وكانت الصحابيات رضوان الله عليهن من جملة من يتعلم القرآن من الرسول صلى الله عليه وسلم، وخاصة أمهات المؤمنين، وحفظته منهن مولاتنا عائشة ومولاتنا حفصة ومولاتنا أم سلمة، وكانت مولاتنا حفصة تعرف الكتابة، وهو ما دعا إلى ائتمانها على الصحف التي كتب فيها القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
روى الإمام البخاري في الصحيح عن زيد بن ثابت من حديث طويل، ورد في آخره فتتبعت القرآن أجمعه من العُُسب واللخاف وصدور الرجال، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر.
وكان اهتمامهن رضوان الله عليهن أيضا بفهم معانيه، ومعرفة أحكامه ومراميه. روى الإمام البخاري عن ابن عمر قال، حدثني ابن أبي مليكة أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت لا تسمع شيئا لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : “من حوسب عذب، قالت عائشة، فقلت : أوليس يقول الله تعالى : {فسوف يحاسب حسابا يسيرا} قالت، فقال : “إنما ذلك العرض ولكن من نوقش الحساب يهلك”(6) ووقع نحو ذلك لمولاتنا حفصة لما سمعت : “لا يدخل النار أحد ممن شهد بدرا والحديبية، قالت : أليس الله يقول : {وإن منكم إلا واردها} فأجيبت بقوله : {ثم ننجي الذين اتقوا}(7).
وكانت عناية الصحابيات بحفظ كتاب الله عز وجل كبيرة، منهن من حفظته كله ومنهن من حفظت بعضه، وكانت أم ورقة رضوان الله عليها تحفظ القرآن كله، ذكرها الحافظ ابن حجر في الإصابة قال : “أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث بن عُويمر بن نوفل الأنصارية أخرج حديثها أبو داود من طريق وكيع عن عبد الله بن خلاد الأنصاري عن أم ورقة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما غزا بدرا قالت إئذن لي فأخرج معك، فأمرض مرضاكم، ثم لعل الله أن يرزقني الشهادة، قال : “قري في بيتك، فإن الله يرزقك الشهادة، فكانت تسمى الشهيدة، وكانت قد قرأت القرآن، فاستأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في أن تتخذ في دارها مؤذنا فأذن لها” وفي رواية لابن السكن، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزورها في بيتها، قال وكان لها غلام وجارية فدبرتهما، فقامتا إليها فغمياها فقتلاها، فلما أصبح عمر قال : والله ما سمعت قراءة خالتي أم ورقة البارحة، فدخل الدار فلم ير شيئا، فدخل البيت فإذا هي ملفوفة في قطيفة في جانب البيت فقال : صدق الله ورسوله ثم صعد المنبر فذكر الخبر فقلل، وقال علي بهما فسألهما فأقرا أنهما قتلاها فأمر بهما فصلبا(8)
وممن حفظت القرآن من نساء الصحابة أم الدرداء الكبرى، وأمها خيرة بنت أبي حدرد، وصفها ابن عبد البر بالعقل والفضل والزهد قال ((والصحبة لأم الدرداء الكبرى . وكانت من فضلاء النساء وعقلائهن وذوات الرأي فيهن مع العبادة والنسك(9) وفي تهذيب الكمال أنها كانت تصلي في صفوف الرجال، وتحفظ الصبية القرآن حتى أمرها أبو الدرداء بالالتحاق بصفوف النساء.
أما من حفظت بعض القرآن من الصحابيات فهن كثير ولاشك يدل على حبهن لدين الإسلام ونبيه، وتعلقهن الشديد به وحرصهن على معرفة أحكامه وآدابه التي مصدرها الكتاب الكريم والسنة النبوية، وكذلك ما رواه الإمام مسلم عن عمرة بنت عبد الرحمان رضي الله عنها، عن أخت لعمرة قالت : أخذت {ق والقرآن المجيد} من في رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة وهو يقرأ بها على المنبر كل جمعة(10)، وليست عمرة هي الوحيدة التي حفظت سورة (ق) من في رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل حفظتها معها أختها الأكبر سنا منها، وأم هشام بنت حارثة بن النعمان، كما ورد في حديث آخر عند مسلم عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان، قالت : لقد كان تنورنا وتنور رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا سنتين أو سنة، وبعض سنة، وما أخذت {ق والقرآن المجيد} إلا على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر، إذا خطب الناس(11) وقولها وكان تنورنا وتنور رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا : “إشارة إلى حفظها ومعرفتها بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم وقربها من منزله”(12) كما أن فيه إشارة إلى أن مصدر النور الذي أضاء حياتهم جميعا هو ما كان ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي والقرآن الذي كان ينير عليهم حياتهم جميعا.
وكان الصحابة يحرصون على تعليم نسائهن وبناتهن القرآن امتثالا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم ففي الحديث الذي أخرجه الإمام البخاري في الصحيح، باب تعليم الرجل أمَتَه وأهله عن أبي بردة عن أبيه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثلاثة لهم أجران فذكر منهم، ورجل كانت عنده أمة فأدبها فأحسن تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها، وأعتقها فتزوجها فله أجران”(13)، ومن ذلك ما ذكره الحافظ في الإصابة في ترجمة رابطة بنت حبان ابن عنزة قال عنها : “كانت من سبي هوازن وهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي ابن أبي طالب، فعلمها شيئا من القرآن”(14).
ولا شك أن الكثيرات من الصحابيات حفظن القرآن الكريم كما حفظن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت منهن المكثرات من الرواية كما كانت منهن الفقيهات المفتيات ومنهن من أكثرت من الفتوى، ومعلوم أن الصحابة كان يوجههم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حفظ القرآن أولا ثم حفظ الحديث، والتفقه في الدين يقتضي حفظ مصادره الأصلية التي هي القرآن والسنة ومعرفتهما.