قبل أن نبدأ في شرح هذه السورة لا بد أن نسأل هذا السؤال:
لماذا سميت سورة البقرة، مع أن البقرة ليست حيواناً مألوفاً في الجزيرة العربية ؟
الحقيقة أن هذه البقرة التي سُمِّيَت بها السورة الأولى في القرآن الكريم بعد الفاتحة، هذه البقرة لها قصة
كان هناك رجل غني جداً من بني إسرائيل، كان ثرياً جداً، ولم يكن له أولاد، فقتله ابن أخيه، وألقى الجثة بعيداً على مشارف قريةٍ بعيدة، واتُّهِمَ أهل هذه البلدة بقتل هذا الرجل، ونَشِبَ خلافٌ بين القرية الأولى والقرية الثانية، إلى أن جاء أولياء القتيل ليسألوا موسى عليه السلام عَن الذي قتل هذا الرجل، فربنا عزَّ وجل في الآية الثالثة والسبعين من هذه السورة الكريمة ذكر قصة هذه البقرة، فقال:
(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً (67) )سورة البقرة
الأمر الإلهي أن يذبح بنو إسرائيل أيَّةَ بقرة، فإذا أخذوا أحد أعضائها، وضربوا به هذا القتيل يحيى، ويقف، ويقول: فلان قتلني، أي كأن الله سبحانه وتعالى أراد أن يُثْبِت لبني إسرائيل الحياة بعد الموت ؛ نقف قليلاً لننتقل إلى موضوع اليوم الآخر.
الحقيقة الكبرى أنه بعد الإيمان بالله ـ وهـو الرُكن الأول ـ أن تؤمن بالـيوم الآخر، لأن الحياة الدنيا من دون إيمانٍ باليوم الآخر غابة يأكل القوي فيها الضعيف، يستغلُّ الغني الفقير، وهذا مـا يجري في العالم اليوم، هو عالم لا يؤمن باليوم الآخر، فالقوي هو الذي يسحقُ الضعيف، والغني هو الذي يستغلُّ الفقير، والأقوى هو الذي يعتدي على الأضعف.
لم ينجح مجتمع على وجه الأرض إلا مجتمعاً آمن بالله واليوم الآخر:
الأحداث كلُّها تشير إلى أنه لن تقوم حياةٌ إلا أن تؤمن باليوم الآخر، وكل ما يقال من كلامٍ لا معنى له ؛ ضمير يقِظ، وازع داخلي، هذا كلُّه إن لم يُدَعَّم بالإيمان باليوم الآخر لا جدوى منه، ولم ينجح مجتمع على وجه الأرض إلا مجتمعاً آمن بالله واليوم الآخر ؛ فربنا سبحانه وتعالى من خلال قصة البقرة أراد أن يبيِّن لبني إسرائيل أن هذا الذي تراه ميتاً سوف يُحْييِه الله يوم القيامة لينال جزاء عمله، فماذا فعل بنو إسرائيل ؟
النعم، لا بدَّ أن تفارقها بالموت، وقد تفارقُكَ قبل الموت ؛ أما الآخرة فحياةٌ أبديةٌ سرمدية، حياةٌ لا نغص فيها، ولا شيخوخة فيها، ولا حُزْنَ فيها، ولا قلق فيها، ولا برد، ولا حر، ولا مرض، ولا فقر، ولا غنى، ولا قهر. ( لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) )
(سورة الصافات)
وقال: ( وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) )
( سورة المطففين)
الإيمان باليوم الآخر يأتي بعد الإيمان بالله تماماً، ولو تتبعت الآيات التي تذكر الإيمان لوجدت أن أكثر ركنين متلازمين من أركان الإيمان هما الإيمان بالله واليوم الآخر ؛ والحياة الدنيا من دون إيمان باليوم الآخر غابة ؛ يأكل القوي الضعيف، يستغل الغني الفقير، شعوبٌ تُقْهَر، شعوبٌ تموت من الجوع، وشعوبٌ تُطعِم كلابها من اللحم ما لا تأكله شعوب بأكملها في جنوبي آسيا، هناك محلات، وهناك رَفاه لكلابهم يفوق رفاه بعض الشعوب ؛ حياةٌ القوي فيها هو المسيطر، والضعيف مسحوق، هذه حياةٌ دُنيا من دون يوم آخر، انظر إلى مجتمع إيماني صغير، أفراده مؤمنون باليوم الآخر، تجد الإنسان يأخذ ما له ويدع ما ليس له
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
(ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) )سورة البقرة ( هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ) لو رسم الإنسان هدفاً، فالأهداف متحركة، والأهداف متبدِّلة، والأهداف غير ثابتة، والأهداف مِزاجية أحياناً ؛ هؤلاء البشر أمامكم منذُ آلاف السنين ؛ انغمس أناسٌ في الشهوات إلى قِمم رؤوسهم، وقدَّس أناسٌ العقل، فكان العقل سبب دمارهم، قدس أناسٌ العادات والتقاليد فكانت العادات والتقاليد سبب تخلفهم، أناسٌ قَدَّسوا المادة، أناسٌ قدَّسوا الروح، أناسٌ قهروا النفس، رسمت الشعوب والأمم أهدافاً لذواتها، وكانت الأهداف غير صحيحة ؛ ادَّعت شعوبٌ أنها الشعب المختار في الأرض، فأرادت أن تَقْهر بقية الشعوب، فدُمِّرت وانتهت، الآن هدف الشعوب الغربية المُتعة بأي طريق، وبأية وسيلة ؛ قضت المتعة عليها، وإذا كانت هذه الدول تقوم فهي تقوم على أدمغة الآخرين، لا على أدمغة أبنائها.
قل إن الهدى هدى الله، في الأرض هدى واحد، طريق مستقيم واحد، نور واحد. ( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ 30[ سورة البقرة: 257 ] ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ) [ سورة الأنعام: 153 ]
الباطل يتعدد و الهدى واحد :
الباطل يتعدد، النور واحد، والصراط المستقيم واحد، والهدى واحد، وماذا بعد الحق إلا الضلال، لذلك من كلمة الهدى دلالة تقودك إلى مطلوبك، لا بدّ من جهة تقدم الهدى وهي الله سبحانه وتعالى، ولا بدّ من جهة يقدم لها الهدى وهي الإنسان، ولكن الله عز وجل الذي يهدي والإنسان الذي يهتدي لا بدّ من أن يكون أمام الإنسان مطلب كبير هنا الوقفة: ما المطلب الكبير الذي نسعى إليه؟ قد يتراءى للإنسان الغافل أن المال شيء ثمين يسعى إليه بكل طاقته، في خريف العمر يكتشف أن المال ليس بهذا الحجم الكبير، ليس كل شيء إنما هو شيء، أما على شفير القبر يكتشف الرجل أن المال ليس بشيء، كل شيء هو طاعة الله عز وجل، كل شيء هو العمل الصالح المقرب إليه، قد يتراءى للإنسان الغافل في فترة من حياته أن اللذائذ ما كان منها مباحاً وما كان غير مباح هي كل شيء، فإذا تقدم به العمر رآها شيئاً وليست كل شيء، فإذا وقف على شفى القبر رآها ليست بشيء وأن طاعة الله عز وجل وأن العمل الصالح هو كل شيء.
لا بدَّ أن تستهدي الله بالهدف الذي تسعى إليه وبالطريق الموصل إلى هذا الهدف :
من هي الجهة المؤهَّلة التي ترسم لهذا الهدف طريقاً ؟ الله جلَّ جلاله، كلمة (هُدًى) دقق، إنسان وصل إلى مدينة ولا بدَّ أن يلتقي بشركة، ولا يعرف أين هذه الشركة، إذاً هو يحتاج إلى دليل، يحتاج إلى هادي، هو مهتدٍ، ويحتاج إلى هادٍ، والهدف الشركة والطريق ؛ كلمة هُدى تعني: الهدف والطريق والهادي والمهتدي، المهتدي أنت، الهادي، والهدف، والطريق من عند الله عزَّ وجل، فكل إنسان استهدى الله بتحديد الهدف، واستهدى الله بتحديد الطريق نجح، وأفلح، وفاز، ونجا، خلافاً للإنسان الذي وضع هدفاً من عنده (( يا عبادي، كُلُّكم ضالّ إلا مَنْ هَدَيتُه، فاسْتَهدُوني أهْدِكم )) [أخرجه مسلم والترمذي عن أبي ذر الغفاري ]
آياتٌ من القرآن متعلِّقة بالهدى : ( قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) ) هل هناك ثمرة بعد هذه الثمرة ؟ (فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ (38) ) مِن المستقبل كله (وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) ) على الماضي كله
( فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) ) وقال: ( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى )( سورة طه ) لا يضل عقله، ولا تشقى نفسه، اِجمع الآيتين، من يتبع هدى الله عزَّ وجل لا يضل عقله، ولا تشقى نفسه، ولا يندم على ما فات، ولا يخشى مما هو آت.
لذلك قد تجد إنساناً ذكياً لكن لن يكون الإنسان عاقلاً إلا إذا اهتدى بهدي الله: (( كُلُّكم ضالّ إلا مَنْ هَدَيتُه، فاسْتَهدُوني أهْدِكم )) [أخرجه مسلم والترمذي عن أبي ذر الغفاري )
هناك هداية دلالة، وهناك هداية توفيق، وهناك هداية مصلحة 1ـ هداية المصالح: الإحساس بالجوع هداية إلى المصلحة، لو أن الإنسان يجوع دون أن يشعر بالجوع لمات، يوجد عند الإنسان جهاز توازن لو اختل توازنه يستعيد توازنه، فالحفاظ على التوازن هذه مصلحة ؛ عينا الإنسان، وأذناه، وأنفه، وحواسه كلها تهديه إلى ما حوله، أنت موصول مع المحيط الخارجي بهذه الحواس.
2ـ هداية الدلالة: أنزل ربنا عزَّ وجل هذا القرآن على نبيه ليدلُّنا على ذاته، ليدلنا على هدفنا، ليدلنا على طريقنا، ليدلنا على منهجنا، اِفعل ولا تفعل، هذه هداية ثانية، هداية الدلالة.
3ـ هداية التوفيق: ( إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13))( سورة الكهف) إذا قبلت الهدى أيها الإنسان هُديت هدايةً ثالثة، هُديت توفيقاً، الله يوفقك، تستوعب الحق، يعينك على طاعته، يعينك على العمل الصالح، يجمعك مع أهل الحق، يشرح صدرك للإسلام، هذه كلها هداية توفيق، فأنت بين هداية المصلحة وبين هداية الدلالة، وبين هداية التوفيق، ثلاثة هدايات ؛ هداية مصلحة، هداية دلالة، هداية توفيق، تتوَّج هذه الهدايات أنك تهتدي إلى الجنة،
يدخل المؤمنون الجنة بفضل الله عزَّ وجل.
معنى قوله تعالى: ( إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)( سورة الكهف) هذا الهُدى هداية التوفيق: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى (17) (سورة فصلت ) هذا هو الاختيار: ( وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى (76) ( سورة مريم ) أيضاً هداية التوفيق
,,,,,,,,,,,,,,,,,,
بعض الأحاديث الشريفة التي تتعلَّق بسورة البقرة
يقول عليه الصلاة والسلام:
(( تَعَلَّمُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ وَلا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ ))
[أحمد عن ابن بريدة عن أبيه]
وفي حديثٍ آخر:
(( تَعَلَّمُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَآلَ عِمْرَانَ فَإِنَّهُمَا الزَّهْرَاوَانِ ))
[أحمد عن ابن بريدة عن أبيه]
و في حديثٍ ثالث:
(( وعَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَرَأَ رَجُلٌ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ، فَقَالَ: قَرَأْتَ سُورَتَيْنِ فِيهِمَا اسْمُ اللَّهِ الأَعْظَمُ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى ))
[الدارمي عَنْ مَسْرُوق بنٍ عَبْدِ اللَّهِ]
(( كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جَدَّ في أعيننا ))
[رواه أحمد في مسنده عن أنس بن مالك ِ]
جدَّ: أي عظُّم في أعيننا.
(( مَنْ قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ جَاءَتَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَقُولانِ رَبَّنَا لا سَبِيلَ عَلَيْهِ ))
[الدارمي عَنْ كَعْبٍ ]
(( ما خيَّب الله امرأ قام في جوف الليل فافتتح سورة البقرة وآل عمران ))
(لطبراني عن ابن مسعودٍ )
أخرج الإمام مسلم وأحمد والترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:((لا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ وَإِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي يُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ لا يَدْخُلُهُ الشَّيْطَانُ))[مسلم وأحمد والترمذي والنسائي عن أبي هريرة]
(( أفضل القرآن سورة البقرة وأعظم آيةٍ فيها آية الكرسيّ وإن الشيطان ليفر من بيتٍ تُقْرأ فيه سورة البقرة ))
[الحارث عن الحسن مرسلاً]
أرجو الله سبحانه وتعالى أن يوفِّقنا إلى متابعة فهم هذه السورة والعمل بها
الإنسان فهو مُكَرَّم أعطاه الله قوةً إدراكية تزيد عن حواسه الخمس وعن مدركاته الحسِّية ؛ أعطاه الله عقلاً، بالعقل تؤمن بالغيب
تمشي في طريق ترابي تجد أثر عجلتين، تقول: مرَّت من هنا سيارة، ولعلها صغيرة لقلة المسافة بين العجلتين، ولعلها كبيرة، ولعلها شاحنة كبيرة، أنت لم تر السيارة، ولكن رأيت آثارها، فعن طريق العقل أيقنتَ بأن هناك سيارةً مرت
الله جلَّ جلاله لا تدركه الأبصار، الله جلَّ جلاله غَيبٌ عنك، لكن الكون كله من آثاره، فعن طريق العقل إذا أعملته تتعرف على الله عزَّ وجل بهذه المخلوقات هذا عالم الغيب أول خصيصة للإنسان المؤمن أنه يؤمن بالغيب، يؤمن بالله ولا يرى الله، يؤمن بعظمة الله من خلال عظمة خلقه، يؤمن بتسيير الله من التسيير الذي يراه بعينه، يؤمن بالمسيِّر من التسيير، يؤمن بالحكيم من الحكمة، يؤمن بالمنظِّم من النظام، يؤمن بالخالق من الخَلْق، يؤمن بالمُبْدِع من الإبداع ؛ إن أكبر قضية في حياة المؤمن أن الله أعطاه عقلاً، والكون كلُّه أثر من آثار الله عزَّ وجل، فهذا العقل إذا وَجَّهْتَه إلى هذه الآثار دلّك على المؤثر.
القضية بسيطة جداً، أنت أمام جدار، وراء الجدار دخان، والقاعدة " لا دخان بلا نار " فإذا ذهبت إلى خلف الجدار رأيت النار بعينك، " ليس مع العين أين "، لا نريد دليلاً ؛ أما إذا ابتعدت عن الجدار ورأيت الدخان، الآن يحكم عقلك من أثر النار على وجود النار، تقول: لا دخان بلا نار، ما دام هناك دخان إذاً يوجد نار، مع أنَّك لم ترَ النار، هذا أحد أنواع الغيوب، غيبٌ له آثار، شيءٌ غاب عنك وله آثار، فوسيلة إدراكه العقل ؛ يمكن أن نسمي هذا الغيب: بالغيب الشهودي، الغيب الذي له في عالم الشهود آثار.
وفي كل شيءٌ له آيةٌ تدل على أنَّه واحدٌ
أنواع الغيب:
الغيب الأول، غيبٌ له آثار أداته العقل.
الغيب الثاني غيب الأخبار غيبٌ ليس له آثار، أداته الأخبار فقط، والخبر أساسه أن يكون صادقاً، فإذا كان الخبر صادقاً هذه معرفة من نوع ثالث، إما أن ترى بعينك، وإما أن تستدل بعقلك، وإما أن تُصْغي بأذنك، فأخبرنا الله عزَّ وجل أن هناك ملائكة، هذا نوع ثالث، أخبرنا أن هناك عالماً هو عالم الجِن، أخبرنا أن هناك يوماً آخر، أخبرنا أن في هذا اليوم نار جهنم، وجنة عرضها السماوات والأرض، كل هذه الغيوب التي لا أثر لها، والتي لا يستطيع العقل أن يصل إليها أخبرنا الله عنها.
فالغيب الثالث غيب إخباري، الغيب الثاني غيب استدلالي، وهناك غيبٌ استأثر الله به لا يعلمه أحدٌ إلا الله.
( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ (27)
( سورة الجن )
فإذا أخبرنا النبي عن شيءٍ في المستقبل فهو من إعلام الله له لا من علمه الذاتي.
من رحمة الله بالإنسان أنه ترك له علامات لكل شيء :
( يؤمنون بالغيب )
شيء غاب عنك، لكنك تعرف آثاره،
لا يرى الطبيب الجراثيم، يقول لك المريض: عندي ارتفاع حرارة، و قيئ، و إسهال، يقول لك الطبيب: معك الجرثوم الفلاني في الأمعاء ؛ قال الله عزَّ وجل:
(وَعَلَامَاتٍ (16))( سورة النحل )
من رحمته بنا ترك ربنا عزَّ وجل علامات، أعطانا علامات، علامات للنباتات، علامات للأمراض، علامات للجراثيم، علامات لكل شيء..
( وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) )( سورة النحل )
ما قيمة الإيمان بالغيب ؟
آمنت أن لهذا الكون خالقاً، آمنت أن لهذا الكون مسيَّراً، آمنت أن هذا الخالق عظيم،
ما قيمة هذا الإيمان إن لم تتصل به ؟
أنا أكاد أموت عطشاً، وعلمت أن هناك ماءً عذباً بارداً سائغاً، ما قيمة هذا الإيمان إن لم أتحرك إليِّه ؟ الإيمان النظري لا قيمة له إطلاقاً،
" العلم ما عُمل به فإن لم يُعمل به كان الجهل أولى "
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) سورة البقرة)
يقيّم الإنسان من أعماله فقط، أعماله تؤَكِّدُ مكانته، لذلك تجد إنساناً يؤمن بشيء علانيةً، ولكن أفعاله لا تؤكد ذلك، ليس في فعل المنافق فعلٌ واحد، يؤكد أنه مؤمن بالجنة، هو لا يعمل لها.. وليس في فعل المنافق فعلٌ واحدٌ يخاف من مؤمن يؤكد أنه بالنار، لأنه لا يتقيها.. هؤلاء الذين ينغمسون إلى قمة رؤوسهم في المال الحرام أين هي الجنة والنار في حياتهم ؟ والله لو أن الإنسان آمن أن هناك ناراً سيدخلها إلى أبد الآبدين لعدَّ إلى المليون قبل أن يأكل درهماً حراماً، ولو آمن أن هناك حساباً عسيراً..
( فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) (سورة الحجر)
( فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ( سورة المدثر)
أنواع النفاق:
هنـاك من النفاق ما هو ضعفٌ في الإيمان، أو ضعفٌ أمام الشهوات، هذا المنافق الذي انطلق من ضعفٍ في اليقين، وضعفٍ في الإرادة، لعل الله سبحانه وتعالى يُعالجه فيأخذ بيده إلى الإيمان، وهناك حالاتٌ كثيرة ممن عاصروا النبي عليه الصلاة والسلام كانوا منافقين فتاب الله عليهم، ولكن النفاق الذي يُنْتَفع به لمكاسب دنيوية ـ حينما ينتفع الإنسان بالكفر، وحينما يتخذ الكفر وسيلةً لمكاسب مادية، هذا الكافر يصبح مع الكافرين (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) )
والمنافق الذي أصله كافر كفراً اعتقادياً، وكفراً سلوكياً، وهو مع المؤمنين في ظاهره، هذا أيضاً لا ينتفع بأية موعظةٍ يتلقَّاها..
النفاق أخطر شيءٍ في حياة المؤمنين :
يبتلي الله عزَّ وجل المؤمنين ابتلاءاتٍ متعددة، يبتليهم فيمنحهم القوة، ويبتليهم فيضعفهم، المؤمنون مبتلَوْنَ حينما يظهرهم الله على أعدائهم، ومبتلون حينما يستضعفون، فإذا كان الابتلاء استضعافاً كَثُرَ الكفار، لأنهم لا يخافون أحداً..
وإذا كان البلاء قوةً كثر المنافقين، و في مكة المكرَّمة لم يكن هناك منافقون، لأن الإنسان يكفر جهاراً، ويتَّهم النبي جهاراً، ويقول: إنه مجنون، وإنه ساحر، وإنه شاعر، وإنه أَفَّاك، وينام مطمئناً في بيته، ولا يناله أحد بأذى، لأن المؤمنين ضِعاف، يكثر الكافرون مع ضعف المؤمنين، أما في المدينة فقد أصبح للمؤمنين شَوْكَة، وهم قوة، لذلك كثر المنافقين، المنافق كافر لكنه رأى من مصلحته أن يَنْضَمَّ إلى المؤمنين صـورةً وأن يتعاون مع الكافرين حقيقةً، لذلك أخطر شيءٍ في حياة المؤمنين النفاق، المؤمن كما قلت قبل قليل واضح، والكافر واضح، المؤمن انسجم مع الحقيقة، ومع نفسه، وكان مصدر عطاءٍ للخلق، والكافر انسجم مع نفسه فقط، لا مع الحقيقة، شره محدود، لأن هويّته معلنة، المؤمن جريء آمن بالحق، وضحَّى، وقبض الثمن، والكافر جريء، ردَّ الحق وكسب بعض المكاسب المؤقَّتة، ودفع ثمنًا باهظاً، لكن المنافق متلوِّن لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء.
( وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ (15))( سورة البقرة)
( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)
حب الدنيا مرض، حب الدنيا يعمي ويصِم، حب الدنيا رأس كل خطيئة، لكن ليس من حب الدنيا أن يكون لك بيت تشتريه بمالك الحلال، ليس هذا من حب الدنيا، وأن تحب أن تقترن بامرأةٍ صالحة، ليس هذا من حب الدنيا، و أن تحب أن يكون لك دخلٌ حلال، ليس هذا من حب الدنيا، حب الدنيا ما حملك على العدوان، وعلى أخذ ما ليس لك، على أن تعتدي على أموال الآخرين، وعلى أعراضهم، وأن تنافس الناس على الدنيا، وأن تحطِّمَهُم من أجل مصلحتك، هذا هو حب الدنيا الذي هو رأس كل خطيئة..
(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا (10)
من مرض إلى مرض، كان بالنظر فأطلق البصر، إطلاق البصر نقله إلى الحديث اللطيف مع الجنس الآخر، نقله الحديث إلى لقاء، واللقاء انتهى به إلى الزنا، والزنا انتهى به إلى السجن، ثم إلى مرض الإيدز، بدأ من نظرة.. هكذا سمعت أن سائقاً ركبت معه امرأة.. سألها: إلى أين ؟ قالت له: إلى حيث تشاء، فهِم، وعدَّ هذا مغنماً كبيراً، وبعد أن انتهى أعطته رسالةً، وظرفاً فيه مال، فتح الظرف.. وجد خمسة آلاف دولار.. ورسالة مكتوب فيها: مرحباً بك في نادي الإيدز، نقلت له المرض، ذهب ليصرف المبلغ، فإذا هو مزور، فأودِع في السجن.
( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ )
المرض حبُّ المال، من أجل حب المال نفعل كل شيء، لذلك يغيرون خلق الله عزّ وجل، هل من الممكن أن تضع مادة في بعض المواد الغذائية، وهي مادة كيميائية محضة لا يقبلها الجسم لتُبَيِّض هذا المنتج فيزداد سعره ؟
حب المال جعلهم يفسدون هذا المنتج..
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) البقرة
هذا الماء غير فاسد، لأنه لا لون له، ولا طعم، ولا رائحة، كيف نفسده ؟
إذا غيَّرنا لونه، أو طعمه، أو رائحته، وإفساد الشيء إخراجه عن صفاته الأساسية، إفساد الفتاة إخراجُها عن العِفَّة والحياء، إفساد الموظَّف إخراجه عن خدمة المواطنين، إفساد القاضي إخراجه عن العدل، إفساد الطبيب إخراجه عن النصح للمريض، إفساد المُحامي أن يكذب على موكِّليه، إفساد المدرِّس أن يعطي المعلومات الصغيرة في وقتٍ مديد، أي لم يعلمهم شيئاً، أخذ مبلغاً من المال ولم يُعلِّم شيئاً، فكل حرفة، وكل شخصية، وكل هوية لها طريقٌ قويم، ولها طريقٌ فاسد، فالمنافق يريد شهوات الدنيا فيفسد المرأة بإغرائها أن تُسْفِر، وأن تعرض مفاتنها للناس في الطريق، يُغْري إنساناً أن يأخذ المال الحرام....
( قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ)
طبعاً يصلحون جيوبَهم، يصلحون معيشتهم وحدهم، ويبحثون عن مصالحهم الضَيِّقة
يرى الصلاح في الفساد، يرى ربحه هو الصلاح ولو على حساب كل شيء..
(أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) )
أعظم أنواع الفساد أن تُفْسِد العقيدة، أن تفسد دين الإنسان،
أن تُعَلِّقَهُ بأوهام ما أنزل الله بها من سلطان
أن تُعَلِّقَهُ بحديثٍ موضوع، أن تعلقه بحديثٍ ضعيف، أن تعلقه بتأويلٍ غير صحيحٍ لآيات الله، أن تأتيه بقصص لا أصل لها في الدين، أن تأتيه بِقِيَم رفضها الإسلام
البعض يمارس مصلحة مبنية على المعصية، يقول لك: هذه مصلحة رائجة الآن، يبدِّل مصلحته فوراً إلى مصلحة أو إلى حرفة أساسها إفساد الشباب،
يقول لك: هذه أربح، يقول لك: أليس العمل عبادة ؟
تكون حرفته غلط كلها، فساد كلها، يعُدّ العمل عبادةً !!
فقضية الفساد صفةٌ جامعةٌ مانعةٌ للمنافق
يرى الصلاح بكسب المال، يرى الصلاح بتحقيق المتعة، يقول لك: أنا أستخدم في العمل فتيات لأنهن أكثر إيناساً، وأقل مَؤونَةً، وأكثر طواعيةً، وأحفظ سراً، يرى ميزات عمله فقط، والناحية الثانية يُغْفِلُها، وهي هذا الشاب الذي ينتظر عملاً ليتزوج، لقد أصبح الطريق مسدوداً أمامه.
طبعاً لا يشعر، هو في أعماقه يشعر أنه فاسد،
ولكن لا يشعر أن هذا العمل له آثار قد لا تَخْطُر في باله.
فرضاً من باب الجدل، لو أن إنساناً أفسد فتاة، يشعر أنه أفسدها، وأخرجها عن طبيعتها، وعن قوامها الذي أراده الله لها، خلقها الله لتكون زوجة طاهرة تنجب أولاداً، فَلِذة أكبادها، فلما أفسدها أخرجها عن طبيعتها، وجعلها تمتهن الانحراف، هو لا يشعر أنه بعد مئة عام قد يأتي من نسلها مئة ألف، مئة ألف فتاةٍ فاسدة، كلهن في صحيفة هذا الذي أفسد الأولى، هذا معنى قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ (12) ( سورة يس)
لو اطلع الإنسان على الآثار الوبيلة التي يتركها عمله لارتعدت فرائصه، كل هذا محاسبٌ عليه، يسُنُّ الإنسان أحيان سنةً سيئةً فعليه وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، الذي اخترع البارود، شعر بجريمته بعد أن اخترع البارود، فرصَدَ كل أمواله كجائزة سنوية لمن يُقَدِّم أعظم بحثٍ يعود على الإنسانية بالخير.
الحديث عن الفساد حديث طويل، فالهدف عند المنحرفين أن تفسد من أجل أن تربح، الإفساد من أجل أن تربح المال، أو أن تنغمس في الشهوة، الهدف إما ربح مال، والمال مادة الشهوات، أو تحقيق لذَّة دنيا سافلة، فإما أن يتمتَّع، وإما أن يكسب المال، من أجل هذين الهدفين يفعل كل شيء، ويفسد كل شيء، ويحرِف كل شيء، ويزوِّر كل شيء.
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)
يركبون رؤوسهم، يتعنَّتون.
قصص من العالم عن انتشار الفساد بما كسبت أيدي الناس:
لكن الله سبحانه وتعالى قوله الحق:
( أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) )
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ) من هو السفيه ؟
هو الذي يُضَيِّع النفيس ويأخذ الخسيس، فإذا أتلف إنسان ماله فرضاً، أو أنفق ماله إنفاقاً غير معقول نسميه سفيهاً، والسفيه يُحْجَرُ عليه، فأيهما أثمن ؟
والآن كلام دقيق، من هو السفيه الحقيقي ؟
إذا رأيت إنساناً يمسك مئة ألف ليرة عدَّها أمامك، ثم جاء بعود ثقاب فأحرقها أمامك، ثم ألقى الرماد في سلة المهملات، ألا تعتقد أنه مجنون، أو أنه سفيه ؟
مئة بالمئة،مثل هذا الإنسان الذي يُحْرِق مئة ألف يُحْجَر على تصرفاته لأنه سفيه فإذا ضيَّع الوقت أمامك ألا تعده أشد سفاهةً ؟
بالتأكيد
أخطر شيء أن تُمضي سهرة إلى الساعة الواحدة ؟
لمتابعة مسلسل، شيء سخيف، بمتابعة قصة فارغة، بمتابعة حديث فارغ، بلعب النرد، هذا الذي يقتل وقته، أنت وقت، أنت بضعة أيام فقط، كلما انقضى يومٌ انقضى بِضْعٌ منك، أثمن شيء تملكه هو الوقت، طبعاً أثمن من المال بما لا يُقَدَّر، ماذا يفعل الإنسان بالمال عندما تنتهي حياته ؟
فلو ترك ألف مليون، انتهت حياته، الوقت هو وعاء كل شيء فإذا أُلْغي هذا الوعاء انتهى كل شيء، مركبٌ في أعماق كل منا أن الوقت أثمن من المال، فالذي يتلف ماله يُعَدُّ سفيهاً، والذي يُضَيِّع وقته يعد أشد سفاهةً. (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ )
قيمة الإنسان في آخر الزمان
بقيمة متاعه فقط لا بإيمانه ولا بأخلاقه :
لعلهم يتوهمون أن الفقراء هم السُفهاء، فالسفهاء في رأيهم تعني الفقراء لأن مقاييسهم ماديَّة محضة، يُقَدِّرون الإنسان بحجم ماله، بنوع بيته، بمساحة بيته، بموقع بيته، بنوع مركبته، بالرقم الذي على خلف المركبة، فحجم الإنسان عند هؤلاء السفهاء بحجم متاعه، وقيمة الإنسان في آخر الزمان بقيمة متاعه فقط، لا بإيمانه، ولا بأخلاقه. كان الأحنف بن قيس إذا غضب غَضِبَ لغضبته مئة ألف سيف لا يسألونه فيما غضب، مع أنه كان قصير القامة، أسمر اللون، غائر العينين، ناتئ الوجنتين، أحنف الرجل، ضَيِّق المَنْكِبَين، ومع ذلك كان إذا غَضِب غَضِبَ لغضبته مئة ألف سيف لا يسألونه فيما غَضِبْ، فقيمة الإنسان بإيمانه، وأخلاقه، وعمله.
فهذا الذي يأتي إلى الدنيا، ويخرج منها، وما فعل شيئاً، إلا أنه أكل، وشرب، ونام، واستمتع فقط كالبهائم. ( إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً )
<<<<<<<<<<<<<<<
حينما ترى الله يتابع نعمه عليك وأنت تعصيه
فأحذره
(اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) سورة البقرة)
هذه سُنَّة الله في خلقه، أنت إنسان مخيَّر، ولا بدَّ أن تأخذ أبعادك كلَّها، ولا بدَّ أن يسمح لك أن تصل إلى نهاية الطريق، إلى هنا حدود الفساد، إلى هنا حدود الانحراف، لا بدَّ من أن يُرْخ لك الحبل، لذلك حينما ترى الله يتابع نعمه عليك وأنت تعصيه فاحذره، هناك قصد، إذا وجدت النعم، ووجدت القوة، ووجد المال، ووجدت الوسامة، وهناك انحراف، وكفر، فهذا الإنسان يحتاج إلى ضربةٍ واحدة: ( إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) ( سورة يس)
عندما يُعَالج ربنا عزّ وجل الإنسان بالتدريج هذه نعمةٌ عظمى، عندما يتابعه ويُحاسبه على ذنوبه ذنباً ذَنباً , وخطيئةً خطيئةً، هذه نعمةٌ كبرى، عندما يغلط يخطأ المؤمن فيأتي العقاب فوراً هذه نعمةٌ ما بعدها نعمة، أي أن الله سبحانه وتعالى يتابعك، ويربِّيك، أما حينما يتابع الإنسان كل المعاصي، والانحرافات، والله عزّ وجل لا يعالجُهُ، فإن هذه علامة خطيرة جداً، أنه سوف يقْصم قَصْماً.
كل إنسان تحت ألطاف الله عزّ وجل:
قال تعالى: ( اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) ) يُمَدُّ له، يُرْخى له الحبل، لكن دقق الإنسان في قبضة الله، في أية لحظة تنقلب حياته إلى جحيم، بأي لحظة ينقلب أمنه إلى خوف، خوف مدمِّر، ينقلب غناه إلى فقرٍ شديد في أية لحظة، وفي أية لحظة تنقلب قوته إلى ضعفٍ شديد، الله هو القوي يقوي الإنسان وفي أية لحظةٍ يضعفه، الله هو الغني يغني إنساناً وفي أية لحظةٍ يفقره، الله عزّ وجل يُمِدُّ إنساناً وفي أية لحظة يأخذ منه، الإنسان تحت ألطاف الله عزّ وجل
معنى ( يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ) يحتقر عملهم، يحتقر سخافتهم، أحياناً الإنسان بسذاجةٍ، بضيق أفقٍ، بجهلٍ فاضح يظُنُّ أنه إذا خدع الناس فهو ذكي، أنه إذا خدعهم، وأقنعهم بشيء، وهو على خلاف ذلك فهذه حِنْكة ما بعدها حنكة، هذا حَمقٌ ما بعده حمق، علاقتك بالله وحده، وأنت عند الله مكشوف، وهؤلاء الذين تَخْدَعُهم وتوهمهم لا يملكون لك ضراً ولا نفعاً، ولا حياةً ولا نشوراً، تخدع إنساناً ضعيفاً، تصوروا إنساناً عمره أربعون سنة، وأمامه طفل عمره خمس سنوات مثلاً وهو يحاول أن يقنعه أنه غني، فإذا أقنعتَه أو لم تُقنعه ماذا يفعل هذا الطفل أمامك ؟ شيء لا يُصدَّق، فكل إنسان ينسى الله، ينسى أن الله يكشفه، ينسى أن الله مُطَّلعٌ على سرائره ويخدع الناس، إذا توهَّم أنه حاذقٌ ومُحَنَّك فهو أحمق، لأن هذا الذي تخدعه لا يملك لك نفعاً، ولا ضراً، ولا حياةً، ولا نشوراً، ولا رزقاً، ولا أمناً
<<<<<<<
تجارة المؤمن رابحة أما تجارة الكافر فخاسرة
﴿ فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ (16) ﴾
عملية تجارية، حياتك سنوات محدودة،
إذا قلنا لشخص:
تمتع بمئة مليون خلال سنة، وسوف تدخل إلى السجن لتمضي عشر سنوات مع التعذيب، هل يقبل هذا ؟
لا أحد يقبل، فلو تمتع سنة، وعشر سنوات تعذيب، فإنه لا يقبل
كيف إذا كانت الدنيا من الآخرة ليست بشيء ؟
لا أحد ينتبه أبداً إذا كان رقم واحد في الأرض وأصفار إلى الشمس، وبين الأرض والشمس مئة وستة وخمسين مليون كيلو متر وكل ميلي متر صفر، ما هذا الرقم ؟ هذا الرقم إذا قيس باللانهاية قيمته صفر، تصور الرقم واحد بالأرض، وأمامه مئة وستة خمسون مليون أصفار، كل ميليمتر صفر، فكيف إلى المشتري ؟
كل ميلي متر صفر، هذا الرقم إذا قيس باللانهاية الآخرة قيمته صفر، فهؤلاء الناس من أجل عشر سنوات معدودات؛ فسق، وفجور، وانحراف، وأكل مال حرام، ويدع ساعة الموت خارج كل حساباته،
يأتي الموت فجأةً فإذا الإنسان في قبضة الله عزّ وجل.
﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) ﴾سورة البقرة
فما ربحت تجارتهم، كأن الله سبحانه وتعالى يجعل علاقتك به نوعاً من التجارة تقدم له شيئاً ويعطيك أشياء:
﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً ﴾[ سورة البقرة: 245 ]
أيّ عمل صالح في الأرض هو إقراض لله عز وجل :
أيّ عمل صالح في الأرض هو إقراض لله عز وجل، وسوف تكافأ عليه يوم القيامة
فلأنّ أهل مكة كانوا تجاراً فالله سبحانه وتعالى يخاطبهم على قدر عقولهم، أي أيها المؤمن إذا تاجرت مع الله تربح ربحاً مجزياً، وإن أردت الدنيا وضيعت الآخرة، إن اشتريت الضلالة بالهدى تشتري العذاب بالمغفرة، إن اشتريت الدنيا وبعت الآخرة اخترت الخسيس وتركت النفيس، فربنا عز وجل يقول:
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾[ سورة التوبة: 38 ]
هذا الذي آثر الدنيا على الآخرة.. آثر القليل على الكثير.. وآثر الخسيس على النفيس.. وآثر الذي يفنى على الذي يبقى.. وآثر دنيا محدودة مشغولة بالمتاعب على جنة كلها مسرات وسعادة، فالإنسان كلما رجح عقله ازداد حبه لله عز وجل
أرجحكم عقلاً أشدكم حباً لله.
1ـ المعنى الأول أن المنافق يريد من النار أن تضيء له حياته ليكون سعيداً:
أراد المنافق من النار ضوءها طبعاً، قد تُريد النار من أجل الدفء، وقد تُريدها من أجل طهو الطعام، وقد تُريدها من أجل النور. هنا أراد الله عزَّ وجل أن يبيِّن لنا أن المنافق يريد من النار أن تضيء له حياته، أن تكون حياته سعيدة، فيها بهجة، فيها عِز، فيها فخامة، فيها رفاه، وكم من بيتٍ فخمٍ لم يسكنه صاحبه، وكم من مركبةٍ فارهةٍ ركبها أياماً معدودة، ثم فاجأه ملك الموت، هذا الذي يجعل كل مكتسباته محصورة في الدنيا، يقامر ويغامر.
المؤمن له مستقبل، والمؤمن يأتيه ملك الموت، ولكن يأتيه ملك الموت وله عند الله رصيدٌ كبير، قدَّم ماله أمامه فسهُل عليه اللحاق به، رصيده عند الله كبير، استقامته، وطلبه للعلم، وعمله الصالح، ونفعه للمسلمين، صدقه، وأمانته، وتربية أولاده، هذه كلها أرصدة هائلة مودَعَةٌ له في الآخرة، فإذا فاجأه الموت يقول له: مرحباً، الموت تحفة المؤمن، الموت عرس المؤمن، لا تكن أيها الأخ الكريم كالذي وضع كل إمكاناته في الدنيا، هذه الإمكانات العالية في الدنيا تُنهيها جلطة، تنهيها سكتةٌ قلبيةٌ مفاجئة، تنهيها خثرةٌ دماغية، ينهيها نمو الخلايا العشوائي، أما الذي له عند الله رصيدٌ كبير من العمل الصالح، ومن الانضباط الشرعي، ومن الدعوة إلى الله، لو جاءه الموت، الموت تحفته، الموت عُرسه.
2ـ المعنى الثاني رفض المنافقين لدعوة النبي التي كانت ستوصلهم للسعادة في الدنيا والآخرة:
المعنى الثاني في هذه الآية أن اليهود كانوا يتحدَّوْنَ المنافقين قبل مجيء الرسالة النبوية بقولهم: آن أوان مجيء نبيٍ نؤمن به، فالمنافقون كان عليهم أن يؤمنوا بهذا النبي ليتحدّوا اليهود الذين بشروهم بهذا النبي، فلما جاء النبي الذي كانوا ينتظرونه، وكانوا يبحثون عنه، كي يردوا على كيد اليهود، وكي يقفوا أمامهم نداً لند، كذَّبوا به، فهم استوقدوا ناراً، فلما أضاءت ما حولهم أذهب الله نورهم الذي كان من الممكن أن يُرْشِدهم إلى طريق السعادة في الدنيا والآخرة برفضهم لدعوة هذا النبي.
3ـ المعنى الثالث أنهم كفار حقيقة لكن مصالحهم تعلقت بالمؤمنين فأظهروا ما لا يبطنون:
المنافق يظهر عكس ما يُبطن
هؤلاء المنافقين هم في الحقيقة كُفَّار، ولكن مصالحهم تعلَّقت بالمؤمنين، فأعلنوا إسلامهم، وأخفوا كفرهم، وهم أرادوا الدنيا فقط، هؤلاء انتفعوا بكفرهم، ولكنهم يختلفون عن الكافرين بأن لهم مصالح مع المؤمنين، فأظهروا ما لا يُبطنون، وأعلنوا ما لا يُسِرُّون، والدليل على ذلك:
﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) ﴾
لا يسأل ، لأن الأمر لا يعنيه إطلاقاً ، ولا ينطق بالحق ، هو لا ينطق بالحق من باب أولى ، وهو لا يسأل ، لأن لسانه لا يستخدمه إلا للدنيا ، للغيبة والنميمة ، للحديث عن النساء ، للحديث عن مظاهر الدنيا .
. لا يرى الحقائق ، لا يرى الآيات الدالة على عظمة الله ، لا يرى أفعال الله عزَّ وجل التي تهتز لها القلوب .
كيف يرجعون وهم على ما هم عليه من الصمم ، من الخَرَس ، من العَمَى ؟!!
ينخلع قلبه لذكر الموت ، هناك أُناسٌ يكرهون القرآن ، لماذا ؟
لأنه يُتلى في مناسبات الحُزن ، كأن القرآن يذكِّرهم بالموت
هناك أناسٌ يكرهون بعض النباتات لأنها توضع على القبور ، يكرهون كل شيءٍ يذكِّرهم بالآخرة من شدة تعلُّقهم بالدنيا ، حتى أنك لا ترى في بعض البلدان جنازة إطلاقاً ، من المستشفى بسيارة إسعاف إلى المقبرة لا ترى فيها نعياً على الجدران
بلادٌ كثيرة إسلامية النعي فيها ممنوع ، الجنائز ممنوعة ، لا ترى الموت على الإطلاق
يحب ألا يسمع الكلام الذي يُزعجه ، يضع إصبعه في أُذنه ، وهذا واقع ، تتحدث حديثاً عن الآخرة تجده يتثاءب ، اعتذر لأن عنده موعد ، اجعل الحديث عن الدنيا تجده جلس معك حتى الساعة الواحدة ، ولم يقل لك : عندي موعد ، ما دام الحديث عن الدنيا هو مصغٍ إليه ، كتلة نشاط وحيوية ، حدثه عن الآخرة تجده تململ وتثاءب وتأفف واعتذر . يظنون إذا تجاهلوا ذكر الموت ، وإذا تجاهلوا الدار الآخرة ، أنهم لا تصيبهم الآخرة ولا يموتون
إذا نجح ابنه بتفوق فإنه يحب الجامع الذي فيه ابنه ، وشيخ ابنه ، ويقول له : يا بني خذ أخاك معك إلى الجامع ، وإذا رسب ابنه عزا كل أخطاء ابنه للشيخ والجامع ، الجامع ليس له علاقة بالموضوع ، ابنك هو المقصِّر ، لا يوجد عنده حل موضوعي ، إنه يميل مع مصالحه .
﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا)
لا أحد يقول طبعاً: إن هناك إلهاً آخر خلَق، أما أنت حينما تخضع لإنسان فقد جعلته نداً لله، ذكرت مرةً: أنه ـ دققوا في هذا الكلام ـ من أطاع مخلوقاً وعصى خالقه، فهو لم يقل: الله أكبر ولا مرة ولو رددها بلسانه ألف مرة، لأنه في الأساس أطاع الأقوى في نظره، جعله نداً لله، هناك أشخاص يجعلون فتنة الناس كعذاب الله، مثلاً إذا هدده إنسان قوي فإنه يعصي الله، يشرب خمر لكي يتخلَّص من شره، أنت جعلت عذابه كعذاب الله،من لم يُقِم الإسلام في بيته إرضاءً لأهله ولأولاده فهو ما قال: الله أكبر ولا مرة ولو رددها بلسانه ألف مرة، لأنه رأى أن إرضاء أهله وأولاده أغلى عنده من إرضاء الله عزَّ وجل، مَن غَشَّ المسلمين ما قال: الله أكبر ولا مرة ولو رددها بلسانه ألف مرة، لأنه رأى أن هذا المال الحرام الذي يكسبه من غِشِّ المسلمين أغلى عنده من طاعة الله.
هؤلاء لم يخلقوكم، ولم يرزقوكم، ولا يملكون نفعكم ولا ضرَّكُم، ومع ذلك تتخذونهم أنداداً ؟!
وهذه مشكلة كبيرة في العالم الإسلامي، الناس يعبدُ بعضهم بعضاً، يقول الله عزّ وجل:
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ﴾( سورة البقرة: آية " 165 " )
أن تتخذ نِداً لله أي أن تُحِبَّه كحب الله، وأن تخافه كما تخاف الله، وأن ترجوه كما ترجو الله، وأن تُعَلِّق عليه الأمل كما تُعلق الأمل على الله عزَّ وجل.
﴿يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (165)﴾
أي ظلموا أنفسهم حينما أحبوا أندادهم كحب الله.
الذي ينبغي أن يُحَب هو الله وحده لأنه أصل الكمال:
الله أصل العطاء والجمال
الذي ينبغي أن يُحَب هو الله وحده لأنه أصل الكمال، وأصل النوال والعطاء،
أي قد يمرض ابن الرجل مرضاً شديداً، فيأخذه إلى طبيب، يلهم هذا الطبيب بتوفيق الله أن يشخص المرض ويحدده، ويُلهم وصف الدواء المناسب فيشفى هذا الابن، ونسي الأب الله وعزا الشفاء إلى الطبيب، تُوكِّل محامياً فأكرمك الله عزّ وجل بأن ألهمه المذكرة الدقيقة وألهم القاضي أن ينصفك فأنصفك، تعزو نجاح الدعوى إلى هذا المحامي وذاك القاضي، لذلك قال تعالى: ﴿ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) ﴾( سورة الزمر)
لتكن هذه الآية مناراً يهديك، فلا تنزلق في مهاوي الشرك ويحبط ـ لا سمح الله ـ عملك، إنها:
﴿ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)﴾
وبعد ؛ فإن الإنسان إذا نسب الأمور إلى قوَّته، أو إلى حكمته، أو إلى علمه، أو إلى قوة الآخرين وعلم الآخرين فقد أشرك، إذاً الحذر الحَذر ولا ينبغي أن ترى مع الله أحداً، هذه الآية أيها الأخوة من الآيات الدقيقة التي تبيِّن أن الشرك الخفي هو أن ترى مع الله أحداً، أن تتخذ من دون الله أنداداً تحبُّهم كما ينبغي أن تحبَّ الله عزّ وجل
إذاً حينما تتعبد لله حقاً ترتقي إلى أرقى مرتبةٍ في الكون وهي أن تكون عبداً لله، لكن الناس كلهم عبيدٌ لله قولاً واحداً، عبيدٌ لله جميعاً كافرهم ومؤمنهم
معنى العبودية: أن تكون مفتقراً إلى إمداد الله، من منا يقول: أنا لست عبداً ؟إذا لم تكن عبداً أغلق أنفك، فهل تستطيع ؟ أنت مفتقر إلى هذا النَفَس، فإذا مُنع عنك الهواء ثلاث دقائق تموت، لست عبداً ؟ دع الماء أياماً معدودة يوماً أو يومين يموت الإنسان، لست عبداً ؟ دع الطعام، وجودك مفتقر إلى ما حولك، إلى هواء، إلى ماء، إلى طعام، إلى زوجة، إلى مأوى، إلى رزق، إلى مال تشتري به الطعام، إذاً أنت عبد، هذا العبد المقهور ليس هو المقصود، هذا عبد القَهْرِ، جمعه عَبيد: ﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46) ﴾
العباد هم الذين عرفوا الله، واختاروا طاعته، وآثروا قربه، وعملوا لبلوغ جنَّته، ففرِّق بين العبيد والعباد، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام عبدٌ، عبدٌ لله، لكنه عبدٌ أتاه بمحض إرادته، هو عبد الشُكْرِ، لا عبد القهرِ، الملحد عبد لله، بدليل أن وجوده مفتقرٌ للهواء والشراب والطعام، هو عبد ولكنَّه عبدٌ مقهور، العبد المؤمن تعَرَّف إلى الله باختياره، وأطاعه باختياره، فهو عبد الشكر
(( لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافر منها شربة ماء ))
( من الجامع الصغير: عن " سهل بن سعد " )
تعارف الناس على أن البعوضة لا قيمة لها ، حشرةٌ حقيرة ، يضربها الإنسان ويقتلها يبدو أن هذه الحشرة هيَّنةٌ على الناس ، لكن الشيء الذي يلفت النظر هو أن الشيء كلما صَغُر كلما احتاج إلى صنعةٍ بارعة ، فقد تجد مذياعاً كبيراً فلا يثير دهشتك ، أما إن رأيته صغيراً فإنه يستأثر باهتمامك ، وأما إن رأيت ساعةً فيها مِذياع فإنك تزداد اهتماماً وانتباهاً ، وتدرك أن فيها دقة صُنع . أطلعني أخٌ كريم على جهاز كمبيوتر بحجم كف اليد فيه كل البرامج التي توضع في الكبير ، وفيه اتصال دولي ، وفيه إنترنت ـ شيء لا يُصدق ـ بحجمٍ صغير ، فكلَّما صغرت الآلة كان وراءها صنعةٌ بارعة
البعوضة لها ثلاثة قلوب ، قلبٌ مركزي وقلبٌ لكل جناح ، هذا القلب يُمِدُّ الجناح بطاقةٍ تجعله يرِفُّ أربعة آلاف رفةٍ في الثانية ، هذه البعوضة عندها جهاز رادار ، ففي ظُلمة الليل ينام طفلان على سريرهما تتجه البعوضة إلى الطفل مباشرةً دون أن تتجه إلى وسادة أو إلى ركن في الغرفة ، الآن لديها جهاز رادار يكشف لها الكائن الحي فإذا وصلت إليه حلَّلت دمه ، هناك دمٌ لا يُناسبها ، قد ينام أخوان على سرير واحد ، يفيق أحدهما ، وقد أُصيب بمئات لدغات البعوض ، والثاني سليم ، إذاً عندها جهاز تحليل دم ، تأخذ الدم الذي يناسبها ، وتدع الذي لا يناسبها ، والبعوضة من أجل أن تأخذ هذا الدم لا بد أن تميَّعه لأن الكرية الحمراء أوسع من خرطوم البعوضة ، فلا بد من أن تميع الدم حتى يجري في خرطومها ، فإذا لدغت البعوضة هذا الطفل استيقظ وقتلها فلا بدّ أن تخدره ، متى يشعر الإنسان بلدغ البعوضة ؟ بعد أن تطير ، يضربها من دون فائدة لأنها تكون قد طارت ، فهذه البعوضة الصغيرة فيها جهاز رادار ، وجهاز تحليل ، وجهاز تمييع ، وجهاز تخدير ، ولها جناحان يرفَّان أربعة آلاف رفَّة في الثانية ، ولها ثلاثة قلوب ؛ قلبٌ مركَّزي ، وقلبٌ لكل جناح ، وبإمكان البعوضة أن تقف على سطحٍ أملس
من هو الذي يستخف بهذه البعوضة التي هي من آيات الله الدالة على عظمته ؟
إنه الفاسق :
﴿ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) ﴾
هناك علاقة رائعة بين السلوك وبين الاعتقاد ، الفاسق لا يعتقد والمؤمن يعتقد ، الفاسق يسخر والمؤمن يُعَظِّم ، معنى ذلك أن الإنسان حينما يفسُق يصبح منطقه تبريرياً تسويغياً ، منطقه مقيداً بشهواته ، لذلك إياك أن تناقش منتفعاً لأنه لا يقنع معك ، فهو يدافع عن المكاسب التي حَصَّلها ، هذا الذي ينتفع من الكفر لا يمكن أن يتخلَّى عن الكفر لأنه ينتفع منه ، منتفع ، المنتفع لا يُناقَش ، والغبي لا يُناقَش ، والقوي المغتر بقوته لا يُناقَش