رد: سلسلة كلمات في القرآن الكريم / الدكتور عثمان قدري مكانسي
{ الْبَلَاء }
قال تعالى في سورة الصافات : { إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106)} .
قال ابن منظور في لسان العرب : بلوت الرجل بَلْواً وبلاء ، وابتليته : اختبرته . وكذلك قال الفيروزآبادي في قاموسه المحيط .
نجد هذا المعنى في قوله تعالى في سورة القلم :
{ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17)} ،
فاختبرهم الله تعالى بعد موت أبيهم الصالح . ونراه في قوله سبحانه في سورة محمد (صلى الله عليه وسلم) :
{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)} .
وقد تأتي هذه الكلمة في القرآن الكريم تتضمن معاني أخرى بالإضافة إلى المعنى الأصيل فيها (الاختبار) فيها تفصيل وتنويع وتوضيح . من ذلك :
- أن الابتلاء يكون بالخير والشر كما في قوله عز وجلّ في سورة الأنبياء :
{ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)}
قال ابن كثير في تفسيره : نختبركم بِالْمَصَائِبِ تَارَة وَبِالنِّعَمِ أُخْرَى فَنَنْظُر مَنْ يَشْكُر وَمَنْ يَكْفُر وَمَنْ يَصْبِر وَمَنْ يقنط كَمَا قَالَ اِبْن عَبَّاس : نبلوكم بِالشِّدَّةِ وَالرَّخَاء وَالصِّحَّة وَالسَّقَم وَالْغِنَى والفقر والحلال وَالْحَرَام وَالطَّاعَة وَالْمَعْصِيَة وَالْهُدَى والضلال فإذا رجعتم إلينا – يوم القيامة - جازيناكم بأعمالكم .
وكذلك في قوله جل ثناؤه في سورة الأعراف :
{ وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَٰلِكَ وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)}
والرجوع هنا التوبةُ والإقلاعُ عن الذنب والاستغفار .
- ومن فضل الله تعالى علينا أنه حين يختبرنا يحملنا ما نطيقه . يدل على ذلك قوله في سورة البقرة :
{ وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)}
والابتلاء القليل ينبه برفق ولا يصيب صاحبه بالفزع ، فإن كان الابتلاء شديداً كما في قوله سبحانه في سورة النحل :
{ وَضَرَبَ اللَّـهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّـهِ فَأَذَاقَهَا اللَّـهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)}
فإنه يفزع القلب ويضيّع العقل وهو علامة الهلاك والدمار .وليس للإنسان طاقة بذلك ، أذاق الله الكفار من أهل مكة لباس الجوع حين كفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم واِسْتَعْصَوْا عليه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَوْا إلا خلافه فَدَعَا عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُف ، فَأَصَابَتْهُمْ سَنَة أَذْهَبَتْ كُلّ شَيْء لَهُمْ ، فَأَكَلُوا وَبَر الْبَعِير يُخْلَط بِدَمِهِ إِذَا نَحَرُوهُ وخافوا لأنهم بُدِّلُوا بِأَمْنِهِمْ خَوْفًا مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه حِين قاتلهم ونصره الله عليهم .
- ويكون الابتلاء بمعنى العلم والمعرفة كما في قوله عز وجلّ في سورة الطارق :
{ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9)} ،
تُبلى يَوْم الْقِيَامَة فيظْهَر ما كان الإنسان يخفيه من سر ويبقى السِّرّ علانية والمكنون مشهوراً ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ اِبْن عُمَر أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
يُرْفَع لكل غَادِر لِوَاء عند اِسْته يُقَال : هذه غَدْرَة فلان ابن فلان .
ومثلها قوله تقدست أسماؤه في سورة يونس :
{ هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ ۚ وَرُدُّوا إِلَى اللَّـهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ ۖ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)}
فتعلم ما سلف من عملها ، ألا يقول جل ثناؤه في سورة القيامة :
{ يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13)} ، فالصحف تنشر كما بقوله تعالى في سورة التكوير :
{ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10)} ، كما يقول سبحانه في سورة الإسراء :
{ وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)} ...
وفي قوله عز وجلّ في سورة آل عمران :
{ ... وَلِيَبْتَلِيَ اللَّـهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّـهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)}
إظهار المخبوء إلى العلن وكشفه للجميع في ذلك اليوم العصيب .
نسأل الله العافية وحسن الختام .
- وقد يكون في الابتلاء- وقد : هذه للتحقيق- إظهار فضل الله تعالى على المسلمين ، يقول عز من قائل في سورة الأنفال :
{ ... فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ رَمَىٰ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّـهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)} ، وقد قال تقدست أسماؤه في سورة آل عمران :
{ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّـهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّـهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)}،
فكان نصره إياهم فضلاً عميماً ، فالله هو الْمَحْمُود عَلَى جَمِيع مَا صَدَرَ مِنْهُمْ مِنْ خَيْر في معركة بدر
ولم يكن ذلك النصر بحول المسلمين وقوتهم ، فقد كانوا قليلين ضعافاً ، وَإِنَّمَا النَّصْر مِنْ عِنْده تَعَالَى ،
روى ابن عباس أن رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رفع يَدَيْهِ يَوْم بَدْر فَقَالَ : يَا رَبّ إن تهلك هَذِهِ الْعِصَابَة فَلَنْ تُعْبَد فِي الأرض أَبَدًا فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل خُذْ قَبْضَة مِنْ التُّرَاب فَارْمِ بِهَا فِي وُجُوههمْ فَأَخَذَ قَبْضَة مِنْ التُّرَاب فَرَمَى بِهَا فِي وُجُوههمْ فَمَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ أَحَد إلا أَصَابَ عَيْنَيْهِ وَمَنْخِرَيْهِ وَفَمَه تُرَابٌ مِنْ تِلْكَ الْقَبْضَة فَوَلَّوْا مدبرين ، ثُمَّ رَدَفَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ يقتلونهم ويأسرونهم ، فعرّف الله تعالى الْمُؤْمِنِينَ نِعْمَته عَلَيْهِمْ مِنْ إِظْهَارهمْ عَلَى عَدُوّهُمْ مَعَ كَثرَة عَدُوّهُمْ وَقِلَّة عَدَدهمْ لِيَعْرِفُوا بِذَلِكَ حَقَّهُ وَيَشْكُرُوا بِذَلِكَ نِعْمَته
- ويأتي مع البلاء إسعاد المسلمين ورفع درجاتهم ، فيكون فيه الخير الكثير مما يحفزهم إلى الاجتهاد في البلاء والصبر والتحمل ، يقول الله تعالى في سورة محمد (صلى الله عليه وسلم) :
{ ... وَلَوْ يَشَاءُ اللَّـهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ ...(4)} ،
ففي قتال العدو محامد كثيرة منها الشعور بالعزة والنصر وشفاء قلوب المؤمنين وراحة النفس، قال سبحانه :
{ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّـهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ (14)} ،
وهذه سعادة ما بعدها سعادة نرجو الله أن يحققها فينا فنرى في عدونا ما تقر به العيون . هذا في الدنيا أما الشهيد فله في الآخرة ست خصال : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
إن للشهيد عند الله ست خصال : أن يغفر له في أول دفقة من دمه، ويُرى مقعده من الجنة ، ويُحَلّى حلة الإيمان ، ويُزَوّج من الحور العِين ، وَيُجَار مِنْ عَذَاب القبر ، وَيَأْمَن مِن الْفَزَع الأكبر، وَيُوضَع عَلَى رَأْسه تَاج الْوَقَار مرصع بالدر والياقوت ، الياقوتة خير من الدنيا وما فيها ، ويزوج اثنتين وسبعين زَوْجَة مِن الحُور الْعِين ، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه .
أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ وَصَحَّحَهُ وَابْن مَاجَهْ .
,,,,,,,,,,,,,,,,,,
{ سَلَكَ } ومشتقاتها
يقول ابن منظور – رحمه الله - في معجمه لسان العرب : سلكت الشيء في الشيء ، فانسلك أي أدخلته فيه فدخل ، وسلَكتُه وأسلكته بمعنى واحد – يقصد أنهما متعديان لمفعول – ويقول قاصداً السرعة والدقة في إيجاد المدخل : السّلْك : إدخال شيء تسلكه فيه كما تطعن الطاعن فتسلك الرمح فيه إذا طعنتَه تلقاء وجهه على سجيحته ( سجيته السهلة ) . ولا يكون الطعن إلا سريعاً ينفذ إلى الداخل بقوة ودقة . وعلى هذا فرجل مُسـَلّك : نحيف . والنحافة تسهل عملية السلْك .
وجاء الفعل { سَلَكَ } بمشتقاته إحدى عشرة مرة تحمل هذه المعاني المتشابهة :
- ففي قوله تعالى في سورة المدثـّر : { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَر (42)} ، تسأل الملائكة المشركين سبب دخولهم النار ، : وَقِيلَ : إِنَّ المؤمنين يَسْأَلُونَ الملائكة عَن أَقْرِبَائِهِم , فَتَسْأَل الملائكةُ الْمُشْرِكِينَ فيقولون لهم : { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَر } فأدخلكم فيها ؟ وهذا المعنى واضح في الآيات السابقة لهذه الآية حيث يسأل المؤمنون – وهم في الجنة يتنعمون – الكفارَ في النار :
{ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42)} ،فيجيبونهم بأمرين اثنين كانوا يجتنبونهما :
{ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44)} ففي أولهما استنكفوا عن عبادة الله تعالى ، وفي ثانيهما لم يكونوا يحسنون إلى عباده . ويجيبونهم بأمرين اثنين آخرين كانوا يخوضون فيهما : { وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46)} . أما خوضهم فكان في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ اتهموه بالسحر والكهانة والكذب والشعر .وكانوا تبعاً لعتاة المكذبين الضالين . أما المصيبة الأخيرة قاصمة الظهر فكانت في كفرهم بالله وإنكارهم اليوم الآخر .
وأما قوله سبحانه في سورة الشعراء :
{ كَذَٰلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201)} ،
فقد أدخل الله عز وجلّ الشرك في قلوبهم لأنهم طلبوه كما في قوله عز وجلّ في سورة مريم :
{ قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَـٰنُ مَدًّا ... (75)} [مريم] وقوله جل ثناؤه في سورة الإسراء :
{ مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا (18)} ،
فهم – المشركين – لا يؤمنون حتى يقعوا في الواقعة التي لا خلاص منها . ونجد المعنى نفسه في قوله تقدست أسماؤه في سورة الحجر :
{ كَذَٰلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ ۖ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)} ،
فيكذبون بالقرآن العظيم والرسول الكريم ، فيعاقبهم الله تعالى بإدخال الكفر في قلوبهم ليكونوا من أهل النار ، والعياذ بالله أن نكون من أهلها .
ونجد في سورة الجن المعنى نفسه إذ يقول الله تعالى :
{ ... وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)} ،
والعذاب الصعد : المشقة التي لا راحة فيها . بل تزداد وتيرته وتتصاعد .
قال القرطبي " يُكَلَّف الْوَلِيد بْن الْمُغِيرَة أَنْ يَصْعَد جبلاً فِي النَّار مِنْ صَخْرَة مَلْسَاء , يُجذب مَن أَمَامه بسلاسل , وَيضرِب مَنْ خَلفه بِمَقَامِع حَتَّى يبلُغ أعلاها , ولا يبلغ فِي أَربعِينَ سَنَة . فَإِذَا بَلَغَ أعلاها أُحدِرَ إِلَى أَسْفَلهَا , ثم يُكَلَّف أَيْضًا صُعُودهَا , فَذَلِكَ دَأْبه أَبَدًا , وَهُوَ قَوْله عز من قائل : { سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)} [الْمُدَّثِّر].
أما قوله سبحانه في سورة الحاقة يصف عذاب المشركين الكافرين :
{ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32)} .
فمخيف ٌوالله ومخـْزٍ إذ تـُدخَل السلسلة مِنْ فِيهِ وَتـُخرَج مِنْ دُبُره , فَيُنَادِي أَصْحَابه هَلْ تعرفونني ؟ فيقولون : لا , وَلَكِنْ قد نرى مَا بِك مِنْ الخِزْي فَمَنْ أَنْتَ ؟ فَيُنَادِي أَصْحَابَهُ أَنَا فلان بن فلان , لِكُلِّ إِنْسَان منكم مثل هَذا . ولعل هذا التفسير أَصَحّ مَا قِيلَ فِي هَذِهِ الآية , يَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله عز وجلّ :
{ يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ... (71)} [الإسراء] .
وأود أن أؤكد أن " السلك " في هذه الايات إدخال الشيء في شيء بعد إيجاد مسلك له لم يكن موجوداً من قبل وبهذا يكون الألم الشديد نسأل الله العافية .
- ونرى في قوله عز وجلّ في سورة طه :
{ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا ... (53)} ،
فجعل الله تعالى الأرض قراراً تَسْتَقِرُّونَ عَلَيْهَا وَتَقُومُونَ وَتَنَامُونَ عَلَيْهَا وتسافرون على ظهرها وَسَلَكَ لكم فِيهَا سُبُلا أَيْ و طُرُقًا تَمْشُونَ فِي مَنَاكِبهَا كَمَا قَالَ تقدست أسماؤه :
{ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)} [الأنبياء] ،
ونلحظ " بالسلك " التنظيم والترتيب ودقة الصنع . يقول القرطبي " هي الطُرُق . نَظِيره قوله جلّ وعلا :
{ وَاَللَّه جَعَلَ لَكُمْ الأرض بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلا فِجَاجًا (20)} [نوح]
، والفج : المسلك بين جبلين .
- وقوله تعالى في سورة القصص :
{ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ... (32)} ،
نرى السهولة واليسر في الإدخال والإخراج ، قال القرطبي " إِذَا أَدخَلْت يَدك فِي جَيب دِرْعك ، ثمَّ أَخرَجتهَا فإنها تخرج تتلألأ كأنها قطعة قمر فِي لَمَعَان البرق مِن غير بَرَص " وقال الحسن البصري " لما خرجت يده كأنها المصباح أيقن مُوسَى أَنـّه لَقِيَ رَبّه. "
- كما نجد رحمة الله في الاحتفاظ بالماء العذب النازل من السماء في تجاويف الأرض . يقول الله سبحانه :
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّـهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ .. (21)} [الزمر] ، فالماء من السماء ابتداءً كما في قوله عز وجلّ :
{ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا ... (9)} [ق] ،
فَإِذَا أَنْزَلَ الْمَاء مِنْ السَّمَاء كَمَنَ فِي الأرض ثمَّ يَصْرِفهُ تَعَالَى فِي أجزائها كَمَا يَشَاء ، وَيُنْبِعهُ عُيُونًا مَا بَيْن صِغَار وَكِبَار بِحَسَبِ الْحَاجَة إِلَيْهَا . فهذا الإدخال سهل ميسر يُحفظ بأمر الله في الخزانات الأرضية التي جُهزت للاحتفاظ بالماء في بحار عذبة في تجاويف الأرض .
- أَذِنَ الله تعالى للنحل بقوله : { ... فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا ... (69)} [النحل] إِذْنًا قَدَريًّا تَسْخِيريًا أَنْ تأكل من كل الثمَرَات وَأَنْ تسلك الطُّرُق الَّتِي جَعَلَهَا اللَّه تَعَالَى مُذَلَّلَة لَهَا ومُسَهَّلَة عليها حيث شاءت مِنْ هَذَا الْجَوّ الْعَظِيم وَالْبَرَارِيّ الشاسعة وَالأودية وَالْجبال الشاهقة ثمَّ تَعُود كُلّ وَاحِدَة مِنْهَا إِلَى بَيْتهَا لا تَحيد عنه يَمْنَة ولا يَسرة بَل إِلَى بَيْتهَا وَمَا لَهَا فِيهِ مِنْ صغار وَعَسَل فَتَبْنِي الشَّمْع وتصنع الْعَسَل مِنْ فِيهَا وَتَبِيض الْفِرَاخ ، ثُمَّ تُصبِح إِلَى مَرَاعِيهَا . وَقَالَ قَتَادَة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا } أَيْ مُطِيعَة فجعلاه حالاً مِن السَّالكة.
ونحن ندعو الله تعالى أن يَسلكنا في عباده الصالحين ، دون حساب ولا عقاب ، وأن يسلكنا الجنة فيجعلها مأوانا ، إنه على مايشاء قدير ، وبالإجابة جدير.
رد: سلسلة كلمات في القرآن الكريم / الدكتور عثمان قدري مكانسي
{ سَلَكَ } ومشتقاتها
يقول ابن منظور – رحمه الله - في معجمه لسان العرب : سلكت الشيء في الشيء ، فانسلك أي أدخلته فيه فدخل ، وسلَكتُه وأسلكته بمعنى واحد – يقصد أنهما متعديان لمفعول – ويقول قاصداً السرعة والدقة في إيجاد المدخل : السّلْك : إدخال شيء تسلكه فيه كما تطعن الطاعن فتسلك الرمح فيه إذا طعنتَه تلقاء وجهه على سجيحته ( سجيته السهلة ) . ولا يكون الطعن إلا سريعاً ينفذ إلى الداخل بقوة ودقة . وعلى هذا فرجل مُسـَلّك : نحيف . والنحافة تسهل عملية السلْك .
وجاء الفعل { سَلَكَ } بمشتقاته إحدى عشرة مرة تحمل هذه المعاني المتشابهة :
- ففي قوله تعالى في سورة المدثـّر : { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَر (42)} ، تسأل الملائكة المشركين سبب دخولهم النار ، : وَقِيلَ : إِنَّ المؤمنين يَسْأَلُونَ الملائكة عَن أَقْرِبَائِهِم , فَتَسْأَل الملائكةُ الْمُشْرِكِينَ فيقولون لهم : { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَر } فأدخلكم فيها ؟ وهذا المعنى واضح في الآيات السابقة لهذه الآية حيث يسأل المؤمنون – وهم في الجنة يتنعمون – الكفارَ في النار : { إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42)} ،فيجيبونهم بأمرين اثنين كانوا يجتنبونهما : { قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44)} ففي أولهما استنكفوا عن عبادة الله تعالى ، وفي ثانيهما لم يكونوا يحسنون إلى عباده . ويجيبونهم بأمرين اثنين آخرين كانوا يخوضون فيهما : { وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46)} . أما خوضهم فكان في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ اتهموه بالسحر والكهانة والكذب والشعر .وكانوا تبعاً لعتاة المكذبين الضالين . أما المصيبة الأخيرة قاصمة الظهر فكانت في كفرهم بالله وإنكارهم اليوم الآخر .
وأما قوله سبحانه في سورة الشعراء : { كَذَٰلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201)} ، فقد أدخل الله عز وجلّ الشرك في قلوبهم لأنهم طلبوه كما في قوله عز وجلّ في سورة مريم : { قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَـٰنُ مَدًّا ... (75)} [مريم] وقوله جل ثناؤه في سورة الإسراء : { مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا (18)} ، فهم – المشركين – لا يؤمنون حتى يقعوا في الواقعة التي لا خلاص منها . ونجد المعنى نفسه في قوله تقدست أسماؤه في سورة الحجر : { كَذَٰلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ ۖ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)} ، فيكذبون بالقرآن العظيم والرسول الكريم ، فيعاقبهم الله تعالى بإدخال الكفر في قلوبهم ليكونوا من أهل النار ، والعياذ بالله أن نكون من أهلها .
ونجد في سورة الجن المعنى نفسه إذ يقول الله تعالى : { ... وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)} ، والعذاب الصعد : المشقة التي لا راحة فيها . بل تزداد وتيرته وتتصاعد . قال القرطبي " يُكَلَّف الْوَلِيد بْن الْمُغِيرَة أَنْ يَصْعَد جبلاً فِي النَّار مِنْ صَخْرَة مَلْسَاء , يُجذب مَن أَمَامه بسلاسل , وَيضرِب مَنْ خَلفه بِمَقَامِع حَتَّى يبلُغ أعلاها , ولا يبلغ فِي أَربعِينَ سَنَة . فَإِذَا بَلَغَ أعلاها أُحدِرَ إِلَى أَسْفَلهَا , ثم يُكَلَّف أَيْضًا صُعُودهَا , فَذَلِكَ دَأْبه أَبَدًا , وَهُوَ قَوْله عز من قائل : { سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)} [الْمُدَّثِّر].
أما قوله سبحانه في سورة الحاقة يصف عذاب المشركين الكافرين : { ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32)} . فمخيف ٌوالله ومخـْزٍ إذ تـُدخَل السلسلة مِنْ فِيهِ وَتـُخرَج مِنْ دُبُره , فَيُنَادِي أَصْحَابه هَلْ تعرفونني ؟ فيقولون : لا , وَلَكِنْ قد نرى مَا بِك مِنْ الخِزْي فَمَنْ أَنْتَ ؟ فَيُنَادِي أَصْحَابَهُ أَنَا فلان بن فلان , لِكُلِّ إِنْسَان منكم مثل هَذا . ولعل هذا التفسير أَصَحّ مَا قِيلَ فِي هَذِهِ الآية , يَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله عز وجلّ : { يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ... (71)} [الإسراء] .
وأود أن أؤكد أن " السلك " في هذه الايات إدخال الشيء في شيء بعد إيجاد مسلك له لم يكن موجوداً من قبل وبهذا يكون الألم الشديد نسأل الله العافية .
- ونرى في قوله عز وجلّ في سورة طه : { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا ... (53)} ، فجعل الله تعالى الأرض قراراً تَسْتَقِرُّونَ عَلَيْهَا وَتَقُومُونَ وَتَنَامُونَ عَلَيْهَا وتسافرون على ظهرها وَسَلَكَ لكم فِيهَا سُبُلا أَيْ و طُرُقًا تَمْشُونَ فِي مَنَاكِبهَا كَمَا قَالَ تقدست أسماؤه : { وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)} [الأنبياء] ، ونلحظ " بالسلك " التنظيم والترتيب ودقة الصنع . يقول القرطبي " هي الطُرُق . نَظِيره قوله جلّ وعلا : { وَاَللَّه جَعَلَ لَكُمْ الأرض بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلا فِجَاجًا (20)} [نوح] ، والفج : المسلك بين جبلين .
- وقوله تعالى في سورة القصص : { اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ... (32)} ، نرى السهولة واليسر في الإدخال والإخراج ، قال القرطبي " إِذَا أَدخَلْت يَدك فِي جَيب دِرْعك ، ثمَّ أَخرَجتهَا فإنها تخرج تتلألأ كأنها قطعة قمر فِي لَمَعَان البرق مِن غير بَرَص " وقال الحسن البصري " لما خرجت يده كأنها المصباح أيقن مُوسَى أَنـّه لَقِيَ رَبّه. "
- كما نجد رحمة الله في الاحتفاظ بالماء العذب النازل من السماء في تجاويف الأرض . يقول الله سبحانه : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّـهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ .. (21)} [الزمر] ، فالماء من السماء ابتداءً كما في قوله عز وجلّ : { وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا ... (9)} [ق] ، فَإِذَا أَنْزَلَ الْمَاء مِنْ السَّمَاء كَمَنَ فِي الأرض ثمَّ يَصْرِفهُ تَعَالَى فِي أجزائها كَمَا يَشَاء ، وَيُنْبِعهُ عُيُونًا مَا بَيْن صِغَار وَكِبَار بِحَسَبِ الْحَاجَة إِلَيْهَا . فهذا الإدخال سهل ميسر يُحفظ بأمر الله في الخزانات الأرضية التي جُهزت للاحتفاظ بالماء في بحار عذبة في تجاويف الأرض .
- أَذِنَ الله تعالى للنحل بقوله : { ... فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا ... (69)} [النحل] إِذْنًا قَدَريًّا تَسْخِيريًا أَنْ تأكل من كل الثمَرَات وَأَنْ تسلك الطُّرُق الَّتِي جَعَلَهَا اللَّه تَعَالَى مُذَلَّلَة لَهَا ومُسَهَّلَة عليها حيث شاءت مِنْ هَذَا الْجَوّ الْعَظِيم وَالْبَرَارِيّ الشاسعة وَالأودية وَالْجبال الشاهقة ثمَّ تَعُود كُلّ وَاحِدَة مِنْهَا إِلَى بَيْتهَا لا تَحيد عنه يَمْنَة ولا يَسرة بَل إِلَى بَيْتهَا وَمَا لَهَا فِيهِ مِنْ صغار وَعَسَل فَتَبْنِي الشَّمْع وتصنع الْعَسَل مِنْ فِيهَا وَتَبِيض الْفِرَاخ ، ثُمَّ تُصبِح إِلَى مَرَاعِيهَا . وَقَالَ قَتَادَة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا } أَيْ مُطِيعَة فجعلاه حالاً مِن السَّالكة.
ونحن ندعو الله تعالى أن يَسلكنا في عباده الصالحين ، دون حساب ولا عقاب ، وأن يسلكنا الجنة فيجعلها مأوانا ، إنه على مايشاء قدير ، وبالإجابة جدير.
رد: سلسلة كلمات في القرآن الكريم / الدكتور عثمان قدري مكانسي
{ الْعَدْل }
في أَسماء الله سبحانه: العدل هو الذي لا يَمِيلُ به الهوى فيَجورَ في الحكم، وهو في الأَصل مصدر سُمِّي به ، فوُضِعَ مَوْضِعَ العادِلِ، وهو أَبلغ منه لأَنه جُعِلَ المُسَمَّى نفسُه عَدْلاً. قال ابن منظور في معجمه لسان العرب : العدل ما قام في النفوس أَنه مُسْتقيم، وهو ضِدُّ الجَوْر. عَدَل الحاكِمُ في الحكم يَعْدِلُ عَدْلاً وفي صحاح اللغة : العدل :خلاف الجَوَر. يقال: عَدَلَ عليه في القضيّة فهو عادِلٌ . وفي مقاييس اللغة : العدلُ : العين والدال واللام أصلان صحيحان، لكنَّهما متقابلان كالمتضادَّين: أحدُهما يدلُّ على استواء، والآخر يدلُّ على اعوجاج . ونجد في القرآن الكريم كلمة { الْعَدْل } بمشتقاتها وردت ثماني وعشرين مرة أدّتْ فيها معاني عدّة . وهذا دأب العربية المطواعة التي مدحها الله تعالى في قرآنه المجيد : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)} (يوسف) ، وقال سبحانه : { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ (195)} (الشعراء) . ومن جمال لغتنا العربية أن كثيراً من كلماتها تحمل التضاد في المعنى إنْ وحدها كقولك : الجون ، السليم ، الزعيم .. أو بحروف جر توضح المعنى كقولك : ذهب إليه ، فأتاه ، وذهب عنه فقلاه . وتقول : رجعت إليه ورجعت عنه . وتقول دخلت فيه ودخلت منه ، فتولدت معان متعددة تساعد على إثراء الأفكار والمعاني، والسياحة فيها بسهولة ، والتعبير عنها بسلاسة . وقد ورد { الْعَدْل } في الآيات الكريمة يحمل دلالات متعددة – كما ذكرنا – منها :
1 - الاستقامة والمساواة : كقوله تعالى في سورة الشورى : { ... وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ... (15)} ، فالله أمر نبيه الكريم أن يحكم بالعدل والمساواة بين الناس أحَبهم أم كرههم ، فقد قامت الدنيا على العدل والحياة الطيبة على المساواة ، أما الظلم والجور فموت وقهر . ولو قرأنا الكلمات المضيئة قبل قوله { وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ } وبعدها ، وهي قوله تعالى : { فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ } { وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ } { ولا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ } { وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ } { وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ } { اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ } { لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } { لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ } { اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } ، لوجدنا الإسلام يدعو أتباعه للحياة في جو رائع من القيم التي تجعل الحياة هانئة سعيدة ، فالدعوة إلى الله أول الطريق والغاية من هذه الحياة ، وعلى الداعية أن يكون الأسوة والقدوة فيستقيم في تصرفاته على هدي ونور من الله ، ويبتعد عن الأهواء { ... وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّـهِ ... (50)} (القصص) ؟ ، والمسلم يؤمن بكل الأنبياء صلوات الله عليهم وكتبهم { ... لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ... (285)} (البقرة) ، وبذلك كانت له الإمامة للناس أجمعين ، فكان أهلاً لقيادتهم والحكم بينهم بالعدل يدعو الناس إلى عبادة الله الواحد ، فهو رب الخلق جميعاً ، وكل إنسان محاسب بما يعمل وسيلقى الله تعالى يوم القيامة فيقرره بكل شيء ، ثم يلقى جزاءه . وعلى هذا أكد مولانا سبحانه العدلَ في الحكم في سورة النساء: { ... وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ... (58)} ، ويدخل في معنى الناس المسلمُ وغيره ، فالعدل أساس الملك وهو ما دعا إليه الولى سبحانه ، فلا يُحابى مسلمٌ ولا قريبٌ ولا صديق ، فالحق أحق أن يُتّبع ، وهذا نفهمه من قوله عز وجلّ في سورة المائدة : { ... اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ... (8)} ، وميزان الحكم بل الحياة كلها { التَّقْوَىٰ } وقوله تقدست أسماؤه قبلها في نفس الآية الكريمة : { ... وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ... } والمسلم وحده الذي يسعى لإحقاق الحق وإبطال الباطل ، ولو خالف هواه فحكم لمن يكرههم ويبغضهم ويعاديهم إن إرضاء الله تعالى وإقامة الحق هو الهدف المنشود . وتاريخ المسلمين في حربهم وسلمهم يشهد لهم بذلك .
2 - الفدية والمثيل : يوم القيامة المنعطفُ الخطير الذي نسأل الله تعالى أن ينجينا فيه من غضبه والنار ، هنالك تلهج ألسنة الناس كلهم مؤمنهم وكافرهم بالدعاء ، فالخوف من العذاب والوقوع في جهنم ديدن المخلوقات كلها – نسأل الله العفو والعافية – أما الكفار والمنافقون فلا خلاص لهم مما يحذرون ، ولا مناص من الخلود في النار وهناك ، قال سبحانه في سورة المعارج : { يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَىٰ (15)... } ، ولن تقبل من الكافر فدية – وهو في ذلك الوقت لا يملك شيئاً فقد ترك كل ما كان يملكه في الدنيا واقتسمه الورثة ، وقد صور الله تعالى هلع الكفار من النار والرغبة في النجاة منها في آيات عدة نذكر منها آيتين كريمتين في سورة المائدة : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (37)} ، و ذكر العدل بمعنى الفدية والمثيل فقوله عز وجلّ في سورة البقرة : { وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ (48)} ، ألا ترى أن العدل الفدية والمثيل واضحان تماماً في هذه الآية ، ألا أقول لمن تزوج أخت زوجتي : (عديلي ) ؟ فهو عند الحمو مثيلي . يقول الله جل ثناؤه في عدم قبول الفداء من الكافر : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّار فَلَنْ يُقْبَل مِنْ أَحَدهمْ مِلْء الأرْض ذَهَبًا وَلَوْ اِفْتَدَى بِهِ ... (91)} (آل عِمران)، وقال عز من قائل في سورة الأنعام : { وَإِنْ تَعْدِل كُلّ عَدْل لا يُؤْخَذ مِنْهَا (70)} ، على فرض أن معه ما يفتدي به نفسه فهو أمر مرفوض فقد سبق السيف العذل .
3 - الانحراف عن الحق : نقول : عدل فيه : حكم بالحق ، وعدل عن الحق : تجاوزه فلم يحكم به . وهو الميل إلى الباطل . مثاله قول الله تعالى في فاتحة سورة الأنعام : { ... ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)} ، فجَعَلُوا لَه شَرِيكًا وَعدلاً ، واتخذوا لَه صَاحِبَة وَوَلَدًا تَعَالَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا . قال القرطبي رحمه الله : ثم الذين كفروا يَجْعَلُونَ لله عدلاً وشريكاً وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ هَذِهِ الأشياء وحده قَالَ اِبن عَطِيَّة : فـ { ثُمَّ } دالـّة عَلَى قبح فعل الكافرين لأن المعنى : أَنَّ خَلْقه السَّمَوَات والأرض قَدْ تَقَرَّرَ وَآيَاته قَدْ سَطَعَتْ وَإِنْعَامه بِذَلِكَ قَدْ تَبَيَّنَ ، ثُمَّ بَعْد ذَلِكَ كله عَدَلُوا بِرَبِّهِمْ فَهَذَا كَمَا تَقُول : يَا فلان؛ أَعْطَيْتُك وَأَكْرَمْتُك وَأَحْسَنْت إِلَيْك ، ثُمَّ تَشْتُمنِي ؟! وَلَوْ وَقَعَ الْعَطْف بالواو فِي هَذَا وَنَحْوه لَمْ يَلْزَم التَّوْبِيخ كَلُزُومِهِ بـ { ثمّ } ، وَاَللَّه أَعْلَم .. ويقول تقدست أسماؤه للمنحرفين عن الحق الذين أشركوا مع الله آلهة أخرى في سورة النمل : { ... أَإِلَـٰهٌ مَّعَ اللَّـهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)} ، فيجعلون له عِدلاً ونظيراً وهو وحده خَلَقَ تِلْكَ السَّمَوَات فِي اِرْتِفَاعهَا وَصَفَائِهَا وَمَا جَعَلَ فِيهَا مِنْ الْكَوَاكِب النَّيِّرَة وَالنُّجُوم الزَّاهِرَة والأفلاك الدائرة وَخَلَقَ الأرض على هيئتها وَ جَعَلَ فِيهَا مِنْ الْجِبَال وَالسُّهُول وَالْفَيَافِي وَالْقِفَار وَالزُّرُوع وَالأشْجَار وَالثِّمَار وَالْبِحَار وَالْحَيَوَان عَلَى اختلاف الأصناف والأشكال وبث فيها المناظر الخلابة والأشكال البديعة كما قال عز وجل قبله في نفس الأية : { مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرهَا ... (60)} ، ولا يقدر على ذلك إلا الْخَالِق الرَّازِق الْمُسْتَقِلّ بِذَلِكَ ، الْمُتَفَرِّد بِهِ دُون مَا سِوَاهُ مِن َالأنداد كَمَا اِعْتَرَفَ بِهِ ِ المشركون أنفسُهم ، فقد قَالَ سبحانه : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّـهُ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ (87)} (الزخرف) ، { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّـهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّـهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)} (العنكبوت) ، فهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُ الْفَاعِل لِجَمِيعِ ذلك وحده لا شَرِيك لَهُ ، ثم هم يعبدون مَعَهُ غَيْره مما يعترفون أنه لا يخلق ولا يرزق ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقّ أَن يُفْرَد بِالْعِبَادَةِ مَنْ هو الْمُتَفَرِّد بِالْخَلْقِ وَالرِّزْق ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { أَإِلَه مَعَ اللَّه } يُعْبَد وَقَدْ تَبَيَّنَ لكل ذِي لُبّ أَنَّه الخالق الرازق ؟ .
4 - البديل : نجد في سورة المائدة عقوبة قتل الصيد في الحج والعمرة : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدلُ ذَٰلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)} ، فمن اصطاد وخالف فعليه عقوبة يفعلها مكفرة عما فعل مناسبة للذنب الذي اقترفه ، فقد يكون هدياً أو أطعاماً لمساكين الحرم أو صدقة تناسب الخطأ الذي ارتكبه ، فكانت كلمة العدل هنا البديل المناسب كي يعلم أنه فعل ما ليس له أن يفعله .
5 - الفهم والعقل : وهذا ما نجده في الآية السابقة التي توضح عقوبة الصائد في الحج والعمرة فالذي يحكم ويقرر حجم العقوبة وبديلها اثنان من أهل الفهم والدراية وأصحاب العقول الراجحة ، وبهذا يكون معنى { عَدْل } في هذه الآية ما يوضح صفة أهل الحل والعقد . نجد المعنى نفسه في سورة الطلاق : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَٰلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2)} ، فإذا طلق أحدهم زوجته ، فقاربت العدة على الانتهاء { فَأَمْسِكُوهُنَّ } بِأَنْ تُرَاجِعُوهُنَّ { بِمَعْرُوفٍ } مِنْ غَيْر ضِرَار { أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } ، فاتركوهنّ حَتَّى تنقضي عدتهنّ ولا تُضارّوهنّ بِالْمُرَاجَعَةِ { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْل مِنْكُمْ } عَلَى الْمُرَاجَعَة أَوْ الْفِرَاق ، وهذان الشاهدان ينبغي أن تتوفر فيهما التقوى والدين ويشهد الناس لهما بذلك .
رد: سلسلة كلمات في القرآن الكريم / الدكتور عثمان قدري مكانسي
{ الضَّلَال }*
قال الجوهري في صحاحه : الضلال : ضد الرشاد .
وقال ابن منظور في لسان العرب : الضلال والضلالة ضد الهدى والرشاد . ويقول بنو تميم بكسر عين الفعل الماضي : ضلِـلت . ويقول أهل نجد بفتحها : ضلـَلت . والمضارع لكليهما أضِلّ أبعدنا الله عن الضلالة وجعلنا من أهل الهدى والرشاد .
وردت الكلمة بمشتقاتها في القرآن الكريم أكثر من ثلاث مئة وخمس وسبعين مرة ، تحمل المعنى الأساس الذي ذكرناه قبل قليل .
مثال ذلك وهو الأكثر - لأنه الأصل – قوله تعالى في سورة البقرة :
{ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)} فماذا بعد الإيمان إلا الكفر والضلال ؟! . وقوله تعالى في سورة القلم :
{ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)} ، وفي قوله تعالى في سورة النمل :
{ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ (92)} ،
فرسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس جميعاً لعبادة رب واحد ، ويبين للناس الطريق القويم ، ويبشرمن آمن بالخير في الدارين وينذر من تنكب الطريق بعذاب الله يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم .
ونضيف إلى هذا المعنى معاني تدور في هذا الفلك ، وتحمل بالإضافة إليها إشراقات يقتضيها سياق كل آية أو قصة ، فهيا إلى تلك المعاني التي تفتح الآفاق وتفتّق الأذهان ، في رياض لغتنا العربية الغناء .
1 - يقولون : أضللتُ الشيء إذا غيّبتُه ، وأضللت الميت إذا دفنتُه . مثاله في القرآن الكريم قوله تعالى في سورة السجدة :
{ وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (10)} ؟ ، فالكفار يستنكرون العودة يوم القيامة بعد أن تُدفن أجسادهم في الأرض وتُغَيّب فيها ، فتتحلل وتذوب . ونسوا أن الله الخالق يفعل ذلك متى شاء . وعودة الشيء أهون عليه سبحانه . والإنشاء والإعادة أمران سهلان يسيران عليه ، فهو يقول للشيء : { كُن فَيَكُونُ } .
ومثاله كذلك قوله سبحانه في سورة الأنعام :
{ انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ ۚ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)} ،
فالمشركون يقسمون – كاذبين – أنهم لم يشركوا بالله في الدنيا ، فقد بحثوا يوم المحشر عن آلهتهم ، فلم يجدوها ، لقد غابت عنهم ومُحيتْ آثارها . بل إن العلاقات الحميمة التي كانت تجمع بعضهم ببعض في عبادتهم لأوثانهم وأصنامهم انقلبت عداوة ، ولم يروا أثراً لما كانوا يعبدون . نجد مثاله في سورة الأنعام نفسها في قوله عز وجلّ :
{ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (94)} .
ونجد في قوله تقدست أسماؤه في سورة طه :
{ .. لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى (52)} ، أن الله لا يغيب عنه شيء في السموات ولا في الأرض ، يؤكدها قوله جل ثناؤه في سورة يونس :
{ ... وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ... (61)}
ومتابعة واعية لهذا المعنى يضع بين يدينا الكثير من الآيات .
2 - من معاني { الضَّلَال } : التيه والانحراف . مثال هذا المعنى قوله تعالى في سورة المائدة : { ... وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)} ،
فقد انحرفوا وأمالوا عن الحق كثيراً من أتباعم ومن وثق بهم . وفي سورة النجم ينفي الله تعالى الغواية والانحراف عن نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم :
{ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ (2)} ، والدليل على ذلك أن كلامه صواب ، وجبريل بأمر الله يسدد عمله ، قال سبحانه :
{ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ (5)} .
كما أن الشيطان يُغوي الإنسان ويُميله ويحرفه عن جادة الصواب إن ركن إليه وتبعه. مثال ذلك قوله عز من قائل في سورة يس :
{ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)} ؟ .
3 - وتعني كلمة { الضَّلَال } بمعنى الوقوع في المتاهة والخطأ : كقوله تعالى ينعى على الكفار تخبطهم في حديثهم مع النبي صلى الله عليه وسلم ومحاولة تيئيسه من الدعوة ، والتضييق عليه ليتركها ، فوقعوا في أخطاء كبيرة :
{ انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)} (الإسراء) وهي نفس الآية (9) من سورة الفرقان .
وهؤلاء (أصحاب الجنة) الذين خالفوا طريقة أبيهم الصالح في العطف على المساكين والإحسان إليهم - في سورة القلم - فقرروا بعد موته ان يمنعوهم الخير الذي كان فمرر الله عليها بعض جنوده فجعلوا الحديقة يباباً ، فلما ذهبوا إليها مصبحين لم يعرفوها وظنوا أنهم – أولاً أخطأوا الطريق ، ثم عرفوا بعد التأكد أنهم أخطأوا التصرف ، فندموا وتابوا إلى الله وعاهدوه سبحانه إن عفا عنهم وغفر لهم أن يكونوا أتقياء كراماً لا يقطعون أحداً من رفدهم ، قال عز وجلّ :
{ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27)} .
كذلك نرى المجرمين يسخرون من ضعفاء المسلمين ويأبون أن يساعدوهم ، ويستهزئون من دعوة المصلحين لهم أن يساعدوا فقراءهم وضعفاءهم ، قال جل ثناؤه في سورة يس :
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّـهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّـهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (47)} ،
فما دام المستضعفون بمنزلة الأغنياء عند الله فليُعِنهم هو سبحانه ، والضعيف – بزعمهم- ليس عند الله كالغني القادر . ولهذا قالوا لنوح عليه السلام ومن جاء بعده من الأنبياء إنهم لن يؤمنوا بدعوته مادام الفقراء البسطاء معه ، قال تقدست أسماؤه في سورة الشعراء :
{ قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111)} ؟! .
4 - من معاني { الضَّلَال } النسيان : مثاله قول الله تعالى في آية الدّين من سورة البقرة حين يذكر شهادة المرأتين : { .. أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ ... (282)} ، ولا يكون التذكير إلا للناسي .
5 - ومن معاني { الضَّلَال } الخسران وإبطال الثواب : ومن أمثلة ذلك المعنى قوله تعالى في سورة محمد :
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8)} ، فالكافر ليس له في الآخرة نصيب ، وكل عمل لا يقوم على أساس الإيمان ليس لصاحبه خلاق في الأمن والنجاح يوم القيامة ، وأضل أعمالهم ، أحبطها فخسروها . وعلى هذا نرى في قوله سبحانه في السورة نفسها :
{ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5)} ، فقوله : { فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ } : لن يحبطها ، ولن يبطل ثوابها ، بل { وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ } فيزيدهم من فضله وكرمه .
ومثال ذلك قوله تعالى في سورة غافر :
{ ... وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25)} ، وقوله سبحانه في السورة نفسها : { ... وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50)} ، فمكر الكافر وكيده في الدنيا عليه وليس له ، ودعاؤه في في الآخرة لا يُقبل ، إنه لا ينجو هناك إلا المؤمن الموحّد.
ونرى معنى الإبطال والتضييع في قوله تعالى في سورة الفيل :
{ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2)} ،
فهذا أبرهة دفع جيشه لهدم الكعبة وجاء مصمماً على ذلك ، فتصدت له ولجيشه جماعات الطير تحمل في قوادمها وأفواهها سلاح الاستئصال ، فدمّرت جيشه وأهلكته .
6 - ويأتي { الضَّلَال } بمعنى الغفلة والجهل بالشيء : فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الرسالة يبحث عن الحقيقة ، فهداه الله إليها بعد غفلة عنها وجهل بها ، هذا ما نجده في قوله تعالى في سورة الضحى :
{ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ (7)} ، إلم يقل له في آية من سورة يوسف توضح المراد من ذلك :
{ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)} ؟ " فالضلال هنا الجهل بالشيء والغفلة عنه .
ولما اتهم فرعون سيدنا موسى بالكفر حين قتل القبطي ، فقال له كما في قوله عز من قائل في سورة الشعراء:
{ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19)}
، رد عليه موسى نافياً الكفر ومثبتاً الجهل والغفلة إذ ذاك كما في قوله سبحانه بعدها :
{ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20)} .
وحين ذكر يعقوب عليه السلام ابنه يوسف وابيضت عيناه من الحزن ، فهو كظيم قال له أبناؤه مستنكرين ذلك كما في سورة يوسف :
{ قَالُوا تَاللَّـهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95)} ، وسبق أن قالوا في آية أخرى معرّضين بحب أبيهم يوسف وأخاه بنيامين :
{ ... إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (8)} وكيف يكون الضلال لنبي سوى التماهي في حب الولد الصغير وشعور الكبار أن أباهم لا يوليهم انتباهه كما ينبغي !! إنهم يعرفونه نبياً ولا يقصدون بالضلال ذلك المعنى المعاكس للهدى والرشاد .
7 - وقد يأتي { الضَّلَال } بمعنى الهلاك . مثال ذلك قوله تعالى في سورة القمر :
{ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47)} ،
قال القرطبي إن الضلال هنا الهلاك لمساوقته كلمة { سُعُر } .
وفي قوله سبحانه في سورة الإسراء : { مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ... (15)} ، وقد جاءت الكلمات السابقة نفسها دون تغيير ضمن آية أخرى في سورة يونس مع إضافة حرف الفاء :
{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ (108)} } ، ومعنى { يَضِلُّ عَلَيْهَا } : يهلكها ، ويدخلها عذاب جهنم .
وفي قوله عز وجلّ في سورة النساء : { ... يُبَيِّنُ اللَّـهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا ... (207)} ، نجد معنى الهلاك واضحاً . فمن لم يتبع البينة ويعمل بها هلك . وكذلك نجده في قوله تقدست أسماؤه في سورة الكهف :
{ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ... (104)} ، فخاب وهلك .
8 - بقي أن نقول : إن الأصنام لا تضل الناس لأنها لا تعي ولا تعقل ، فكيف تضلهم وتبعدهم عن الطريق القويم ؟ قال تعالى في سورة إبراهيم :
{ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ ... (36)} إنهم ضلوا وافتُتِنوا بسببها فصارت كأنها هي التي أضلتهم .
سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ضوالّ الإبل ، فنهاه عن أخذها ، وحذّره النار إن تعرّض لها ، ثم قال عليه الصلاة والسلام :
( مالك ولها ، معها حِداؤها وسقاؤها ، ترد الماء ، وتأكل الشجر ) ،
أراد صلى الله عليه وسلم أنها بعيدة المذهب في الأرض طويلة الظمأ ، ترد الماء والرعي دةن راع يحفظها ، فلا تتعرّض لها ، ودعها حتى يأتيها ربها .