لماذا يجتمع المسلمون؟ لأن إلههم واحد، وكتابهم واحد، ونبيهم واحد، ولأن التشريع الذي ينصاعون له ليس من عند أنفسهم بل من عند خالقهم، وهذا أحد أسباب وحدتهم، وحينما يدعون هذا التشريع فتركهم له أحد أسباب فرقتهم. أحد الأصدقاء كلما ذهب إلى بلد غربي يسمعهم يطعنون في واقع المسلمين، وتخلفهم، وفقرهم، وخصوماتهم، وحروبهم الداخلية، قال لي: ضقت ذرعاً أينما أذهب، هؤلاء لا يرون الإسلام من خلال الكتاب والسنة، بل من خلال واقع المسلمين، فقال لي: لقد صار عندي قناعة أن أقول لهم انظروا إلى واقعنا المتخلف، انظروا إلى فقرنا، وإلى الخصومات فيما بيننا، هذا كله بسبب تركنا لمنهج ربنا، فصار حجة معاكسة، والدليل على أن منهجنا صحيح أننا حين تركناه انظروا ماذا حل بنا؟!
1 ـ خلاف نقص المعلومات وهو طبيعي لا يُمدح ولا يذم : الخلاف الأول خلاف اختلاف نقص المعلومات وهو طبيعي، في آية أخرى: ﴿ وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا ﴾[سورة يونس: 19 ] خلاف نقص المعلومات طبيعي، فلو فرضنا أنَّنا في يوم التاسع والعشرين من رمضان وسمعنا صوت مدفع، يا ترى أهو مدفع الإثبات أم هناك في الجبل صخرة تفجر من أجل شق طريق؟ صرنا في اختلاف، لماذا اختلفنا؟ لنقص المعلومات، فإذا استمعنا إلى أنه قد ثبت أن غداً أول أيام عيد الفطر انتهى الاختلاف إذْ توضحت المعلومات، فهناك اختلاف طبيعي جداً لا يمدح ولا يذم، هذا اختلاف نقص معلومات.
2 ـ اختلاف عدوان وبغي وأهواء ومصالح : أما إذا جاء الحق هنا تكون المشكلة: ﴿ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ﴾[ سورة آل عمران : 19 ] البينات جاءت. المسلمون الآن لا تبتعدوا كثيراً؛ فالمسلمون معهم كتاب واحد من المشرق إلى المغرب، ومن الشمال إلى الجنوب، ومعهم سنة واحدة، ونبي واحد، مع ذلك فهم مختلفون، ملل ونحل، وطوائف ومذاهب، ونزعات واتجاهات، إلى درجة أنك تحار ما هذه الفرقة مع أن عوامل الوحدة بين أيدينا، لماذا يتعاون أعدائنا وبينهم قواسم مشتركة لا تزيد عن خمسة بالمئة، ولماذا نحن نتقاتل وبيننا قواسم مشتركة تزيد عن خمسة وتسعين بالمئة؟ إنه اختلاف أهواء، واختلاف مصالح: ﴿ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ﴾[ سورة آل عمران : 19 ] البغي هو العدوان، وحينما أريد أن آخذ ما ليس لي أعتدي، وحينما أريد العدوان أبحث في النصوص عن شيء يغطي عدواني، وحينما أريد أن آخذ ما ليس لي أنا معتدٍ، لأن الإنسان مثقف مفلسف بالأساس، فهو يبحث عن تبرير لعدوانه، ويختلق أنواع التبريرات، فالاختلاف الأول اختلاف حيادي، لا يمدح ولا يذم، اختلاف نقص المعلومات، أما الاختلاف الثاني فهو اختلاف عدوان وبغي وأهواء ومصالح، ولذلك تجد أكثر الأديان مع أنها ذات نصوص واحدة اختلفت، وتشعبت، وتمزقت، ونشأت بينها العداوة والبغضاء، ثم الخصومات، ثم القتال، ثم سالت الدماء بينهم: ﴿ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ﴾[ سورة آل عمران: 19 ] بغياً أي عدواناً، بغى عليه أي اعتدى عليه: ﴿ بغياً بينهم ﴾ ولذلك استعيذوا بالله من اختلاف العدوان، واشكروا الله على اختلاف التنافس. وسيأتي بعد قليل اختلاف راقٍ جداً، أنا قد أختلف معك، وكلانا يحبه الله عز وجل، قد أختلف معك لضعف المعلومات، وهذا اختلاف طبيعي، وقد أختلف معك بسبب عدواني، وهذا اختلاف قذر، واختلاف يبغضه الله عز وجل، قال تعالى: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ﴾[ سورة المائدة: 2 ] احملوا هموم المسلمين، وتعاونوا.
3 ـ اختلاف التنافس : القسم الثالث: ﴿ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ﴾ إنسان وجد أن الدعوة إلى الله عز وجل هي أعظم الأعمال، وإنسان آخر وجد أن تأليف الكتب أطول أمداً، والدعوة الشفهية أعمق أثراً لكنها قصيرة تنتهي بموت الداعي، أما تأليف الكتاب فقد يكون الكتاب أضعف تأثيراً لكنه أطول أمداً، وإنسان آخر يتجه إلى بناء المساجد، وإنسان رابع أسّس المياتم، وإنسان خامس أسّس جمعية خيرية، وإنسان سادس أصدر كتباً إسلاميةً، فكل إنسان اجتهد أن يرضي الله بطريق التنافس، هذا شيء مقبول، مقبول منهم جميعاً، فما قيمة الدعاة من دون مسجد، فهذا الذي بنى المسجد، وهيّأ راحة المصلين فيه، إذْ هو دافئ في الشتاء بارد في الصيف، مفروش فرشاً نظيفاً، فيه مرافق عامة جيدة، هذا الذي عمل بيديه وبجهده وخبرته، واستخدم علمه بالهندسة ليوفر للمصلين مكاناً مريحاً، فهذا وصل إلى الله من خلال هندسته، والذي طلب العلم من وقت مبكر، وتعلم، ودرس في هذا المسجد هذا وصل إلى الله عن طريق التعليم، وهذا أمَّ الناس في الصلاة، وهذا ألَّف كتاباً صار مرجعاً، أنا لا أنسى مرة عدت إلى آية في بعض التفاسير، وجعلتها محور خطبة، ولاقت عند الناس قبولاً طيباً جداً، وقد أثنى الناس جميعاً على هذه الخطبة، وأنا اعتمدت في خطبتي على تفسير قديم، انتبهت إلى أن هذا المفسر مات قبل ألف عام، ولكن خيره مستمر، هو ماذا فعل؟ ترك تفسيراً رائعاً، ثم توفاه الله عز وجل، كل من قرأ هذا التفسير، واستفاد منه ونقل ما فيه للناس، في صفيحة المفسر الذي ألف هذا الكتاب، وقد تجد كتاباً في الحديث الشريف متداولاً بين المسلمين تداولاً عجيباً، ما من مسجد، وما من بيت، وما من معهد إلا وفيه هذا الكتاب، فالذي ألفه له نيات عالية جداً، فالله عز وجل جعل هذا الكتاب متداولاً بين كل المسلمين، إنسان يرى التأليف، وإنسان يرى الدعوة، وإنسان يرى الرد على الخصوم، وآخر يرى خدمة الآخرين، وإطعام الطعام، والعناية بالأيتام والأرامل، فهذا كله مقبول. الآن بالعلم هذا يرى أن علم العقيدة هو كل شيء، وعلم التوحيد أصل الدين، ويأتي إنسان يرى التفسير أهم شيء، أن تفسر هذا القرآن، ويأتي إنسان آخر في علم الحديث، يتعمق إما بالمتن أو بالمصطلح، يقول لك: السنة فيها تبيان كتاب الله عز وجل، وإنسان يؤرخ لهذا التاريخ المجيد، وينقي هذا التاريخ مما دخل فيه وليس منه، إنه إنسان عظيم، إنسان يجدد هذا الدين، قد نختلف اختلاف تنافس، وقد نختلف اختلاف نقص معلومات، ونحن معذورون، وقد نختلف اختلافاً - لا سمح الله - عدواناً وبغياً، اختلاف مصالح وأهواء، فنحن ساقطون من عين الله عز وجل، وقد نختلف اختلاف تنافس، فاختلاف التنافس يحبه الله، في النهاية كلنا متكاملون، وكل واحد منا يكمل أخاه، ولذلك قال علماء التوحيد: أمة النبي عليه الصلاة والسلام معصومة بمجموعها، بينما شخص النبي معصوم بمفرده.
<<<<<<<<<<<<< قال تعالى: ﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾
أي سيدنا آدم والسيدة حواء وأولاده وهو نبي كريم، والتوجيه واحد، والتغذية واحدة، والمنبع واحد وهو الوحي، ولكن حينما نشأت المصالح والأهواء اختلفوا، فما الذي يجمعنا؟ الحق. ما الذي يفرقنا؟ الهوى، هذه قاعدة، الأهواء تفرق والحق يجمع، وعظمة الحق أنه من الله، أما حينما يأتيك التشريع من إنسان، وهو مرتب لمصلحته قد ترفضه، لأنه إنسان مثلك، شرع ومنعك، أما حينما يأتيك التشريع من خالق الأكوان فإنك ترضى به، فالناس لا ينصاعون إلا لتشريع سماوي، أما التشريع الأرضي فهو في الأعم الأغلب لمصلحة من وضع هذا التشريع دائماً وأبداً، والذي يشرع تأتي المواد كلها لمصلحته، وقد تغفل مصالح الآخرين، ولذلك ما دام التشريع أرضياً فهناك حروب، وخصومات، ومذابح لا تنتهي إلى يوم القيامة، أما إذا كان التشريع علوياً من عند الله عز وجل فقد انتهى الأمر، فهذا كلام ربنا، حينما ينتفع المشرع بما شرع تنشأ خصومات لا تنتهي، إذا كان المشرِّع من بني البشر، وهو منتفع بما شرع، وحصل هناك خصام لوجود طرف آخر يرفض هذا التشريع، أما حينما يأتي التشريع من عند خالق الأرض والسماء ينصاع الناس: وسيدنا آدم وزوجته وأولاده كانوا على منهج واحد، وعلى وحي وتوجيه واحد، فاتفقوا وتعاونوا، ولكنهم تفرَّقوا عندما دخل الهوى، والآن يجتمع أناس على عمل طيب، وعندما يدرُّ هذا العمل عليهم أرباحاً طائلة يختلفون، إذْ صار هناك مال، ومكاسب مادية، ويريد كلّ إنسان أن يأخذ أكبر حصة له ويتجاهل حق أخيه، فتنشأ الخلافات، وكم من شركة انهارت، وكم من مشروع رائع تحطم بسبب الأهواء، فالأهواء تحطم، والحق يجمع ويوحد، وهذه قاعدة أساسية.
لو تتبعنا كلمة (واحدة) في القرآن الكريم : (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة . وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة) ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا ﴾. ﴿وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ﴾[سورة الزخرف: 33] وآيات كثيرة جداً في القرآن الكريم أشارت إلى أن البشر من أصل واحد ، ومن جبلة واحدة ، ومن خصائص واحدة ، ومن فطرة واحدة .
الحق يجمع والأهواء تفرق، والمبادئ تجمع والمصالح تفرق، والمبادئ متكاملة أما المصالح فمتناقضة:
عندما اختلفوا، ودخلت الأهواء، أخذ الأنبياء يأتون تباعاً، وكلما جاء نبي وضح منهج الله عز وجل، وأمر الناس بطاعته، ونهاهم عن معصيته، وحكم الشرع الذي هو من عند الله محل الأهواء التي هي من عند البشر:
﴿ فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ﴾ لمن أطاعهم: ﴿وَمُنذِرِينَ﴾ لمن عصاهم: ﴿ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ﴾ فأنت آية بالغة التعقيد، ولك صانع حكيم، ولهذا الصانع الحكيم تعليمات التشغيل والصيانة، فهذه الآلة لا تسلم ولا تؤتي مردوداً عالياً إلا بإتباع تعليمات الصانع، فربنا عز وجل كلما رأى عباده مزقتهم الأهواء، وانحازوا إلى مصالحهم، وأثمر هذا عداءً، وقتالاً، وخصومات، وعداوات، أرسل نبيّاً آخر مع منهج قويم، أمرهم ونهاهم، وبّشرهم وحذّرهم، وأعطاهم كتاباً افعل ولا تفعل، ﴿ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ﴾ إذا جاءت كلمة الكتاب في القرآن معرفة بأل دلَّت على مطلق منهج الله عز وجل، مطلق المنهج، ﴿ بالحق ﴾ هذا الكتاب بالحق، من عند الحق، ومن عند العدل الرحيم الحكيم، كتاب بالحق، أي لابَسَ نزوله الحق، هو من عند الحق، والحق في كل دقائقه وجزئياته.
ربنا عز وجل غني على أن ينتفع بالتشريع، لكن الإنسان إذا شرع مفتقر إلى أن ينتفع بالتشريع، فإذا انتفع بالتشريع كان له خصوم يرفضون هذا التشريع، وإذا دققت وعمقت تجد أن كلَّ خلافات البشر في الأرض اختلاف مصالح، وأهواء، وتنازع، وثروات مما يشعل الحروب بينهم، فالحروب عند المسلمين حروب دعوة، وحروب نشر حق، وريادة أمم، أما الحروب الآن فهي مرة حروب نفط، ثم حروب ماء، ثم حروب قمح، أو حروب مناطق نفوذ، الحروب كلها من أجل المصالح والثروات والمكتسبات، وحروب أحياناً من أجل الإذلال والتدمير والإهلاك، فاختلفوا،
العدل يسع الجميع :
قاضٍ في العهد العباسي فيما أذكر طُرِق بابه، فسأل خادمه: مَن لدى الباب؟ فإذا بطبق من التمر، أو من الرطب في بواكيره، وكان هذا القاضي معروفاً بحبه هذا الرطب في بواكيره، فهو أكلٌ نفيس جداً، وفاكهة غالية، وبمستوى عالٍ جداً، في أوله، فسأل خادمه من قدم هذا الطبق يا بني؟ قال: رجل لدى الباب، قال: صفه لي، قال: صفته كيت وكيت، فعلم أنه أحد الخصوم، أو أحد المتداعيين، فرد الطبق، وبعد أيام طلب مقابلة الخليفة، وطلب منه أن يعفيه من منصب القضاء، قال: ولمَ؟ قال: والله جاءني غلامي قبل أيام بطبق من الرطب في بواكيره، وعلمت أنه من أحد المتخاصمين، وفي اليوم التالي تمنيت أن يكون الحق مع الذي قدم هذا الطبق، مع أني لم أقبله، فكيف لو قبلته؟ هذا العدل، فالعدل يسع الجميع: ﴿ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ﴾
إذا كان التشريع إلهياً انصاع كل الناس له، وبالمناسبة لو أن واحداً يدّعي أنه مسلم وجئته بحكم شرعي قرآني، وتلكأت نفسه في قبوله فليس بمؤمن، لأن الله عز وجل يقول: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾[سورة الأحزاب: 36] أنت عبد والذي جاء بهذا الكتاب نبي كريم، وهذا الكتاب من عند خالق عظيم، فإذا وضعت أحكام الكتاب على بساط البحث والمناقشة فلست مؤمناً: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾[سورة النساء: 65]
محاربة الله ورسوله أن تشرع تشريعاً يتناقض مع تشريع الله أو يبتعد عن تشريع الله: : ﴿ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ كيف يحارَب الله؟ الله عز وجل لا تدركه الأبصار، الحرب بالمفهوم الأرضي أن تقاتل إنساناً، وتستلب ما عنده، أن تحتل أرضه، أن تستولي على ثرواته، أن تأخذ متاعه، الحرب صِدام، لكن كيف يحارَب الله؟ الحقيقة أن الله يحارَب بإحداث تشريع خلاف تشريع، لأن التشريع من حق الله وحده، الجهة الصانعة هي الجهة الوحيدة التي ينبغي أن تتبع تعليماتها، فحينما نشرع نحن تشريعاً بعيداً عن تشريع الله، أو مخالفاً لتشريع الله فكأنما حاربنا الله، هذه حقيقة أولى، محاربة الله ورسوله أن تشرع تشريعاً يتناقض مع تشريع الله، أو يبتعد عن تشريع الله، أو يفسد الإنسان.
التشريع الإلهي يحقق للإنسان سعادته في الدنيا والآخرة :
أيها الأخوة، الله عز وجل حينما خاطب نبيه وقال: ﴿ وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً ﴾[سورة الإسراء:73] إن سمينا الكفار الطرف الآخر فإن جهد الطرف الآخر من آدم إلى يوم القيامة أن يبدلوا منهج الله، أن يبدلوا منهج الله بمنهج أرضي يحقق للإنسان شهواته، ويبعده عن المسؤولية، القضية واضحة جداً، إما أن تختار الله أو الدنيا، إما أن تختار الآخرة أو متاع الحياة الدنيا، إما أن تختار أن تتبع منهج الله أو أن تتبع هوى نفسك، فالتشريع الإلهي يحقق للإنسان سعادته في الدنيا والآخرة. تعريف آخر للتشريع الإلهي دقيق جداً: هو أنك إذا صنعت آلة هذه التعليمات التي مع الآلة من أجل صيانة الآلة من التلف، من أجل صيانتها من العطب، من أجل أن تعطي هذه الآلة أعلى مردود، فكأن تشريع الله عز وجل من أجل صيانة الإنسان من أن يشقى في الدنيا والآخرة، فالجهة الوحيدة الخبيرة القادرة على إسعاد الإنسان عن طريق تعليمات دقيقة مفادها افعل ولا تفعل، هذه الجهة هي الله عز وجل، بمعنى أن الله هو الخبير بما يسلمك وبما يسعدك.
إذاً: الطرف الآخر مهمته أن يأتي بتشريع خلاف التشريع الإلهي، الربا يجمع الأموال في أيد قليلة ويحرم منها الكثرة الكثيرة، وتشريع الله عز وجل أن يكون المال متداولاً بين الناس جميعاً، الكتلة النقدية ينبغي أن تكون متداولة بين الناس، أما حينما يعتدى على شرع الله، فنسمح للمال أن يلد المال عندها يتجمع المال بأيدٍ قليلة، وتحرم منها الكثرة الكثيرة، فنحن بتشريع الربا حاربنا الله، بمعنى؛ أننا أحللنا تشريعاً مناقضاً لتشريعه، لأن الله سبحانه وتعالى أحل البيع وحرم الربا، فنحن شرعنا الربا، فلما شرعنا الربا صار هناك في كل بلد فرق طبقي كبير جداً، هذا وراء كل مآسي البشرية، أي أن يمتلك عشرة بالمئة من سكان الأرض تسعين بالمئة من موارد الأرض، وأن يعيش الباقون على فتات هؤلاء العشرة بالمئة، هذا يتناقض مع تشريع الله، فإذا قرأتم في القرآن الكريم قوله تعالى: " يُحَارِبُونَ اللَّهَ "، أي يشرعون تشريعاً يتناقض مع تشريع الله، تشريع الله عز وجل مهمته صيانة الإنسان من الفساد، صيانته من الشقاء، صيانته من التعاسة، لأن الله سبحانه وتعالى أدرى بمن خلق، وهو الخبير، هو الوحيد الذي يعلم ما يصلحنا وما يفسدنا.