منتدى قصة الإسلام

منتدى قصة الإسلام (http://forum.islamstory.com//index.php)
-   الأسرة والطفل (http://forum.islamstory.com//forumdisplay.php?f=93)
-   -   ستون قاعدة ربانية في الحياة الزوجية … د . ناصر بن سليمان العمر (http://forum.islamstory.com//showthread.php?t=126899)

امانى يسرى محمد 06-11-2020 05:00 PM

ستون قاعدة ربانية في الحياة الزوجية … د . ناصر بن سليمان العمر
 
القاعدة الأولى: السَّكن والمودّة والرَّحمة هي الأصل في الحياة الزوجية



قال الله سبحانه : (وَمِنۡ ءَایَٰتِهِۦۤ أَنۡ خَلَقَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجا لِّتَسۡكُنُوۤا۟ إِلَیۡهَا وَجَعَلَ بَیۡنَكُم مَّوَدَّة وَرَحۡمَةً إِنَّ فِی ذَٰلِكَ لَءَایَٰت لِّقَوۡم یَتَفَكَّرُونَ ) [الروم].



هذه الآية تتضمّن القاعدة الكبرى التي يجب أن يقوم عليها أساس بناء الحياة الزَّوجية، والتحقق بما فيها تحقق بواحدة من أهم غايات الزواج؛ سُكنى الزَّوج إلى زوجته، والزوجة إلى زوجها، ومن هذا يعلم أن طروء الشَّجار والخلاف، بحيث يصير هو الطبيعي في الأسرة، دليلٌ على أنَّ هناك خللًا عظيمًا يجب استدراكه، وإلاّ فليست الزوجة سكنًا بل جحيمًا، وليس الزوج سكنًا بل غريمًا!

لقد بيَّن الله تعالى في هذه الآية الكريمة، أنّ الأصل في العلاقة بين الزوجين، هو المودّة والرحمة، كما أنه تعالىقد بيَّن أنَّ الأصل في المولود الفطرة: (فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِی فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَیۡهَا) [الروم:30] ويقول النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : (كلُّ مولودٍ يولد على الفطرة) أخرجه مسلم ، فإنَّ الأصل في الإنسان هو الإيمان، والكفر طارئ ناشئ؛ فكذلك الأصل في الحياة الزوجية والأسرية هو الاستقرار والمودة والرحمة والسَّكن، فإذا فُقدت هذه الأشياء فعلى الزَّوجين أن يبحثا عن سرِّ هذا الفقد، وليس معنى ذلك أنّه لا يمكن أن تقع مشكلات داخلَ البيوت، فلو خلا بيتٌ من المشكلات لكان ذاك البيت هو بيت النُّبوَّة، لكن فرق بين الشيء العارض اليسير، وبين أن يتحول العارض إلى أصل أصيل!


فالمقصود أنَّ هذه الآية القرآنية، تتضمّن آيةً من آيات الله الكونيّة، وهي أنّ الله تعالى قد جعل الزَّواج سكنًا، وجعل بين الزَّوجين مهما تباعدا في النَّسب مودةً ورحمة؛ وبالتالي فإنّ التّنازع والشِّقاق بين الزَّوجين، هو خلافُ الأصل، يحتمل ما دام أمرًا عارضًا، ولابد أن يعالج خلله إن تجاوز ذلك.


إنَّ اليقينَ بهذه القاعدة، وجعْلَها الأساسَ والمنطلق للحياة الزوجيّة، يحدُّ بإذن الله من الخلافات بين الزَّوجين؛ لأنَّ كلَّ واحد منهما -عند حصول الشِّقاق- يعلم بأنه قد خرج عن الأصل الَّذي جعله الله من آياته، فتتيسّر لهما العودة إلى هذا الأصل. فالإنسان متى ما وجد في حياته أو في صحته اعتلالًا أو مرضًا؛ فإنه يبادر إلى علاجه، ولا يرتاح حتى تعود الصحة إلى بدنه، وكذلك فإنّ فقدان المودَّة والرَّحمة، أو ضعفهما وعدم السَّكن والاستقرار، في الحياة الزَّوجيّة، هو داء دويٌّ، ينبغي معرفةُ سببه؛ ليتيسَّر علاجه، وقد قال الرَّسول صلى الله عليه وسلم : (ما أنزلَ اللهُ من داءٍ إلا أنزل له دواءً، علمه من علمه، وجهله من جهله) ، فليقف الزوجان وقفةً متأمّلة، عند هذه الآية الكريمة، وليجتهدا في النظر إلى مسار حياتهما ليعرفا سبب العلّة والداء، ومن ثمّ يتطلّعان إلى معرفة الشفاء والدواء، والعودة إلى حال الصِّحَّة والعافية، وهي الحال الأصيلة. (وَٱلَّذِینَ جَٰهَدُوا۟ فِینَا لَنَهۡدِیَنَّهُمۡ سُبُلَنَاۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلۡمُحۡسِنِینَ ) [العنكبوت].



—————-



1) متفق عليه رواه البخاري (1359)، ومسلم (2658).
2) رواه الإمام أحمد في المسند (1/‏423)، وابن ماجه (3438)، وابن حبان (6062)، وخرجه الألباني في السلسلة الصَّحِيحَة: (452).


<<<<<<<<<<




القاعدة الثانية: السّعادة في اتِّباع الهدى الإلهيّ والشقاء بضدها


قال الله سبحانه : ﴿فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَایَ فَلَا یَضِلُّ وَلَا یَشۡقَىٰ ﴾ [طه].

هذه الآية الكريمة تضمَّنت قاعدةً مهمةً، وهي : أنَّ العلاج الشافي والدواء الكافي والسَّبب الوافي، لتحقيق الاستقرار في الحياة الدنيا والآخرة، هو اتِّباع هدى الله ، وسنّة نبيِّه ، ومعنى هذه الآية، توضِّحه وتؤكّده الآية التالية لها، وهي قوله تعالى: ﴿وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِی فَإِنَّ لَهُۥ مَعِیشَة ضنكا﴾ أي في الدُّنيا على أظهر القولين، ثم بيَّن ما يحدث في الآخرة، قال: ﴿وَنَحۡشُرُهُۥ یَوۡمَ ٱلۡقِیَٰمَةِ أَعۡمَىٰ ﴾ [طه].

فقوله تعالى: ﴿فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَایَ فَلَا یَضِلُّ وَلَا یَشۡقَىٰ ﴾، معناه يتوافق مع آية السَّكن والمودة والرحمة في سورة الروم التي مضى ذكرها في القاعدة السابقة.
وقوله تعالى: ﴿وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِی فَإِنَّ لَهُۥ مَعِیشَة ضَنكا وَنَحۡشُرُهُۥ یَوۡمَ ٱلۡقِیَٰمَةِ أَعۡمَىٰ ﴾[طه]، يبيّن أنّ الشقاء والتعاسة هما مصير المعرضين عن الهداية، وذلك في الدنيا والآخرة.

فهاتان الآيتان توضِّحان أنَّ الزَّوجين إذا اتَّبعا الهُدى الرَّبَّانيّ، وهو هنا هدى الدلالة والبيان، ومصدره الوحي= نالا السَّعادة في الدُّنيا والآخرة، وإلا فالشقاء والتعاسة مصيرهما.
وقد يقول قائلٌ: ألستَ ترى بيوتًا صالحةً طيِّبةً، وأهلها ملتزمون بمنهج الله جل وعلا، ومع ذلك تعاني من الشَّقاء واضطراب السَّكن؟!
فأقول: هذا صحيح، ولا يخالف القاعدة، فإنّه مهما بلغ البيت من الصلاح والاستقامة؛ فإنه قد لا يخلو من أسباب الشَّقاء، قال تعالى: ﴿وَمَاۤ أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِیبَةࣲ فَبِمَا كَسَبَتۡ أَیۡدِیكُمۡ﴾ [الشُّورى:30] ولا يخلو أحدٌ من ذنب، أو مخالفة بتأويل، قد يعذر فيه وقد لا يعذر، وإن كان ظاهرُ حياته الصَّلاح والاستقرار، وإلاّ فلو التُزم هدى الشريعة في كل صغيرة وكبيرة، في الاجتماع والفرقة، فحاشا أن يتخلف وعد الله!

وأما ما كان يسيرًا أو عارضًا فلا بد منه فهذا طبع بشري، ثم قد يكون امتحانًا أو ابتلاء لأحد الزوجين أو لكليهما، يرفع الله به درجته، ويجعل له وراءه خيرًا كثيرًا.
فهذه الآية قاعدة، تعالج مختلف مظاهر الخلل وعدم الاستقرار في الحياة الزوجية والأسرية، والتي لن تعدو في النهاية أن تكون ناتجةً من البعد عن الهدى القرآني الرباني والوقوع في الإعراض الكلي أو الجزئي عن الوحي، لكن من انتبه لهذا الخلل وعرف العلّة، فسوف يجد العلاج؛ فما أنزل الله من داء إلا وأنزل له دواء.

ثم إنَّ العلاج قد يحتاج إلى منهج وبرنامج عمليٍّ، وصبر على بعض مُرِّه، وكلُّ إنسانٍ هو أدرى بحاله، كما قال تعالى: ﴿بَلِ ٱلۡإِنسَٰنُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ بَصِیرَة وَلَوۡ أَلۡقَىٰ مَعَاذِیرَهُۥ﴾ [القيامة]. أسأل الله أن يجعل حياتنا وبيوتنا آمنةً مستقرَّة، وأن يديم عليها السّكن والمودة والرحمة.


<<<<<<<<<<



القاعدة الثَّالثة: في القرآن بيانُ كلِّ شيءٍ يحتاج إليه الزَّوجان




قال الله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل] هذه الآية الكريمة، تتضمّن قاعدةً مكمِّلةً للقواعد السَّابقة، وفيها إرشاد إلى طرق الهداية والرَّحمة والاستقرار؛ في حياتنا عمومًا وفي الحياة الأسريَّة خصوصًا.

ففي هذه القاعدة، بيانٌ مؤكَّدٌ بأنَّ كتاب الله e، قد حوى الجواب على كلِّ هذه التَّساؤلات والمطالب، كما قال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ، وكما قال تعالى في سورة الإسراء: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُتَفْصِيلا [الإسراء]، وقوله: ”كلّ“ في الآيتين تعبير بأقوى صيغ العموم.

وهذه القاعدة، تحثُّ الزّوجين على أن يكون من نهجهما في الحياةِ، الرُّجوع إلى كلام الله سبحانه ، للبحث فيه عن كلِّ ما يحتاجون إليه من حلول المشكلات، وتوضيح الغامضات، سواءٌ من أجل تلافي المشكلات قبل وقوعها، أو من أجل معرفة أسبابها وكيفية علاجها بعد الوقوع .

فإن الحياة كما يقولون وقاية وعلاج، والوقاية على أيِّ حال خيرٌ من العلاج؛ فليبحث كلٌّ من الأب والأم في كتاب الله عن السُّبل التي جعلها الله تعالى وسيلةً لاستقرار حياتهما، وسببًا لتحقيق السَّكن والمودة والرحمة، كما في آية الرُّوم.

ويبحثان فيه عن العلاج إذا وقعت المشكلة، فيبادران إلى البحث عن حلِّها في القرآن؛ لأنَّه (مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ دَاءً، إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ دَوَاءً، عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ، وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ)(1) وإنّما يتحقّق لنا العلم به، بالرُّجوع إلى القرآن، ولهذا كانت هذه القواعد، التي نذكرها؛ لتُسهم في الوقاية أولًا، وفي العلاج ثانيًا.


ولا شك أنَّ عدمَ الاستقرار والرَّحمة والسَّكن، مرضٌ خلاف ما جَبل الله سبحانه عليه الطبع البشري، وخلاف ما جعل وشرع من أجله الزواج والحياة الأسرية.

فهذه القاعدة على وجازتها قاعدةٌ عظيمةٌ، من اتَّخذها منهجًا في حياته عمومًا وحياته الأسرية خصوصًا؛ نجا وسَعِد في الدُّنيا والآخرة.

مع أنه يجب أن نُشير إلى أنَّ هناك ارتباطًا وثيقًا بين الحياة العامة والحياة الخاصَّة، فيصعب الفصل بينهما، فما يقعُ في حياتنا العامَّة يؤثِّر على حياتنا الخاصَّة، وأيضًا ما يقع في حياتنا الخاصَّة، يؤثِّر على حياتنا العامَّة، سلبًا أو إيجابًا، تقدُّمًا أو تأخُّرًا.


(1) رواه الإمام أحمد في المسند (1/‏423)، وابن ماجة (3438)، وابن حبان (6062)، وخرجه الألباني في السلسلة الصَّحِيحَة (452).


<<<<<<<<<<<



القاعدة الرَّابعة: الله تعالى هو الذي يصلح الزوجين



قال الله تعالى : ﴿وَأَصۡلَحۡنَا لَهُۥ زَوۡجَهُۥۤ﴾



تأمَّلوا هذه القاعدة، التي تضمَّنتها هذه الآية الكريمة، من سورة الأنبياء، في سياق بيان استجابةِ اللهِ تعالى لزكريَّا عليه السَّلام، قال تعالى: ﴿وَزَكَرِیَّاۤ إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُۥ رَبِّ لَا تَذَرۡنِی فَرۡدࣰا وَأَنتَ خَیۡرُ ٱلۡوَٰرِثِینَ ، فَٱسۡتَجَبۡنَا لَهُۥ وَوَهَبۡنَا لَهُۥ یَحۡیَىٰ وَأَصۡلَحۡنَا لَهُۥ زَوۡجَهُۥۤ﴾

فيتبيَّن من هذه الآيةِ الكريمةِ لدى تدبُّر معانيها حقائق كبيرةٌ:

من هذه الحقائق: أنَّ الله هو المصلح سبحانه وتعالى، الَّذي يُصلح الزَّوجَ ويصلح الزَّوجةَ

ومن هذه الحقائق، ما نلاحظه من إحكام التَّعبير في قوله تعالى: ﴿وَأَصۡلَحۡنَا لَهُۥ زَوۡجَهُۥۤ﴾، لم يقُل: (وأصلحنا زوجه)؛ لأنّ الزوجة قد تكونُ صالحةً في نفسها، بعبادتِها وصلاتها وقيامها، لكنَّها لم تصلح لزوجها، وكذلك الرجل قد يكونُ صالحًا في نفسه، في صلاته وعبادته واستقامته عمومًا، لكنَّه ليس صالحًا لزوجته.

إذن، الَّذي يُصلحُ الزَّوجَ أو الزَّوجة للآخر، هو اللهُ تعالى؛ فلنتوجَّهْ إليه تعالى من أجل إصلاح أزواجِنا إذا أصاب العلاقةَ شيءٌ من عدم الاستقرار، أو ضعفٌ في المودَّة والرَّحمة.
وآية الرُّوم قد أكَّدت أهمِّية هذا التَّوجُّه، قال تعالى: ﴿وَمِنۡ ءَایَٰتِهِۦۤ﴾ أي: من آيات الله تعالى الكونيَّة: ﴿أَنۡ خَلَقَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجا لِّتَسۡكُنُوۤا۟ إِلَیۡهَا وَجَعَلَ بَیۡنَكُم مَّوَدَّة وَرَحۡمَةًۚ﴾ ؛ فهو الذي خلقَكم وجعلَ بينكم المودَّة والرَّحمة؛ وهذا معناه أن نتوجَّه إليه تعالى إذا ما فُقِدت؛ فهو الذي جعلها، وهو الذي يأذن بإبطال أثرها، إذا لم تتحقق أسباب وشروط تحقُّقها في واقع الحياة الزوجيّة.


والله على كل شيء قدير، بيده الأمر، ﴿مَّا یَفۡتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحۡمَة فَلَا مُمۡسِكَ لَهَاۖ وَمَا یُمۡسِكۡ فَلَا مُرۡسِلَ لَهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ ﴾

ومع إيمان المؤمنين بهذا فإن شواهده التي تطمئن بها قلوب المؤمنين، وتقام بها الحجة على المعاندين ظاهرة، فالواقعَ نفسه يشهد بهذه الحقيقة الكبرى.

ومن شهادة الواقع ما نشهده، من أنَّ الَّذين يتوجَّهون إلى الله تعالى، في إصلاح أزواجهم؛ يتحقَّق لهم ذلك، إذا صدقوا في الالتجاء إلى الله بيقينٍ وصدق، وأزالوا الموانع التي أحدثت الفجوة، أو أوقعت الجفاء، أو أذهبت الرحمة والمودة.

ومن أخطر الأشياء أن يستسلم الرجلُ أو أن تستسلم المرأة ، لضعف الرحمة والمودة أو فقدها، فيرضيا بوقوع الجفاء، ويعيشا التوتر والخلاف والشِّقاق والمشكلات الزَّوجيَّة اضطرارًا، كما هو واقعٌ في كثيرٍ من البيوتِ، رغم ما جاءهم من البيِّنات والهدى.

زرتُ طالبَ علمٍ، فوجدته يعاني من مشكلاتٍ داخلَ بيته؛ فسألته عن العلاج الذي اتَّخذه لحلِّ هذه المشكلات؛ وكنتُ في مجلس بيته، فاكتفى بأن أشار إلى سجادة في ذلك المجلس؛ ففهمتُ أنه يجتهد في التَّوجُّه إلى الله تعالى ، والتَّضرُّع إليه؛ فما مرَّت مدة من الزَّمن، إلا وقد عاد الاستقرار، ورجعت المودة إلى بيته؛ ولمَ لا! وهو قد سلك الطَّريق القريب المختصرَ، واتَّبع المنهج الصحيح: ﴿فَفِرُّوۤا۟ إِلَى ٱللَّهِۖ﴾ ، ﴿ٱدۡعُوا۟ رَبَّكُمۡ تَضَرُّعا وَخُفۡیَةًۚ﴾ ، ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِی عَنِّی فَإِنِّی قَرِیبٌۖ﴾ ، ﴿أَمَّن یُجِیبُ ٱلۡمُضۡطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَیَكۡشِفُ ٱلسُّوۤءَ﴾ ، فهذه الآيات كلُّها تؤكد هذه الحقيقة.



القاعدة الرَّابعة: الله تعالى هو الذي يصلح الزوجين



فمن أولى ما نتخذه لعلاج الخلل، أن نعود إلى الله تعالى ، الذي خلق الزَّوجين؛ فهو الذي يصلحنا، ويصلح لنا أزواجنا، وصلاح الزَّوجة قد يكون نتيجةَ صلاحِ الرجل نفسِه، فإذا صلح الرجلُ صلحت الزوجة، وإذا صلحت الزَّوجة صلح الرَّجل.

ومن الخطأ في أكثر الأحيان أن نحمِّل أحد الطرفين المسؤوليةَ الكاملةَ، لما وقعا فيه، أو وقعت فيه الأسرة، فغالبًا ما يكون ثمة خلل وقع من الطَّرفين معًا، وإن كان أحدُهما بادئًا بالخصام، أو متولِّيًا كِبره، ولكن كان بإمكان الآخر أن يتلافاه، فمحاسبة النفس والرجوع إلى الله والاعتراف بالتقصير أول الحل، ويتبع ذلك أن يتَّجه إلى الله تعالى ، متضرِّعًا إليه بأن يُصلح زوجه

فنسأل الله تعالى ، أن يُصلح أنفسنا، ويصلح أزواجنا، ويصلح بيوتنا، ونحقِّق هذه الغاية الَّتي نسعى إليها من خلال هذه الرِّسالة.

موقع المسلم




امانى يسرى محمد 06-11-2020 05:05 PM

رد: ستون قاعدة ربانية في الحياة الزوجية … د . ناصر بن سليمان العمر
 
القاعدة الخامسة: السكن والاستقرار في التزام الأمر وترك المناهي



قال الله تعالى: ﴿ ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا﴾ [النِّساء]




وهذه قاعدةٌ أخرى، تتضمّنها هذه الآية الكريمة، فهلا تأمَّلناها، وتأمّلنا تأثيرها على استقرار الحياة الزوجية! وهي وإن كانت قد جاءت في سياق موضوع المنافقين، ومعناها المناسب للسياق: ولو أنهم فعلوا ما تركوه من أمر النبي صلى الله ليه وسلم ، إلاّ أن دلالتها تتجاوز ذلك.

يقول الله تعالى: ﴿وَلَو أَنَّهُم فَعَلُوا مَا یُوعَظُونَ بِهِۦ﴾ أي: في كل شأنٍ من شؤون الحياة عمومًا، وتتناول دلالتها الحياة الأسريَّة والزَّوجيَّة، ﴿لَكَانَ خَیرا لَّهُم وَأَشَدَّ تَثبِیتا ﴾ والتثبيت في التزام الأوامر المتعلقة بالأسرة يعود إلى تحقيق السَّكن والاستقرار والسعادة في الحياة الأسريّة.

إنَّ الله تعالى قد وعظنا وبيَّن لنا سبل الهداية، ورسولنا صلى الله ليه وسلم ، قد تركنا على البيضاء، كما قال صلى الله ليه وسلم: (وَقَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ) ، فلم يبقَ إلا أن نتَّبع ما أُمرنا به، وأن نفعل ما وُعظنا به؛ حتى نؤسِّس حياتنا على أسس ثابتة راسخة، إذا هبَّت عليها ريح الفُرقة والتّنازع؛ لم تؤثِّر فيها شيئًا!

وفي هذه القاعدة، التي يتضمَّنها قوله تعالى: ﴿لَكَانَ خَیرا لَّهُم وَأَشَدَّ تَثبِیتا ﴾، إشارة أخرى: وهي أن التثبيت يشتد ويزيد بحسب الاستقامة، وعليه فلا حد من الطمأنينة والاستقرار، ينعم بها الملتزم بأمر الله، بل هو في حال ارتقاء متواصل؛ ما دام متَّبعًا لما أنزل الله، مخالفًا لدواعي الطبع ونوازع الهوى اتعاظًا بمواعظ الله. فمهما كان الخير الذي أنت فيه؛ فإنه يزيدُ ويتضاعف، ومهما كانت المودة والرحمة التي بينك وبين أهلك، وبينك وبين زوجك؛ فإنها ترتقي كلما ارتقيت في التزام أمر الله، كما قال تعالى: ﴿نُّورٌ عَلَىٰ نُور یَهدِی ٱللَّهُ لِنُورِهِۦ مَن یَشَاۤءُ ﴾

تأمَّلوا حال الخيمةَ التي توضع وتُنصب في البَرِّ، إذا لم تُثبَّت أعمدتُها وأطنابها، كيف تسقط وتتهاوى إذا هبَّت عليها أيُّة ريحٍ، أما إذا كانت أعمدتها وأطنابها ثابتةً مستقرَّةً؛ فإنَّ الرياح تأتيها عن يمين وشمال، دون أن تؤثر فيها، واسألوا أهل البادية الَّذين يعيشون حياتهم في البرِّيَّة، كم هبَّت عليهم من الرياح والعواصف، ومع ذلك بقيت بيوتهم البسيطة ثابتة! قد وجدوا من خلال الواقع والتجارب، أنَّ تقوية الأسس والأعمدة والأطناب هو القاعدة القويّة لبيوتهم، التي تكفل بقاءها ثابتةً بإذن الله تعالى.

إنَّ الحياة الأسريَّة كذلك لا تسلم من العواصف، ومن محاولاتِ الآخرين زعزعةَ استقرارها، وهؤلاء الآخَرون قد يكونون من أقاربنا، بل من أنفسنا، ومن أولادنا، فالعلاقة الزوجيّة، تتناوشها كثيرٌ من السِّهام الطائشة! أو التي تهدف إلى إحداث الشقاق بين طرفيها؛ الزَّوج وزوجه، وذلك قد يكون من أقرب الأقارب، كما قد تُستخدم فيه مختلف الوسائل والأساليب، المنافية للشَّريعة، من اللجوء إلى السَّحرة، وإلى غير ذلك من الوسائل التي تهدف إلى زعزعة استقرار الأسرة، فإذا كانت العلاقةُ بين الزوج وزوجه ثابتة وقوية وعميقة، قائمة على الالتزام بما ورد إليهم من المواعظ والأحكام الشَّرعيَّة التي جاء بها القرآن، كما قال تعالى: ﴿ ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا﴾ [النِّساء]

والمواعظ والأحكام الشّرعية التي جاءت بها السُّنَّة المطهّرة، كما قال تعالى: ﴿وَمَاۤ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُم عَنهُ فَٱنتَهُوا﴾ [الحشر:7]؛ فإذا كانت العلاقة بين الزوجين، قائمةً على هذا الأصل الرَّاسخ؛ فعندئذٍ تثبت هذه الأسرة في وجه العواصف، وتتكسر النصال الخائبة على النصال!

إنّ الحياة العامة مؤثرةٌ في الحياة الخاصَّة، كما أنَّ الحياة الخاصَّة مؤثرةٌ في الحياة العامَّة؛ فإذا كان الرّجل مستقيمًا صالحًا في حياته الخاصّة، في عبادته، في صلاته، في أخلاقه، والمرأة كذلك، فإنَّ هذا يؤثر إيجابًا على حياتهما الزّوجيّة، أيضًا فإنَّ قوة العلاقة بين الزوجين، تؤثر في الحياة العامة لكلٍّ منهما، من حيث قدرة الرجل، وقيامه بالواجبات الشرعية العامة للأمة، وكذلك من حيث قدرة المرأة على مهامِّ الدَّعوة والعمل الخيريِّ وسط النساء، والفصل بين كلٍّ من الحياة الخاصَّة والحياة العامَّة، ليس معقولًا، بل هو فصام نكد، إذ كيف لرجلٍ عاجزٍ عن حلِّ مشكلاته الأسريّة، أن يعالج ببعض الجهد مشكلات أمَّته؟ فالحياة الخاصَّة والحياة العامَّة كلاهما صنوان وهذه من تلك، وهذا يجعل قول الله تعالى: ﴿ ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا﴾ [النِّساء]، بما يكتنفه من عموم، مؤثرًا في حياة الأسرة! وإذا أسَّسنا حياة الأسر أسرة أسرة على أسس قويَّة راسخة، حمينا بإذن الله المجتمع كلَّه من تلك العواصف والقلاقل التي تؤثّر على استقراره.


,,,,,,,,,


القاعدة السادسة: البيوت العامرة بالقرآن يغمرها اللطف الإلهيُّ





قال الله تعالى : ﴿وَٱذكُرنَ مَا یُتلَىٰ فِی بُیُوتِكُنَّ مِن ءَایَٰتِ ٱللَّهِ وَٱلحِكمَةِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِیفًا خَبِیرًا ﴾ [الأحزاب].

الخطابُ في هذه الآية، موجَّهٌ إلى أمَّهات المؤمنين، زوجات النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وتأمَّلوا كيف كان ختامها بقول الله تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِیفًا خَبِیرًا ﴾ وهذا معنىً عظيم؛ يوصل الخير إليكم ويدفع الشر عنكم بطريق لا تحتسبونها!

وفي هذه الآية رسالة وتوجيهٌ من الخبير سبحانه لكلِّ مؤمنٍ، أن يجعل بيته عامرًا بتلاوة القرآنِ الكريم، فهو كلامُ الله سبحانه ..

وقد عرفنا من السُّنَّة حال البيت إذا لم يكن عامرًا بتلاوة القرآن! روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الْبَيْتُ الَّذِي لَا يُقْرَأُ فِيهِ الْقُرْآنُ، كَمَثَلِ الْبَيْتِ الْخَرِبِ الَّذِي لَا عَامِرَ لَهُ) .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ، إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ) ..

وفي روايةٍ عند أحمد، صحَّحها الأرناؤوط: (فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَفِرُّ مِنْ الْبَيْتِ، إِنْ يَسْمَعْ سُورَةَ الْبَقَرَةِ تُقْرَأُ فِيهِ) .

إذن البيتُ العامرُ بتلاوة القرآن والذِّكر، تتحقَّق فيه أسباب السَّعادة، ويتحقَّق فيه الاستقرار، بإذن الله تعالى ..

أمَّا البيتُ الغارقُ في الأغاني والملاهي، والبرامج المحرمة، والأفلام الماجنة، والغِيبة والنَّميمة؛ فحري بأن يكون مأوىً للشَّياطين، كالبيت الخرب فيه وحشة!

كما إذا دخلتَ إلى بيت خربٍ من البيوت القديمة، فماذا أنت واجدٌ فيه غيرُ الحشرات والحيَّات والعقارب وهوام الأرض! فيا أخا الإسلام هل تريد أن يكون البيت مأوى للشياطين، أم تريده محلًا للطف الإلهيِّ والاستقرار والسكينة؟

إذن، فلنعمرها بذكر الله تعالى ، وبتلاوة القرآن وتدبره وقراءة تفسيره، ولأجل هذا الغرض، حريٌّ بالزوجين، أن يؤسِّسا حلقةً للعلم في بيتهما، تكون مائدةً للقرآن، ينهلان وينهل من معينها أبناؤهم، فهنا لا مكان للشيطان، بل يفرُّ كما في رواية الإمام أحمد، أو ينفر كما عند الإمام مسلم، وكلها معان متقاربة.

فإذا كان الشيطان يفرُّ وينفر، من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة، فكيف بالذي يُعمر بالقرآن كلِّه؟! سيكون بلا شك أشدَّ فرارًا وهربًا.

جعل الله بيوتنا عامرةً بذكره، ومحلًا للطفه ومودَّته وحبِّه سبحانه ، فإنه إذا أحبَّنا سرى الحبُّ بيننا، والاستقرارُ إلى قلوبنا، والتآلفُ إلى نفوسنا، والله أعلم.


,,,,,,,,,



القاعدة السابعة: قدم في الاختيار الزَّوج الصَّالح





قال الله تعالى : ﴿وَأَنكِحُوا۟ ٱلۡأَیَٰمَىٰ مِنكُمۡ وَٱلصَّٰلِحِینَ مِنۡ عِبَادِكُمۡ وَإِمَاۤئِكُمۡۚ إِن یَكُونُوا۟ فُقَرَاۤءَ یُغۡنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِیم ]

هذه الآية فيها إشارات:

أولًا: تتضمَّن هذه الآية أمرًا موجَّهًا إلى أولياء الأمور بإنكاح مَن تحت ولايتهم من الأيامى وهم: مَن لا أزواج لهم، من رجال ونساء، ثُيَّبٍ وأبكار، وهذا الأمر يدلُّ على أن الإنكاح واجب على الفور عند توفر شرطه، على الراجح، ويؤكد ذلك أنّ الآية تضمَّنت جوابًا على ذريعةٍ يحتجُّ بها كثيرٌ من الناس، فيؤخِّرون الزواج بناءً عليها، ألا وهي: الفقر، وقلة ذات اليد، فأجاب الله سبحانه على المتذرعين بذلك بقوله تعالى: ﴿إِن یَكُونُوا۟ فُقَرَاۤءَ یُغۡنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِیم﴾.

فالمبادرة إلى الزَّواج تحقق الاستقرار والهدوء النَّفسيَّ، وأكثر الشباب تكون حالهم المادية في مستقبل حياتهم ضعيفة، ثم يتزوجون فرزق الله من يشاء، ولا شك أن المسؤولية وبناء الأسرة من دواعي السعي والعمل الدؤوب.

ثانيًا: قوله تعالى: ﴿وَٱلصَّٰالِحِینَ مِنۡ عِبَادِكُمۡ وَإِمَاۤئِكُمۡۚ﴾ فيه إشارةٌ إلى أنَّ من عوامل الاستقرار الأسريِّ، التي ينبغي مراعاتها: حسن اختيار الزوج أو الزوجة، وكثيرٌ من النَّاس تساهل في هذا الأمر، فلم يراعِ جانبَ الصَّلاح، برغم أهميته الكبيرة.
ثالثًا: في الآية إشارة مهمَّة: إلى أن بعض الناس قد يُراعي جانب الغنى والقدرة المادية، على حساب الصلاح، والله سبحانه يبيّن أنَّ المهم هو الصلاح: ﴿وَأَنكِحُوا۟ ٱلۡأَیَٰمَىٰ مِنكُمۡ وَٱلصَّٰلِحِینَ مِنۡ عِبَادِكُمۡ وَإِمَاۤئِكُمۡۚ﴾، أمَّا فقره فإنَّ الله يغنيه.

وحال كثير من النَّاس اليوم بخلاف ذلك! يردُّ الخاطبَ –وإن كان صالحًا- لأنَّه فقير، ويزوج الغني وإن ضعف صلاحه، ويقول: يعقل ويصلح بعد الزواج! والله تعالى يقول: ﴿إِن یَكُونُوا۟ فُقَرَاۤءَ یُغۡنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِیم﴾.

فإذا صدق الأبُ أو وليُّ المرأة وأحسن اختيار الزوج لابنته، مراعيًا الصلاح، فإنَّ هذا وعدٌ من الله أن يُغنيه، المهم أن يكون واثقًا وموقنًا ومؤمنًا بوعد الله، وأن يكون سببُ قَبوله له هو صلاحه، أخذًا بالحديث الذي رواه أبو هريرة عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم : (إذا خطب إليكم من ترضَون دينه وخُلقه؛ فزوِّجوه. إلا تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ عريض)(1)


وكان النبي صلى الله عليه وسلم يزوّج بناته على اليسير، كما روي عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قَالَ: (لَمَّا تَزَوَّجَ عَلِيٌّ رضي الله عنه فَاطِمَةَ رضي الله عنها ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَعْطِهَا شَيْئًا، قَالَ: مَا عِنْدِي، قَالَ: فَأَيْنَ دِرْعُكَ الْحُطَمِيَّةُ)(2)



وأيضًا ما روي عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِىِّ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله ليه وسلم جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله! إِنِّى قَدْ وَهَبْتُ نَفْسِى لَكَ، فَقَامَتْ قِيَامًا طَوِيلًا، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله! زَوِّجْنِيهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ! فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله ليه وسلم: (هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَىيءٍ تُصْدِقُهَا إِيَّاهُ؟ فَقَالَ: مَا عِنْدِي إِلاَّ إِزَارِي هَذَا! فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله ليه وسلم: إِنْ أَعْطَيْتَهَا إِيَّاهُ جَلَسْتَ لاَ إِزَارَ لَكَ، فَالْتَمِسْ شَيْئًا! فَقَالَ: مَا أَجِدُ شَيْئًا. قَالَ: الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، فَالْتَمَسَ فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صلى الله ليه وسلم: هَلْ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيءٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، مَعِي سُورَةُ كَذَا، وَسُورَةُ كَذَا، لِسُوَرٍ سَمَّاهَا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صلى الله ليه وسلم: قَدْ أَنْكَحْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ)(3)


وقد حضرتُ عقد زواج أحد الشَّباب الطّيبين، وكان والد الفتاة رجلًا صالحًا، فعندما سأله العاقد: ما هي شروطك؟ قال: أن يُعلِّمها كتاب الله سبحانه ، وأن يُحفِّظها جزء عمَّ! ولم يشترط شيئًا من عَرَض الدّنيا، بل عندما دفع الزوج المهرَ كان كبيرًا، غضب الأب.

بينما بعضُ النَّاس الآنَ -مع كل أسف- يقدِّمُ صاحبَ المال والوجاهة والمنصب وعرَضَ الدُّنيا، على الصَّلاح، وكثيرًا ما جاءني من يستفتيني فيمن جاء يخطب ابنته، يقول: هو غير مستقيم، لكنَّه ذو مالٍ أو ذو منصب، والأعجب أنَّني أسأله أحيانًا عن عمله؛ فأفاجأ بأنه يعمل في بنكٍ ربويٍّ، أو في مجال من المجالات المحرّمة، فأقول له: كيف تزوّجه وهو سيغذي ابنتك من الحرام؟ فيقول: سيصلح بإذن الله ويهتدي بعد زواجه. فأقول له: هل ابنتُك صالحةٌ مستقيمة؟ فيقول: نعم، ويُثني عليها لصلاحها، قلت: وما يضمنُ أن يكون هو سببًا لانحرافها أو عدم استقامتها! بل هذا واقع ومشاهد.

وأيضًا فإنَّ الزوجة إذا لم تكن صالحةً، قد تكون سببًا لانحراف الزَّوج، وقد رأيت أناسًا كانت تبدو عليهم سيما الاستقامة، ثمَّ بعد زواجهم بأشهرٍ قلائل؛ بدت على ظواهرهم علامات الفتور، والله أعلم ببواطنهم، فأتساءل عن السَّبب وأفتش، فأجده ضعف استقامة الزَّوجة، فبعض الزوجات قلَّ من يُقاومها، وخاصة إذا أحبَّها زوجُها، وملكت قلبه، فعندئذٍ يتسرَّب إليه الضّعف شيئًا فشيئًا، فحري بأهل الزَّوج أن يجتهدوا في اختيار المرأة الصالحة لابنهم.

إنَّ الصَّلاح من أهمّ عوامل الاستقرار الأسريّ، لقد رأيتُ بيوتًا لا يجد أهلها ما يأكلونه إلاّ قليلًا، لكنهم يغبطون على ما هم فيه من استقرار وصفاء ومودة، وقد رُزق بعضهم مع ذلك أبناء صالحين، ولا غرو فالشيء من معدنه لا يستغرب! وحسبنا بيت النبوة، فإنه كما ورد في الحديث، عن عروة، عن عائشة، أنَّها قالت: (إن كنَّا لننظر إلى الهلال ثلاثةَ أهِلَّةٍ في شهرينِ، وما أُوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار فقلت ما كان يعيشكم؟ قالت الأسودان التَّمر والماء)(4)


وكان بيته صلى الله عليه وسلم أسعد البيوت! وكان بوسعه أن يملأه ذهبًا لو شاء! فقد عُرِضت عليه الدُّنيا فأباها، إيثارًا لما عندَ الله في الآخرة.
والمهم هو أن نؤثر الصلاح، وأن نجتهد منذ البداية في اختيار الزوج الصالح أو الزوجة الصالحة، فالسعادة ثمة!

قد يقول قائل: هل تعني هذه الآية الكريمة: ﴿وَأَنكِحُوا۟ ٱلۡأَیَٰمَىٰ مِنكُمۡ وَٱلصَّٰلِحِینَ مِنۡ عِبَادِكُمۡ وَإِمَاۤئِكُمۡ﴾ ألا نُزوّج الفاسق مطلقًا؟

فأقول: لا، إنما تعني أن نجتهد في اختيار الزَّوج الصَّالح، وأن نشدد في ذلك إن كانت الزوج صالحة، وأمّا ضعيفُ الدِّين فنُزوِّجه بمن هي على شاكلته، وقد سمعتُ سماحة شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله ، في برنامج ”نور على الدَّرب“ مرة وقد سأله سائلٌ من بلدٍ لا يُقيمون حدود الله على من لم يُصَلِّ، قال السائل: إنَّ رجلًا خطب ابنتي، وهو لا يصلي، وابنتي أيضًا لا تصلي! فنصحه الشيخ، ثمّ قال له: إذا كانوا كلُّهم لا يُصلُّون فزوِّجوه، فهكذا نقول، وهذا من فقهه رحمه الله كما قال الله سبحانه : ﴿ٱلۡخَبِیثَٰتُ لِلۡخَبِیثِینَ وَٱلۡخَبِیثُونَ لِلۡخَبِیثَٰتِۖ وَٱلطَّیِّبَٰتُ لِلطَّیِّبِینَ وَٱلطَّیِّبُونَ لِلطَّیِّبَٰتِۚ﴾ ، فإذا جاء رجلٌ ضعيفٌ في دينه، وخطب فتاةً ضعيفةً في دينها؛ فيُزوَّج؛ لأن عدم تزويج ضعيفِ الدِّين قد يكون سببًا للفساد.

أسأل الله تعالى أن يُصلح شبابنا، ويجنِّبهم سبل الغواية والفساد.
(1) رواه الترمذي (1084) وحسّنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1022).


(2) رواه أبو داود (2125)، والنسائي في الكبرى (5542).


(3) صحيح البخاري (5149).


(4) صحيح البخاري (2567)، وصحيح مسلم (2972).



,,,,,,,,,,,,,,,,,,,


القاعدة الثامنة: هن لباس لكم وأنتم لباس لهن




قال الله سبحانه : ﴿هُنَّ لِبَاس لَّكُم وَأَنتُم لِبَاس لَّهُنَّ﴾
هذه جملةٌ قصيرةٌ، من آيةٍ عظيمةٍ، وردت في سورة البقرة، لو أنَّ الزَّوجين تدبَّراها وفقِها معانيها ودلالاتها؛ لحلَّ الاستقرارُ والسَّكنُ في رحاب الأسرة؛ ولاجتهد كلٌّ منهما في معاملة زوجه، معاملةً تحقِّق لهما معًا الأنس والراحة.

كم في هذه الكمات القصيرة من معانٍ عظيمة! ولكي ندرك عظمتها، دعونا نتأمَّل في دلالات مفهوم اللباس ووظائفه، وإنَّها لدلالاتٌ كبيرة، أليس يستر عوراتنا؟ ألسنا نختار من اللباس ما نراه جميلًا، ومناسبًا في مظهره ومخبره؟ ألسنا نراه يتناسب مع اختلاف الفصول، فنختار في الشتاء الملابس الثقيلة، لتقينا قرص البرد، ونختار في الصيف الملابس الخفيفة، ذات الألوان الهادئة، لتخفف من لفح الحرِّ؟

إنَّ اللِّباس تعبيرٌ إنسانيٌّ جميل، فمظهر الإنسان مع ثيابه، سواءٌ من حيث نظافتها أو من حيث جمالها، يعبِّر عنه، وعن إحساسه وشعوره، وقد قال رجلٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم : (إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً) ، وفي روايةٍ أخرى: (يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي لَيُعْجِبُنِي أَنْ يَكُونَ ثَوْبِي غَسِيلًا)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ذَاكَ الْجَمَالُ، إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ) .

وبناءً على دِلالات ومعاني اللِّباس، لنتخيَّل كيف تكون العلاقةُ بين الزوجين، إذا تعامل كلٌّ منهما مع الآخر باعتباره لباسًا له! لا ريبَ أنَّها ستكون حياةً محفوفةً بالأنس والمودَّة والرَّحمة، ومصداقًا لهذا المعنى، أذكر أنَّ أحدَ طلابِ العلم من القارَّة الهنديَّة، كان يُترجم كتاب ”ليدَّبَّروا آياته“ الذي يُصدره مركز تَدبُّر بالرياض، وفي يوم من الأيام، أثناء قيامه بترجمة هذا الكتاب، طرأ خلاف بينه وبين زوجته وهي في بلدها، وهو في الرياض، فتشاجرا واختلفا وربما اقتربا من حافَّة الطَّلاق، وقال لها إنّه سيتَّصل بوالدها، ثمَّ عاد إلى عمله في ترجمة الكتاب، فكان من التوفيق أنَّ مرَّ عليه قول الله تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاس لَّكُم وَأَنتُم لِبَاس لَّهُنَّ﴾ فوقف عند معانيه التدبرية التي ذكرها المؤلف، وفيها شيء ممَّا أشرتُ إليه آنفًا، ونظر في المعاني المكنونة في لفظ ”اللِّباس“، فما هو إلا أن نهض واتَّصل بزوجته، وأخبرها بأنّه قد صرف النَّظر عما قاله، فتعجَّبتِ المرأة من سرعة تغيُّره من حالٍ إلى حال؛ فبيَّن لها أنَّه الآن يقوم بترجمة معاني قول الله تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاس لَّكُم وَأَنتُم لِبَاس لَّهُنَّ﴾ ، وقد وجد فيها من الدّلالات العميقة ما لم يكن يخطر على باله، من حقيقة العلاقة بين الزوجين، فقال لها: أنتِ لباسٌ لي، وأنا لباسٌ لك، لا يليق أن يمزَّق اللباس ولا أن يخلع هكذا ارتجالًا! بل لابد من أسباب ووسائل واحتياطات، هي الطرق الشرعيَّة المعتبرة.

ولو أنَّ إنسانًا اشترى ثوبًا جميلًا ثمينًا، ثم أصاب الثَّوبَ خرقٌ يسيرٌ، فإنّ العقل لا يقضي بإتلافه ورميه! بل يجدد ويصلح ويخاط ويرقع؛ ما لم يتشوه أو يهترئ ويتلف، وإذا كان إتلاف اللباس الصالح لعارض يسير من السفه وتضييع المال، فكيف بلباس الزوجية!

ما أعجب هذه الآيةَ التي وقفنا عندها! ﴿هُنَّ لِبَاس لَّكُم وَأَنتُم لِبَاس لَّهُنَّ﴾ ، ما أعظم دلالتها! وما أروع أثرها في تحقيق سعادتنا واستقرارنا، إذا تدبرناها، وذلك برغم قصر موضع الشاهد منها، فلنتدبَّر كلام الله سبحانه كلَّه.







امانى يسرى محمد 07-11-2020 05:22 PM

رد: ستون قاعدة ربانية في الحياة الزوجية … د . ناصر بن سليمان العمر
 
القاعدة التَّاسعة: تعظيم ميثاق الزوجية من تعظيم حرمات الله



قال الله سبحانه: ﴿وَأَخَذنَ مِنكُم مِّیثَٰقًا غَلِیظ﴾
عقد الزوجية ميثاقٌ غليظٌ، ذلك الَّذي أحلَّ للرِّجال المعاشرة الزَّوجيَّة، وكيف لا يكون كذلك، وهو عقدٌ موثَّقٌ بكلام الله سبحانه في خطبة النكاح! قال سبحانه: (اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله) (1) .

وهذا يُضفي على الزَّواج هيبةً واحترامًا، وينبني على ذلك الميثاق الغليظ أحد خيارين: ﴿فَإِمسَاكُ بِمَعرُوفٍ﴾ وهذا هو الأصلُ.

فإذا وصلتِ الأمورُ إلى درجةٍ لا تُطاق فـ ﴿تَسرِیحُ بِإِحسَٰنࣲۗ﴾ ، فانظرْ حتَّى التَّسريحُ والفِراق، في ظلِّ هذا الميثاق الغليظ، ينبغي أن يكون بتجمُّلٍ وإحسان.

إنَّ التَّعامل بين الزَّوجين، وبخاصَّةٍ معاملة الزَّوج لزوجته، لا يخلو من الظُّلم، فإذا تمعَّن الزّوج في دلالات هذا الميثاق الغليظ، وفي حقيقةِ أنَّ الله سبحانه وتعالى هو الَّذي سيحاسبه على نقض هذا الميثاق أو خالفه، فإنَّه عندئذٍ سيُراعي الله سبحانه عند كلِّ صغيرةٍ وكبيرة ، وستكون هذه الرِّعايةُ من أعظم أسباب الصَّفاء بين الزوجين.

ونقرِّب هذه الحقيقة بمثالٍ من واقع الحياة، فلو أنَّ رئيسًا في مؤسسة، عنده موظَّفٌ ينتمي إلى أسرةٍ لها مكانةٌ وشأنٌ كبيرٌ في المجتمع، أو كان والده ذا منصبٍ بارز في الدَّولة، فعندئذٍ سنلحظ بحسب العرف العام، أنَّ هذا الرئيس سيجتهد في حسن معاملة هذا الموظف، ويحذر من أن يوقع عليه أيَّ نوعٍ من أنواع الظُّلم، لأنه لا يأمن من عواقب ذلك.

فكأنّه يستشعر رقابةً عليا على تصرّفاته، ومن ثمّ يكون بعيدًا عن الوقوع في مثل هذا الخطأ الكبير، فكذلك هذه الزَّوجةُ الَّتي بين يديك، أنتَ أخذتَها بكلماتِ الله سبحانه ؛ والله رقيبٌ عليك؛ فينبغي أن تعاملها بعدلٍ وإحسانٍ.

ومن ناحيةٍ أخرى، فإنَّ انتهاك هذا الميثاق الغليظ، من جملة حُرُماتِ اللهِ تعالى التي يجبُ تعظيمُها، كما نوَّه بذلك القرآنُ الكريم، قال تعالى: ﴿ذَٰلِكَ وَمَن یُعَظِّم حُرُمَٰتِ ٱللَّهِ فَهُوَ خَیر لَّهُۥ عِندَ رَبِّهِۦۗ﴾ .

وذلك يدل على أنَّك في معاملتك لأهلك بالأسلوب الحسن؛ احترامًا لهذا الميثاقِ، تكونُ في حالِ قربٍ من الله وفي عبادة، ترجو منها ما ترجوه من التعبد إلى الله تعالى بأداء ما افترض، لو أنَّك استحضرت فيها صدق النِّيَّةَ، وابتغيتَ بها وجهَ اللهِ تعالى.

وينبني على كون معاملة الزوجةِ عبادةً، إضافةً إلى صدق النِّيَّة، شرطٌ مهمٌّ آخر، وهو أن يحرص الزَّوج على أن تكون عبادتُه، وفقَ ما أرادَ الله تعالى، ووفقَ ما بيَّن الرَّسولُ صلى الله ليه وسلم في سُنَّته؛ وهنا يجد الأزواج في القرآن والسنة تشريعًا متكاملًا، يُبيِّن لهم قواعد الحياة الزّوجيّة، التي ينبغي أن يلتزموا بها عند كلِّ صغيرة وكبيرة (وإنّ لزوجك عليك حقَّا) .

إذن، فمراعاة أن حسنُ معاملة الزوجة، وأداء حقوقها، من تعظيم حدود الله سبحانه ، وتعظيم حرماته، يؤسس قاعدة راسخة للاستقرار الأُسريِّ، تحلُّ بسببها السَّكينة والرَّحمة والمودَّة بين الزَّوجين، والله أعلم.
_________________________________


القاعدة العاشرة: تفقَّد قلبك وحاذر أن يميل



قال الله سبحانه : ﴿فَقَد صَغَت قُلُوبُكُمَا﴾ [التَّحريم].
عجيبةٌ هذه القاعدة، الَّتي يتضمَّنها هذا القدر من هذه الآية، الَّتي وردت في سياق الحادثة المشار إليها في سورة التَّحريم، وذلك في قول الله تعالى: ﴿ وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَٰذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ، إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ ﴾ [التحريم]

والخطابُ في قوله تعالى: ﴿إِن تَتُوبَاۤ إِلَى ٱللَّهِ فَقَد صَغَت قُلُوبُكُمَا﴾، موجَّهٌ إلى خير نساء المؤمنين، أمَّهاتِ المؤمنين زوجاتِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وخاصَّةً إلى الزَّوجتين الكريمتين من أزواجه صلى الله ليه وسلم ، عائشة وحفصة رضي الله عنهما ، لأنّهما كانتا سببًا لتحريم النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه ما يُحبُّه ، فعرض الله عليهما التَّوبة، وعاتبهما على ذلك، وأخبرهما أن قلوبهما قد صغت أي: مالت وانحرفت عما ينبغي لهنَّ، من الورع والأدب مع الرَّسول صلى الله عليه وسلم واحترامه ، وفي هذه القصَّة الَّتي حدثت في بيت النُّبوَّة إشاراتٌ مهمة نتوقَّف عند بعضها، فمنها:

أوَّلُ الإشارات المستفادة من هذه القصَّة، هو أنه لا يخلو بيتٌ من المشكلات، فوجود المشكلات بمجرده، لا يُعتبر إشكالًا حقيقيَّا، لأنَّ طريق الإصلاح مفتوحٌ دائمًا، ومفتاحه هو التَّوبة، لذا قال الله تعالى: ﴿إِن تَتُوبَاۤ إِلَى ٱللَّهِ فَقَد صَغَت قُلُوبُكُمَا﴾.

وثاني هذه الإشارات، أنَّه لمّا نبَّه إلى التَّوبة، بيَّنَ سببها، فقال الله تعالى: ﴿إِن تَتُوبَاۤ إِلَى ٱللَّهِ فَقَد صَغَت قُلُوبُكُمَا﴾ ، فالّذي يدعو إلى التَّوبة ويوجبها، هو: صغوُ القلب، وميله عمَّا ينبغي، من الورع والأدب مع الرَّسول صلى الله عليه وسلم واحترامه، ولنلحظ أنَّ سبب التَّوبة هو صغوُ القلب، وليس صغو البدن، لأن القلب إذا صغى ومال إلى غير جهة التَّقوى؛ انعكس ذلك على تصرفات الزَّوج أو الزّوجة، وفي هذه الإشارة تحذيرٌ شديد لأمَّهات المؤمنين؛ وكذلك الزوجة التي تؤذي زوجها المؤمن الصالح

وكذلك: الزَّوج الذي يؤذي زوجته المؤمنة الصَّالحة فإنَّ كلَّ ما نزل من القرآن للرَّجل أو المرأة، يشمل مدلوله الآخر، إلا إذا دلَّ دليل على الخصوصيَّة، بأن يكون من أحكام النِّساء خاصَّةً، أو من أحكام الرِّجال خاصَّةً، أو دلَّت قرينة على ذلك، وإلا فالخطاب القرآنيُّ يشمل الرجال والنساء جميعًا، كما بيَّن العلماء.

وفي قوله تعالى: ﴿إِن تَتُوبَاۤ إِلَى ٱللَّهِ فَقَد صَغَت قُلُوبُكُمَا﴾، إشارةٌ أخرى، وهي التَّنبيه اللَّطيف إلى أنَّ الأصل هو أن يميل القلب ويصغو إلى جهة التَّقوى؛ فينعكس ذلك على تصرّفات الزوجين، وحسن تعاملهما.

وفي مقابل ذلك هناك أمران مخالفانِ لهذا الأصل، أوّلهما أن يميل القلبُ ويصغو إلى غير جهة التّقوى، والثّاني أن يكون الصَّغو أو الميلُ ميلَ البدن والجوارح، لا ميلَ القلب، فهذا معناه أنَّ الزَّوج أو الزوجة، قد يكون في ظاهره مستسلمًا للآخر حال حضوره، فإذا فارقه أظهر ما بطن من نفوره وعناده، ولن تستقيمَ الحياةُ إلا بالأصل، وهو أن يصغو القلب، ويميل إلى جهة الحقِّ؛ وذلك كما في الحديث، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ، وَلَا إِلَى صُوَرِكُمْ، وَلَا إِلَى أَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ) وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ إِلَى صَدْرِهِ.

وإذا تأمّلنا في الآية العظيمة، التي تقوم عليها كلُّ هذه القواعد الرّبّانيّة، والتي تبدأ بقوله تعالى: ﴿وَمِن ءَایَٰتِهِۦ أَن خَلَقَ لَكُم مِّن أَنفُسِكُم أَزوَٰجا﴾ ثمَّ يبيِّن الله تعالى علَّة هذا التَّدبير الحكيم والخَلق الكريم، بقوله تعالى: ﴿لِّتَسكُنُوۤا إِلَیهَا وَجَعَلَ بَینَكُم مَّوَدَّة وَرَحمَةً﴾ [الروم:21]، وجدنا أنَّ السَّكن والمودَّة والرَّحمة، كلُّها أعمال قلبيَّة، وبالتَّالي فإذا عُمِر القلبُ بهذه المعاني؛ عُمِر الظَّاهر بآثارها العظيمة، واستقامت عليها الجوارح؛ فلنطهِّر قلوبَنا

وقد نقل لي أحد المشايخ أنَّ الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله ، كان كثيرًا ما يدعو بهذا الدُّعاء: ”اللهمَّ أصلح فسادَ قلبي“، ومن صلح قلبه صلح عمله إذا عمل.

إنَّ صيانة حقوق طرفي العلاقة الزوجيّة صيانةٌ للدِّين وحدود الشَّرع، وإصلاح القلب هو السَّبيل إلى إصلاح النَّفس، وإصلاحُ النّفس هو السَّبيلُ إلى إصلاح العلاقة بين الزَّوجين، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه النعمان بن بشير رضي الله عنه : (أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ) .

فليُبادر كلٌّ من الزَّوجين إلى إصلاح قلبه حتَّى يشِعَّ منه النُّور وتتحقق نفسه بالصَّفاء والسَّماحة، فينعكس ذلك على وجه صاحبه وعمله؛ ثمّ ينعكس على بيوتنا، سكنًا ومودَّةً ورحمة.

فتفقَّد قلبك، يا أخي الكريم، ويا أختي الكريمة؛ من أجل أن تصفو الحياة إلينا، ومن أجل أن يتحقَّق الحبُّ في بيوتنا وديارنا .

____________________



القاعدة الحادية عشرة : وجوب الرَّدِّ إلى الله ورسوله عند الاختلاف


قال الله سبحانه : ﴿فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ﴾
أي: رُدُّوا ما تنازعتُم فيه من المسائل، إلى الله ورسوله؛ ليحكم فيها ويُبيِّن وجه الصواب، كما يقول الله تعالى: ﴿یَٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا أَطِیعُوا ٱللَّهَ وَأَطِیعُوا ٱلرَّسُولَ وَأُولِی ٱلأَمرِ مِنكُم فَإِن تَنَٰزَعتُم فِی شَیء فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُم تُؤمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلیَومِ ٱلءَاخِرِ﴾

لو عملنا بهذه القاعدةَ في بيوتنا؛ لاستقامت مسيرتُنا، واستقرَّت أحوالُنا، فهذه الآية تشخِّص الدَّاء وتُبيِّن الدَّواء، وكم فيها من معان وفوائدَ وإشاراتٍ، كفيلةٌ إذا تدبَّرناها بإعادة الاستقرار إلى البيوت، وتحقيق الصَّفاء والمودة والرَّحمة.

أولى هذه الوقفات:
أنَّ الخطاب قد ورد في هذه الآيةِ للمسلمين، بهذا اللفظ المحبَّب ﴿یَٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا﴾، وقد روي أنَّ رجلًا أتى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال: اعهد إليَّ! فقال: ”إذا سمعتَ اللهَ يقولُ ﴿یَٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا ﴾ فارعها سمعك، فإنه خيرٌ يأمر به، أو شرٌّ ينهى عنه“ (1)

ثاني هذه الوقفاتِ:
أنَّ غاية ذلك النداء المحبَّب كانت هي الأمرُ بطاعة الله والرسول، وطاعة أولي الأمر، فأمَّا طاعة الله والرسول فإنَّها طاعةٌ مطلقة، لا قيد يُقيِّدها، ويُلحظ أنّه لم يقل: ”وأطيعوا الله والرسول“، بل كما ذُكر فعلُ الطَّاعة لله، تكرَّر ذكره للرَّسول صلى الله عليه وسلم ، فقال تعالى: ﴿أَطِیعُوا ٱللَّهَ وَأَطِیعُوا ٱلرَّسُولَ﴾..

وفي ذلك نقضٌ لقول القرآنيِّين الذين يقولون لا نتَّبع إلا القرآن، وقد كذبوا! لو عملوا بالقرآن لأطاعوا النبي صلى الله عليه وسلم ، ﴿وَمَاۤ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُم عَنهُ فَٱنتَهُوا وَٱتَّقُوا ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِیدُ ٱلعِقَابِ ﴾
وأمَّا طاعة أولي الأمر فإنَّها طاعةٌ مقيَّدة بطاعة الله ورسوله، ولذلك لم يُكرَّر فيها الفعل، وإنَّما بُنيت على طاعة الله وطاعة الرّسول، ومضمون ذلك أن نطيع أولي الأمر بما يحقِّقُ طاعة الله وطاعة الرَّسول.

ثالث هذه الوَقَفات:
قوله تعالى: ﴿فَإِن تَنَٰزَعتُم فِی شَیء فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ﴾ الخطابُ في هذه الآية يشمل كلَّ ضروب النِّزاع التي يمكن أن تطرأ بين المسلمين، والواجب فيها هو ردُّها إلى الله والرَّسول؛ فليس في ديننا علمانيَّة تفصل بين الدِّين والدنيا، بل كلُّها لله سبحانه ..

الحياة في الدنيا تكون بأمر الله، وعلى هداه، والحرث فيها له، كما قال تعالى: ﴿قُل إِنَّ صَلَاتِی وَنُسُكِی وَمَحیَایَ وَمَمَاتِی لِلَّهِ رَبِّ ٱلعَٰلَمِینَ لَا شَرِیكَ لَهُۥۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرتُ وَأَنَا أَوَّلُ ٱلمُسلِمِینَ ﴾

وهو سبحانه قد بيّن لنا ما نحتاجه ، كما قال تعالى: ﴿مَّا فَرَّطنَا فِی ٱلكِتَٰبِ مِن شَیء ﴾ ، وقال سبحانه : ﴿وَنَزَّلنَا عَلَیكَ ٱلكِتَٰبَ تِبیَٰنا لِّكُلِّ شَیء﴾ ، وقال تعالى: ﴿وَكُلَّ شَیء فَصَّلنَٰهُ تَفصِیلا ﴾

وبناءً على ما سبق فإنَّ النِّزاع في البيوتِ، يجب ردُّه إلى الله والرّسول، وأمر الزوجية في ذلك ألزم من غيره لأنَّ الزَّواج عقدٌ وميثاقٌ ودينٌ وعبادة.

والآيات والأحاديث تركز على هذه المعاني العظيمة، كما روى أبو ذرٍّ رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: (وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ) (2).

ويشملُ هذا الأجرُ كلَّ ما يكون بين الزَّوجين من معروف، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (حتَّى ما تجعلُ في فيِ امرأتِك) (3)، أي: ما تُطعمه زوجتك بيدك مؤانسةً وحسنَ معاشرة.
فهذه القاعدة من أكبر القواعد التي تضبط الحياة الزوجية، وذلك بأن نبادر عند حدوث النزاع، بردِّه إلى اللهِ تعالى ، متسائلين عن علَّةِ المشكلةِ وسببها وكيفيّة وقوعها في البيت، وما هو حكمُ الله ورسوله فيها، فنردُّ الأمرَ إلى كتاب الله سبحانه ، ونردّه إلى منهج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.

ومن الرَّدّ إلى الله ورسوله، أن نتوجَّه إلى العلماء فيما يُشكل علينا من الأمور، فالعلماءُ هم أهل الذّكر، كما قال تعالى: ﴿فَسءَلُوۤا أَهلَ ٱلذِّكرِ إِن كُنتُم لَا تَعلَمُونَ ﴾ .

وتجب طاعتهم فيما يأتوننا به من الهدى، لأنَّهم من ولاة الأمر الوارد ذكرهم في قوله تعالى: ﴿أَطِیعُوا ٱللَّهَ وَأَطِیعُوا ٱلرَّسُولَ وَأُولِی ٱلأَمرِ مِنكُم﴾.

فليقف كلُّ زوجٍ عند هذه القاعدة متأمِّلًا في الخير الذي تسوقه إلى هذه المؤسسة العظيمة، مؤسَّسة الأسرة التي تقوم على الميثاق الغليظ بين الزوجين، وليعلم بأنَّ كلَّ ما يبذله من جهدٍ في سبيل ذلك؛ فإنَّه امتدادٌ لما بذله آباؤه وأجداده، فلنكن كذلك لمن بعدنا من أبنائنا وأحفادنا، والله أعلم.
_____________________________________
(1) تفسير ابن كثير (1/‏374).
(2) رواه مسلم (1006).
(3) رواه البخاري (56) ومسلم (1628).

______________



القاعدة الثانية عشرة: لا تتعد حدود الله في شؤون الزوجية


قال الله سبحانه : ﴿تِلكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَعتَدُوهَا﴾
ورد التَّحذير من تعدِّي حدود الله تعالى وتجاوزها، في سبع آيات قرآنيّة، وقد وردت هذه الآيات جميعًا في سياقاتٍ تتعلَّق بالحياة الزوجيّة، حال قيامها أو بعد الطّلاق:

ففي سورة البقرة، وعند الحديث عن الاعتكاف، جاء قوله تعالى: ﴿وَلَا تُبَٰشِرُوهُنَّ وَأَنتُم عَٰكِفُونَ فِی ٱلمَسَٰجِدِ تِلكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَقرَبُوهَا﴾

وفي سورة البقرة في سياق الكلام عن الطّلاق، قال تعالى: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِ فَإِمسَاكُ بِمَعرُوفٍ أَو تَسرِیحُ بِإِحسَٰن وَلَا یَحِلُّ لَكُم أَن تَأخُذُوا مِمَّاۤ ءَاتَیتُمُوهُنَّ شَیءًا إِلَّاۤ أَن یَخَافَاۤ أَلَّا یُقِیمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَإِن خِفتُم أَلَّا یُقِیمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَیهِمَا فِیمَا ٱفتَدَت بِهِۦۗ تِلكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَعتَدُوهَا وَمَن یَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُولَٰۤئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُۥ مِن بَعدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوجًا غَیرَهُۥۗ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَیهِمَاۤ أَن یَتَرَاجَعَاۤ إِن ظَنَّاۤ أَن یُقِیمَا حُدُودَ ٱللَّهِ وَتِلكَ حُدُودُ ٱللَّهِ یُبَیِّنُهَا لِقَوم یَعلَمُونَ ﴾


وفي سياق آيات المواريث، من سورة النساء، قال تعالى: ﴿تِلكَ حُدُودُ ٱللَّهِ وَمَن یُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ یُدخِلهُ جَنَّٰت تَجرِی مِن تَحتِهَا ٱلأَنهَٰرُ خَٰلِدِینَ فِیهَا وَذَٰلِكَ ٱلفَوزُ ٱلعَظِیمُ وَمَن یَعصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَیَتَعَدَّ حُدُودَهُۥ یُدخِلهُ نَارًا خَٰلِدا فِیهَا وَلَهُۥ عَذَاب مُّهِین﴾

وبعد أن بيَّن الله تعالى حكم المظاهرين من نسائهم، في سورة المجادلة، قال تعالى: ﴿ذَٰلِكَ لِتُؤمِنُوا بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۚ وَتِلكَ حُدُودُ ٱللَّهِ وَلِلكَٰفِرِینَ عَذَابٌ أَلِیمٌ ﴾
وفي أوّل سورة الطَّلاق، قال تعالى: ﴿یَٰۤأَیُّهَا ٱلنَّبِیُّ إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَاۤءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحصُوا ٱلعِدَّةَ وَٱتَّقُوا ٱللَّهَ رَبَّكُم لَا تُخرِجُوهُنَّ مِن بُیُوتِهِنَّ وَلَا یَخرُجنَ إِلَّاۤ أَن یَأتِینَ بِفَٰحِشَة مُّبَیِّنَة وَتِلكَ حُدُودُ ٱللَّهِ وَمَن یَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَد ظَلَمَ نَفسَهُۥۚ﴾

وهذا الارتباط بين العلاقة الزوجيّة، والتحذير من تجاوز حدود الله، له دلالات عميقة، تؤكد ما ذكرناه من أنَّ الزّواج عقدٌ وميثاق غليظ، ودينٌ وعبادةٌ وطاعةٌ لله ورسوله، له أحكام وحدود بينتها الشريعة، وقد جاء التحذير من الاقتراب من حدود الله، أو تعدِّيها.

ونلحظ أنَّ هذا التحذير من تعدّي حدود الله تعالى، أكثر ما يرد في آيات الطلاق، لأنَّ الطلاق مظنّة تجاوز لحدود الله تعالى ، بسبب ما يحدثُ في سياقه من غضب أو شحناء أو غير ذلك، فلا غرو أن يتكرر التذكير، فيقرأ الزوج: ﴿تِلكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَقرَبُوهَا﴾، وقوله تعالى: ﴿تِلكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَعتَدُوهَا﴾، فلا تعدٍّ ولا اقتراب؛ لأنه إذا قربها أوشك أن يقع فيها، (كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ) ، فالذي يستهينُ بالقرب من حرمات الله تعالى، قد ينتهكها ويتجاوزها، ولهذا ندب إلى الفضل في العلاقة الزوجية.

والمقصود هنا أن هذه الآياتُ سياجٌ عظيم يحفظ العلاقة الزوجية، ويساعد على تماسك المجتمع، فلو أنَّ كلَّا من الزوجين، تأمّل فيما تتضمَّنه من الوعيد المرتّب على تعدي حدود الله، في الزواج والطّلاق وغيرهما، لارتدع عن أسباب فساد كثيرة!

بل إن من يتفكَّر في تلك الآيات جديرٌ بأن تتولد في قلبه مشاعر الخشية من الله تعالى ، فيحفظ الحقوق ويرعى العهود.

إن هذه الآيات تدفع كلًّا من الزوج والزوجة، إلى طلب السَّلامة والبعد عما يُغضب الله ورسوله، فيا أيُّها الأزواج، ﴿تِلكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَعتَدُوهَا﴾، ﴿تِلكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَقرَبُوهَا﴾، من أجل أنفسكم، ومن أجل أولادكم، بل من أجل مجتمعكم، بل من أجل دينكم، لا تعتدوها بل لا تقربوها! وأبشروا عندئذٍ بالسَّعادة والهناء والاستقرار.

_________________________


القاعدة الثَّالثة عشرة: (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُم)
قال الله سبحانه: ﴿ وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُم ﴾

هذا نهي موجه إلى الزَّوجين من الله تعالى، بأن لا ينسوا الفضلَ بينهم والمعروف، وهذا التَّوجيه الإلهيُّ ورد في سياق بيان الحكم الشَّرعيِّ لمن طلَّق زوجته قبل أن يدخل بها، وذلك في قوله تعالى:

﴿ وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ۚ وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۚ وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾

إنَّ الله سبحانه في هذه الآية، يأمر بعدم نسيان الفضل بين الزَّوجين، والحال أن المرأة لم يدخل بها زوجها بعدُ ولم يمسَّها، فكيف يكون حالُ من قامت بينهما المعاشرة الزوجيّة، أو عاشا سنواتٍ عديدة في عشِّ الزوجيَّة؟!

إنَّ السَّبب الأساسيَّ للخلافات الزَّوجيّة، يكمن في الاستسلام للَّحظة الحاضرة والاستغراق فيها، ونسيان سجل طويل من الفضل والإحسان!

ففي اللحظة التي يثور فيها خلافٌ بين الزوجين، بسبب خطأٍ حقيقيٍّ أو متوهَّم، من أحدهما أو من كليهما؛ يستغرقان فيه، فتُستثار بسببه الكوامن، وتبرز المشكلات ويحدث التَّنافر، فتُطلق الأقوال جزافًا، ويحدث التعدي، ويقع الظُّلم! وذلك كلُّه سببه طغيان اللحظة الرَّاهنة ونسيان ما عداها!

لقد نبَّه النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم الأزواج فقال: (لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا، رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ) ، وهذا فيما يخصُّ الرجل.

وأمّا الزَّوجة فقد ورد تنبيهُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وبيانه لإحدى خصال النِّساء، وهي أنَّهنَّ: (يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ)، ووضَّح ذلك بقوله: (لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ) ، وهذا كلُّه بسبب نسيان الفضل بينهما، فلذا جاء قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنسَوُا ٱلفَضلَ بَینَكُم﴾؛ لكي يُخرجَهما من أسر اللَّحظة الرَّاهنة، بأن يتذكَّرا ما كان بينهما من فضلٍ لكلٍّ منهما نحو الآخر، وليذكرا ما بينهما من صلة الرَّحم، إن كانا من الأقارب، إلى غير ذلك من ضروب الفضل بينهما.

والفضل كثير! كم في عمر الزوجية من ساعة؟! فكيف نسمح بأن تفسد ساعة خلاف ألف ساعة وفاق!

فليكتب كلُّ زوجٍ هذه الآية الكريمة في قلبه، وليكُن منها على ذُكرٍ: ﴿وَلَا تَنسَوُا ٱلفَضلَ بَینَكُم﴾ فإنَّ فيها مخرجًا آمنًا من الوقوع في مستنقع اللحظة الحاضرة.

والغفلةُ عنها، وعن القاعدة الجليلة التي تتضمَّنها قد تسبَّب في كثيرٍ من حالات الطَّلاق والشِّقاق والنفرة.

فإذا وقع لأحد الزوجين ما يزعجه من الآخر، فليتذكر وليُذكّر زوجه بما كان بينهما من أفضالٍ، ليذكرا ليلة الزواج، وما قبلها وما بعدها، وليكونا في هذه الحال كالنَّحلة لا تقع إلا على الورود والأزهار، ولا يكونا كالذُّبابة تبحث في ذكريات عن الخبيث! وذلك حتَّى يعود إليهما الصَّفاء والمودَّة والرَّحمة، بفضل الله سبحانه .









امانى يسرى محمد 08-11-2020 09:30 PM

رد: ستون قاعدة ربانية في الحياة الزوجية … د . ناصر بن سليمان العمر
 
القاعدة الرّابعة عشرة: وأن تعفوا أقرب للتقوى



قال الله سبحانه : ﴿وَأَن تَعفُوۤا أَقرَبُ لِلتَّقوَىٰ﴾ [البقرة:237].
التَّقوى غايةٌ شرعيَّة شريفة تهفو إليها النُّفوسُ، فكلُّ مسلمٍ يسعى إلى تحقيق التَّقوى، لأنَّ تحقيق التَّقوى يعني: الوقايةُ من عذاب الله سبحانه في الآخرة، والوقاية من جميع ألوان الشَّقاء في الدُّنيا، ومنها ذلك الشَّقاء الّذي يُخيِّم على كثيرٍ من البيوت، بسبب النزاعات الزوجية، والذي كثيرًا ما يؤدِّي إلى الفرقة وتشتيت شمل الأسرة، فالتَّقوى تقي بإذن الله صاحبها من هذا الشَّقاء.

إن التَّقوى مطلب شرعيٌّ لا بدَّ منه، وضرورةٌ إنسانيَّة، فكيف نحقّق التَّقوى؟


الجوابُ عن هذا السؤال، مضمَّنٌ في قوله تعالى: ﴿وَأَن تَعفُوۤا أَقرَبُ لِلتَّقوَىٰ﴾ أي إنَّ العفوَ هو أقربُ طريقٍ إلى التَّقوى، إذن فليكن العفوُ منهجَ حياتك، سواءٌ في علاقتك الزَّوجيَّة، أو في سائر أنواع علاقاتك، هكذا كان النبي صلى الله عليه سلم في عامة علاقاته يُغضي ويعفو، بل ولا يُفتِّش عن مظانِّ الإدانة للطرف الآخر، ولو كان خادمه، ناهيك أن تكون زوجه أو غيرها، فهذا أنس بن مالك رضي الله عنه ، خدم رسول الله صلى الله عليه سلم ، عشرة أعوام، حكى عنها فقال: (فَخَدَمْتُهُ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، مَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ صَنَعْتَ هَذَا هَكَذَا؟ وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ أَصْنَعْهُ: لِمَ لَمْ تَصْنَعْ هَذَا هَكَذَا) ؟



إنَّ إقامة معاملاتنا مع أهلنا وأزواجنا، على قاعدة العفو، سيؤدِّي إلى تغييرٍ جوهريٍّ في حياتنا؛ لأنَّه كما يعني أنَّنا مجتهدون في وقاية حياتنا من عذاب النَّار يوم القيامة، كذلك يعني أنَّنا مجتهدون في سبيل وقايتها في الدنيا، من الهموم والغموم والأكدار التي تنغِّص العيش، وذلك حتَّى يكون البيت سكنًا ومستقرًَّا تُخيِّم عليه المودّة والرّحمة، يأوي إليه كلٌّ من الزوجين، وينشدان فيه السعادة والرَّاحة، أكثر مما كانا يجدانه في بيت أهلهما.

سمعتُ طالبَ علمٍ يقول: إنَّني أجتهد في كفِّ نفسي عن إيذاء الآخرين، وأسعى إلى أن يكفُّوا هم كذلك أذاهم عنِّي، لكنَّني إذا ما وقع عليَّ الأذى، اجتهدتُ في تحمُّله وتقبُّله، بل والفرحة به؛ لأنَّه يُتيح لي أن أعفوَ عمَّن ظلمني وأساء إليَّ، وذلك يفتح لي بابًا إلى عفو الله تعالى عنِّي ومغفرته لي ذنوبي، كما قال تعالى: ﴿وَلیَعفُوا وَلیَصفَحُوۤا أَلَا تُحِبُّونَ أَن یَغفِرَ ٱللَّهُ لَكُم﴾ [النور:22]، وإذا فزتم بمغفرة الله سبحانه لكم، وأسبغ عليكم رضوانه؛ فماذا تتوقَّعون بعدها، قال تعالى: ﴿فَقُلتُ ٱستَغفِرُوا رَبَّكُم إِنَّهُۥ كَانَ غَفَّارا یُرسِلِ ٱلسَّمَاۤءَ عَلَیكُم مِّدرَارا وَیُمدِدكُم بِأَموَٰل وَبَنِینَ وَیَجعَل لَّكُم جَنَّٰت وَیَجعَل لَّكُم أَنهَٰر ﴾ [نوح].

نعم لا أحد يتمنَّى أن يقع في بيته مكروه، أو نزاعٌ أو خصام؛ لكن إن قدَّر الله عليه وقوع هذا المحذور، فيجب عليه أن يرضى بقضاء الله تعالى، ويعلم بأنَّ له حكمة، وأن الرِّضا بهذا القضاء ستكون عاقبتُه خيرًا يُفيضه الله تعالى عليه، وعلى بيت الزَّوجيَّة، إذا دافع ذلك المقضي بالعمل المشروع وجوبًا أو ندبًا! فليعتبرها فرصةً لنيل رضوان الله سبحانه وعفوه ومغفرته له ما جنَتْه يداه، وما بدر منه من تقصير في حقِّ الله سبحانه!

إذن، ليكن قولُ اللهِ تعالى: ﴿أَلَا تُحِبُّونَ أَن یَغفِرَ ٱللَّهُ لَكُم﴾ شعارًا للزَّوجين ودافعًا لهما إلى أن يجعلا العفو والمغفرة قاعدةً في المعاملة بينهما، ومنهجًا للحياة كلِّها.



﴿أَلَا تُحِبُّونَ أَن یَغفِرَ ٱللَّهُ لَكُم﴾، بلى، يريد كلُّ امرئٍ أن يغفر الله تعالى خطاياه، فما قيمةُ الحياة إذا غضب الله علينا ولم يغفر لنا خطايانا؟! فلنتودَّد إلى اللهِ، ولنتوسَّل إليه بطاعته في العفو، عسى أن يعفو عنا وعن أزواجنا، فنسعد في الدارين!

إن العفو طهارةٌ للقلب، وكسبٌ للأجر، واستقرارٌ للحياة، وصفاء ومودة!



فيا أيُّها الأزواج، ﴿أَلَا تُحِبُّونَ أَن یَغفِرَ ٱللَّهُ لَكُم﴾؟! إذن فاغفروا لأزواجكم، واعفوا عنهم!

ويا أيَّتها الزوجة، ألا تحبِّين أن يغفر لك زوجك ويعفو عنك؟!

ويا أيُّها الزوج، ألا تحبُّ أن تغفر لك زوجك وتعفو عنك؟!

بلى والله، كلُّ زوجٍ يحتاج إلى العفو والمغفرة من زوجه؛ لكي يغفر له ويعفو عنه ربُّه سبحانه وتعالى. إذن فلتتواصوا به!



قد يرى أحدُ الزَّوجين أنَّه من العنت والمشقَّة، أن يغفر للآخر، بسبب ما يراه من شدَّة الظلم الواقع عليه، وعندئذٍ فلتكن له فيمن زكاهم الله تعالى أسوة! ليُقارن هذا الظُّلمَ الّذي وقع عليه، بالظلم الذي وقع على يوسف، بل على أبيه يعقوب عليهما السَّلام، برغم ما كان؛ جبٌّ، ورق، وتهمة، وسجن، وفرقة، وحرقة! لم يمنعه ذلك أن يغفر لمن ظلمه، بل كان قولُ يوسف لإخوته: ﴿ لَا تَثرِیبَ عَلَیكُمُ ٱلیَومَ یَغفِرُ ٱللَّهُ لَكُم﴾ [يوسف:92]، ولما قال أبناء يعقوب ليعقوب: ﴿ٱستَغفِر لَنَا ذُنُوبَنَاۤ﴾ [يوسف:97] كان ردُّه عليهم: ﴿سَوفَ أَستَغفِرُ لَكُم رَبِّیۤ﴾ [يوسف:98].

وليُقارن الزوج ما وقع عليه من زوجه بما وقع على النبي صلى الله عليه سلم ، وصاحبه أبي بكر رضي الله عنه، وزوجه عائشة رضي الله عنها ؛ من حادث الإفك، فكان التوجيه القرآنيُّ الرَّحيم لهم جميعًا، ولأبي بكرٍ رضي الله عنه خاصَّةً، لما عزم وأقسم على قطع النَّفقة عن قريبه مسطح بن أثاثة؛ لأنّه كان ممَّن خاض في الإفك، كان التوجيه: ﴿وَلَا یَأتَلِ أُولُوا ٱلفَضلِ مِنكُم وَٱلسَّعَةِ أَن یُؤتُوۤا أُولِی ٱلقُربَىٰ وَٱلمَسَٰكِینَ وَٱلمُهَٰجِرِینَ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَلیَعفُوا وَلیَصفَحُوۤا أَلَا تُحِبُّونَ أَن یَغفِرَ ٱللَّهُ لَكُم﴾ [النور:22]، بل إنَّ في قوله تعالى: ﴿وَلیَعفُوا وَلیَصفَحُوۤا﴾ تجاوزًا لمرتبة العفو، وبلوغًا إلى مقام الإحسان، وقد فقه أبو بكر رضي الله عنه هذا المعنى؛ فعفا عن مسطح وأعرض عما كان منه وأحسن إليه.

فإذا أخطأت الزوجة على زوجها؛ فينبغي بمقتضى قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنسَوُا ٱلفَضلَ بَینَكُم﴾، أن يعفوَ عنها، وفوق ذلك أن يُحسن إليها بالطَّيِّب من القول، وكذلك إذا أخطأ الزَّوج؛ فلتُسامحه الزَّوجةُ، بل لتُحسِن وتتودَّدَ إليه، فإن الله تعالى يقول: ﴿وَأَن تَعفُوۤا أَقرَبُ لِلتَّقوَىٰ وَلَا تَنسَوُا ٱلفَضلَ بَینَكُم إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعمَلُونَ بَصِیرٌ ﴾ [البقرة]، فيختم الآية بقوله: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعمَلُونَ بَصِیرٌ﴾؛ أي تأمَّلوا في حقيقة أنَّ الله تعالى يرقبكم، وينظر إليكم أيُّها الأزواج، فليرَ جلَّ في علاه منكم ما يُريده لكم من الخير والرَّحمة والعفو والتّسامح والتَّقوى.



<<<<<<<<<<<<<



القاعدة الخامسة عشرة: التَّراضي والتّشاور أساس نجاح شراكة الحياة


قال الله تعالى : ﴿فَإِن أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاض مِّنهُمَا وَتَشَاوُر فَلَا جُنَاحَ عَلَیهِمَا﴾ [البقرة:233].

والمعنى: إن أراد الأبوان فِطامَ الصَّبيِّ قبل الحولين، بقرارٍ يرتضيانه عبر التَّشاور بينهما، ويريانِ أنَّه مصلحةٌ للصَّبيِّ، فلهما ذلك، (فدلت الآية بمفهومها، على أنه إن رضي أحدهما دون الآخر، أو لم يكن مصلحةٌ للطفل، أنه لا يجوز فطامه) .

إنَّ علاقة هذه الآية بموضوع الاستقرار الأسريِّ، علاقة وثيقة جدًا، ذلك أنَّ النِّزاع بين الزَّوجين، أشدُّ ما يكون حول الأولاد، من حيثُ نفقتُهم وتربيتهم، وأسلوب تأديبهم، ومدارسهم، وما إلى ذلك، فأحيانًا ينتصر الزَّوج لوجهة نظره، وأحيانًا تنتصر الزوجة لرأيها، فتكون هناك منافسةٌ مستمرَّة بينهما، فتأتي هذه الآية لتنبيههما إلى أنَّ هناك طرفًا ثالثًا ينبغي مراعاة حاله، ألا وهو الأولاد.

أما استبداد أحدهما بالرأي في مصلحة الرضيع دون تراض أو تشاور ففيه الجناح! وإذا كان اللهُ سبحانه يأمرُ الوالدين بالتّشاور والتراضي، فيما يتعلّق بشأن رضاعة الطفل الصغير، فلا يتّخذ أحدهما قرارًا منفردًا كأن تقرِّر الزوجة أن تفطمه قبل بلوغه العامين، أو يقرّر الزوجُ عدم فطامه قبل ذلك، فيحصل النِّزاع والخلاف، ففي مصالحه الأخرى المتعلقة بهما كذلك.



والله سبحانه أمر الزَّوجين بالتَّراضي والتَّشاور معًا، إذ إنَّ أحدهما لا يغني دون الآخر، لأنّه قد يحدث التَّشاور، بدون أن يتحقَّق التَّراضي، وقد يحدث التَّراضي بدون أن يتحقّق التَّشاور، ممّا قد يؤدي إلى إصدار قرارٍ غير مدروس لا يكون في مصلحة الطفل؛ فلا بدّ إذن من التَّراضي والتَّشاور معًا، ثمّ إنَّ التَّراضي قد قُدِّم على التَّشاور، لأنَّ التراضي هو المدخل الطبعيِّ لتشاورٍ فعَّال، لكنَّنا نحتاج إلى التَّراضي في الختام، عندما تؤدّي الشورى والمفاوضة إلى قرارٍ، فينبغي توطيد النَّفس على قبوله.

فإذا كان هذا الضَّبط والتَّوجيه، والحثُّ على التراضي والشورى، يتعلّق بفطام طفلٍ رضيع؛ فلا ريبَ أنَّ الأمور الكبار أولى بأن تكون محلَّ تراضٍ وتشاورٍ بين الزَّوجين! فلنتَّخذ من التراضي والشورى، أساسًا لبناء حياتنا الزوجية وحمايتها، ولسنا أعظمَ من النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا أجلَّ مكانةً، ولا نحن مسدَّدون بالوحي مثله صلى الله عليه وسلم ، ومع ذلك كان يُشاور زوجاته رضي الله عنهن، بينما تجد أحدهم يسخر قائلًا: ”أشاور امرأةً“؟! سبحانَ الله! في إحدى الأزمات التي مرَّت بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم، واشتَدَّ الكرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى صحابته، جاء الانفراج والفتحُ عن طريق إحدى أمَّهات المؤمنين رضي الله عنهن ، فلماذا هذا الكِبر من بعض الأزواج ؟

ومن العجيب أنّ البعض منهم قد يشكو من مديره في مؤسسته، أو في الوزارة التي يعمل فيها، فيصفه بالاستبداد وعدم المشاورة، بينما هو إذا رجع إلى بيته، وهو القائم عليه، ووليُّ الأمر فيه، تجده يضرب برأي زوجته وأهل بيته عرض الحائط، ولا يشاورهم في قليلٍ ولا كثير، بله أن يُراضيهم.

ختامًا، نقول: لا بدَّ من التَّراضي والتَّشاور كليهما، فالتَّراضي تطيب للقلوب بطلب رضاها، والتّشاور فعل للجوارح الموصل إلى ذلك.

إن البدء في تحقيق ما نُريد، ينبغي أن يكون من القلب، والمنتهى كذلك ينبغي أن يصير إلى القلب، وما بينهما يمتدُّ التَّشاور أخذًا وعطاءً وتبادلًا للرأي؛ فليتَنا بنينا علاقاتنا كلِّها على أساس التراضي والتشاور، لا أعني علاقاتنا الزوجية فقط، بل كلّ علاقاتنا، فلنوطِّن أنفسنا على التشاور مع إخواننا، وإذا حصل التّوصُّل إلى رأيٍ، فلترض به قلوبنا، وإن كان مخالفًا لبعض ما نراه، فلا أحد يستطيع الجزم بالعواقب، وما تؤول إليه الأمور من خيرٍ أو من شرٍّ؛ فلذا ينبغي دائمًا أن نجتهد في اتِّباع المنهج الصَّحيح، وهو المنهج الذي يقوم على التراضي الذي يعقبه التشاور، ثمَّ التّشاور الذي يتبعه التَّراضي، وهكذا دوالَيك، فترتقي حياتنا وعلاقاتُنا من حالٍ إلى حالٍ، ويتحقَّق الاستقرار فيها، وتحل المودّة والرحمة

والسِّر في ذلك، أنّ كلًّا من الطّرفين، يشعر عندئذٍ بحقيقة تكريمه ورعاية نظره وحسن الظن فيه، وهو المعنى المضمَّن في هذه الآية العظيمة ﴿فَإِن أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاض مِّنهُمَا وَتَشَاوُر﴾، أما إن لم يكن تراضٍ ولا تشاور، فثمَّة استبدادُ الزوج أو الزَّوجة، وذهاب النّظام، وغياب التعامل الإنسانيّ الكريم، فهذه الآيةُ ترسمُ منهجًا عظيمًا في حياتنا الزوجية خصوصًا، ثمّ في حياتنا الأسريَّة وعلاقاتنا بأولادنا وأقاربنا، ثم في حياتنا الاجتماعية وعلاقاتنا بأصدقائنا وجيراننا، فنضرع إلى الله تعالى أن يرزقنا التَّراضي والتَّشاور، ويكتب لنا السعادة في الدنيا والآخرة.


<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<





القاعدة السادسة عشرة: لا تُخرجوهنَّ ولا يَخرُجن!




قال الله سبحانه : ﴿لَا تُخرِجُوهُنَّ مِن بُیُوتِهِنَّ وَلَا یَخرُجنَ إِلَّاۤ أَن یَأتِینَ بِفَٰحِشَة مُّبَیِّنَة﴾ [الطلاق:1].
تجيء هذه القاعدة، في سياق بيان أحكام الطَّلاق الرَّجعيِّ، ومنها أنَّ المرأة التي وقع عليها الطَّلاقُ الرَّجعيُّ، أيَّا كان سببُه، يُحكم عليها بأن تبقى في بيت زوجها طيلةَ مدّة العدَّة، لأنَّه طلاقٌ قابلٌ للمراجعة، فلذا تجوز الخلوة بينهما، وهنا يُتاح للزَّوجين أن يُراجعا علاقتهما الزَّوجية، وأن يتَثبَّت الزَّوجُ من صِحَّة قراره الطّلاق، وينظر في العواقب بعد العاصفة، فإن كان صوابًا أمضاه، وإن كان خطأ رجع عنه.

وهذا التَّدبير الحكيم، هو بعضُ ما يتضمَّنه قول الله تعالى: ﴿لَا تُخرِجُوهُنَّ مِن بُیُوتِهِنَّ وَلَا یَخرُجنَ﴾ وفيه نهيان، نهيٌ موجَّهٌ للزَّوج بأن لا يُخرج الزوجةَ من بيتها، ونهيٌ موجَّهٌ للزوجة بأن لا تخرج من بيتها، (أمَّا النَّهيُ عن إخراجها، فلأنَّ المسكنَ، يجبُ على الزَّوج للزَّوجة، لتُكمل فيه عِدَّتها التي هي حقٌّ من حقوقه، وأمَّا النهي عن خروجها، فلما في خروجها، من إضاعة حق الزوج وعدم صونه) .

وهذا التَّدبير الحكيم يبيّن علاقة المرأةِ المطلقة بعد طلاقها ببيت الزَّوجيَّة، حيث يأمر الله تعالى الزوجَ بألَّا يُخرجَ الزَّوجة من بيتها إلا لسببٍ معتبر، قال تعالى: ﴿إِلَّاۤ أَن یَأتِینَ بِفَٰحِشَة مُّبَیِّنَة﴾ أي: بأمرٍ قبيح واضح، موجبٍ لإخراجها، بحيثُ يَدخُل على أهل البيت الضررُ من عدم إخراجها، ولكن من المؤسف في واقعنا اليوم، أنَّه ما أن تقع مشكلةٌ في البيت إلا والزوج يقول لزوجته: اذهبي إلى أهلك، على سبيل الغضب، لا يريد بذلك طلاقًا، أو أن تبادر الزوجة بالخروج إلى أهلها، مغادرةً بيت الزوجيّة. في مسلكٍ لا يُراعي ما يترتب على هذا الخروج أو الإخراج من مشكلاتٍ كبيرة، سواءٌ داخل الأسرة الصّغيرة، عندما يدخل الأولاد البيتَ ويفتقدون والدتهم، والحال أنَّهم لا يستغنون عنها، أو في إطار الأسرة الكبيرة التي تجمع أهل الزوج وأهل الزوجة.
حتى لو كان الزَّوجُ مصيبًا، وزوجته قد أخطأت في حقِّه، فإنَّ بإمكانه أن يتصرَّف بأساليب مختلفةٍ، لا تتعدّى نطاق العلاقة بينه وبين زوجته إلى غيرهما، ولا تترتَّب عنها تلك النتائج المؤسفة، فبإمكان الزوج أن يهجر زوجه في المضجع داخل البيت.

وحتّى إذا قدَّر الله وقوع الطَّلاق، وكان رجعيَّا، فالواجبُ عليه أن لا يُخرجَها من بيتها، كما تقدم، لكن لما كان هذا الأمر مظنَّة التفريط باتِّباع الهوى وما يمليه الشيطان في سورة الغضب، مهَّد له الله سبحانه وتعالى، بالأمر بالتَّقوى، فقال تعالى: ﴿وَٱتَّقُوا ٱللَّهَ رَبَّكُم لَا تُخرِجُوهُنَّ مِن بُیُوتِهِنَّ وَلَا یَخرُجنَ﴾، والعرف السائد بين النَّاس، أنَّ خروج النِّساء من بيوتهنَّ، يُفاقم المشكلات، فقد يُصرُّ أهل الزّوجة على عدم رجوعها، وتُصِرُّ هي على عدم العودة، وربما يُضطر الزّوج إلى دفع ثمنٍ باهظ، من أجل إرجاعها، وقد يُديم طرق أبواب المحاكم، وقد كان يكفيه أن يتغاضى، وأن يستجيب لداعي التَّقوى.

ويُلحظ أنّ الأمر بتقوى الله تعالى، ورد فيه ذكر الله تعالى الذي هو أهل التَّقوى، بوصف الرُّبوبيّة المؤذن بكونه أمر متفضل كريم يهيئ لكم ما يصلحكم، فقال تعالى: ﴿وَٱتَّقُوا ٱللَّهَ رَبَّكُم لَا تُخرِجُوهُنَّ مِن بُیُوتِهِنَّ وَلَا یَخرُجنَ﴾، وفي هذا أيضًا إشارةٌ إلى أنَّ هذا التدبير الحكيم، من حُرمات الله تعالى، فالمسألة ليست مجرد انتصار للنفس بل مخالفة للرب تعالى! فاحذر من أن تقع في أسر الغضب والانفعال، فالأمر يتعلّق بحرماتِ الله سبحانه: ﴿وَمَن یُعَظِّم حُرُمَٰتِ ٱللَّهِ فَهُوَ خَیر لَّهُۥ﴾ ، ﴿وَمَن یُعَظِّم شَعَٰۤئِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقوَى ٱلقُلُوبِ ﴾ [الحج].



ولو وطَّن الزَّوجان أنفسهما على التزام هذه القاعدة، وأن تبقى الزوجة في بيت زوجها، لا تخرج منه ولا يخرجها هو؛ لأدّى ذلك إلى تحقيق الاستقرار في بيت الزوجيّة، ولحلَّت فيه المودَّة والرَّحمة.

وإذا كان هذا التوجيه الربّاني وقد وقع الطلاقُ! فكيف يكون أثر الإخراج من البيت بدون الطلاق؟ كما هو حال كثير من الأزواج، وكثير من الزوجات؛ إذ تخرج بلا إذن منه، فأين هما من هذه القاعدة العظيمة! ﴿لَا تُخرِجُوهُنَّ مِن بُیُوتِهِنَّ وَلَا یَخرُجنَ﴾! وتأمل قوله: ﴿بُیُوتِهِنَّ﴾، ولم يقل: (بيوتكم)! فهل من معتبر؟

<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<



القاعدة السَّابعةَ عشرةَ: المعاشرة بالمعروف منهاج الحياة الزوجية


قال الله تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلمَعرُوفِ﴾ [النساء:13].

في قول الله تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلمَعرُوفِ﴾ منهج متكامل وأمرٌ بتحقيق الاستقرار والمودَّة والسَّكن، في بيت الزّوجية، وقد خوطب الزّوج بهذا الأمر الإلهيِّ الجليل، بناءً على مقام القِوامة التي كُلّف بها

ولذلك فهو مطالبٌ بأن يجعل من مبدأ المعاشرة بالحسنى منهجًا لحياته الزّوجية، وذلك من لدن أخذه لزوجته من بيتِ أهلها، وإلى أن يلقى الله تعالى

وإذا قدَّر الله تعالى أن يقع بينهما الطّلاق؛ فليكن كذلك بالمعروف، كما قال تعالى: ﴿فَأَمسِكُوهُنَّ بِمَعرُوفٍ أَوفَارِقُوهُنَّ بِمَعرُوف﴾ [الطلاق:2].

وبناءً على هذا الأمر الربّاني الجليل، فمن الواجب على كلِّ مسلمٍ، أن يراجع أسلوب معاملته لأهله، ويرى: هل هو بالمعروف؟

ونعني بالمعروف ما ورد به الشَّرعُ، أو ما تعارف عليه الناس في مجتمعٍ معيَّنٍ، ممَّا لا يُخالف الشَّرع، إذ لا عبرةَ لما تعارف عليه الناسُ إذا كان مخالفًا لأمر الله تعالى!

فهناك مجتمعاتٌ قد تعارفت على إهانة المرأة، مثل ما كان لدى اليهود، من أعراف باطلة، حرّفوا التوراة وتشددوا فشدد الله عليهم! ومن ذلك أنَّهم يُنكرون أن يؤاكلَ الزوجُ الزوجةَ الحائض أو أن يُساكنها في البيت، وهذا خلاف ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم

لكنَّنا -مع الأسف- سمعنا أن بعضَ الناس إذا حاضت زوجتُه فارقها في الفراش، وقد ينام في غرفةٍ مستقلَّة، وليس ذلك خشيةَ أن يجامعها فيقع في المحرَّم، إذ لو كان كذلك لكان له وجهٌ شرعيٌّ معتبر، ولكن يفعلون ذلك من باب التنزه أو الكُره والنُّفور لحال كونها حائضًا

وقد لا يأكل أحدهم طعام زوجته الحائض أو النُّفساء ولا يجالسها، خلافًا لما ورد من هدي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، كما روي عن أمِّ المؤمنين أمِّ سلمة، قالت: (حِضْتُ وَأَنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْخَمِيلَةِ، فَانْسَلَلْتُ فَخَرَجْتُ مِنْهَا فَأَخَذْتُ ثِيَابَ حِيضَتِي فَلَبِسْتُهَا، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَنُفِسْتِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَدَعَانِي فَأَدْخَلَنِي مَعَهُ فِي الْخَمِيلَةِ) ، أي ثوب القَطِيفة، فمعنى ذلك أنّه صلى الله عليه وسلم ، لم يشعر عند حيضتها بكُرهٍ ولا نفور، فينبغي على المسلم أن لا يُبالي بالأعراف الباطلة التي تخالف الشرع.

فليُصغِ الأزواج لهذا الأمر الرباني الجليل:﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلمَعرُوفِ﴾، ولتُصغِ الزوجاتُ؛ عسى أن تستقرَّ الحياة ويقع التَّآلف والمودَّة والصفاء.




<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<



القاعدة الثَّامنةَ عشرةَ: ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف


قال الله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228].
هذه الآية الكريمة، تتضمَّن قاعدةً عظيمةً، تقرِّر مبدأ العدل أساسًا للحياة الزَّوجيّة، بل وتُعلي من مكانة هذا المبدأ، بأن ترفعه إلى مقام الأمر الإلهيِّ والشرعِ المحكم، الذي لو طبَّقناه وأقمناه في حياتنا؛ لاستقرَّت بيوتنا، وخيَّمت عليها المودَّة والسَّكينة والرَّحمة: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أي: (وللنِّساء على بعولتهنَّ من الحقوق واللوازم، مثلُ الَّذي عليهنَّ لأزواجهنَّ من الحقوق اللَّازمة والمستحبَّة) .


فلماذا يُريدُ بعضُ الأزواج أن يأخذَ ولا يُعطي؟! لماذا ينظر إلى المرأة وكأنَّها مملوكةٌ له، ثمَّ يتصرف معها كما يتصرف مع المملوك؟! إنَّه واقع ظالم مسوّد في سجل التَّاريخُ الإنساني بمداد الأسى والحسرة، فجاء الإسلام ووضع القواعد والأسس الكفيلة بتأسيس حياةٍ إنسانيّة كريمة، لكلا عمادي الأسرة، الزوجة والزّوج، وهذا هو السِّرُّ في أنّ الآية الكريمة، وهي تقرِّر العدالة بين طرفي الزواج، تبدأ بذكر ما للطَّرف المستضعف من الحقوق، فإذا كانت النَّظرةُ الخاطئة تهتمُّ بما يجبُ على النِّساء أن يفعلنه من الواجبات، فإنَّ الآية الكريمة تبدأ بذكر ما لهنَّ من الحقوق: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}، ولم يقل: (وعليهنَّ مثلُ الذي لهنَّ)، لافتةً نظر الأزواج إلى أنَّ هذا الذي تهتمُّون به من واجباتٍ على المرأة، يستند على حقوقٍ ينبغي أن تبذل لهنَّ في البدء، فقال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} فقدَّم حقوق الزوجات على حقوق الأزواج، فقال: {وَلَهُنَّ} أي: حقٌّ لهنَّ واجبٌ شرعيٌّ: {مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ}، وذلك كما في حديث سلمانَ وأبي الدَّرداء رضي الله عنهما، لمّا آخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بينهما، (فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا)، أي: إنَّ العبادة تشغله عن القيام ببعضِ واجباته الزوجيّة، (فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا)، فقال النّبيُّ صلى الله عليه وسلمَ: (صَدَقَ سَلْمَانُ) ، ففي هذا الحديث تنويه عمليٌّ ببعض معاني هذه الآية الكريمة.

ولنلحظ أنَّ الآية الكريمة، إذ تنصب ميزان العدالة بين الزوجين، وتقرِّر المثلية بين كفَّتي هذا الميزان، فإنّها تُقيِّد هذه المماثلة بالمعروف، فقال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}، وهو المعروفُ الشَّرعيُّ، لأنَّ حقوقَ المرأة تختلف بطبيعتها عن حقوق الرجل، وهذا الاختلاف أكَّدته النصوص الشّرعيَّة كما سوف يأتي في قاعدةٍ مستقلّة، وأكدته كذلك الأعراف الاجتماعيّة، في المجتمعات التي لم تُطمس فطرتها، وهذه المسألة مسألة عظيمة جدًا، فالمماثلة في الحقوق والواجبات الزّوجيّة في الإسلام، ليس المراد بها المساواةَ التي يرفعُ شعارَها أدعياءُ حقوق المرأة، وهي المساواة الحسابيَّة الّتي تسقطُ العوامل الأخرى المتعلّقة بطبيعة كلٍّ من الرجل والمرأة، والدَّور الاجتماعيّ الّذي يلعبه كلٌّ منهما، أما المساواة الشّرعية، فإنَّها المساواة التي تقوم على قاعدة العدل بين الرجل والمرأة، وإعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه، ومراعاة الفوارق بين الرجل والمرأة، ولنضرب لذلك مثالًا من أحكام الميراث، حيث القاعدةُ الغالبة أنَّ نصيب المرأةِ يكونُ نصفَ نصيب الرَّجل عند استواء صلة القرابة الموجبة للإرث، فالزوجة مثلًا إذا تُوفيت يكون نصيبُ الزَّوج من ميراثها النِّصفَ إن لم يكن لها ولدٌ، أو الرُّبع إن كان لها ولد، أمَّا إذا توفي الزوج، فإنَّ نصيب الزَّوجةِ أو الزَّوجاتِ يتراوح ما بين الرُّبع والثُّمن، وقد يبدو في ظاهر النظر السطحي أن هذا الحكم فيه عدم إنصاف لعدم المساواة بين الرجل والمرأة، كما يزعم أدعياءُ حقوق المرأة من المستغربين، لكنَّهم لو نظروا إلى الصُّورة كلِّها؛ للحظوا أنَّ الرَّجل هو المكلَّفُ بالإنفاق وحمل أعباء الأسرة، والمرأة معفاةٌ من ذلك، هذا أولًا، وثانيًا لو أنَّهم استقرؤوا أحوال الميراث؛ التي سوف تنتج فعليًَّا من تطبيق أحكامه؛ لوجدوا أنَّ المرأة في أربع حالاتٍ يكون ميراثها نصف الرجل مع استواء درجة القرابة، وذلك في مقابل عشر حالاتٍ يزيد نصيبُ المرأة فيها على نصيبِ الرَّجل، ثم يتساوى نصيباهما في ثلاثين حالةً، يعرفها المختصون، {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]. والمهم هنا هو أنّ مقتضى العدل لا يتحقّق بالمساواة الحسابيَّة دائمًا؛ التي تكون بمعنى المماثلة التَّامَّة، وإنما يتحقّق بالمساواة التي تكون بالمعروف، المساواة الملائمة للواجبات والتبعات، وهي التي يُراعى فيه طبيعة كلٍّ من الرجل والمرأة، ودورهما الاجتماعي، وكذلك طبيعة النظام الاجتماعيِّ كلِّه، وعندئذٍ فلا ريب أنَّ الإسلام قد أنصف المرأة وكرَّمها ورفع شأنها.



إنَّ هذه الآية الكريمة ببنيانها المحكم، تبيِّن أنَّ الحقوق الزّوجيّة، تقوم على أساس المماثلة بالمعروف، مؤكِّدةً في ذلك على حقوق المرأة في المقام الأول، حيث جعلتها معيارًا للمماثلة، فقال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}، والحياة الزوجيّة إنَّما تستقيم بتحقيق هذه المماثلة، وقيام كلٍّ من الزَّوج والزَّوجة، بواجباته في مقابل تمتُّعه بحقوقه، فيكون الأخذ مقابل العطاء، أمّا عندما يكون الأخذ بلا عطاءٍ مقابل؛ فعندئذٍ يحدث خلل كبير في العلاقة الزوجيّة، هو أكبر أسباب المشكلات الأسريَّة، فما من مشكلةٍ بين الزوجين، إلا وهناك بخسٌ ونقصٌ وظلمٌ وتفريطٌ واقعٌ من أحدهما على الآخر. مع أنَّ الأصلَ عند حدوث التَّجاوز والتّقصير، هو العفو والصفح، كما قال تعالى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237]، فلا بدّ من التجاوز، ولا بدّ من العفو، حتى يتَّسم البيتُ بطابع الاستقرار والمودّة والرَّحمة؛ فعلى من يشكو من اضطراب حياته الأسريّة، أن يراجع سلوكه مع زوجه، وينظر هل يقوم بحقوقه الزّوجيّة بالمعروف؟ وقد لحظتُ في كثيرٍ من المشكلات الأسريّة التي عُرضت عليَّ، أنَّ كثيرًا من النِّساء وبعض الرِّجال، ينفون أن يكون قد صدر من قبلهم أيُّ تقصيرٍ في القيام بما يجب عليهم، وهذا هو سببُ المشكلة الأساس، أي الشعور بالبراءة وعدم التّقصير، وكأنَّه مَلَكٌ كريم، بل لا بدَّ من التّقصير، بحكم بشريَّتنا وضعفنا الإنسانيِّ، وكذلك لا بدَّ من التصافح والتعافي والتسامح.

إنَّ شعور كلٍّ من الزَّوجين بالضّعف والتّقصير، يُتيح لهما أن يعفوا ويتسامحا، ويُراجع كلٌّ منهما نفسه، ويجتهد في أداء الحقوق الزّوجيّة، التي قرّرها على نحوٍ محكم قولُ الله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}.



الساعة الآن 10:47 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Content Relevant URLs by vBSEO 3.3.0 , Designed & TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة لمنتدى قصة الإسلام