وتوالى اهتمام النساء بالعناية بكتاب الله عز وجل واتخذت هذه العناية صورا وأشكالا شتى تدل في مجملها على تعلق النساء بكتاب الله عز وجل والرغبة في حفظه وتحفيظه، وبذل الغالي والنفيس من أجل ذلك، ومن مظاهر ذلك بناء النساء المساجد والمدارس وإنفاقهن على قراءة القرآن وحفظه واحتضان النساء لتحفيظهن القرآن من ذلك ما روي أن زبيدة بنت جعفر المنصور العباسي كانت شديدة العناية بالقرآن الكريم، وكانت لها مائة جارية يحفظن القرآن الكريم، ولكل واحدة ورد عشر القرآن وكان يسمع في قصرها كدوي النحل من قراءة القرآن(15).
نماذج من عناية نساء المغرب عبر القرون
ومن عناية النساء بالقرآن كتابتهن للمصاحف تشجيعا للناس على قراءتها منهن عائشة بنت أحمد القرطبية، قال عنها ابن حيان : “لم يكن في زمانها من حرائر الأندلس من يعادلها علما وفهما وأدبا وفصاحة وشعرا كانت حسنة الخط تكتب المصاحف.
ومنهن فضل الجارية القيروانية التي كتبت المصحف المحبس بجامع عقبة بالقيروان وكتبت نص التحبيس عليه بخطها ونصه “بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما حبسته فضل مولاة أيوب أحمد بن محمد رحمه الله طلبا لثواب الله والدار الآخرة، رحم الله من قرأ فيه ودعا لصاحبته، وكتبت فضل بخط يدها في المحرم سنة خمس وتسعين ومائتين.(16).
ومن صور العناية بكتاب الله عز وجل ما نقله صاحب زهرة الآس من تحبيس السيدة عائشة ابنة سيدي محمد البوزيدي الشهير بابن المجذوب لواجبها المنجز لها بالإرث من أمها على الطلبة الذين يقرأون الحزب صباحا ومساء بمسجد تخربيشت من حومة العيون، وتحبيس والدتها الثلث على إمام الجامع المذكور(17)، وكتاب الدارس في تاريخ المدارس مليء بصور شتى وأشكال مختلفة لهذه العناية من النساء، وكذلك غيره من كتب التواريخ والتراجم وذلك في كثير من أنحاء العالم الإسلامي.
أما عناية النساء بحفظ القرآن الكريم، بعد عصر الصحابة رضي الله عليهم، فقد كان أمرا متداولا وخاصة لدى العلماء، الذين كانوا يحرصون على تحفيظ بناتهن القرآن الكريم ومنهن من كانت تحفظه في سن صغيرة.
منهن حفصة بنت سيرين الفقيهة الأنصارية، روي عن إياس بن معاوية قال : “ما أدركت أحدا أفضله عليها، وقال قرأت القرآن وهي بنت ثنتي عشرة سنة، وذكروا له الحسن وابن سيرين فقال : أما أنا فلا أفضل عليها أحدا(18).
وكان العلماء في بلدنا حريصين على تحفيظ بناتهن القرآن، وقد يتخذون من يثقون فيهم من الشيوخ لتحفيظهن من ذلك ما ذكره ابن قنفذ القسنطيني في ترجمة أبي عبد الله الصفار، أحد القراء المشهورين بفاس في القرن الثامن قال : “كان لأبي عبد الله البركة التامة والكرامة العامة، واختصه والدي رحمه الله لبناته يعلمهن القرآن ولم تفارقه إحداهن حتى ختمت وكررت ثلاث مرات”(19) ولهذا السبب نجد كثيرا من الحافظات يتخرجن من بيوت العلماء ونعثر على تراجمهن عند بعض العلماء من أقاربهن ففي مدينة فاس نقف على تراجم الحافظات من البيوت المشتهرة بالعلم مثل بيوت آل الفاسي، وابن سودة والكتانيين وغيرهم من بيوت العلم بفاس.
ويصعب علينا استقصاء الحافظات ببلد من البلدان الإسلامية أو مدينة من المدن وأقتصر على ذكر بعض من اشتهرت منهن بالقراءة والحفظ في بلدنا العزير فأذكر:
- أم العلاء العبد رية نزيلة فاس كانت تعلم القرآن بغرناطة، ثم انتقلت إلى فاس.
- أم العز العبدرية كانت مجودة بالسبع.
- زينب القرقولية كانت ضابطة متقنة أستاذة في القراءات السبع.
- عائشة بنت بونافع الفاسية وليدة عبد المجيد الزبادي التي كانت تحضر مجالسه العلمية (20).
- خديجة بنت هارون بن عبد الله الدكالية، قرأت القرآن بالروايات السبع، وحفظت الشاطبية، ذكرها السخاوي في تحفة الأحباب.
- خديجة بنت أحمد بن عزوز الحميدي الفاسية، قرأت بالروايات السبع عن الحسن جنبور وتوفيت بفاس عام 1323
- رحمة بنت الجنان المكناسية كانت عالمة بقصص القرآن.
- رقية بنت الحاج ابن العايش اليعقوبية كانت عارفة بالتفسير توفيت أوائل القرن الرابع عشر.
- صفية بنت المختار كانت عارفة بالتجويد والتفسير
- الغسائية زوجة عتيق بن محمد بن علي العساني نزيل مراكش وأغمات كانت أستاذة بالقراءات السبع(21).
- للاغيلانة ابنة الفقيه محمد غيلان، كانت عالمة نساء تطوان، لقنها والدها علوم القرآن والحديث والعربية والفقه وكانت تفتي النساء.
- الشريفة السيدة حبيبة بنت محمد بن جعفر الكتاني كانت تحفظ القرآن الكريم وتحفظ مهمات المتون ت عام 1336 ه- بدمشق.
شقيقتها الشريفة السيدة خديجة حفظت القرآن الكريم على يد والدها وحفظت مهمات المتون وحصلت على إجازات من والدها وجدها ومن بعض كبار علماء المشرق توفيت بفاس عام 1351 ومن بعض المتأخرات اللواتي توفين مؤخرا وكان لهن اهتمام بحفظ كتاب الله السيدة فاطمة القندوسي، والشريفة للافاطمة العلمي، وهؤلاء جميعا هن نزر يسير ممن كانت لهن عناية بكتاب الله ببلدنا.
والذي جعل القرآن ينتقل من الخاصة إلى العامة هو رغبة النساء في تحفيظ أخواتهن أو بنات جنسهن وظهور ما يعرف “بدار الفقيهة” حيث فتح كثير من النسوة الحافظات بيوتهن لاستقبال الفتيات وبعض النساء لتعليمهن وتحفيظهن القرآن الكريم، قال الدكتور عبد الهادي التازي عنها : “وفي فاس على الخصوص يعرف عن العدد الكثير من مدارس البنات التي كانت تعرف باسم “دار الفقيهة”، فإن كل حي من أحياء المدينة وكل منعرج كان يتوفر على طائفة من هذه الدور التي تديرها عادة سيدات أخذن عن أعلام لهم صلة وثيقة بمجالس القرويين(22).
وقد قامت دور الفقيهات بأدوار ثقافية واجتماعية وعملت على إخراج النساء من ظلام الجهل إلى نور العلم، وجعلتهن يذقن لذة المعرفة مما كان له أكبر الأثر في حرصهن على التعلم والتحاقهن بعد ذلك بالمدارس والجامعات.
وأذكر من دور الفقيهات اللاتي اشتهرت بفاس :
- دار الفقيهة التي كانت تديرها بنتا السيد عبد الله حجاج حبيبة وفاطمة.
- دار الفقيهة التي كانت تديرها السيدة أم كلثوم زوجة بنيس.
- دار الفقيهة للا منة الكنونية بزقاق الحجر.
- دار الفقيهة المليحية قرب سيدي عبد القادر الفاسي.
- دار الفقيهة زهور قباجة بسيدي العواد.
- دار الفقيهة للارقية بنانية زوجة العرفاوي بعقيبة السبع.
- دار الفقيهة التي لا زالت تزاول نشاطها إلى أيامنا هذا بحومة سيدي محمد بلفقيه تديرها الفقيهة الحاجة ثريا بنزاكور عافاها الله، وهي لازالت تحتضن كثيرا من النساء وتفتح لهن أبوابها مرتين في الأسبوع لحفظ كتاب الله. وقد تخرجت منها كثير من الحافظات اللواتي ختمن القرآن.
وما ذكرته عن دور الفقيهات في الحقيقة لا يعطي الصورة الحقيقية عن نشاطها وعن عددها وعن النساء اللواتي فتحنها في وجوه طالبات العلم عامة وحافظات كتاب الله خاصة، فذلك يحتاج إلى تخصيص بحث يقوم بتسليط الضوء عليها، وبيان الأدوار الطلائعية التي قامت بها، وأثرها على نساء فاس عامة أرجو الله عز وجل أن تتصدى إحدى الغيورات للقيام بهذا العمل الجليل وأن يوفقنا الله جميعا لخدمة كتابه الكريم، قراءة وحفظا وعلما وعملا، فمنه العون وعليه نتكل والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد بدءا وختاما.