إن سوء الظن من الفخاخ التي يصطاد بها الشيطان قلوب العباد؛ لأن سوء الظن من عوامل تفكيك الجماعات، وإفساد العلاقات، وتقطيع أواصر المحبة، وفي هذا الجو المظلم يستطيع الشيطان أن يعمل عمله، وينفذ خطته، فيصطاد المسلمين واحدًا تلو الآخر؛ لأنهم تفرقوا ولم يجتمعوا، وتفككوا ولم يعتصموا، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَنَالَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ، فَلْيَلْزَمُ الْجَمَاعَةَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ»؛ رواه أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح غريب [1].
ولذلك يجتهد الشيطان في التفريق بين الأحبة، وتشتيت الصحبة، ولكن النبي الرحيم صلوات الله وسلامه عليه، نبَّهنا إلى هذا المدخل الخبيث من مداخل اللعين، فقال: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ، وَلَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَحَسَّسُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَكُونُوا إِخْوَانًا» رواه البخاري واللفظ له، ومسلم وأبو داود والترمذي [2].
قال الحافظ: قال القرطبي: المراد بالظن هنا التهمة التي لا سبب لها، وكمن يتهم رجلًا بالفاحشة من غير أن يظهر عليه ما يقتضيها، ولذلك عطف عليه قوله: (وَلَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَحَسَّسُوا)، وذلك أن الشخص يقع له خاطر التهمة، فيريد أن يتحقق فيتجسس ويبحث ويستمع، فنهى عن ذلك وهذا الحديث يوافق قول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحجرات: 12]، فدل سياق الآية على الأمر بصون عرض المسلم غاية الصيانة؛ لتقدم النهي عن الخوض فيه بالظن، فإن قال الظان: أبحث لأتحقق، قيل له: ﴿ وَلَا تَجَسَّسُوا ﴾، فإن قال: تحقَّقت من غير تجسس، قيل له: ﴿ وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ﴾؛ ا.هـ [3].
قال القرطبي رحمه الله: الظن في الشريعة قسمان: محمود ومذموم، فالمحمود منه ما سلم معه دين الظان والمظنون به عند بلوغه، والمذموم ضده، بدلالة قوله تعالى: ﴿ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ﴾ وقوله: ﴿ لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ﴾ [النور: 12].
قال: والذي يُميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها، أن كل ما لم تعرف له أمارة صحيحة، وسبب ظاهر كان حرامًا واجب الاجتناب، وذلك إذا كان المظنون به ممن شوهد منه الستر والصلاة، وأونست منه الأمانة في الظاهر، فظن الفساد به والخيانة محرم، بخلاف من اشتهر بتعاطي الريب والمجاهرة بالخبائث، وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللهِ حَرَّمَ مِنَ المُسْلِمِ دَمَهُ وَعِرْضَهُ، وَأَنَ يُظَنَّ بِهِ ظَنُّ السَّوْءِ»[4]، اهـ[5].
قال ابن كثير رحمه الله: وروينا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ولا تظن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيرًا، وأنت تجد لها في الخير محملًا[6].
روى أبو داود بسند جيد عن زيد رضي الله عنه قال: أُتي ابن مسعود رضي الله عنه برجل، فقيل له: هذا فلان تقطر لحيته خمرًا، فقال عبدالله رضي الله عنه: إنا نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به.
ولما كان ظن السوء مُفسدًا للمجتمع المسلم، فقد أمرنا الله باجتنابه، فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحجرات: 12].
والظن خواطر تقع في القلب ربما لا يستطيع الإنسان دفعها، فيجب عليه أن يضعفها بظن الخير، فإن لم يستطع فعليه أن يتذكر عيوبه وخفايا ذنوبه؛ لينشغل بها عن عيوب الناس، فإن لم يستطع أن يدفع الظن السيئ بذلك، فعليه ألا يتكلم به، أو يبحث عن تحقيقه، وبهذا يسلم من الإثم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ»؛ متفق عليه[7].
[1] صحيح بمجموع طرقه: الترمذي رقم (2165) في «الفتن»، باب ما جاء في لزوم الجماعة، وأخرجه أحمد في «المسند» (1 /16، 18)، والحاكم في «المستدرك» وصححه، ووافقه الذهبي والألباني، وصحح إسناده الشيخ أحمد شاكر في التعليق على المسند.
[2] متفق عليه: رواه البخاري رقم (5143) في «النكاح»، باب لا يخطب على خطبة أخيه، ومسلم رقم (2563) في «البر والصلة»، باب تحريم الظن والتجسس.
[3] فتح الباري (10 /481).
[4] رواه ابن ماجه بنحوه وسنده ضعيف.
[5] تفسير القرطبي (16 /332).
[6] تفسير ابن كثير (4 /212).
[7] متفق عليه: رواه البخاري رقم (5269) في «الطلاق» باب الطلاق في الإغلاق، ومسلم رقم (127) في «الإيمان» باب تجاوز الله عن حديث النفس.
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
من مداخل الشيطان: احتقار الذنوب
من مداخل الشيطان أيضًا أنه يأتي للمسلم ويقول له: هذا ذنب صغير، هذا هين، حتى يوقعه فيه، فبالتهاون ارتُكِبت كثير من الذنوب، وانتهكت حرمات الله.
ولكن المسلم العاقل يحترز من الذنوب صغارها وكبارها؛ لأن اقتراف الصغيرة يجر إلى الكبيرة، بل إن الصغائر إذا اجتمعت على الرجل أهلكته؛ فعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَقَوْمٍ نَزَلُوا فِي بَطْنِ وَادٍ، فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ، وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ حَتَّى أَنْضَجُوا خُبْزَتَهُمْ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذْ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكْهُ»، قال الحافظ: رواه أحمد بإسناد حسن[1].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ العَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ صُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [المطففين: 14]، رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، وابن ماجه[2].
وعن ثوبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ» قال الحافظ المنذري: رواه النسائي بإسناد صحيح[3].
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: «إني لأحسب الرجل ينسى العلم كما تعلمه للخطيئة يعملها»؛ أخرجه الطبراني.
بل إن التهاون بالذنوب من علامات ضعف الإيمان؛ لأن العبد كلما قوي إيمانه زاد خوفه، واشتد تحرزه من الذنوب، ففي صحيح البخاري[4] عن أنس رضي الله عنه قال: «إنكم لتعملون أعمالًا هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الموبقات»؛ قال البخاري رحمه الله: يعني بذلك المهلكات[5].
وقد قيل: لا تنظر إلى صغر المعصية، ولكن انظر إلى عِظَمِ مَن عصيتَ، ولقد بلغ من شدة تحرز الصحابة - وهم أقوى هذه الأمة إيمانًا، وأتقاها قلوبًا - أنهم كانوا يخافون النفاق على أنفسهم.
قال البخاري: وقال ابن أبي مُلَيكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه[6].
فيجب على العبد الذي يريد النجاة ألا يتهاون بالصغائر، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: «إِيَّاكِ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّ لَهَا مِنَ اللهِ طَالِبًا»[7]، رواه النسائي، وابن ماجه، والدارمي، وإسناده لا بأس به.
وأخرج أسد بن موسى في «الزهد» عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: إن الرجل ليعمل الحسنة فيثق بها، وينسى المحقرات، فيلقى الله وقد أحاطت به، وإن الرجل ليعمل السيئة فلا يزال منها مشفقًا حتى يلقى الله آمنًا.
[1] صحيح: أخرجه أحمد في «المسند» (5/ 231) قال الهيثمي (10/ 190): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، وله شاهد عند أحمد في «المسند» أيضًا (1/ 402)، وصحح إسناده الشيخ أحمد شاكر، والحديث صححه الألباني في «صحيح الجامع» (2686)، و«الصحيحة» (389).
[2] صحيح: الترمذي (3334) في «التفسير» باب ومن سورة ويل للمطففين، وابن ماجه (4244) في «الزهد» باب ذكر الذنوب، ورواه أحمد في «المسند» (2/ 297)، والحاكم في «المستدرك» (2/ 517)، وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
[3] حسن: رواه ابن ماجه رقم (4022) في «الفتن» باب العقوبات، ورواه أحمد في «المسند» (5/ 277، 280) بإسناد حسن لأجل عبدالله بن أبي الجعد.
[4] صحيح: رواه البخاري رقم (6492) في «الرقاق»، باب ما يتقى من محقرات الذنوب.
[5] فتح الباري (11/ 329).
[6] رواه البخاري كتاب «الإيمان» باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر.
[7] صحيح: ابن ماجه رقم (4243) في «الزهد» باب ذكر الذنوب، والدارمي (2/ 303)، وأخرجه أحمد في «المسند» (6/ 70)، وصححه الألباني في «الصحيحة» (513).
العجب يختلف عن الكبر، فالكبر له ثلاثة أركان: متكبر، ومتكبر به، ومتكبر عليه، والعجب ليس له إلا ركنان اثنان: معجب ومعجب به فقط، ولكن العجب هو الدرجة الأولى في سلم الكبر فنعوذ بالله منهما.
والعجب: هو استعظام النعمة والركون إليها، مع نسيان إضافتها إلى المنعم.
والعجب أنواع:
فمن الناس من يعجب بصحته وقوته، وتناسب أعضائه وحسن صورته، فليَعلم أن ذلك من نصيب الدود، وأن كل من عليها فان.
ومن الناس من يعجب بعقله وفِطنته واستكشافه لبطائن الأمور الدينية والدنيوية، وثمرة هذا العجب أن تجده مستبدًّا برأيه، مستجهلًا لغيره، معرضًا عن سماع آراء الآخرين، فليفكر هذا العاقل فيما لو ابتلاه الله بمرض في دماغه، لجنَّ عقله، وطار لبُّه، وذهب فكره، فليحمَد الله على العافية، وليشكُره على النعمة.
ومن الناس: من يعجب بنسبه، ويظن أنه ناجٍ لا محالة، أليس هو ابن فلان المنسب من الحسن أو الحسين؟ فليعلم هذا الغافل أن من أبطأ به عمله، لم يسرع به نسبه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم نادى أقرب الناس إليه: «يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا»[1]؛ متفق عليه.
ومن الناس: من يعجب بكثرة أولاده وأهله وعشيرته وهذا يكفيه قول الله تعالى: ﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴾ [عبس: 34 - 37].
فأي عجب بمن يتركك في أشد أحوالك، ويهرب منك في أحرج أوقاتك.
ومن الناس: من يعجب بماله وغناه، فليقرأ قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ [فاطر: 15]، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي حُلَّةٍ، تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ، مُرَجِّلٌ جُمَّتَهُ، إِذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ»[2]؛ متفق عليه.
ومن الناس: من يعجب بعبادته، وهذا إنما أوتي من جهله؛ لأنه لا يدري أقبلت عبادته أم لا؟.
وقال مسروق رحمه الله: كفى بالمرء علمًا أن يخشى الله، وكفى بالمرء جهلًا أن يعجب بعمله[3].
وعن عمر رضي الله عنه قال: إنَّ من صلاح توبتك أن تعرف ذنبك، ومن صلاح عملك أن ترفُض عُجبك، ومن صلاح شكرك أن تعرف تقصيرك.
وقال مطرف بن عبدالله رحمه الله: لأن أببت نائمًا وأصبح نادمًا، أحب إليَّ من أن أبيت قائمًا وأصبح معجبًا.
وروي عن عائشة رضي الله عنها: أن رجلًا سألها، فقال: متى أعلم أني محسن؟ قالت: إذا علمت أنك مسيء، قال: ومتى أعلم أني مسيء؟ قالت: إذا علمت أنك محسن.
وقال البخاري: قال ابن أبي مُلَيكة: أدركت ثلاثين من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه[4].
قال أبو الليث السمرقندي رحمه الله: من أراد أن يكسر العجب، فعليه بأربعة أشياء:
أولها: أن يرى التوفيق من الله تعالى، فإذا رأى التوفيق من الله تعالى، فإنه يشتغل بالشكر ولا يعجب بنفسه.
والثاني: أن ينظر إلى النعماء التي أنعم الله بها عليه، فإذا نظر في نعمائه اشتغل بالشكر عليها واستقلَّ عمله، ولم يعجب به.
والثالث: أن يخاف ألا يتقبل منه، فإذا اشتغل بخوف القبول لا يعجب بنفسه.
والرابع: أن ينظر في ذنوبه التي أذنب قبل ذلك، فإذا خاف أن ترجح سيئاته على حسناته فقد قلَّ عجبُه، وكيف يُعجب المرء بعمله ولا يدري ماذا يخرج من كتابه يوم القيامة؟! وإنما يتبين عجبه وسروره بعد قراءة الكتاب؛ ا. هـ[5].
[1] متفق عليه: رواه البخاري رقم (2753) في «الوصايا»، باب هل يدخل النساء والولد في الأقارب، ومسلم رقم (206) في «الإيمان» باب قوله تعالى: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: 214].
[2] متفق عليه: رواه البخاري رقم (5789، 5790) في «اللباس»، باب من جر ثوبه من الخُيلاء، ومسلم رقم (2088) في «اللباس والزينة»، باب تحريم التبختر في المشي.
[3] رواه الدارمي (1 /93).
[4] صحيح: رواه البخاري كتاب «الإيمان»، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر.
[5] تنبيه الغافلين (252)
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
مداخل الشيطان
الرياء
إن الرياء باب فسيح من الأبواب التي يلج الشيطان منها إلى قلب الإنسان، ولذلك يجب على المسلم الذي يريد الله والدار الآخرة أن يمحِّص في قلبه، فإن وجد فيه التفاتًا لغير الله سارع بعلاجه، وأن يفتش في أعماله فإن وجد فيها شبهة من رياء طهَّرها، ولما كان الرياء هو التفات القلب لغير الله وترك مراعاة الخالق مع مراعاة المخلوقين، سُمي شركًا أصغرَ.
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ» قَالُوا: وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «الرِّيَاءُ، يَقُولُ اللهُ تعالى لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِذَا جُزِيَ النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمْ: اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاؤُونَ فِي الدُّنْيَا فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً»[1].
وأنواع الرياء كثيرة:
فمن الناس من يرائي بعلمه، ومنهم من يرائي بعبادته، وكذلك من يرائي بصدقته، ومثال ذلك ما رواه مسلم والنسائي عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ، وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ، وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ»[2].
وعن أبي هند الداري رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ قَامَ مَقَامَ رِيَاءٍ وَسُمْعَةٍ، رَاءَى اللهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَسَمَّعَ»[3].
قال الحافظ المنذري: رواه أحمد بإسناد جيد.
وفي «الصحيحين» من حديث جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ[4] اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ»[5].
ولذلك كان السلف الصالح رضي الله عنهم يخفون طاعاتهم، كما يخفي الناس معاصيهم وعيوبهم، واعلم أن الدافع على الرياء هو الطمع في مدح الناس وخوف مذمتهم.
ويمكن التخلص من الرياء بالأمور الآتية:
1- أن تعلم أن مدح الناس لا ينفعك إن كنت عند الله مذمومًا، وذمهم لا يضرك إن كنت عند الله محمودًا.
2- أن تعلم أن المخلوق الضعيف الذي تطلب مدحه لا يملك لك ضرًّا ولا نفعًا خاصة يوم فقرك الأكبر وحاجتك العظمى.
3- أن تعلم أن الرياء يحبط العمل، وربما حوله إلى كفة السيئات.
4- إن كنت تخشى اطلاع الناس على خبث باطنك وسواد قلبك في الدنيا، فالله تعالى مطلع على ذلك، وسيفضحك يوم القيامة أمام الجمع الأكبر وعلى رؤوس الأشهاد.
5- وإذا أخطر عليك خاطر من الرياء فلتقم بمدافعته والتخلص منه، ثم الالتفات إلى الله بقلبك.
واعلم أن الشيطان يدعوك أولًا لترك العمل، فإن عجز دعاك إلى الرياء فيه، فإن وجد منك إخلاصًا قال لك: هذا العمل ليس خالصًا وأنت مراء، وتعبك ضائع حتى يحملك على ترك العمل فانتبه - حفِظك الله - ولا تطع الشيطان فإنه عدو مضل مبين.
يقول الغزالي رحمه الله: والمتخلصون عن الرياء في دفع خواطر الرياء على أربع مراتب:
الأولى: أن يرد على الشيطان ويكذبه، ولا يقتصر عليه، بل يشتغل بمجادلته ويطيل الجدال معه؛ لظنه أن ذلك أسلم لقلبه وهو على التحقق نقصان؛ لأنه اشتغل عن مناجاة الله وعن الخير الذي هو بصدده، وانصرف إلى قتال قطاع الطريق، والتعريج على قتال قطاع الطريق نقصان في السلوك.
الثانية: أن يعرف أن الجدال والقتال نقصان في السلوك فيقتصر على تكذيبه ودفعه، ولا يشتغل بمجادلته.
الثالثة: ألا يشتغل بتكذيبه أيضًا؛ لأن ذلك وقفة وإن قَلَّت، بل يكون قد قرر في عقد ضميره كراهة الرياء وكذب الشيطان فيستمر على ما كان عليه مستصحبًا للكراهية غير مشتغل بالتكذيب ولا بالمخاصمة.
الرابعة: أن يكون قد علم أن الشيطان سيحسده، فيعزم على أنه كلما نزغ الشيطان، زاد هو في الإخلاص، والاشتغال بالله وإخفاء الصدقة والعبادة غيظًا للشيطان.
يروى عن الفضيل بن غزوان أنه قيل له: إنَّ فلانًا يذكرك - أي بسوء - فقال: والله لأغيظن من أمره، قيل ومن أمره؟ قال: الشيطان، ثم قال: اللهم اغفر له.
وإذا عرف الشيطان من عبد هذه العادة، كف عنه خِيفة أن يزيد في حسناته.
قال: وضرب الحارث المحاسبي لهذه الأربعة مثالًا أحسن فيه، فقال: مثالهم كأربعة قصدوا مجلسًا من العلم والحديث؛ لينالوا به فائدة وفضلًا وهداية ورشدًا، فحسدهم على ذلك ضال مبتدع، وخاف أن يعرفوا الحق، فتقدم إلى واحد فمنعه وصرفه عن ذلك، ودعاه إلى مجلس ضلال فأبى، فلما عرف إباءه شغله بالمجادلة، فاشتغل معه ليرد ضلاله، وهو يظن أن ذلك مصلحة له، وهو غرض الضال ليفوت عليه بقدر تأخره.
فلما مرَّ الثاني عليه نهاه واستوقفه، فوقف فدفع في نحر الضال، ولم يشتغل بالقتال واستعجل، ففرح منه الضال بقدر توقفه للدفع، ومرَّ به الثالث فلم يلتفت إليه ولم يشتغل بدفعه ولا بقتاله، بل استمرَّ على ما كان، فخاب منه رجاؤه بالكلية، ومرَّ الرابع فلم يتوقف، وأراد أن يغيظه فترك التأني وأسرع في المشي، فيوشك إن عادوا ومروا عليه مرة أخرى أن يعاود الجميع إلا هذا الأخير[6].
ولهذا كان كثير من السلف إذا ألهاهم الشيطان عن طاعة، فعلوها مضاعفة غيظًا للشيطان.
وقال إبراهيم التيمي: إنَّ الشيطان ليدعو العبد إلى الإثم فلا يطعه، وليحدث عند ذلك خيرًا، فإذا رآه كذلك تركه.
الرياء والأجر:
اعلم - هداك الله - أنَّ الرياء إما أن يدخل في أصل العمل أو في أوصافه، فإن دخل في أصل العمل - يعني كان هو الدافع والباعث عليه - بطل بالإجماع.
وإن دخل الرياء في أوصاف العمل؛ كطول في ركوع أو سجود، ففيه قولان: أحدهما يبطله، والآخر: لا يبطله ولكن ينقص من أجره.
[1] صحيح: رواه أحمد في «المسند» (5/ 428) وقال الهيثمي (10/ 102): رجال أحمد رجال الصحيح، وقال المنذري (1/ 68): رواه أحمد بإسناد جيد، وابن أبي الدنيا، والبيهقي في «الزهد»، وصححه الألباني في «صحيح الترغيب» (1/ 120ح 32).
[2] صحيح: رواه مسلم رقم (1905) في «الجهاد» باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار.
[3] صحيح: رواه أحمد في «المسند» (5/ 269) بسند رجال ثقات، وصححه الألباني في «صحيح الترغيب» (1/ 117/ 24).
[4] سمع: معناه؛ مَنْ أظهر عمله للناس رياء، أظهر الله نيته الفاسدة في عمله وفضحه يوم القيامة.
[5] متفق عليه: رواه البخاري رقم (6499) في «الرقاق» باب الرياء والسمعة، ومسلم رقم (2987) في «الزهد» باب من أشرك في عمله غير الله.
الكبر من مداخل الشيطان، وبه يستذل الإنسان، ويحمله على رد الحق، والإصرار على الباطل، والمتكبر جاهل لا يعرف حقيقة نفسه ولا حقيقة ربه؛ لأنه لو عرف نفسه حق المعرفة، لعلِم أنه كان نطفة تشمئز منها النفس، ثم علقة ثم مضغة، ثم كان مولودًا صغيرًا ضعيفًا، فعلام التكبر؟! ولَما كان الكبر داءً مهلكًا، حذَّر الله تعالى منه، فقال سبحانه: ﴿ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا ﴾ [الإسراء: 37]، وقال أيضًا: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا ﴾ [النساء: 36].
وقال: ﴿ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ﴾ [غافر: 35]، والآيات في ذلك كثيرة.
وحذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من الكبر أيضًا، وبيَّن أن عاقبته وخيمة، فقال: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ»[1].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قَالَ اللهُ تعالى: الْعِزُّ إِزَارِي، وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، فَمَنْ نَازَعَنِي بِشَيْءٍ مِنْهُمَا عَذَّبْتُهُ»[2]؛ رواه مسلم.
وعن حارثة بن وهب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ: كُلُّ عُتُلٍّ، جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ»[3] متفق عليه، و(العُتُل): هو الغليظ الجافي، و(الجواظ): هو الضخم المختال في مشيته.
وعن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «احْتَجَّتِ النَّارُ وَالْجَنَّةُ، فَقَالَتْ هَذِهِ: يَدْخُلُنِي الْجَبَّارُونَ وَالْمُتَكَبِّرُونَ. وَقَالَتْ هَذِهِ: يَدْخُلُنِي الضُّعَفَاءُ وَالْمَسَاكِينُ. فَقَالَ اللهُ تعالى لِهَذِهِ: أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ - وَرُبَّمَا قَالَ: أُصِيبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ - وَقَالَ لِهَذِهِ: أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا»[4] رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: شَيْخٌ زَانٍ، وَمَلِكٌ كَذَّابٌ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ»[5] رواه مسلم، و(العائل): هو الفقير.
وعن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَجُرُّ إِزَارَهُ مِنَ الْخُيَلَاءِ خُسِفَ بِهِ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الْأَرْضِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»[6]؛ رواه البخاري والنسائي، و(الخيلاء): هو الكبر والعجب، و(يتجلجل): أي يغوص وينزل فيها.
وعنه أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ، لَمْ يَنْظُرْ اللهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[7].
وعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ، أَكَبَّهُ اللهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ»؛ رواه أحمد، والبيهقي في «الشعب»، وقال الحافظ العراقي: إسناده صحيح[8].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تَخْرُجُ عُنُقٌ مِنَ النَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ لَهَا عَيْنَانِ تُبْصِرَانِ وَأُذُنَانِ تَسْمَعَانِ وَلِسَانٌ يَنْطِقُ، يَقُولُ: إِنِّي وُكِّلْتُ بِثَلاَثَةٍ، بِكُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، وَبِكُلِّ مَنْ دَعَا مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ، وَبِالمُصَوِّرِينَ»[9].
وقال الحسن البصري رحمه الله: العجب من ابن آدم يغسل الخرء بيده كل يوم مرة أو مرتين، ثم يعارض جبار السماوات.
وقال النعمان بن بشير على المنبر: إن للشيطان مصالي وفخوخًا، وإن من مصالي الشيطان وفخوخه: البطر بأنعم الله، والفخر بإعطاء الله، والكبر على عباد الله، واتباع الهوى في غير ذات الله.
وروي أن مطرف بن عبدالله بن الشِّخير نظر إلى المهلب بن أبي صفرة، وعليه حُلة يسحبها، ويمشي الخيلاء، فقال: يا أبا عبدالله، ما هذه المشية التي يبغضها الله ورسوله؟ فقال المهلب: أما تعرفني؟! فقال: بل أعرفك، أوَّلُك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وحشوك فيما بين ذلك بول وعذرة، فترك المهلب مشيته هذه، فأخذ ابن عوف هذا الكلام ونظمه شعرًا فقال:
عَجِبْتُ منْ مُعْجَبٍ بِصُورَتِهِ
وَكَانَ بِالأمْس نُطْفَةً مَذِرةً
وَفِي غَدٍ بَعْد حُسْنِ صُورَتِهِ
يَصِيرُ فِي اللَّحْدِ جِيفَةً قَذِرةً
وَهُوَ عَلَى تِيهِهِ وَنَخْوتِهِ
مَا بَيْن ثَوْبَيْهِ يَحْمِلُ الْعَذرَةَ [10]
وعن أبي بكر الهذلي قال: بينما نحن مع الحسن إذ مرَّ علينا ابن الأهتم، يريد المقصورة، وعليه جباب خز قد نضد بعضها فوق بعض على ساقه، وانفرج عنها قباؤه وهو يمشي يتبختر، إذ نظر إليه الحسن نظرة، فقال: أف! أف! شامخ بأنفه ثاني عطفه، مصعر خده، ينظر في عطفيه، أي حميق أنت؟! تنظر في عطفيك في نِعَمٍ غير مشكورة ولا مذكورة، غير مأخوذ بأمر الله فيها، ولا المؤدي حق الله منها وفي كل عضو من أعضائك لله نعمة، وللشيطان به لفتة! فسمع ابن الأهتم، فرجع يعتذر إليه، فقال: لا تعتذر إليَّ، وتب إلى ربك، أما سمعت قول الله تعالى: ﴿ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا ﴾ [الإسراء: 37].
[1] صحيح: رواه مسلم رقم (91) في «الإيمان» باب تحريم الكبر.
[2] صحيح: رواه مسلم رقم (2620) في «البر والصلة» باب تحريم الكبر.
[3] متفق عليه: رواه البخاري رقم (4918) في التفسير باب: ﴿ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ﴾ [القلم: 13]، ومسلم رقم (2853) في «الجنة» باب النار يدخلها الجبارون.
[4] صحيح: رواه مسلم رقم (2846) في «الجنة وصفة نعيمها».
[5] صحيح: رواه مسلم رقم (107) في «الإيمان» باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار.
[6] رواه البخاري رقم (3485) في «أحاديث الأنبياء» باب (54)، والنسائي (8/ 206).
[7] متفق عليه: رواه البخاري (3665) في «فضائل الصحابة» باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لو كنت متخذًا خليلًا»، ومسلم رقم (2085) في «اللباس والزينة»، باب كراهة ما زاد على الحاجة.
[8] حسن: أخرجه أحمد في «المسند» (2/ 215) بسند رجاله ثقات، وحسنه الألباني في «صحيح الترغيب» (3/ 106/ ح2909).
[9] صحيح: الترمذي رقم (2574) في «صفة جهنم» باب ما جاء في صفة النار، وأخرجه أحمد في «المسند» (2/ 336) بسند صحيح، وصححه الألباني في «الصحيحة» رقم (512).
[10] أدب الدنيا والدين (201).
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
من مداخل الشيطان
البخل
قال تعالى ﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 268].
فالشيطان يخوِّف الإنسان من الفقر؛ لكيلا ينفق مما في يده في سبيل الله، ويُخيل إليه أنه إذا أنفق افتقَر واحتاج، ولكن الله يطمئن كل مؤمن موقن بقوله: وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}، مبينًا أن فضل الله لا منتهى له، ورزق الله لا حدَّ له، وخزائنه ملأى لا تنفد أبدًا، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا، فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ - يَعْنِي بِشِدْقَيْهِ - ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا مَالُكَ، أَنَا كَنْزُكَ»، ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية: ﴿ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [آل عمران: 180][1].
ولقد بين الله - تبارك وتعالى - أن الفوز والفلاح في ترك البخل والشح فقال: ﴿ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا. وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا»[2].
وعنه أيضًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قَالَ اللَّهُ عز وجل: أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ، وَقَالَ: يَدُ اللَّهِ مَلْأَى لَا تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ، وَبِيَدِهِ المِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ»[3]؛ رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ أَنْ تَبْذُلَ الْفَضْلَ خَيْرٌ لَكَ، وَأَنْ تُمْسِكَهُ شَرٌّ لَكَ، وَلَا تُلَامُ عَلَى كَفَافٍ، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى»[4].
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ؟»، قالوا: يا رسول الله، ما منا أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه، قال: «فَإِنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ، وَمَالُ وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ»[5]؛ رواه البخاري.
وعن عبدالله بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَا حَسَدَ إِلَّا عَلَى اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الكِتَابَ، وَقَامَ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ، وَرَجُلٌ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَالًا، فَهُوَ يَتَصَدَّقُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ»[6].
والمراد بالحسد هنا الغبطة، وهي تمني مثل ذلك، وهذا لا بأس به، بل ربما يكون طاعة، أما الحسد المذموم فهو تمني زوال النعمة وهو حرام.
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا أَنْفَقَتِ المَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ بَيْتِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ، كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ، وَلِزَوْجِهَا أَجْرُهُ بِمَا كَسَبَ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ، لَا يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ أَجْرَ بَعْضٍ شَيْئًا»[7].
[1] صحيح: رواه البخاري رقم (1403) في «الزكاة»، باب إثم مانع الزكاة.
[2] متفق عليه: رواه البخاري رقم (1442) في «الزكاة»، باب قول الله تعالى: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ﴾ [الليل: 5]، ومسلم رقم (1010) في «الزكاة» باب في المنفق والممسك.
[3] متفق عليه: رواه البخاري رقم (4684) في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ﴾ [هود: 7]، ومسلم رقم (993) في «الزكاة»، باب الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلف.
[4] صحيح: رواه مسلم رقم (1036) في «الزكاة»، باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى.
[5] صحيح: رواه البخاري رقم (6442) في «الرقاق»، باب ما قدم من ماله فهو له.
[6] متفق عليه: رواه البخاري رقم (5025) في «فضائل القرآن»، باب اغتباط صاحب القرآن، ومسلم رقم (815) في صلاة «المسافرين»، باب فضل من يقوم بالقرآن.
[7] متفق عليه: رواه البخاري رقم (2065) في «البيوع» باب قول الله تعالى: ﴿ أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ﴾ [البقرة: 267]، ومسلم رقم (1024) في «الزكاة» باب أجر الخازن الأمين.