رد: ستون قاعدة ربانية في الحياة الزوجية … د . ناصر بن سليمان العمر
القاعدة الحادية والخمسون: انظر إلى الإيجابياتِ
قاعدةٌ نبوية: (لا يَفْرَك مؤمنٌ مؤمنةً)!
هذا جزءٌ من حديثٍ عظيمٍ رواهُ الإمامُ مسلمُ بإسنادِه عنْ أبي هريرة رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ. أَوْ قَالَ: غَيْرَهُ) ، والفَركُ هوَ البغضُ والشَّنَآنُ، والذي قدْ يكونُ سببُه بعض التصرفاتِ التي ربما تقعُ فيها النساءُ، فإذِا رأَى الرجلُ منْ أهلِه خُلُقًا يكرهه، فلينتقلْ إلى خُلُقٍ آخرَ، وليتفكرْ في حياتِها معهُ، نعم قدْ تكونُ أخطأتْ مرةً أو مرتينِ، و لكنَّها أَحسنتْ مرارًا وتكرارًا، وإنَّ المرءَ ليعجبُ منْ رجلٍ عاشَ معَ زوجتِه عشرينَ أو ثلاثينَ عامًا، ويَجِدُ منْها في كلِّ يومٍ إحسانًا، ثمَّ تقعُ في خطأٍ مَا أوْ تتصرفُ تصرفًا يكرههُ، فيبدأُ الشقاقُ والخلافُ، وقدْ ينتهِي بالفِراقِ، أوْ يعيشونِ حياةَ نكدٍ وشقاءٍ!
وهذهِ القاعدةُ تدعو إلى عدمِ الاستغراقِ في هذا الخطأِ الذي وقعتْ فيهِ المرأةُ، أوْ هذا الخُلقِ الذي تتصرفُ بهِ ولا يعجبُه، وأنْ ينظرَ إلى مُجملِ حياتِهم الطيبةِ بما فيها منْ أخلاقٍ عظيمةٍ لزوجه، فإذا فعل ذلكَ فستتحققُ السَّعةُ والراحةُ، ويقلُّ الغَضَبُ، وَلا يكرهُ الرجلُ زوجَه.
قدْ يَستَصعبُ بعضُ الناس خُلُقًا منْ زوجِه ويظنُّ أنَّ التعايش معَها هوَ ضَربٌ منَ المستحيلِ، فيُقالُ لَهُ خُذْ قَلَمًا، واكتبْ أخلاقَها الأخرَى بصدق وعدل وإنصاف، وسَيَكتشفُ أنَّه أحصَى أخلاقًا عظيمةً في مقابل خُلقٍ أو خُلقين، فيُطالَبُ بالتعاملِ معَ هذهِ الحسناتِ والأخلاقِ العظيمةِ التي منْ أجلِها اختارَها، وحينئذٍ سَيضعُفُ أثرُ الخُلقِ السيئِ وما يكرهُهُ منها، وعندئذٍ تستقرُ الحياةُ بإذنِ اللهِ.
وكما قيلَ للرجلِ يُقالُ للمرأةِ إذا رأتْ من زوجِها خُلقًا لا يناسبُها أو تكرهُهُ، فلتتعامَلْ معَ الأخلاقِ الأخرَى، ولتعلم أنه كما قال صلى الله عليه وسلم: لا يفرك مؤمن مؤمنة، فكذلك: لا تفرَكُ زوجةٌ زوجَها، بل هي بذلك أولى، فعليها أن تتعامل معَ أخلاقِه العظيمةِ الكبيرةِ وصفاتِه العاليةِ، ولتنظر إليه نظرة إيجابية، ولتعشْ في هذا الجوِ المفعَمِ بالمودةِ والمحبةِ والرحمةِ، وإذا وَجدَتْ منهُ خُلقًا صَعبًا منْ شِدَّتِه أوْ شُحِّهِ أو استعجالِه في بعضِ الأحيانِ أو غيرِها منَ الأخلاقِ الصعبةِ، فيقالُ لها خذِي القلمَ، وأحصِي الأخلاقَ الكبرَى العظيمةَ الدائمةَ المطّرِدَةَ لهذا الزوجِ ولا تتركي خُلقا إيجابيًا حسنًا، وعندئذٍ سَتَتَضاءَلُ الأخلاقُ السيئةُ، وستصغُرُ في عينِها.
يقول تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، فإذا وقعتِ المرأةُ في خطأٍ أو كانت فيها خَصلةٌ سيئةٌ، فليتذكرِ الرجلُ حسناتِها، وليتذكرْ قولَه تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}، فهذهِ الآيةُ تخبرُنا أنَّ اللهَ تعالى يَنظرُ إلى حسناتِنا، ويجعلُها سببًا لذهابِ سيئاتِنا، فذلك هو الفضل أو هو العدل وهما مطلوبان، فليكنْ هذَا هوَ منهجُ التعاملِ بينَ الزوجينِ، وبهذا تتحققُ الحياةُ الهانئةُ السعيدةُ، فليُجَعَلْ هذا الحديثُ نِبراسًا للحياةِ، ليسَ فقطْ في العلاقةِ الزوجيةِ، وإنما في عمومِ الحياةِ، والأقربون أولى بالمعروف.
,,,,,,,,,,,,,,
القاعدة الثانية والخمسون: اجعلوا بيوتكم عامرة بالذِّكر ولا تجعلوها مقابرَ
كلُّ عاقلٍ يبحثُ عنِ البيتِ الذي تشيع فيه السعادةُ وتحضر فيه الرحمةُ ويجد فيه الأُنسَ، ولا يحبُّ أن يكون بيتُه كالمقبرة تخيمُ عليها الوحشةُ، ويظهر على وجوه مرتاديها الحزن!
والنبي صلى الله عليه وسلم لا يرضى للمؤمن أن يكون بيته كذلك! ولهذا جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجعلوا بيوتَكم مقابرَ، إنَّ الشيطانَ ينفِرُ منَ البيتِ الذِي تُقرأُ فيهِ سورةُ البقرة)، وعندَ الإمامِ أحمد: (يَفِرُّ منَ البيتِ الذي تُقرأ فيه سورةُ البقرة).
فالبيوتُ بيتانِ؛ بيتٌ يُقرأُ فيهِ القرآنُ، فهوَ بيتُ السَّعةِ والرحمة والإيمانِ والأُنس، وعليه تنزل ملائكةُ الرحمنِ، وبيتٌ يبيتُ فيه الشيطانُ، وتأوِي إليه الهوامُّ، كما في الخبر الآخر عن ابن سيرين أنه قال: ”البيت الذي يقرأ فيه القرآن تحضره الملائكة وتخرج منه الشياطين ويتسع بأهله ويكثر خيره، والبيت الذي لا يقرأ فيه القرآن تحضره الشياطين، وتخرج منه الملائكة، ويضيق بأهله ويقل خيره“، وهو مقتضى الخبر الذي قبله، فإذا كان الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة فهذا يعني أنه يقرّ في البيت الذي لا تقرأ فيه! نعوذ بالله أن تكون بيوتنا خَرِبة! فلذلكَ علينا أنْ نجعلَ نصيبًا منْ تلاوتِنا للقرآنِ في بيوتِنا، وأنْ تكونَ هُناكَ حلقاتٌ قرآنيةٌ للأبناءِ في البيوتِ، معَ دوامِ السؤالِ والمتابعةِ لهمْ عنْ مواظبتِهم على قراءةِ القرءانِ.
ولابدَّ منْ جعلِ نصيبٍ منَ الصلاةِ في البيوتِ، فكثير من النوافلِ صلاتُها في البيتِ خيرٌ من المسجدِ، وصلاةَ المرأةِ في بيتِها أعظمُ فضلًا، وإذا عمر البيت بالصلاة والقرآن نزلت فيه الرحمة وحفته السكينةِ وحضرته الملائكة، وأمَّا منْ أعرضَ عنِ القرآنِ فهو أهل لأن يأوي الشيطان إليهِ ويشاركه بيته طعامًا وشرابًا وبياتًا، وإذا وُجدتِ الشياطينُ في البيوتِ أفسدوا الحياةَ، وأذهبُوا الاستقرارِ، وأثاروا العداوةَ بينَ الزوجينِ، وفرَّقوا بين الحبيبينِ، ولكنْ إذا وُجدَ القرآنُ وتلاوتُه وُجدتِ الملائكةُ والرحمةُ، فإنَّه لا مكانَ للشيطانِ في بيوتِ عبادِ الرحمنِ، وبهذا تتحققُ السعادةُ والاستقرارُ.
رد: ستون قاعدة ربانية في الحياة الزوجية … د . ناصر بن سليمان العمر
القاعدة الثالثة والخمسون: أعطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه
هذا منهجٌ في الحياةِ بينَ العبدِ وربِّه ومعَ نفسِه ومع أهلِه ومع زوجِه، وهو مأخوذ من حديثٍ عظيمِ الشأنِ فيه قصَّةِ وقعت بين أبي الدرداءِ وسلمانَ رضي الله عنهما، وقد آخَى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بينَ سلمانَ، وأبي الدرداءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ: (مَا شَأْنُكِ مُتَبَذِّلَةً؟ قَالَتْ: إِنَّ أَخَاكَ أَبَا الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا، قَالَ: فَلَمَّا جَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ قَرَّبَ إِلَيْهِ طَعَامًا، فَقَالَ: كُلْ فَإِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، قَالَ: فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لِيَقُومَ، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: نَمْ، فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ، فَقَالَ لَهُ: نَمْ، فَنَامَ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الصُّبْحِ، قَالَ لَهُ سَلْمَانُ: قُمِ الآنَ، فَقَامَا فَصَلَّيَا، فَقَالَ: إِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. فَأَتَيَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَا ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: صَدَقَ سَلْمَانُ) . والشاهدُ في آخرِه قولُ سلمانَ: فأعطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، وإقرارُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قولَ سلمانَ، حيث قالَ: صدَق سلمانُ، فصدَّقه في كلِّ ذلكَ، ولذلكَ فيجب أنْ نعطِيَ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، منْ أجلِ استقرارِ حياتِنا؛ فالزوجُ يُعطِي زوجتَه حقوقَها، والزوجةُ تُعطِي زوجَها حقوقَه، وكلاهما بِلا منٍّ ولا أذىً.
وقد حصلَ لي في يومٍ منْ أيامِ الحجِّ أن ذهبتُ لإلقاءِ محاضرةٍ عند حملةٍ عائليةٍ خاصةٍ فيها الرجالُ والنساءُ، فأُرسِلَتْ لي رسالةٌ منْ إحدَى الأخواتِ سائلةً عنْ حقوقِ الزوجِ وحقوقِ الزوجةِ، فأجبتُ مبينًا قاعدةً هامةً ألا وهيَ: إذَا كانتِ المرأةُ تَسألُ عنْ حقوقِ الزوجِ وحقوقِ الزوجةِ منْ أجلِ أنْ تقومَ الزوجةُ بالحقوقِ للرجلِ وتتسامحَ في حقِّها الذي هوَ على الرجلِ فهذا دليلُ سعادةٍ وهناءٍ، وإنْ كانتْ تسألُ عنْ ذلكَ منْ أجلِ مطالبةِ كلٍّ منهما بحقِّه، وإبرازِ التقصيرِ في أداءِ الحقوقِ منَ الجانبِ الآخرِ ومن ثمّ المشَاحَّةُ بينهما، فستكونُ حياة بؤسٍ وشقاءٍ.
نعم لا شكَّ أنَّ هناكَ حقوقًا مشروعةً، لكنَّ الأفضلَ أنْ يَتنازلَ الزوجُ عنْ كثيرٍ منْ حقوقِه، وأنْ تتنازلَ الزوجةُ عنْ كثيرٍ منْ حقوقِها، ولا أقولُ عنْ كلِّ الحقوقِ؛ لأنهُ لا تستقيمُ الحياةُ بالتنازلِ عنْ كلِّ الحقوقِ، ولكنْ بالإغضاءِ والتغافلِ تستقرُّ الحياةُ، وقد أرشد الله تعالى العباد على ذلك حتى في حال الفرقة فقال: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237]، لما ذكر متعة المطلقة قبل الدخول: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، فكيف بالمطلَّقة بعد العشرة والميثاق الغليظ! فكيف بمن هما في حبال الزوجية؟! فلا تنسوا الفضل بينكم لتسعدوا.
قدْ تُقصِّرُ المرأةُ في بعضِ حقوقِ الرجلِ، وقدْ يُقصّرُ الرجلُ في بعضِ حقوقِ المرأةِ، لكنْ ليكنْ الشأنُ بينهما أنْ يتغاضَى كلٌّ منهما عنِ الآخَرِ، وفي الوقتِ نفسِه يجتهدُ كلُ واحدٍ منهما في أداءِ الواجباتِ الْمُطَالَبِ بامتثالِها، وليُدركْ أنهُ ما منْ إنسانٍ إلا وفيهِ جوانبُ تقصيرٍ، فلْيتركِ العتابَ جانبًا ما أمكنَهُ ذلك، وليسلكْ مسلكَ التغافلِ والإغضاءِ غالبًا، وكما قيل:
إذا كنتَ في كلِّ الأمورِ معاتبًا *** صديقَكَ لم تلقَ الذي لا تُعاتِبُه
وكما قال الحسنُ البصريّ رحمه الله: ما اسْتَقْصَى كريمٌ قطْ، ونظم المعنى شعرًا الإمام أبو سليمان الخطابي فقال:
تسـامح ولا تستـــوف حقّـــك كلَّه *** وابق فلم يسـتـقص قطُّ كريم
ولا تغل في شيءٍ من الأمر واقتصد *** كلا طرفي قصد الأمور ذميم
والمقصود إذا كانَ هذا الحديثُ نبراسًا في الحياةِ كلِّها بأداءِ كلِّ الحقوقِ بدءًا منَ الحقِّ الأولِ، وهوَ حقُ اللهِ تعالى ومرورًا بحقوقِ العبادِ منَ الأهلِ والأولادِ تحققتِ الحياةُ السعيدةُ الهانئةُ بإذنِ اللهِ.