ولا بدَّ منَ التأدبِ بآدابِ الدعاءِ وألَّا يكونَ في الدعاءِ اعتداءٌ، قالَ تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55]، فإِذَا صَدَقَ المرءُ معَ اللهِ وأخلص قلبُه النية في الدعاءِ، وأيقنَ بالإجابةِ كما في الحديثِ: (ادْعُوا اللهَ وأنتمْ مُوقِنونَ بالإجابةِ) ، فلْيستبشرْ بما يسرُّه، قالَ تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]، وقالَ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} شرطٌ وجزاءٌ، ولهذَا قالَ عمرُ رضي الله عنه: (إنّي لا أحِملُ همَّ الإجابةِ، وإنَّما أحمِلُ همَّ الدعاءِ، فإذا أُلْهِمْتُ الدعاءَ فإنَّ الإجابةَ مَعَه) .
فمنْ أرادَ السعادةَ الزوجيةَ فَعليهِ أنْ يَأخذَ بكلِّ الأسبابِ المتاحةِ، كمَا في هذهِ القواعدِ وغيرها، وعليهِ أيضًا أنْ يأخذَ بأعظمِ الأسبابِ، وهوَ الدعاءُ، فبهذا سَيَجِدُ حياةً أخرَى منَ السعادةِ والاستقرارِ، وإنْ لمْ يجدْهُ عاجلًا فعليهِ أنْ يُلحَّ في الدعاءِ ولا يَستبطئَ الإجابةَ، فقدْ يُصلِحُ اللهُ أولادَه بدعائِه بعدَ وفاتِه، كما حدث لكثيرين، وسيناله من أثرِ صلاحهم بدعائهم لَه، كما في الحديث الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له).
,,,,,,,,,,,,,,
القاعدة التاسعة والثلاثون: الاستعانةُ بِالصَّلَاةِ مِفتَاحُ الخَيْرَاتِ
قال الله تعالى: {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة:153].
تحدَّثنا فيما مَضَى عَن الصبرِ والحاجةِ إليهِ في شُؤونِنِا كلِّها، وبخاصّةٍ في الحياةِ الأُسْريَّةِ، وفي هذهِ الآيةِ فَتْحٌ جَديْدٌ فِي مَوْضُوعِ الصَّبْرِ، حيثُ تُقْرَنُ الاستعانةُ بهِ بالاستعانةِ بالصلاةِ، والنتيجةُ هي معيةُ اللهِ عز وجل، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}، فالاستعانةُ بالصلاةِ بابٌ عظيمٌ جدًا، ولِهَذَا (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ، صَلَّى)، هذَا كانَ دَيدَنَه عليه الصلاة والسلام، فينبغِي لكلِّ المتزوجينِ رجالًا ونساءً أنْ يَسْألوا أَنْفسَهم: كمْ مرةً منذُ زواجِهِم فزِعوا إلَى الصَّلاةِ كلَّما واجَهَتْهُم مشكلاتٌ عارضةٌ في حياتِهم الزوجيةِ؟ كمْ مرةً تَوجَّهُوا إلَى الله بصلاةِ ركعتينِ يَطْلُبونَ منهُ العونَ وأنْ يُحقِّقَ آمالَهمْ وأنْ يُسعِدَهمْ؟ كمْ مرةً قامُوا إلَى الصلاة يَطْلبُونَ منَ اللهِ أنْ يَرزقَهم الصبرَ الذيْ هوَ -كمَا يُقالُ- مِفْتَاحُ الفَرَجِ؟
وفي هذه الآيةِ الكريمةِ يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ}، وفي الآيةِ الأخرَى يقول الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] وهنا لفتةٌ عظيمةٌ جدًا متعلقةِ بالصبرِ، ففي بعضِ الأحيانِ قدْ يقولُ بعضُ الناسِ: ضَعُفْتُ عن الصبرِ، وقدْ يقولُ أنا أحبُّ الصبرَ ولكنْ لا أستطيعُ، وقدْ قالها لي كثيرون من أزواج وزوجات وأولاد، فأقول له ما قاله الله تعالى: {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ}، فتكون النصيحةُ عندئذٍ بأنْ يَنْطلِقَ إلى الصلاةِ، فمن رزقه اللهُ الصبرَ رزقه العافيةَ، والنُّورَ والسعادةَ، {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} أي: الخاشعينَ للهِ الموقنينَ المؤمنين، ولذا مما ينبغِي أن يَسألَ الرجلُّ والمرأةُ نَفْسَيْهِما: كمْ مرةً لجأنا إلى الصلاةِ بعدَ مشكلةٍ مرتْ بنا، فصَلَّينا في خَلْوةٍ صلاةً خاشعةً، وسألْنَا اللهَ أنْ يُحقِّقَ لنا الفرج، وأن يُنزِلَ الصبرَ على القلوبِ، فيما يحدثُ وينوبُ في الحياةِ الأسريةِ والبيتيةِ؟
أحدُ الأحبةِ نابه من المشكلاتِ البَيتيةِ ومن أولادِه العَجَبُ العجابُ، فقلتُ له: ماذا فعلتَ؟ فأشارَ إلى سِجادةٍ في مَجلسِه وهو يقولُ: هذهِ السِّجادةُ! فكان يفزع إليها فيصلّي ويستغفِرُ و يتوبُ، فأَحْدَثَ اللهُ في حياتِه معَ زوجِه وأولادِه منَ السعادةِ والصفاءِ الخيرَ الكثيرَ، فهذا هو السبيلُ {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ}، وفي آية أخرى يقول تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات] أي الجؤوا إلى اللهِ، فهو الذي عِنْدَهُ الفَرَجُ سبحانه وتعالى، فإذا حُقِّقَ هذا المعنَى العظيمُ معَ ما أُشِيرَ إليهِ مِنْ مَعانِي الدعاءِ والصلاةِ، فستكونُ حياةً أخْرَى مشرقة منيرةً، وتكونُ البيوتُ منازلَ سعادةٍ وأُنسٍ، ويكون الأمرُ على ما قالَ اللهُ تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم:21]؛ وعلامةُ السَّكَنِ أنَّ الزوجَ إذا خرجَ منْ عندِ زوجِه لظروفِ الحياةِ العامةِ والخاصةِ تشتاقُ نفسُه ويَتلهَّفُ فؤادُه للرجوعِ إلى البيت والعودةِ إليْها، فهنا تكونُ الزوجةُ سكنًا، وإذا جلَسَ بجانبها شَعَرَ براحةٍ وأنسٍ وهذا سكنٌ أيضًا، فالسكنُ نوعان: سكنٌ قلبيٌّ وسكنٌ بدنيٌّ، ومن انشغلَ بالدعاءِ و بالاستعانةِ بالصبرِ والصلاةِ فسيرَى ما لا يخْطرُ على بالٍ.
,,,,,,,,,,,,,,,,,,
القاعدة الأربعون: التحكيمُ المحقِّقُ للإصلاحِ سبيلٌ للفلاحِ
وَلكنْ يوجدُ قَيدٌ مهم وهو قولُه تعالى: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا}، فإنْ لمْ توجدْ إرادةُ الإصلاحِ، فقدْ لا يتحقَّقُ الوِفاقُ علَى أيديهِما، بينما يتحققُ علَى أيدِي غيرِهما، فلابدَّ أنْ توجدَ إرادةُ الإصلاحِ، بأنْ يكونَ الحكَم معروفًا بحبِّ الخيرِ والصلاحِ، فبعضُ أهلِ الزوجِ أوْ أهلِ الزوجةِ -معَ كلِّ أسفٍ- يَسْعَوْنَ للفِراقِ، ويزيدون الأمور تعقيدًا، وقد وجد آباءٌ يَضْغَطُونَ علَى بناتِهم منْ أجلِ أنْ يطْلُبْنَ الفِراقَ، فالأبُ من هؤلاءِ لا يَصْلُحُ أنْ يكونَ حَكَمًا، ولقد وُجِدَ من النساءِ مَنْ تَتَقَدَّمُ بطلبِ الطَّلاقِ للمحكمةِ، معَ أنَّها تُحِبُّ زَوْجَها وَتُريدُه، ولكنْ بضغطٍ منْ أبيها، أوْ منْ بعضِ إخوتِها، أوْ منْ أمِّها، فتفعلُ ذلك وَهِي كارهةٌ، ويحدثُ ذلكَ منْ بعضِ أمهاتِ أو آباءِ أوْ إخوةِ الزوجِ كذلك، ولقدْ عُرِضتْ عليّ عدةُ قضايا من هذا النوعِ، فالرجلُ يُحبُّ زوجتَه، وبينهما منَ المودةِ والرحمةِ ما شاء الله ولكنْ يُطلِّقُها بضغطٍ من أبيه وأهلِه عليه، حتَّى إنَّهم لربما آذَوهُ في مالِه، وأرادوا إخراجَه مِنَ الشركةِ معهم إن لم يُطَلِّقْ زوجتَه، وهذا إشكالٌ كبيرٌ جدًا، فهؤلاءِ لا يَصْلحونَ أن يكونوا حُكَّامًا؛ ولذلكَ لابدَّ منْ حسنِ اختيارِ الحَكَمين ممنْ عُرفَ بالمحبةِ والصلاحِ والوِفاقِ.
وقوله تعالى: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا} يدل على أن هذا المراد شرط في الحكمين كليهما ليتحقق التوفيق، فإن كانَ أحدُ هؤلاءِ الحَكَمينِ لا يُرِيدُ الإصلاحَ، فلا يجوزُ أنْ يكونَ حَكَمًا؛ لأنَّ هذا ظالمٌ وباغٍ.
{إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا}؛ فيأتيانِ بنيةٍ طيبةٍ، بنيةِ الخيرِ والإصلاحِ، ولقدْ وردَ أثرٌ عن عُمرَ رضي الله عنه أنهُ بَعَثَ حكمينِ، فلمَّا لمْ يتحقَّقِ الوفاقُ قيل: إنه عاقبهما. قال: لعدمِ إخلاصِكما في نيتِكما بإرادةِ الإصلاحِ؛ لأنَّ اللهَ وعدَ فقال تعالى: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا}، فهذا شرطٌ وجزاءٌ. وذاك معنىً عظيمٌ، فعُمَرُ الْمُلْهَمُ -الذي يقولُ: واللهِ إنّي لا أحملُ همَّ الإجابةِ، ولكنّي أحملُ همَّ الدعاءِ- يقولُ هنا: لا أحملُ همَّ تحققِ الصلحِ، فهوَ متحققٌ بإذن الله، ولكنْ بوسيلةٍ - وهيَ أنْ يريد الحكمانِ الإصلاحَ- وهذا المعنى العظيمُ لَه أثرُه.
وهناك مسألةٌ أخرى مهمةٌ في اختيارِ الحَكَمَينِ، فلا بدَّ أنْ يكونا مقبولَينِ، فأحيانًا يكون مِنْ أهل الزوجة مَنْ لا يُطيقُه الزوجُ؛ لأسبابٍ وعواملَ معينةٍ، وأحيانًا أيضًا يكون مِنْ أهل الزوج مَنْ لا تُطيقُه الزوجةُ؛ لذا علينا أن نختارَ الحَكَمين، بأنْ يكونَ الحَكَمُ كلمتُه مقبولةٌ، ليسَ له عَداءٌ معَ أحدٍ منْ الطرفينِ.
والإصلاحُ له مراتبُ، وله أساليبُ، وله طرقٌ شتى، واللجوء إلى هذا الطريق؛ أعني طريق بعث الحكمين، استثناء عند تعذر الطرق، لكن إذا أخذ بهذا المسلك عند الاستثناء والحاجة ففيه الخير- إن شاء الله- شريطة أن يؤخذ به على وجهه. وإنْ كنتُ أميلُ دائمًا إلى ألا تصلَ المشكلاتُ إلى الحكمَين، بل ولا إلى الأهلِ، وإنما تُحَل المشكلاتُ داخلَ البيوتِ، ولكنْ في بعضِ الأحيانِ قدْ تَصِلُ إلَى درجةٍ يَصْعُبُ حلُّها إلا عنْ طريقِ الحكمينِ. وللحكمينِ أنْ يَختارَا معهما حَكَمًا ثالثًا مَرضيًّا مِنَ الأطرافِ كلِّها؛ لأنهما أحيانًا قدْ يَتفِقانِ علَى الصُّلْحِ، ولكنْ يختلفانِ في طريقةِ تحقيقِهِ، فيحَتاجُ الأمرُ إلَى مُرجِّحٍ، فعندئذٍ يُقالُ لا حرجَ في ذلكَ، ولكنْ يكونُ الأصلُ في التحكيمِ منْ داخلِ البيتينِ، أو قريبٍ منهما، وبهذا تعود الأمور إلى نصبها، ويتحققُ الإصلاحُ ويحصل الصفاءُ وتعود المودةُ بإذنِ الله.
رد: ستون قاعدة ربانية في الحياة الزوجية … د . ناصر بن سليمان العمر
القاعدة الحادية والأربعون: إمساكٌ بمعروفٍ أوْ تسريحٌ بإحسانٍ
قال الله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229].
هذهِ الآيةُ قاعدةٌ تحققُ وتبينُ وتوضحُ منهجًا في الحياةِ، فإمَّا الإمساكُ بالمعروفِ وإمَّا التسريح بإحسان.
والمعروفُ هوَ المعروفُ بالشرعِ وبالعرفِ، فالعرفُ إذا كانَ يوافقُ الشرعَ ولا يخالفُه فهوَ معتبرٌ، فالمطلوبُ إمساكٌ بالمعروفِ، وأمَّا الإمساكُ بغير معروفٍ فهو سبب للشَّقاءِ قطعًا، والطريقُ الآخَرُ هو التسريحُ بإحسانٍ، وكثيرٌ منَ الناسِ معَ كلِّ أسف لا يُحققونَ هذه الآيةَ الكريمةَ، فقدْ تَصِلُ المسألةُ إلى الطلاقِ، والطلاقُ أمرٌ مشروعٌ، وقدْ وردَ في ذلكَ حديثٌ -وإنْ تكلَّم في ثبوتِه العلماءُ -يخبرُ بأنَّه أبغضُ الحلالِ إلى اللهِ، ولكنَّه حلالٌ في النهايةِ، فكمْ منْ آيةٍ تُبينُ مشروعيةَ الطلاقِ عندَ الحاجةِ إليهِ. وقدْ خُيِّرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في طلاقِ أزواجِه، بلْ طلّقَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ابنة الجون لما دخل عليها فاستعاذت، والمقصودُ أن الطلاقَ قدْ يكونُ حلًا في نهايةِ المطاف، فالزواج في الإسلام ليس كحاله عند النصارى! أو بعض الأمم الأخرى، تستحيل عندهم الحياة جحيمًا ومفارقة الجحيم ممنوعة! بل قد تكون الفرقة رحمة وباب خير لكلا الزوجين. ففي بعضِ الأحيانِ قدْ يؤَثِّرُ استمرارُ الزواجِ علَى الحياةِ العامةِ للزوجِ أوِ الزوجةِ، ويؤثِّرُ علَى استقرارِهما، وبعدَ بذلِ كلِّ الوسائلِ منْ أجلِ الوِفاقِ قد لا يتحققُ الصلحُ، فيكون الحل هو الطلاق، فالأمرُ أحيانًا قدْ يكونُ خارجًا عنْ إرادةِ الزوجِ أوِ الزوجةِ المثالية لأسبابٍ وعواملَ داخليةٍ وخارجيةٍ، فَيُضْطرُ عندئذٍ إلى الطلاقِ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم أمرَ عبدَ الله بنَ عُمَرَ رضي الله عنهما أنْ يُطيعَ أباهُ في طلاقِ زوجتِه، وكمْ منْ حالاتِ طلاقٍ وَقعتْ في حياةِ الصحابةِ -وهمْ خيرُ القرونِ- فالطلاقُ أيضًا يُنطلَقُ فيه منْ تحقيقِ الاستقرارِ الخاصِ للاستقرارِ العامِ، أو الاستقرار من طريق آخر.
يقولُ الله تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء:130] ففي بعضِ الأحيانِ إذا حدثَ الطلاقُ يُوسِّعُ اللهُ تعالى على الرجلِ أو علَى المرأةِ أو علَى كليهما، فيكونُ الخيرُ والسَّعةُ في الطلاقِ، وهذا معنىً عظيمٌ أظهرتْهُ الآياتُ، فقدْ يرزقُ اللهُ منْ سَعَتِهِ الرجلَ أو المرأةَ، فلا يكونُ الطلاقُ هو المخرجُ فحسب، بلْ تتحققُ به السعادةُ. فعندما يكون بقاءُ العلاقةِ الزوجيةِ لا يمكنُ أنْ يُحقِّقَ ذلكَ معَ كلِّ الوسائلِ المقرونةِ بالصبرِ، فعندها يكونُ الطلاقُ هوَ الحلَّ، فقدْ يُبْدِلُ اللهُ الزوجَ خيرًا منْ زوجتِه، ويُبدلُ اللهُ المرأةَ خيرًا منْه، وكمْ سَعِدَ أناسٌ كانوا في شقاءٍ وعنتٍ وصعوبةٍ وشدةٍ، ولَمّا حدثَ الفِراقُ فإذا بالرجلِ يتزوجُ بامرأةٍ أخرى، ويَسعدُ سعادةً عظيمةً، وكذلكَ هيَ تتزوج بغيره وتَسعدُ سعادةً عظيمةً.
وفي بعض الأحيان يكونُ الرجلُ يريدُ زوجتَه ويُحبُّها لكنها لا تريدُهُ وربما تَكرهُهُ، فيكونُ منْ الحكمةِ أنْ يُطَلِّقَها، وأنْ يُحقِّقَ لها السعادةَ بالطَّلاقِ، فهذهِ صحابيةٌ جليلةٌ تَطْلُبُ أنْ تُفارِقَ زوجَها، وتقولُ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ، مَا أَعْتِبُ عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلاَ دِينٍ، وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الكُفْرَ فِي الإِسْلاَم)، وفي رواية عند البخاري: (وَلَكِنِّي لاَ أُطِيقُه)، وزاد ابن ماجه: (لَا أُطِيقُهُ بُغْضًا)، حتى إنَّه وردَ في بعضِ ألفاظِ الحديثِ أنَّها تقولُ: (وَاللَّهِ، لَوْلَا مَخَافَةُ اللَّهِ، إِذَا دَخَلَ عَلَيَّ لَبَصَقْتُ فِي وَجْهِه)، وهوَ يُحبُّها ويريدُها، ومعَ ذلكَ حَكَمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالخلعِ، وهوَ نوعٌ منْ أنواعِ الفرقة كالطلاق -وإنْ اختلفتْ الأحكامُ-، ولكنَّ الفِراقَ فِراقٌ على كلِّ حالٍ. وكذلكَ بعضُ الزوجاتِ تُريدُ زوجَها وتُحبُّه لكنْ هوَ لا يُطيقُها ولا يَتحملُها، ولقدْ حَدَّثَني بعضُ الأزواجِ بهذا الأمرِ حتى إنَّه يُخْبِرُ زوجتَه بأنه مسافرٌ وليسَ الأمرُ كذلكَ؛ لأنه يَجِدُ صعوبةً في الحياةِ معَها، وحتى لا يَكْسِرَ قلبَها، وما كانَ في النِّهايةِ إلا الفِراق، وإذا بها تتزوَّجُ برجلٍ آخرَ يُسْعِدُها، وهوَ كذلكَ تزوَّجَ بامرأةٍ أخرَى، ورزقَه اللهُ منها الأولادَ والبنينَ وتحققتْ لهُ السعادةُ.
يقولُ لي أحدُ الأشخاصِ إنه طلَّقَ ابنةَ عمِّه، بعد أن عاشَ معها عدةَ سنواتٍ، ورُزِقَ منها بابنٍ، وهوَ يُقْسِمُ أنَّه خلالَ هذهِ السنواتِ التي عاشَها معها لمْ يسمعْ منْها كلمةً تُزْعِجُهُ، ولمْ تسمعْ منهُ ذلكَ أيضًا، فكانَ مُحَقِّقًا لقولِه تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ}، ولكنْ في نهايةِ الأمرِ رأَى أنَّ الأفضلَ أنْ يُطَلِّقَها لظروفٍ مرَّتْ بهما، فرَزَقَه اللهُ أيضًا بزوجةٍ، ورُزِقَ منها البنينَ، وكذلكَ المرأةُ رَزَقهَا اللهُ بزوجٍ آخرَ، وهكذا الإسلامُ يتعاملُ معَ الواقعِ البشريِّ، وليسَ كمَا يَحدُثُ في الدولِ الأخرَى الكافرةِ مما يُسَمُّونَه بالعقدِ الكاثوليكي أو غيرِه، وهو الذي لا فِراقَ معَه، فكما أن الله تعالى جعلَ للدخولِ للحياةِ الزوجيةِ نظامًا جَعَلَ للفِراقِ نِظامًا، وكلاهما قائم على المعروف والإحسان.
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
القاعدة الثانية والأربعون: المنُّ مُفسِدٌ للبيوتِ
قال الله تعالى: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6].
هذهِ قاعدة عامة تجري في العبادات فلا يجوز أن يمنَّ الإنسانُ على ربِّه مستكثرًا عبادتَه {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} [الحجرات:17]، ولا يجدر به أنْ يعط شيئًا من ماله طالبًا به ثوابًا دنيويًا خيرًا منه، وأيضًا لا يسوّغ لك الإحسانُ المنَّ مستكثرًا ما أحسنت به! وهذه القاعدة لها تعلقٌ بموضوعِنا في الحياةِ الزوجيةِ والأُسْريةِ، فكثيرٌ منَ العلاقاتِ البيتيةِ يشوبُها الكدَرُ بسببِ ما يحدثُ منْ مَنٍّ وأذًى، وذلك عندما يَمُنُّ أحدُ الزوجينِ بإعطاءِ الآخَرِ والبذل له أو الإحسان إليه بعمل أو مال، فقد يَمُنُّ الأبُ أو الأمُ علَى أولادِهما بما أعطوهم، تجدُ أنَّ بعضَ الآباءِ -هداهُم اللهُ- يَمُنُّ علَى أولادِه وعلَى زوجِه، فيقولُ: فعلتُ لكمْ وفعلتُ، وتفضَّلتُ عليكمْ، لا منْ بابِ التذكيرِ و لا منْ بابِ الإقناعِ، بل يذكرُهُ في قائمة مَنٍّ طويلة يستدعيها كلما ساءه شيء! والأخطرُ منْ ذلك والأسوأُ عندما تفعلُه المرأةُ، ويَحْدُثُ هذا منْ بعضِ الزوجاتِ -هداهُنَّ اللهُ- اللاتي قدْ تُعْطِي الواحدةُ منهنَّ زوجَها هديةً، أو تُسَاعِدُهُ في بعضِ أمورِ البيتِ، أو تُسَاعِدُهُ في قضاءِ دينِه، لكنَّها معَ كلِّ أسفٍ تمنُّ عليهِ، وقدْ حذَّرَ الله تعالى منْ ذلكَ في سورةِ البقرةِ فيُقالُ للجميعِ: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة:263]، ومعروفٌ أن المنَّ منْ أعظمِ الأذَى النَّفْسِيّ، والأذى النفسيُّ أشدُّ منَ الأذَى الحِسيِّ، وبخاصة إذا صدر ممن حقه أن يكرمك ويدفع الأذى عنك! ويزداد سوءًا عندَمَا يُتحدثُ به أمامَ الآخِرينَ! وبعض الناس من جهله يَمُنُّ بما قدْ يكونُ واجبًا عليه، وهذا من العجب! فإِذَا كانَ وَاجبًا عليهِ! فلا مجال للمنِّ معَ الواجبِ؟ وإنْ كانَ تبرعًا فَلَا ينبغي أن يُفْسِدَهُ بهذا المنِّ، يقولُ اللهُ تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ} الصدقةُ هنَا تبرعٌ ليستْ بواجبٍ {يَتْبَعُهَا أَذًى}.
وقدْ بيّنَ العلماءُ أحكامَ المنِّ وتعدَّدَ ذكرُه في أبوابِ الفِقْهِ، حتى إنَّهم قاُلوا لَو أنَّ رجلًا في البريَّةِ، وفقدَ الماءَ، وحانَ وقتُ الصلاةِ فلمْ يجدْ ماءً فجاءَهَ رجلٌ ومَعَهُ ماءٌ فتبرعَ له بِهِ، ولكنْ أَدْرَكَ المحتاجُ للوضوءِ أنه سَيَمُنُّ عليهِ فقالوا: له أنْ يتيممَ ولا يأخذَ هذا الماءَ لئلا يُصيبَه أذى المنِّ! هذا معَ أنها فريضةُ الصلاةِ العظيمةِ القدرِ، فلا شكَ أن ما يتعلقُ بما هو دونَها أوْلَى بالردِّ.
إن الأذَى بالمنّ مُفسدٌ للأعمالِ ومفسدٌ للقلوبِ، فعلَى أهلِ البيتِ أن يتفطنوا لذلك، وعلى الزوجٍ والزوجة والأولاد أنْ يَنتبِهُوا لهذهِ القاعدة، ويضعوا الآية الكريمة {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} نصب أعينهم.
وعلى النقيضِ من هذه النماذجِ السلبيةِ، هناكَ آباءٌ وأزواجٌ يُحسِنونَ كثيرًا لأزواجِهم ولأولادِهم، ويُشعِرونَهم -وهم صادقون في ذلك- بأنّ أولادهم وأزواجهم همْ أصحابُ المعروفِ عليهم، أحدهم سأل أباه في يومٍ منَ الأيامِ: كيفَ نكونُ أصحابَ المعروفِ وأنتَ المتفضِّلُ وأنتَ الْمُعطِي؟ فقال: لوْ أنَّ واحدًا منكمْ رَدَّ هَديتي أوْ عَطيتي ألَن يُؤَثِّرَ في نفسِي؟ قالوا: بلَى سَيؤَثِّرُ في نفسِكَ. قالَ: إذنْ أنتمْ المتفضِّلونَ عليّ؛ لأنكمْ أحسنتمْ إليَّ وَأَسْعَدْتموني، فقبولُكم لهديتي وعطيتي التي لا يُرجَى من ورائِها إلا وجهَ اللهِ تعالى مفرحٌ لي، فأنا أَشعرُ بالقربِ منْكم، وأشعرُ قبلَ ذلكَ أنه عبادةٌ لربي، وأشعرُ أنَّ هذَا دليلٌ علَى سلامةِ القلوبِ، وأشعرُ أنَّ هذا منْ أسبابِ المحبةِ، ففي الحديث: "تهادُوا تحابُّوا".
رد: ستون قاعدة ربانية في الحياة الزوجية … د . ناصر بن سليمان العمر
القاعدة الرابعة والأربعون: الشكوى التي يسمع الله لها!
قال تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة:1]
ورد أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج ومعه الناس، فمر بعجوز، فاستوقفته، فوقف، فجعل يحدثها وتحدثه، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين، حبست الناس على هذه العجوز، فقال: ويلك! أتدري من هي؟ هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات، هذه خولة بنت ثعلبة التي أنزل الله فيها: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا}، ولو حبستني إلى الليل، ما فارقتها إلا للصلاة، ثم أرجع إليها!
والآية في خبر أوس بن الصامت مع زوجته خولة بنت ثعلبة رضي الله عنهم، عندما ظاهر منها، فجاءت مشتكية إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشكو ما آل إليه حالها مع زوجها الذي ظاهر منها ، وفي الآية تنبيه على تعلق المرأة بالله عز وجل، وأن ذهابها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من باب الأخذ بالأسباب، ترجو أن يجري الله تعالى على يديه ما يفرج كربتها ويذهب ظلامتها.
فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم آخذة بالسبب، باثَّةً شكواها إلى ربها تعالى، ولهذا جاءها الفرج، فرفع الله ما بها، وأنزل بسببها أحكامًا لم يزل يفرج بها على كثير من إمائه وعباده.
والظهار أن يقول الرجل لامرأته أنت عليّ كظهر أمِّي! أو يشبهها بمن تحرم عليه على التأبيد، وهو كما قال الله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة:2]، فاللفظ لفظ قبيح مجرد أن ينطق بظهر أمه قد يدرك الخيال معنىً سيئًا، وهو من إرث الجاهلية فجاء الإسلام يصحح الأوضاع ويبين المنهج الحق وما يلزم من وقع فيه. ولهذا على المرء أن يضبط ألفاظه ويهذب لسانه.
وتأملوا شكاية هذه الزوجة الصالحة رضي الله عنها، ما جاءت لتشنع، ولا تسب أو تشتم، بل جاءت لتعالج نازلة وهذا همّها، يظهر ذلك من كلماتها التي قالتها للنبي صلى الله عليه وسلم: (إنّ لي صبية صغارًا إنْ ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليَّ جاعوا) ، كلمات تكتب بماء الذهب فالأم تربي وتحفظ أولادها، وهذا شاهدناه في بيوتنا وبيوت أهلنا، والأب يشغل بابتغاء الرزق والكسب، والنفقة واجبة عليه، فيشغله ذلك في أوقات كثيرة عن ملاحظة الأولاد.
وهذه الكلمات من خولة رسالة لعدد من الأمهات اللاتي أهملن -هداهن الله- أولادَهُنَّ وركن تربيتهم إلى الخادم أو الخادمة، فحدثت عادات وسلوكيات قبيحة. بل قد يكون بعض هؤلاء الخدم من النصارى أو من المسلمين الذي لم يتربوا تربية صالحة! فنشأ جيل كما ترون يحزن.
والمقصود أن خولة رضي الله عنها، أحسنت الشكوى، فجاءت في شأن كبير يستحق! وقد حررت المشكلة، علمت أنه لا تكتمل التربية إلا بتعاضد الزوجين، وأن ما وقع معها يحول دون ذلك، وأنه لابد من سبيل لحل الإشكال ورفع الضرر الواقع عليها، والذي إن استمر سوف تترتب عليه آثار لا تحمد.
وهذا معروف يشاهده كثير من الناس في حالات الفرقة والشقاق التي تقع في البيوت! تجد فيها أطفالًا عاشوا كالأيتام ووالداهما أحياء! إما بافتراق الزوجين فالأب ذهب وتزوج والأم أخذت سبيلها وتزوجت وبقي الأطفال، أو بتهاجرهما واعتزال كل منهما في بيت أهله!
وقد لحظت هذا في أثناء زيارتي لبعض الدور الاجتماعية، وهي دور الأحداث، لاحظت أن فيها أطفالًا وشبابًا من سن الثامنة حتى الثامنة عشر وقعوا في جرائم، ووجدت أن من أعظم الأسباب هو فرقة الزوجين أو تهاجرهما ووقوع الخلاف بينهما.
إن الطلاق إذا وقع لأسباب موضوعية، وبعد تأمل ودراسة واستشارة فهو حكم شرعي قد يكون هو العلاج، ولاسيما إذا سلك فيه المنهاج الشرعي، وكذلك بعده في التفاهم على أمور الأولاد، ولهذا قال تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]، لكنْ كثيرٌ من حالات الطلاق لا تقع عن روية ولا عن دراسة ولا عن بُعد نظر، ولا تكون الفرقة فيها بإحسان، ومن هنا تقع المشكلات! أما التهاجر بين الزوجين، أو من قبل الزوج بالظهار ونحوه فهو محظور في نفسه لا سبيل لرأب مفاسده إن استمر! عاقبته أن يبكي الأب والأم على أولادهما الذين عرضوهما للضياع والشتات، ولا سيما في ظل زمان صعب جدًا، وأحوالٍ لا تخفى! فالله الله لنبتعد عما يفرح الشيطان من الظهار والتهاجر والشقاق، ولنعمد إلى علاج ما بدر من ذلك أو نزل، بالشكوى إلى الله تعالى، الإيجابية الجديرة بأن تسمع، وهي المشتملة على عرض مشكلة حقيقية تستدعي تدخلًا، فتعرض المشكلة، وتبين المفسدة، بعيدًا عن اللجج والإزراء، ومن ثمَّ الاستعانة بمن هو أهل للإعانة على علاجها! والله أسأل أن يجنبنا وإياكم الشقاق وأسبابه.
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
القاعدة الخامسة والأربعون: يهب لمن يشاء ما يشاء!
قال الله تعالى: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى].
هذه الآية عظيمة تشتمل على قاعدة جليلة! العلم بها ومراعاتها تذهب مشكلات كثير من البيوت!
تأمل قوله تعالى: {یَهَبُ} إذًا هي منحة، هي هبة! ومن هو الواهب المتفضل؟ هو الله عز وجل! ولو استحضرنا ذلك لما وقعت كثير من المشكلات في البيوت! تجد بعض الأزواج إذا رزق بالبنات دون البنين غضب! وصب جام غضبه على زوجته، وكأنه يحملها المسؤولية! والمسكينة ليس بيدها شيء!
يذكر أهل الأخبار أن رجلًا يقال له أبو حمزة الضَّبي، كان تأتيه البنات ولا يأتيه البنين، فهجر زوجته، وكان يقيل ويبيت بمنزل مجاور، فمر يومًا ببيتها فسمعها تهدهد البينة وتغنيها بقولها:
مـا لأبي حمزة لا يـأتينـا *** يظل في البيت الذي يلينا
غضبـان ألّا نـلد البنيـنـا *** تـالله مـا ذلك في أيدينا
ونحن كالأرض لزارعينـا *** ننبت مـا بـذروه فينـا
قالوا: فغدا الشيخ حتى ولج البيت فقبل رأس امرأته ورأس ابنته الصغيرة! وقال: ظلمتكما وربِّ الكعبة! فقد علم أنها صادقة!
أعرف أحد الأزواج جاءته البنات فتزوج امرأة أخرى -وليس الإشكال في أنه تزوج بأخرى- يقول: يريد الأولاد! فجاءته بنات، وتزوج ثالثة فجاءته بنات! إن الذي يهب هو الله.
إن من مقتضى الإيمان بقدر الله تعالى أن نرضى بما يقسمه الله تعالى، ولا ينافي هذا أن نتوجه إلى الله تعالى ونطلب منه أن يرزقنا الذرية الطيبة المباركة.
فالواجب على الذي يرزق بالبنات أن لا يتسخط نعمة الله تعالى، فضلًا عن أن يحمل الزوجة مسؤولية ذلك! ومن الجهل أن يتصور الزوج أن زوجته تريد البنت ولا تريد الابن! وأنها تفرح بالبنات دون الأبناء!
إن البنات حجاب من النار إن صبر عليهن، وأحسن تربيتهن، كما بيَّن النبيُ صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة !
وما يدريه لعل هؤلاء البنات خير له في العاجل والآجل! كم من الأبناء -ولا أقلل من قيمتهم- كان سببًا لشقاء الرجل، كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن]، بل وصف بعضهم بالعداوة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن]، فليرضى الإنسان، بالقدر، وليحمد الله على ما رزقه.
والواجب ألاّ يتسخط رزق الله تعالى، ويجعله سببًا للشقاق، واضطراب الحياة الأسرية.
وأخيرًا كلمة لمن لم يرزق الذرية! أقول له: لا تيأس .. أبونا إبراهيم عليه السلام، الذي هو خليل الرحمن لم يرزق بالولد إلا بعد مائة وعشرين سنة! زكريا عليه السلام نبيٌ من أنبياء الله لم يرزق إلا بعد كما وصف الله في القرآن: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم]، فتوجّهَ إلى الله تعالى {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء]، فتوجّه إلى من توجه إليه إبراهيم وزكريا عليهما السلام واضرع إليه وناده ولا تستعجل! احذر من اليأس لأن اليأس قد يؤدي إلى سوء الظن بالله تعالى.
ولو قدِّر أن تكون عقيمًا، فاعلم أن الله تعالى حكيم عليم! {وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى].
كم من العلماء والعبّاد والصالحين من لم يرزق بأولاد، فصبر واحتسب وما ضره ذلك بل كان هذا سببًا في أن يشقّ طريقه إلى الله.
ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يبلغ أحدٌ من أولاده الذكور، كلهم ما توا قبل البلوغ وهو رسول الله صلى الله عليه والسلام! بل ماتت بنياته كلهن في حياته إلاّ فاطمة رضي الله عنها بقيت بعده قليلًا!
فيا من لم ترزق الولد لا تأس لعل الله قد أراد بك خيرًا! فالله عليم حكيم، ولا تيأس وابذل الأسباب، فالله كما قال: {عَلِيمٌ قَدِيرٌ}، وفي ختم الآية بهذا الاسم إشارة إلى الأمل لطيفة! كم بلغنا من أخبار النساء من لم تحمل إلا بعد عشر سنوات، وأخرى بعد خمسة عشر عامًا، والله على كل شيء قدير! ولا مانع من استخدام العلاج المشروع، وأنص على المشروع لأن هناك وسائل لا تجوز، فالغاية لا تبرر الوسيلة، وعلى المسلم أن يرجع إلى فتاوى العلماء والمجامع الفقهية ليعرف ما يجوز وما لا يجوز، فاتق الله وأجمل في الطلب، وارض بما قسم، وأمل الخير في الدارين.
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
القاعدة السادسة والأربعون: إن الشيطان لكم عدو!
قال الله تعالى: {يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه].
هذه الآية التي في أبينا آدم وأمنا حواء عليهما السلام، ولم تكن تلك العداوة شخصية لتزول بموتهما! بل هي عداوة لجنس البشرية {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر]، فهذه العداوة من الشيطان باقية مستمرة إلى قيام الساعة لا سبيل لصلح أو هدنة!
وعلينا الحذر الشديد من عداوته، فإذا كان أبونا آدم وأمنا حواء عليهما السلام لم يسلما من إغوائه، فكيف بي وبك إن غفلنا عن ذلك!
وتأمل مع أن الله عز وجل حذّر آدم عليه السلام من الشيطان وقال له: {إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى}! مع ذلك استطاع بأساليبه وحِيَله أن يغويهما، {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف]. فإذا كان هذا مع التحذير! ومَنْ الذي حذَّر؟ هو الله سبحانه وتعالى! ومن المحذَّر منه؟ هو الشيطان! ومن المحذَّر؟ هو آدم وحواء عليهما السلام! ومع ذلك استطاع الشيطان أن يغويهما، وإن كان إغواء في ساعة سرعان ما انفكا عنها ورجعا وأنابا، وقبل الله توبتهما.
لكن العبرة من ذلك ضرورة أن يكون الزوجان على تيقظ وانتباه، لخطر الشيطان، وخبث أساليبه.
وهنا وقفة مع قوله تعالى: {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} أي أنه سلك أساليب مغوية خادعة، يقسم عليها! فيجب أن يكون الزوجان متيقظان فإن حيله كثيرة وخبرته بنفوس البشر طويلة!
وهذا الحذر لا أقول يجب أن يكون منذ يوم الزواج بل يبدأ قبل الزواج، وانظر كم من حالة طلاق وقعت قبل الدخول وبعد العقد!
وإذا استشعرنا هذا الأمر، تعين علينا أن نغلق عليه منافذ الوساوس والشكوك.
ومن جملة وظائف الشيطان الإغوائية! التي يعنيه أمرها ويدرب عليها أهل الباطل، إيقاع الخلاف والفرقة بين الزوجين، وهو يسعى في ذلك بكل سبيل وسوسة وإغواء، وقهرًا! ويدخل في ذلك قوله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة]، وتأمل قوله: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا} إذًا هو علم، يتعلمه الساحر من الشياطين! والعلم له أسسه وتفاصيله ووسائله.. وقد لا يأتي الشيطان أكثر الناس من هذا الطريق، لكنه يأتيهم من طرق أخرى، من طرق قذف الشكوك، ومن طرق الإغواء، من طرق أخرى كثيرة. على سبيل المثال، كثرت اليوم حالات الطلاق ولو بحثنا في نسبة الطلاق العالية، لوجدنا أن كثيرًا منها لم تقع لأسباب موضوعية، وإنما هي نتيجة لعمل دؤوب من الشيطان، سواءً فيما يتعلق بالجوالات ووسائل الإعلام الحديثة والشكوك التي يبثها الشيطان حول زوجة الرجل أو يوسوس للزوجة حول زوجها، وقد لا تكون شكوكًا لكنها حقائق يغري ويغوي بها! من كان في عافية وغنى عنها!
وكم من حالة وقفت عليها سببها الشكوك والظنون الكاذبة! تجد أن المرأة تتهم زوجها بوسوسة من الشيطان أن له علاقات، أو يكلم بعض النساء، وقد يكون هذا مجرد شكّ ووسواس، وقد يكون حقًّا في غير ريبة. والعكس تجد بعض الرجال يشك في زوجته ويراقبها بل -يتلصص عليها- وإذا وصلت الحال إلى هذا الحدّ فهي بداية الفشل.
والمهم أن نحذر من الشيطان أن يدمِّر حياتنا الزوجية، فإن هذا العدو المبين قد جعل ذلك هدفًا له! ففي الحديث الصحيح: (إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا! فيقول: ما صنعت شيئًا! قال: ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته! قال: فيدنيه منه ويقول نعم أنت)! قال بعض الرواة أراه قال يعني النبي صلى الله عليه وسلم: (فيلتزمه) .. لأنه يدرك ما يترتب على هذا الأمر من خطر، وتمزيق أسرة، وتفريق جمع، وإشاعة عداوة، وتعريض كلًا من الزوجين للفتنة، والأولاد للضياع، والعصمة في قطع الطريق عليه، فإن وقع الطلاق ضرورة فبالمعروف، والتزام التدابير الشرعية التي أشير إلى بعضها في القواعد السابقة، والله الموفق.