , وَجِبْرِيل مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ;فأذّن جِبْرِيل صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَقَامَ الصلاة , ثُمَّ قَالَ :
يَا مُحَمَّد تَقَدَّمْ فَصَلِّ بِهِمْ ;
فَلَمَّا فَرَغَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; قَالَ لَهُ جِبْرِيل صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
[ سَلْ يَا مُحَمَّد مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلك مِنْ رُسُلنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُون الرَّحْمَن آلِهَة يُعْبَدُونَ ] . فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [ لا أَسْأَل قَدْ اِكْتَفَيْت ] . قَالَ اِبْن عَبَّاس : وَكَانُوا سَبْعِينَ نَبِيًّا مِنْهُمْ إِبْرَاهِيم وَمُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمْ السلام ; فَلَمْ يَسْأَلهُمْ لأنه كَانَ أَعْلَم بِاَللَّهِ مِنْهُمْ .
ت- تقوية الموقف بالدليل :
كان يعقوب عليه السلام – لِما رأى من أبنائه الكذب – لا يصدقهم ، فلما حصل مع أخيهم بنيامين ما حصل من سرقة ، وهم لا يدرون أن أخاهم يوسف (عليه السلام) خطط للاحتفاظ بأخيه اعتذروا لعودتهم دون أخيهم – وقد وعدوا أباهم أن يعودوا به إلا أن يُحاط بهم ، فطلبوا إلى أبيهم أن يسأل المسافرين معهم الذين حضروا الواقعة ، قال سبحانه في سورة يوسف :
{ ارْجِعُوا إِلَىٰ أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)} .
ث- التحدّي :
فهذا سيدنا إبراهيم يكسر الأصنام الصغيرة حين خرج قومه إلى احتفال كبير مبتعدين عن المعبد الوثني ، وترك كبير الأصنام فلم يكسره ، إنما علق عليه آلة الكسر ، ليبين لقومه سفاهة معتقدهم . فلما عادوا ، ورأوا أصنامهم مكسورة محطمة علموا أن الفتى إبراهيم هو وحده الذي يجرؤ على فعل ذلك . فلما سألوه أنكر ما فعل وأشار إلى كبير الآلهة المزعومة يتهمه على سبيل التحدى ، قال عز وجل في سورة الأنبياء :
{ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَـٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ (63)} .
ولن تنطق الأصنام ، ولو كانت تنطق ابتداءً لدافعت عن نفسها ! والقصة معروفة فقد تحرك باعث الخير في أنفسهم ثم نكسوا على رؤوسهم . فقد عشعش إبليس في عقولهم وأفئدتهم ، وسكن الضلال في صدورهم ، وثبت الفساد في كيانهم ... عرفوا الحق ، ورضوا بالانتكاس فحاولوا إحراقه لكن الله تعالى نجّاه . وحين تطاول الكفار على الداعية الأول صلى الله عليه وسلم فقالوا : لا جنة ولا نار ، ولا حياة بعد الموت ، ولئن كانت حياة فنحن في الجنة لا النار !! جاء التحدي والتسفيه لأقوالهم في سورة القلم :
{ سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَٰلِكَ زَعِيمٌ (40)}؟!
وليس هناك من ضامن ولا كفيل ، إن هم إلا يخرصون .
ج- التقريع والتوبيخ :
يريد بنو إسرائيل من النبي صلى الله عليه وسلم معجزات تدل على نبوّته وحركوا كفار مكة أن يطلبوا ذلك ، فجاء القرآن يوبخهم لأنهم أساءوا إلى نبيهم موسى عليه السلام وقد جاءهم بكثير من الآيات ، وما طلبهم هذا إلا التمادي في الكفر والضلال ، قال جل ثناؤه في سورة البقرة :
{ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّـهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّـهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)} .
لقد شاهد بنو إسرائيل مَعَ مُوسَى آيات بينات واضحات وحججاً قَاطِعَة بِصِدْقِهِ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ من آيات كعَصَاهُ التي انقلبت حية ، وَفَلْقه الْبَحْر وَضَرْبه الْحَجَر وَمَا كَانَ مِنْ تَظلِيل الْغَمَام علَيهِم فِي شِدّة الْحَرّ وَمِنْ إِنزَال الْمَنّ وَالسَّلوَى وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ الآيات الدالّة عَلَى وُجُود الْفَاعِل وَصِدْق مَنْ جَرَتْ هَذِهِ الْخَوَارِق عَلَى يَدَيْهِ ، ومع هَذا أَعْرَضَ كَثِير مِنهُم عَنهَا وبدَّلُوا نِعْمَة اللَّه كفرًا .
أما إن كان في الأسئلة – أياً كانت - إلحاف وخروج عن المألوف فإن الأمر ينقلب إلى ضده ، ويصبح عبئاً لا لزوم له ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه أبو هريرة :
( لا يحب الله إضاعة المال ولا كثرة السؤال ولا قيل وقال )
هذا إذا فهمنا أن السؤال غير طلب العطاء .
سئل النبي صلى الله عليه وسلم – كما روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه - عن أشياء كرهها ، فلما أكثروا عليه غضب ، ثم قال للناس :
سلوني عما شئتم .
قال رجل : من أبي ؟
قال : أبوك حذافة .
فقام آخر فقال : من أبي يا رسول الله ؟ فقال :
أبوك سالم مولى شيبة .
فلما رأى عمر ما في وجهه قال : يا رسول الله ، إنا نتوب إلى الله عز وجل . ولعل هذا سبب نزول الآية الكريمة في سورة المائدة :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّـهُ عَنْهَا وَاللَّـهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)} .
{ يَسْأَلُونَكَ } / القسم الثاني والأخير :
ذُكِرتْ { يَسْأَلُونَكَ } في القرآن الكريم خمس عشرة مرة تدل على أن السؤال مفتاح العلم والسبيل إلى الوضوح والحياة الأمثل . فماذا نفهم من { يَسْأَلُونَكَ } ؟
1 - الفعل جاء في صيغة المضارع الذي يفيد الاستمرار ، فلا بد من السؤال الموصل إلى الجواب ، وأعتقد أنه يستحسن طرح السؤال على العالم كي يتحدث في مواضيع يحتاجها الناس ، وهذا أفضل – في ظني - من موضوعات يختارها العلماء والمحاضرون قد تكون مفيدة ، وقد يكون غيرها أولى منها وأكثر فائدة . والسؤال دليل على أن صاحبه يود معرفة الحقيقة ليلتزمها ، ويعمل بها ، وهذه إيجابية لو كثرتً في الأمة فهي بخير .
2 - والمسؤول " ك ( الكاف ) تنبيه إلى أنّ على السائل أن يسأل العالم البصير ، لا الرجل الغرير ، فذلك البصير الحاذق يدله على الخير ، ويوضح له المسألة ويأخذ بيده إلى موطن النجاة ومسلك الصواب . كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد العلماء . وعليهم – من بعده – أن يسألوا من يسير على خطاه ، ويهتدي بهديه . أما الجاهل فيَضل ويُضِل .
3 - ولا بد من تحديد السؤال ليكون الجواب محدداً : يَسْأَلُونَكَ ... ( عن الشهر الحرام ، قتال فيه ، عن الخمر والميسر ، عن اليتامى ، عن المحيض ، عن الساعة ، عن الأنفال ، عن الروح ، عن ذي القرنين ، عن الجبال ، ماذا ينفقون ) ولو كان السؤال عاماً فلن يشبع المتلقي ، وستكون الفائدة أقل مما ينبغي وما يسأل الإنسان إلا عن شيء يشغل باله ، فإذا سمعه تلقفه فلم ينسَه .
4 - فإذا سئل العالم أمراً وهو يعرفه وقت السؤال أو بعد الدراسة والتمحيص فلا بد أن يجيب عنه ، إن ذلك أمانة في عنقه يحاسب عنها يوم القيامة ، ويشكر عليها في الدنيا والآخرة . لذا جاء الأمر الإلهي : { قُلْ } فالساكت عن الحق شيطان أخرس ضيع الأمانة وترك السائل في ضلال ، " والمسلم أخو المسلم " . والأمر بالإجابة { قُلْ } جاء في كل الآيات غير الغيبية المبذولة للتعلـّم أو التي لا تتحملها العقول ، كقوله تعالى في بعض الإجابات : { قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّـهِ وَالرَّسُولِ ... (1)} ، وحين سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخمر والميسر قيل له كما في سورة البقرة : { قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ...(219)} ، وحين سئل على الحل أجاب كما في سورة المائدة { قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ (4)} وحين سئل عن القتال في الشهر الحرام كان الجواب كما في سورة البقرة :
{ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّـهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّـهِ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ... (217)} ،
أما في السؤال عن الغيب { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا } (الأعراف والنازعات) ، فمرة نجد الإجابة دون { قُلْ } كما في سورة النازعات :
{ فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا (43) إِلَىٰ رَبِّكَ مُنتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)} ، فكان الجواب من الله تعالى مباشرة ،
ومرة ذكر الفعل { قُلْ } كما في سورة الأعراف :
{قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ۚ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّـهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187) ،
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن علمها عند الله سبحانه .
وأما السؤال فيما لا تتحمله عقول الناس على عهده صلى الله عليه وسلم وتـُرك للزمن اكتشافه فكان الجواب بأسلوب الحكيم وهذا الغرض البلاغي في سورة البقرة يفيد أن عليكم أن تعرفوا الفائدة من الأهلـّة :
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ..(189)} ، وتصور معي أخي القارئ لو أجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يجيب العلم عن كروية الأرض ودورانها حول الشمس، ودوران القمر حول الأرض ، وما ينتج من حجب الأرض لضوء الشمس عن القمر حين تتوسط بينهما ..لقد كان الجواب الحكيم ذكر الفائدة من القمر فقط . ولا ننسَ أن الأجوبة كانت شافية ودقيقة . تفي بالغرض من طرح الأسئلة ، ولا ننس كذلك أن الجواب حين يكون قاصراً يضطر السائل أن يعيد طرحه مرة أخرى على علماء آخرين حتى يجد بغيته ، فينبغي على العالم أن يكون جوابه شافياً مريحاً يفهمه المتلقي ويستوعبه .
5 - ثم نجد بعد الجواب الشافي تنبيهاً إلى التقوى والطاعة في قوله تعالى بعد الإجابة عن الأنفال :
{ فَاتَّقُوا اللَّـهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّـهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (1)} ،
ونجد بعد السؤال عن الشهر الحرام في سورة البقرة التوضيح الهام الذي يؤكد أن أعداء الله لن يقر لهم قرار حتى يؤذوا المسلمين ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً : { ... وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ..... (217)} ،
ونجد بعد السؤال عن المحيض والإجابة عنه في سورة البقرة أمراً بالتوبة والتطهّر لإرضاء الله تعالى ونيل حبه سبحانه :{ ... إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)} .
ولو عدت أخي القارئ إلى أواخر هذه الآيات التي نتحدث عنها لوجدت التربية القرآنية تتجلى في تزكية النفس وبناء المجتمع المسلم الطاهر الذي يحبه الله تعالى ويرضاه ، فاحرص على العودة إليها والتخلق بأخلاقها .
نسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علـّمنا ، فهو ولينا ومولانا ، ونعم المولى ونعم النصير .
رد: سلسلة كلمات في القرآن الكريم / الدكتور عثمان قدري مكانسي
{ أمـّة }
قال ابن منظور – رحمه الله – في معجمه لسان العرب : أمّ : مِن أمَمَ . وأم : قـَصَد . أمـَّه يؤُمّه أمّاً ، إذا قصده وتوخـّاه.
ولن نتناول مشتقات هذه الكلمة ، وهي كثيرة ، فمن رغب بذلك أمّ كتب معاجم اللغة وتزوّد . إنما نريد معانيها التي وردَتْ في القرآن الكريم . ولعلنا نحاول الإحاطة – على ضعفنا – بالكثير من المعاني اللطيفة الرائعة :
1- تأتي بمعنى السلف الماضين من الآباء الصالحين كالأنبياء :
وذلك في قوله تعالى في الآية 134 من سورة البقرة :
{ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
لا ينفعنا انتسابنا إليهم ما لم نعمل بعملهم الصالح ، كما قال سبحانه :
{ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) } (الطور) ، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه .
2- وتأتي بمعنى الشريعة الواحدة والدين الواحد :
مثال ذلك في الآية 213 من سورة البقرة :
{ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّـهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ... }
قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق ، فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين . وكانوا على هدى الله جميعاً فلما طال عليهم الزمن اتبعوا أهواءهم وأضلتهم الشياطين . فأنزل الله جبريل على الأنبياء بكتبهم ليهدوا الناس إلى طريق الحق والسلام .
3- وتأتي بمعنى العلماء والدعاة والمصلحين :
مثال ذلك الآية 104 من سورة آل عمران :
{ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }
وهؤلاء أتباع القرآن والسنة النبوية التي تتصدى لإقامة المعوج وإصلاح الخلل في البشرية ، وقد قَالَ فيهم رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَف الإيمان) وَفِي رِوَايَة : (وَلَيْسَ وَرَاء ذَلِكَ مِن الإيمان حَبَّة خَرْدَل) .
هذه هي الأمة الداعية إلى إسعاد البشرية والنهوض بها في درب الهناء والأمان . وفي قوله تعالى في الآية 181 من سورة الأعراف :
{ وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ }
يقول صلى الله عليه وسلم مدحاً لعلماء أمته ودعاتها العاملين بما يرضي الله تعالى يوم يضعف الناس ويتخاذلون ، ويستكينون لعدوهم ويتراجعون :
(إِنَّ مِنْ أُمَّتِي قَومًا عَلَى الْحقّ حَتَّى يَنزِل عِيسَى اِبن مريم مَتَى مَا نَزَلَ )
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ مُعاوية بْن أَبِي سُفيَان قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(لا تَزَال طَائِفَة مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقّ لا يَضُرّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ ولا مَنْ خَالَفَهُم حَتَّى تَقوم السَّاعَة) وَفِي رِوَايَة : (حَتَّى يأتي أمر اللَّه وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ) ، وَفِي روايةٍ : (وَهُمْ بِالشَّام) .
4- وتأتي بمعنى ذي طريقة حسنة وهدىً مستقيم :
مثل ذلك الآية الكريمة 113 من سورة آل عمران :
{ لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّـهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ } ،
والتقدير: مِنْ أَهل الْكِتَاب أُمَّة قَائمة وَأُخرى غَير قَائمة , فَتَرَكَ الأخرى اكتفاء بالأولى والمعنى : لا يَستوِي أُمَّة من أَهل الْكِتَاب قَائمَة يتلون آيَات اللَّه وَأُمَّة كَافرَة. قال ابن عَبَّاس : لما أسلم عبد الله بن سلام , وثعلبة بن سعية وغيرهما من يهود ; فَآمَنُوا وصدّقوا وَرَغِبُوا فِي الإسلام وَرَسَخُوا فِيهِ , قَالَتْ أَحبار يَهُود وأهل الكفر منهم : مَا آمَنَ بِمُحَمَّدٍ ولا تبعه إلا شرارُنا , وَلَوْ كَانُوا مِنْ خِيَارنَا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غيره ، فنزلت هذه الآية تكذبهم وتمدح من أسلم والتزم عبادة ربه وقـنت له .
5- وتأتي بمعنى القـِسْم من الشيء لا يبلغ الشطر بل هم قليل :
قالوا في عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ما يليق بهما ، فقصدوا القول الحق ولم يتعدّوه . مثال ذلك الآية 66 من سورة المائدة في قوله تعالى :
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ }
وأراد بالقصد الاعتدالَ والحقيقة أناساً من أهل الكتاب آمنوا واتقـَوا كالنجاشي وسلمان وابن سلام وغيرهم ، فكان تقواهم لله سبباً في توسيع الله تعالى عليهم الرزق والخيرات ألم يقل الله تعالى في سورة الجن يؤكد الرزق الوافر لمن آمن به وعمل بمقتضى الإيمان :
{ وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا (16)} ؟ . وقال كذلك في سورة الطلاق :
{ وَمَن يَتَّقِ اللَّـهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ... (3)} ؟ ثم وعد – في سورة إبراهيم - بالمزيد لمن اتقى وشكر ربه :
{ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ (7)} .
وكذلك نجد الثلث أو القسم الثالث الذي على الصواب من قصة اليهود في يوم السبت في قوله تعالى في الآية 164 من سورة الأعراف :
{ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ۙ اللَّـهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }
فهؤلاء هم الصالحون الذين نبهوا وحذّروا ، ثم لم يخالطوا المفسدين وتميّزوا عنهم ، بينما كانت فئة ثانية نبّهت وحذّرت إلا أن ذلك لم يمنعها أن تخالط المفسدين وتؤاكلهم وتسامرهم . هؤلاء الصالحون لم يتوانَوا عن إسداء النصح والتذكير بالله حتى اللحظة الأخيرة علّ المخطئ يرعوي ويتقي الله ، ويقلع عن المعصية قبل حلول العذاب ، فينجو . وما يفعل ذلك إلا العطوف من المسلمين المحب للناس جميعاً ، الذي يأمل بالناس أن يتوبوا ويثوبوا ، ويرجعوا عن غيهم ، والمؤمن لا ييئس ويظل داعية يصدق في دعوته ، ويسعى لها بما أوتي وما استطاع.
6- وتأتي بمعنى قرن وجيل :
كما في قوله تعالى في الآية 34 من سورة الأعراف :
{ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ } وسيأتيهم ميقاتهم المقدّر . وقد وضح القرطبي سبب النزول فقال : إن الكفار كَانُوا (كما قال سبحانه في نفس السورة) : { وَإِذَا فَعلوا فَاحشَة قالوا وجدنا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاَللَّه أَمَرَنَا بِهَا ... (28)} ,
وَوَعيدًا منه – سبحانه - لَهُمْ عَلَى كَذِبهمْ عَلَيهِ وَعَلَى إِصرارهم عَلَى الشِّرك بِهِ وَالمُقام عَلَى كُفرهمْ , ومذكراً لَهم مَا أَحَلَّ بأمثالهم من الأمم الَّذِينَ كَانُوا قَبلهم . ولكل جَمَاعَة اجْتَمَعَت عَلَى تكذيب رُسُل اللَّه وَرَدّ نَصَائِحهمْ , والشرك بالله مَعَ مُتَابَعَة رَبّهم حُجَجه عليهم وَقتٌ لحلول العقوبات بساحتهم , ونزول المثـُلات بهم على شركهم . ولن يؤخرهم ربهم عما قدّر لهم من عقوبات في الأجل الذي حتـّمه لهم .
7 - وتأتي الأمة بمعنى الشبيه والمثيل في الصفات والعاقبة :
كقوله تعالى في الآية 38 من سورة الأعراف :
{ قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّىٰ إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَـٰؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَـٰكِن لَّا تَعْلَمُونَ } .
فالله تعالى يَقول لهؤلاء الْمُشْرِكِينَ بِهِ الْمُفتَرِينَ عَلَيْهِ المكذبين بِآيَاتِهِ : { اُدْخُلُوا فِي أُمَم } مِنْ أمثالكم وَعَلَى صفاتكم { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم } مِنْ الأمم السالفة الْكَافِرَة { مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ فِي النَّارِ } إنهم يلتقون مغضبين سابين شاتمين من كان سبب دخولهم في النار واجتماعهِم فيها { كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا } ، وقد قال الله تعالى على لسان خليله إبراهيم عليه السلام : { ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا (25)} (العنكبوت) ، ويتبرأ بعضهم من بعض كما قال جل ثناؤه في الآية 166 من سورة البقرة : { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اُتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اِتَّبَعُوا } ، فإذا التقى هؤلاء في النار جميعاً واجتمع بعضهم إلى بعض شكا الآخرون الأولين إلى الله لأنهم كانوا سبب ضلالهم فيقولون { رَبّنَا هؤلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنْ النَّار } فيجيبهم بأنه جازاهم جميعاً بما يستحقون من عذاب شديد : { قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَـٰكِن لَّا تَعْلَمُونَ } .
نسأل الله العافية وحسن الختام .
8 - وتأتي بمعنى الأجل المعدود والأمد المحصور والمدة المضروبة :
مثال ذلك قوله تعالى في الآية الثامنة من سورة هود :
{ وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَىٰ أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ ... } ؟ " فالكفار يستعجلون العذاب كما قال سبحانه في سورة الأنفال : { وَإِذْ قَالُوا اللَّـهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (25)} ، وفي قوله سبحانه يسخر من الكفار : { يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) } (العنكبوت) ، كما أننا نجد معنى الزمن في كلمة { أُمَّة } في قوله تعالى في الآية 45 من سورة يوسف : { وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ } ، وما تذكر إلا بعد بضع سنين قضاها يوسف في السجن .
9 - وتأتي بمعنى الإمام الذي يُقتدى به :
مثاله قوله عز وجل يمدح إبراهيم عليه السلام :
{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّـهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)} (النحل) ،
فَهُوَ الإمام الَّذِي يُقتدى بِهِ وَالْقَانِت هُوَ الْخَاشِع الْمُطِيع وَالْحَنِيف المتجه قَصْدًا عَنْ الشِّرْك إِلَى التوحيد ، وهو معلم الخير والجامع له ، الذي يعلم الناس دينهم ويدلهم على ربهم . وقد كان إبراهيم وحده مؤمناً والناس كلهم كفار ، فكان أمة وحده .
10 - معنى جماعة من الجماعات :
أ - قد تكون الجماعة صغيرة قليلة، فهذا موسى عليه السلام يصل إلى مدين فيمر على جماعة من الرعاة قد لا يتجاوزون عدد أصابع اليدين يسقون أنعامهم وشاءَهم :
{ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ... (23)} (القصص) .
ب - وقد تكون الأمة ضخمة كثيرة العدد تعيش الحواضر والبوادي . يُرسل إليها الرسول ليهديهم طريق الرشاد ، ونجد ذلك في قوله تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّـهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ... (36)} (النحل) ، وَقَالَ تَعَالَى : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) }(يونس) ، فالرسول يُبْعث في جماعة أو جماعات ويدعوهم إلى الله تعالى ، ويقيم عليهم الحجة كما قال سبحانه في الآية 75 من سورة القصص : { وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا } ، نبياً يشهد على العباد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ، وشهيد كل أمة رسولها كما قال جل ثناؤه :
{ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـٰؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)} (النساء) .
جـ - وقد تكون الأمة بمعنى الناس جميعاً لقوله عز وجل :
{ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ (110)} (آل عمران) بمعنى خير الأمم . وكقوله صلى الله عليه وسلم:
(وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يَسْمَع بِي أَحَد مِنْ هَذِهِ الأمة يَهُودِيّ وَلا نَصْرَانِيّ ثُمَّ لا يُؤْمِن بِي إلا دَخَلَ النَّار) .
11 - وقد تأتي بمعنى الدين والملة لقوله تعالى في الآية 23 من سورة الزخرف :
{ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } ، أي على طريقة ودين ، وهم يريدون أن لا يخالفوهم
12 - وقد تأتي كلمة أمة بمعنى التساوي والتشابه في الحياة والعطاء ، مثاله قوله تعالى في الاية 33 من سورة الزخرف : { وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَـٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } خوفاً على المؤمنين من الفساد والفتنة حين يرون الكفار يعيشون في الدنيا حياة الرفاهية والرغد ، وهم – على الرغم من إيمانهم – أقل منهم مستوى في الراحة والهناء والرفاهية وقد أعطى الله تعالى الكفار في هذه الدنيا الكثير من المتع العظيمة ، فهم على كفرهم وسوئهم وضلالهم - كونهم بشراً - يفعلون مع بعضهم الخير ويساعد بعضهم بعضاً فلا بد للعدل الإلهي أن يثيبهم بما فعلوه من خير في دنياهم فقط ،فليس لهم في الآخرة نصيب .
رد: سلسلة كلمات في القرآن الكريم / الدكتور عثمان قدري مكانسي
العَرْض
عـَرَض الأمر عليه : أظهره وأبداه له ، كما في القاموس المحيط .
وللعرض ومشتقاته معان كثيرة جداً ، لا نقصدها في حديثنا هذا ، ونحن إذ نتوقف عند المعنى الذي أردناه نرجو أن نثبت في أنفسنا بعض المعاني الإيمانية ، ونسأل الله أن يهدينا سواء السبيل .
- عرض الله تعالى الأمانة على السموات والأرض والجبال قبل أن يعرضها على آدم عليه السلام ، والأمانة المعروضة كما قال العلماء : العبادة والطاعة لله تعالى والقيام بالفروض وأداء الواجبات ، فإن التزمنـَها وأدّينها فقد نجحن ، وإن لم يفعلن ذلك فقد فشلن وعوقبن ، فأبين ذلك وعلِمْنَ أن حمل الأمانة ثقيل لا يستطعن أداءه ، ثم عُرضت الأمانة على آدم ، وقيل له : إن أحسنت أُثبت ، وإن أسأت عوقِبْت َ ، فرضي حملها ، ولم يلبث قليلاً حتى أخلّ بها . وظلم نفسه ، يقول تعالى في الآية 72 من سورة الأحزاب :
{ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)} ،
فظلم الإنسان نفسه حين حمّلها الأمانة ، ثم لم يَرْعها حق رعايتها ، ومن سأل الله المعونة أعانه ، ولكنّ الغالبية الغالبة والكثرة الكاثرة من البشر ضيّعوا هذه الأمانة.
- من العرض الدال على مكانة آدم عليه السلام عند ربه سبحانه أنه تعالى :
{ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَـٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31)} (البقرة) ،
وذلك حين استنكروا أن يخلق الله في الأرض من يفسدها ويسفك الدماء . فسألهم الله تعالى أن يخبروه بأسماء المسمّيات التي علمها آدم ، فاعترفوا بعجزهم ، وهنا أظهر الله تعالى مكانة آدم إذ أمره أن يعلمهم بعض ما علمه الله عز وجل ، { قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ ... (33)} (البقرة) ففعل ذلك .
- يقف الناس يوم العرض – وكلهم يرون ويسمعون ما يجري إلا ما شاء الله تعالى أن يستره – فيستر الله تعالى المؤمنين حين تُعرض عليهم أفعالهم ، ويفضح الكافرين والمنافقين فيحاسبهم على رؤوس الخلائق . يقول ابن كثير رحمه الله في تفسير الآيتين الكريمتين من سورة هود :
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّـهِ كَذِبًا أُولَـٰئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَـٰؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَىٰ رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّـهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19)}،
يُبَيِّن تَعَالَى حَال الْمُفترِينَ عَلَيْهِ وَفَضِيحَتهمْ فِي الدَّار الآخرة عَلَى رُءُوس الخلائق من الملائكة وَالرُّسُل والأنبياء وَسَائِر البشر والجانّ . ويقول صلى الله عليه وسلم فِي النَّجْوَى يَوْم الْقِيَامَة :
إِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يُدْنِي المؤمن فَيَضَع عَلَيْهِ كَنَفه وَيَسْتُرهُ مِنْ النَّاس ويقرره بذنوبه وَيَقُول لَهُ أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بذنوبه وَرَأَى فِي نَفْسه أنه قَدْ هَلَكَ قَالَ فإني قَدْ سَتَرْتهَا عَلَيك فِي الدنيا وَإِنِّي أغفرها لَك اليَوم ثُمَّ يُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاته . وَأَمَّا الكفار والمنافقون فَيَقُول { ... الأشهاد هؤلاء الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبّهمْ ألا لَعْنَة اللَّه عَلَى الظالمين (18)} .
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيث قَتَادَة .
هكذا عَرْضُ عمل المؤمن عليه وهكذا حسابُ الكافر والمنافق يفضحهم الله أمام الخلائق جميعاً.
- وقد يكون عرض العذاب بعد الموت وقبل يوم القيامة ، أي في البرزخ كما في قصة فرعون وجنده في سورة غافر في قوله تعالى :
{ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)}،
فَإِنَّ أَرْوَاحَهُمْ تـُعرض عَلَى النَّار صَبَاحًا وَمَسَاء إِلَى قِيَام السَّاعَة فَإِذَا كَانَ يَوْم القيامة اجتمعت أَرْوَاحهم وَأَجْسَادهم فِي النَّار . لأن عذاب الروح والجسد أشدّه أَلَمًا وَأَعظَمه نكالاً . وهذه الآية أَصل كَبِير فِي استدلال أَهل السـّنة عَلَى عذاب البرزخ فِي القبور .
- والعرض في الآيات القرآنية الشريفة دنوّ من الشيء ، لا دخول فيه ، وهذا الدنوّ تعذيب للكافر قبل أن يُعذب ، وقد قيل : " التخويف من الضرب والعقاب والتلويح بهما أجدى -في التربية - من استعمالهما " . وقد خوّف الله الناس من عقابه في الدنيا ، فإذا جاء اليوم الآخر كان لا بد من العقاب جزاء وفاقاً لمن كفر . ومن هنا نفهم الآيات القرآنية التي وردت في عرض العذاب على الكافرين وتيئيسهم من النجاة بعد موتهم كافرين : فالمراد في قوله تعالى - والله أعلم - :
{ وَعُرِضُوا عَلَىٰ رَبِّكَ صَفًّا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا (48)} (الكهف) ،
أَنَّ جَمِيع الخلائق يقومون بين يدي اللَّه صفاً واحدًا كَمَا قَالَ جل ثناؤه :
{ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا ۖ لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـٰنُ وَقَالَ صَوَابًا (38)} (النبأ) ،
وَيَحْتَمِل أنهم يَقومونَ صفوفًا كَمَا قَالَ سبحانه :
{ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} (الفجر) ، وقوله عز وجل :
{ ... لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ... (48)} (الكهف) ،
هَذَا تقريع للمنكرين للمعاد وَتَوبِيخ لَهُم عَلَى رُءُوس الأشهاد . وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى مُخَاطِبًا إياهم لعدم إعتقادهم أَنَّ هذا وَاقِع بهم ولا أَنَّ هذا كَائن :
{ وَذَٰلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ (23)} (فصلت) .
وهل يستطيع أحد أن يكذب على الله أو يخفي عنه شيئاً وهو سبحانه يعلم السر وأخفى ، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ؟ لا ، لا، فالله تعالى هو العليم بكل شيء، الخبير بكل ما خلقه . اقرأ معي بتمعن قوله تعالى في سورة الحاقّة :
{ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ (18)} ،
فالخافية لا تخفى على الله ، أليس هو سبحانه الذي يقول في سورة الأنعام :
{ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (59)} ؟
سبحانه من إله عظيم لا تخفى عليه خافية ، ولا يضيع منه شيء .
- وانظر معي إلى الموقف الرهيب في ظهور النار لهم قبل أن يدخلوها ، وهم خائفون أن يُلقـَوا فيها – وسيُلقـَون فيها – فترتعد فرائصهم ويخافون النظر إليها ، وهم يعلمون أنهم وقودها – والعياذ بالله أن نكون من أهلها – وينظرون إليها بطرف أعينهم يستفظعون المصير الذي لا بد أن يصيروا إليه ، في سورة الشورى { وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ ... (45)} ، { فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّىٰ (14)} (الليل)، ترسل لهيبها نحوهم ، وتُسمعهم زفيرها ، وتتراءى لهم متشفـّية متوعّدة ، وهم لا يجرؤون على النظر إليها ، ويخافون أن يُلقوا فيها بين لحظة وأخرى .. لحظات عصيبة تقطع الأنفاس وتحرق المشاعر . واقرأ في سورة الكهف { وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100)} فجاء المصدر المؤكد يبرز جهنم رأي العين كما قال ابن كثير : لِيَرَوا مَا فِيهَا مِن العَذَاب وَالنَّكَال قَبل دخولها ليكون ذلك أبلغَ فِي تعجِيل الهَمّ وَالحَزَن لَهم . وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ :
يُؤْتَى بجَهَنَّمَ يَومَئذٍ لها سَبْعُونَ ألْفَ زِمامٍ، مع كُلِّ زِمامٍ سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَها ، ثُمَّ قَالَ مُخْبِرًا عَنْهُمْ : { الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنهمْ فِي غِطَاء عَنْ ذِكْرِي ...(101)} (الكهف) ، فتغافَلوا وَتعَامَوا وَتَصَامَمُوا عَنْ قَبُول الهدى واتباع الحق .
- وفي سورة الأحقاف الآيتان (20) و (34) تبدءان بداية واحدة بجملة واحدة : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ ... } وكانت الثانية نتيجة وتتويجاً للأولى ففي الأولى يقول تعالى موبخاً الكافرين الذين رضوا بالحياة الدنيا على الآخرة ، واستكبروا على الإيمان وأهله ففجروا وفسقوا : { ... أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ (20)} ، فما عذاب الهون يا رب ؟ وإلى أين مصير هؤلاء المستكبرين الذي فضلوا الدنيا على الآخرة ؟ يأتي التوبيخ أولاً فقد كفروا بالحق الذي جاءهم به الأنبياء والدعاة . ويقرون بخطئهم ، ويندمون ، ولات ساعة مندم . ويقرون بالحقيقة التي كانت تنفعهم في الدنيا لو أقرّوها ، أما حين يعاينون الأمر ويرونه رأي العين وهم بين يدي الله تعالى فلا فائدة ، لقد أضاعوا الفرصة الذهبية التي لا يمكن أن تُعوّض . ثم يأتي العذاب الأليم جزاء وفاقاً بقوله سبحانه : { ... أَلَيْسَ هَـٰذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَىٰ وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (34)} .
- أما قوله تعالى في سورة ( ص) : { إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31)} ، في معرض قصة سيدنا سليمان فقد أفسدت الروايات الإسرائيلية معناها الجهادي الرائع ، وأساءوا إلى سليمان كما أساءوا إلى أبيه داوود عليهما السلام – وهما عند اليهود ملِكان وليسا نبيين – فتفسير القصة كما يلي :
إنه مجاهد في سبيل الله تعالى يحب كل ما يعينه على القتال في سبيله وإعلاء رايته . ومن ذلك أنه يحب الخيول الأصيلة – سلاح الفرسان ، وهي القوة الضاربة في قتال العدو ، فأمر أن تعرض عليه الخيول ليستمتع بها ويطمئن إليها ، فعرضت أمامه وهو يتابعها شغوفاً بها حتى غابت عنه { حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32)} فلم يبرد شوقه لها ، فأمر أن يعيدوها إليه ، ثم نزل إلى ساحة العرض يتلمّس الخيول ويمسح أعناقها وسوقها ، ويتحبب إليها ، والمقصود بقوله تعالى : { فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي .. (32)} أن حبه للخيل صادر عن أمر الله تعالى . وهذا هو المعنى الحقيقي لهذه الآية .أما الرواية الإسرائيلية فتدليس واستخفاف بعقول الناس لأسباب عدة هي :
أ - إن التأويل عادة يتبع الكلام الذي بين أيدينا ، فما التي توارت بالحجاب ؟ إنها الخيول التي غابت عن ناظريه إذ مرت أمامه وهو يستعرضها حتى غابت عن عينيه ، لا الشمس التي تعسفتها التأويلات الإسرائيلية ، إذ قالوا : أنه انشغل بالخيول حتى غابت الشمس ففاتته صلاة العصر .
ب – إن سليمان عليه السلام شعر أنه لم يفِ الخيول حقها بالاستعراض السريع ، فأمر أن يردوها إليه ليلمسها بيديه ويكرمها بالتربيت على أعناقها وسوقها ، لأنه لو جاز أن يكون الضمير في { تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ } عائداً على الشمس لوجب أن يكون الضمير في { رُدُّوهَا عَلَيَّ ...(33)} عائداً على الشمس نفسها ، أما القفز هنا وهناك للوصول إلى الشمس فلا يليق بنص رزين ، ناهيك عن كتاب الله الكريم .
ج – وهل تتصور عاقلاً كان يَعُد ماله ، فانشغل به حتى ضيع صلاته ، فأحرق المال يعاقب بذلك نفسه؟! فإذا كان ما يفعله سفهاً وطيشاً فالنبي سليمان منزه عن قطع أعناق الخيول وسـُوقها لأنها – على زعم الإسرائيليات – شغلته عن الصلاة !! ما ذنب الخيول المسكينة لتذبح وتقتل ، والخطأ ليس خطأَها ؟!
- روت السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في بعض صلاته : اللهم حاسبني حسابا يسيرا ،
قلت : يا نبي الله ! ما الحساب اليسير ؟
قال : أن ينظر في كتابه ، فيتجاوز عنه ؛ إنه من نوقش الحساب يومئذ يا عائشة هلك .
اللهم ؛ إن تَعرض علينا أعمالنا فارفق بنا وتجاوز عن سيئاتنا ، وارحمنا يوم العرض عليك يا أرحم الراحمين ويا أكرم الكرماء .
رد: سلسلة كلمات في القرآن الكريم / الدكتور عثمان قدري مكانسي
الوفاة*
التفت إليّ أحد المصلين بعد انتهائنا من أداء صلاة الفجر – وكان رجلاً من عوام الناس – يقول متلهفاً : فاجأني جاري النصراني أمس بسؤال لا أعرف جوابه ، حين قال : كيف تقولون – معشر المسلمين – إن عيسى حيّ في السماء عند ربه ، والقرآن يعلن أنه ميت ؟ وقرأ علي قوله تعالى في سورة آل عمران :
{ إِذْ قَالَ اللَّـهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)} ، وما دمنا أتباعه – كما يقول النصراني - فنحن ظاهرون فوقكم إلى يوم القيامة ، وأنتم الكافرون . إن الآية في قرآنكم تقول هذا .
ونظر صاحبي إليّ متحسراً متألماً قائلاً : لم أستطع الرد ، فأنا لا أعرف إلا أساسيات الدين ، وإيماني بالله راسخ ، لكنني أجهل كثيراً من الأحكام والمعاني الإسلامية .
قلت يا أخي ؛ أحسنت صنعاً حين سألتني فلم تترك للشيطان مسرباً يصل منه إليك ،
فأولا : لا يكون الرسوخ في الشيء إلا بالعلم به علماً تاماً يمنع الشك أن يأتيه . ويطرد الشيطان وأعوانه أن ينفذ إليك بأسئلة ومعانٍ تثير الشكوك والشبهات ،
وثانياً : فنحن أتباع عيسى الحقيقيون ، فهو عليه السلام يعلن بملء فيه أنه عبد لله ، وبشر رسول وكما قال سبحانه :
وهم يؤلهونه ويفترون عليه وعلى أمه حين يجعلونه إلهاً وابن إله ، ويجعلون أمه مريم زوجة الإله – سبحان الله أن يكون له وزجة أو ولد ـ قال عز وجل : { وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3)} (الجن) ،
وثالثاً : فعودتنا إلى ديننا والتزامنا به يجعلنا سادة البشر ، وما استعلاء النصارى وغيرهم إلا ببعدنا عن هدي الإسلام وشرعته .
ورابعاً : فالوفاة لا تعني الموت إلا بقرينة تؤكده .
المعنى اللغوي لكلمة توفـّاه الله :
استوفى مدته التي كتبها له ، عدد أيامه وشهوره وأعوامه في الدنيا . وفي القرآن آيات تدل على أن الوفاة غيرُ الموت إلا بقرينة – كما ذكرنا قبل قليل – وسنأتي ببراهين كثيرة وأدلة توضح المعنى وتوثـّقه .
ـ ففي قوله جل ثناؤه في سورة الأنعام : { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (60)} فالنوم كل ليلة غيبة مؤقتة تستريح الروح فيها لتعاود النفس نشاطها في النهار ، يقبض فيها الروح ثم يبعثها إلى اكتمال الأجل . إن الوفاة هنا - إذاً- غيبة للروح مؤقتة تعود حين يستيقظ المرء .
ـ وفي قوله تقدست أسماؤه في سورة الزمر :
{ اللَّـهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)} ففي الحالتين – الموت والنوم - قبض للروح ووفاة ( استيفاء ) وللموت أجل معدود . يقول ابن منظور في معجمه لسان العرب : " وأما توفي النائم فهو استيفاء وقت عقله وتمييزه إلى أنْ نام .
وعلى هذا نفهم الآية التي لوى النصراني معناها ، وفسرها كما يريد ، نفهمها بلغة العرب التي نزل القرآن بها أنه قبْضٌ دون موت . ولا بد من ملاحظة قوله تعالى : { وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } فقد أنقذه الله تعالى حين رفعه إلى السماء إذ دخل اليهود عليه يريدون قتله ، فنجّاه الله منهم . إن عيسى عليه الصلاة والسلام لم يمت وهو في السماء ، دليل ذلك أسماءُ الفاعلين : ( رَافِعُكَ ، مُطَهِّرُكَ ، جَاعِلُ ) المضافة إلى الضمير الكاف للدلالة على الاستمرارية حين ينزل إلى الأرض ويقاتل المشركين ويكسر الصليب ويقتل الخنزير كما في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه أبو هريرة :
ليهبطن الله عيسى بن مريم حكما عدلا وإماما مقسطا ، يكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، ويفيض المال ، حتى لا يجد من يأخذه ، وليسلكن الروحاء حاجا أو معتمرا ، أو ليثنـّيـَنّ بهما جميعا " ويحكم بالإسلام ويحج بيت الله الحرام ويعتمر.
وتكون الوفاة موتاً بقرائن دالة عليه ، في القرآن الكريم أمثلة كثيرة نذكر بعضها :
1 - قوله سبحانه في سورة النساء : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّـهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ... (97)} ؟... والقرينة هنا حديث الملائكة مع الكفار الذين ظلموا أنفسهم وماتوا وهم كافرون ، فلا تكلم الملائكة البشر ولا سيما الكفار إلا بعد الموت ....
2 - قوله عز وجلّ في سورة الأنعام : { ... حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61)} فالقرينة هنا الموت نفسه ، والملائكة التي تقبض الأرواح .
3 - قوله جل ثناؤه في سورة يوسف : { ... تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)}
فالقرينة في هذه الآية الرغبة في الموت على الإسلام وأن يلحق يوسف عليه السلام يالأنبياء قبله على ملتهم ودينهم .
4 - قوله تقدست أسماؤه في سورة الحج : { ... وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ... (5)} فالدليل على أن الوفاة هنا موت أن البعض تطول أعمارهم حتى يصيبهم الخرف .
نسأل الله أن يكتبنا في عباده الطيبين الذين يكرمهم في الفردوس وجنات النعيم .
6 - وقوله سبحانه في سورة البقرة في عدة الأرامل ، ولا تكون المرأة إرملة إلا حين يموت زوجها وتجب عليها العدة : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ... (234)} .
وتُذكر كلمة الموت حين لا تكون قرينة دالة عليه ، والدليل على ذلك :
1 - قوله عز وجلّ في سورة سبأ حول حادثة موت سيدنا سليمان عليه السلام : { فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ ... (14)} ولم يقل : فلما قضينا عليه الوفاة .. ما دلهم على وفاته ،
2 - وقوله جل ثناؤه في سورة الزمر : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ (30)} حين أخبرنا أنه لا بد من الموت ، وأن كل نفس ستذوقه , ولم يقل إنك متوفّى وإنهم متوفـَّون .
3 - في أواخر سورة المائدة تصوير لحوار جرى بين صاحب العزة سبحانه وبين عيسى عليه السلام يسمعه الخلائق كلها تثبيتاً لوحدانية الله وتبرئة لعيسى عليه السلام من دعوى الألوهية له ولأمه ، قال تقدست أسماؤه : { وَإِذْ قَالَ اللَّـهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّـهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّـهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)} . وذكرت كلمة { تَوَفَّيْتَنِي } لأن الحديث عن الزمن الذي كان فيه عيسى في السماء قبل أن ينزل على الأرض ، وبمعنى آخر لم يكن قد مات بل كان حياً في السماء ، وما يموت إلا بعد نزوله إلى الرض ، ومحاربته الدجال ، وقتله في باب لد ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( ... أنه إذا خرج مسيح الضلالة الأعور الكذاب نزل عيسى بن مريم على المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين ، واضعا يديه على منكبي ملكين ، فإذا رآه الدجال انماع كما ينماع الملح في الماء ، فيدركه فيقتله بالحربة عند باب لد الشرقي على بضع عشرة خطوات منه ) من موقع الدرر السنية ( الحديث صحيح )
والأمثلة كثيرة يمكن الرجوع إليها والاستيثاق منها ... والله أعلم .