منتدى قصة الإسلام

منتدى قصة الإسلام (http://forum.islamstory.com//index.php)
-   الشريعة و الحياة (http://forum.islamstory.com//forumdisplay.php?f=99)
-   -   لماذا لم يؤمن أهل مكة؟ أ.د. راغب السرجاني (http://forum.islamstory.com//showthread.php?t=127127)

نبيل القيسي 18-11-2020 12:39 PM

لماذا لم يؤمن أهل مكة؟ أ.د. راغب السرجاني
 
ها هم المسلمون في مكة لم يعلنوا إسلامهم باستثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أحد من البشر يُدافع عنه غير عمِّه أبي طالب، وهو دفاع غير مشروط، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل بدفاعه مع كونه كافرًا؛ لكنه في الوقت ذاته ما فرَّط في كلمة واحدة من الدين، وما تنازل، وما بدَّل، وما غيَّر.



كان هذا هو موقف الرسول صلى الله عليه وسلم، وموقف عمِّه أبي طالب، وموقف مكة بصفة عامة، وقبل الحديث عن خطَّة مكة للقضاء على الدعوة الإسلامية، نُريد أن نبحث في موانع الإسلام عند أهل مكة، أو بمعنى آخر: لماذا لم يُؤمن أهل مكة؟! لماذا حاربوا الدعوة ولم ينصروها، مع كون الرسول صلى الله عليه وسلم منهم؟! وهل لم يُدركوا الحقَّ الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!



بل أدركوا الإسلام والحق على وجه اليقين!

أعتقد أن الجواب عن هذا السؤال الأخير هو: بل أدركوا ذلك على وجه اليقين! فعلى أقلِّ تقدير كانت الرسالة واضحة جدًّا، وكان إعجاز القرآن باديًا للجميع؛ إنما الصواب هو أنهم كانوا كما قال تعالى في كتابه الكريم: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُفْسِدِينَ} [النمل: 14].



موقف أبي بن خلف

نعم كان القرآن كلامًا معجزًا؛ وهؤلاء العرب هم أهل اللغة والبلاغة والفصاحة؛ أي أنهم يعلمون جيدًا أن هذا ليس من عند البشر، فهم كانوا يُصَدِّقُون تمامًا أنه رسول من عند الله؛ لكن أنفسهم لم تطب بهذا التصديق. يُؤَكِّد ذلك وقائع كثيرة للغاية ثبت فيها تصديقهم الكامل لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان في ظاهره عجيبًا، ومن ذلك ما ورد في قصة أُبَيِّ بن خلف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووردت في أكثر من مصدر بأسانيد مختلفة، ومع أن تتمَّة القصة حدثت في العهد المدني؛ فإننا سنذكرها هنا للتدليل على قناعة المشركين بصدق وعيده.



قال ابن اسحاق: وَكَانَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ -كَمَا حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ [1]- يَلْقَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ إنَّ عِنْدِي الْعَوْذَ [2]، فَرَسًا أَعْلِفُهُ كُلَّ يَوْمٍ فَرَقًا مِنْ ذُرَةٍ، أَقْتُلُكَ عَلَيْهِ. فَيَقُولُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "بَلْ أَنَا أَقْتُلُكَ إنْ شَاءَ اللهُ" [3].



فهذه كلمات عدائية متبادلة بين أُبَيِّ بن خلف ورسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد يظنُّها السامعون كلمات عادية لا أثر لها في عقل كلٍّ منهما، إلا أن الواقع أن أُبَيَّ بن خلف كان يأخذ كلمات الرسول صلى الله عليه وسلم مأخذ الجدِّ؛ لذلك لم يَغِبْ هذا التهديد عن ذهنه قطُّ، وقد مرَّت السنوات والسنوات، وجاءت غزوة أحد في العام الثالث من الهجرة، بعد أكثر من عشر سنوات من هذه القصة، واكتشفنا أن التهديد النبوي ما زال عالقًا في ذهن أُبَيِّ بن خلف!



قال ابن إسحاق -في معرض حديثه عن غزوة أحد-: "فَلَمَّا أُسْنِدَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في الشِّعْبِ أَدْرَكَهُ أُبيُّ بن خَلَفٍ وَهُوَ يَقُولُ: أَيْ مُحَمَّدُ، لاَ نَجَوْتُ إنْ نَجَوْتَ. فَقَالَ الْقَوْمُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيَعْطِفُ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَّا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "دَعُوهُ". فَلَمَّا دَنَا، تَنَاوَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْحَرْبَةَ مِنَ الْحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ، يَقُولُ بَعْضُ الْقَوْمِ، فِيمَا ذُكِرَ لِي: فَلَمَّا أَخَذَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ انْتَفَضَ بِهَا انْتِفَاضَةً، تَطَايَرْنَا عَنْهُ، تَطَايُر الشَّعْرَاءِ عَنْ ظَهْرِ الْبَعِيرِ إِذَا انْتَفَضَ بِهَا ثُمَّ اسْتَقْبَلَهُ فَطَعَنَهُ فِي عُنُقِهِ طَعْنَةً تَدَأْدَأَ مِنْهَا عَنْ فَرَسِهِ مِرَارًا، فَلَمَّا رَجَعَ إلَى قُرَيْشٍ وَقَدْ خَدَشَهُ فِي عُنُقِهِ خَدْشًا غير كبير، فاحتقن الدم، فقال: قَتَلَنِي وَاللهِ مُحَمَّدٌ! قَالُوا لَهُ: ذَهَبَ وَاللهِ فُؤَادُكَ! وَاللهِ إِنْ بِكَ مِنْ بَأْسٍ. قَالَ: إنَّهُ قَدْ كَانَ قَالَ لِي بِمَكَّةَ: أَنَا أَقْتُلُكَ. فَوَاللهِ لَوْ بَصَقَ عَلَيَّ لَقَتَلَنِي. فَمَاتَ عَدُوُّ الله بسَرِفٍ، وَهُمْ قَافِلُونَ بِهِ إلَى مَكَّةَ" [4].



وضح في هذه القصة ما نقصده من قناعة أهل مكة بصدق وعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ندري أين كان عقل أُبَيِّ بن خلف؟ وأين كان عقل الذين سمعوه ولا يزالون يقاتلون النبي صلى الله عليه وسلم؟!



إذن فقد كان أهل مكة يُوقنون أن هذا الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو الحقُّ لا ريب فيه؛ لكن السؤال هو: لماذا -إذن- كذَّبوا ولم يؤمنوا؟!



أبو جهل ونزعة القبلية

في معرض الإجابة عن هذا السؤال السابق فقد تعدَّدت موانع الإسلام عند أهل مكة، فكان منهم من منعته التقاليد كأبي طالب، وكان منهم من منعه الجبن كأبي لهب، وكان منهم من منعته أمور أخرى، كان أشهرها "القَبَليَّة".



وكان أبو جهل أوضح من جسَّد هذه القبلية؛ فكان من بني مخزوم، القبيلة المنافسة لبني هاشم، وقد ظهرت منه مواقف عدَّة تؤكد هذه القبلية، وتُفَسِّر عداءه الشديد للإسلام، أو قُلْ: لرسول الله الهاشمي صلى الله عليه وسلم.



قال الزهري رحمه الله: "حُدِّثتُ أَن أَبَا جهل وأبا سفيان والأخنس بن شريق خَرَجُوا لَيْلَةً لِيَسْتَمِعُوا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ فِي بَيْتِهِ، وَأَخَذَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَجْلِسًا لِيَسْتَمِعَ فِيهِ، وَكُلٌّ لَا يَعْلَمُ بِمَكَانِ صَاحِبِهِ، فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ، حَتَّى إِذَا أَصْبَحُوا وَطَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرَّقُوا، فَجَمَعَتْهُمُ الطَّرِيقُ فَتَلَاوَمُوا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَا تَعُودُوا فَلَوْ رَآكُمْ بَعْضُ سُفَهَائِكُمْ لَأَوقَعْتُمْ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا. ثُمَّ انْصَرَفُوا حَتَّى إِذَا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّانِيَةُ عَادَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ إِلَى مَجْلِسِهِ، فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ حَتَّى إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرَّقُوا، فَجَمَعَتْهُمُ الطَّرِيقُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مِثْلَ مَا قَالُوا أَوَّلَ مَرَّةٍ، ثُمَّ انْصَرَفُوا فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّالِثَةُ أَخَذَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَجْلِسَهُ، فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ حَتَّى إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرَّقُوا، فَجَمَعَتْهُمُ الطَّرِيقُ، فَقَالُوا: لَا نَبْرَحُ حَتَّى نَتَعَاهَدَ لَا نَعُودُ. فَتَعَاهَدُوا عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ تَفَرَّقُوا فَلَمَّا أَصْبَحَ الأخنس بن شريق أَخَذَ عَصَاهُ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى أبا سفيان فِي بَيْتِهِ فَقَالَ: أَخْبِرْنِي يَا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعتَ من محمد. فقال: يا أبا ثعلبة لَقَدْ سَمِعْتُ أَشْيَاءَ أَعْرِفُهَا وَأَعْرِفُ مَا يُرَادُ بِهَا. فَقَالَ الأخنس: وَأَنَا وَالَّذِي حَلَفْتُ بِهِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ حَتَّى أبا جهل فَدَخَلَ عَلَيْهِ بَيْتَهُ فَقَالَ: يَا أبا الحكم؛ ما رأيك فيما سمعتَ من محمد؟ فقال: ماذا سمعت؟! تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشَّرَفَ؛ أَطْعَمُوا فَأَطْعَمْنَا، وَحَمَلُوا فَحَمَلْنَا، وَأَعْطَوْا فَأَعْطَيْنَا حَتَّى إِذَا تَجَاثَيْنَا عَلَى الرُّكَبِ وَكُنَّا كَفَرَسَيْ رِهَانٍ، قَالُوا: مِنَّا نَبِيٌّ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنَ السَّمَاءِ، فَمَتَى نُدْرِكُ هَذِهِ؟ وَاللهِ لَا نُؤْمِنُ بِهِ أَبَدًا، وَلَا نُصَدِّقُهُ. فَقَامَ عَنْهُ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ" [5].



فهذا موقف واضح الدلالة! لم يكن يمنع كفار قريش من الإسلام عدم القناعة بما يقوله محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يكن يمنعهم اختفاء الدليل، أو غياب الحُجَّة، أو ضعف المعجزة؛ بل على العكس كانوا منبهرين بالقرآن تمام الانبهار؛ حتى إن الرجل منهم -كما رأينا في القصة السابقة- لا يستطيع أن يمنع نفسه من السماع، وكأنها متعة لا تُقاوَم، ولذَّة لا يقدر على تركها، فتدفعه هذه المتعة، وتقوده هذه اللذَّة إلى البقاء ساهرًا على باب محمد صلى الله عليه وسلم يستمع القرآن! لم يكن يمنعهم إذن سبب عقلي أو منطقي، إنما كانت القبلية المقيتة التي أماتت ضمائرهم، وقضت على واقعهم ومستقبلهم، فكانت هذه الكلمات الصريحة من أبي جهل تُعبِّر عن بواطن نفسه الخبيثة.



والمواقف الدالَّة على يقين أبي جهل بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرة، ومنها ما جاء عَنْ علي رضي الله عنه أنه قال: "إِنَّ أَبَا جَهْلٍ، قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّا لَا نُكَذِّبُكَ، وَلَكِنْ نُكَذِّبُ بِمَا جِئْتَ بِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33]" [6]. وعنه رضي الله عنه أيضًا قال: "قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم: قد نعلم يا محمد أنك تصل الرحم، وتصدق الحديث، ولا نكذبك؛ ولكن نكذب الذي جئت به. فأنزل الله عز وجل: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33]" [7].



ونلحظ أن الأخنس بن شريق في الموقف الأول قد وافق أبا جهلٍ فيما يقول، والأخنس أصلًا من قبيلة ثقيف، ثم صار حليفًا لبني زهرة، وقبيلته الأصلية ثقيف قبيلة غير قرشية، ودوافع القبلية عنده كبيرة، بل لعلها أكبر من دوافع أبي جهل، وهذا الذي أخَّر إسلام الأخنس إلى ما بعد فتح مكة، والكلام نفسه يُقال على أبي سفيان بن حرب الأموي، الذي تأخَّر إسلامه -أيضًا- للسبب نفسه.



كانت هذه القبلية المقيتة تنمو في نفس أبي جهل يومًا بعد يوم، حتى أعمت بصيرته تمامًا، فبدا كأنه قد فقد عقله، حتى تحوَّل من أبي الحكم -وهي كنيته أيام الجاهلية- إلى أبي جهل بعد ظهور الإسلام؛ لذا فقد رأينا رجلاً غير الذي اصطلحت مكة على زعامته وشرفه سنوات. لقد صار -بعدائه للحقِّ وكراهيته للنور- مَسْخًا مشوَّهًا للإنسان، وقاده كُفْرُه إلى سفاهةٍ ما رأيناها في جهلاء مكة وبسطائها.



وكان أبو جهل لا يمانع في أن يُظْهِر سفاهته هذه لزائري مكة، غير آبِهٍ بصورته ولا صورة قبيلته؛ إنما كان الذي يشغله فقط هو رفض الزعامة الهاشمية، التي ستكون محتَّمة إذا اعترف بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ظهرت هذه السفاهة واضحة في حواره مع المغيرة بن شعبة الثقفي؛ وذلك أثناء زيارته لمكة، وهذا بالطبع قبل إسلام المغيرة رضي الله عنه.



روى زيد بن أسلم، قال: قال المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: إنَّ أَوَّلَ يَوْمٍ عَرَفْتُ فِيهِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي أَمْشِي مَعَ أَبِي جَهْلٍ بِمَكَّةَ، فَلَقِينَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ: "يَا أَبَا الْحَكَمِ، هَلُمَّ إِلَى اللهِ وَإِلَى رَسُولِهِ وَإِلَى كِتَابِهِ، أَدْعُوك إِلَى اللهِ". فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مَا أَنْتَ بِمُنْتَهٍ عَنْ سَبِّ آلِهَتِنَا، هَلْ تُرِيدُ إلاَّ أَنْ نَشْهَدَ أَنْ قَدْ بَلَّغْتَ، فَنَحْنُ نَشْهَدُ أَنْ قَدْ بَلَّغْتَ. قَالَ: فَانْصَرَفَ عَنْهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَقْبَلَ عَلَيَّ، فَقَالَ: وَاللهِ إنِّي لأعْلَمُ، أَنَّ مَا يَقُولُ حَقٌّ، وَلَكِنْ بَنِي قُصَيٍّ قَالُوا: فِينَا الْحِجَابَةُ. فَقُلْنَا: نَعَمْ. ثمَّ قَالُوا: فِينَا الْقِرَى. فَقُلْنَا: نَعَمْ. ثمَّ قَالُوا: فِينَا النَّدْوَةُ. فَقُلْنَا: نَعَمْ. ثمَّ قَالُوا: فِينَا السِّقَايَةُ. فَقُلْنَا: نَعَمْ. ثمَّ أَطْعَمُوا وَأَطْعَمْنَا، حَتَّى إذَا تَحَاكَّتِ الرُّكَبُ، قَالُوا: مِنَّا نَبِيٌّ، وَاللهِ لاَ أَفْعَلُ [8].



هكذا يتكلَّم أبو جهل مع زوَّار مكة، دون حياء ولا خجل، وإن العصبيةَ القبليةَ لَتُعْمي العينَ حقًّا، وتُذهِب العقل صِدْقًا! ولم تكن هذه لحظات جهل عابرة مرَّت على أبي جهل، بل ظلَّ كذلك إلى آخر أيامه في الدنيا، ولقد رأت عاتكة بنت عبد المطلب عمَّةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا قُبيل بدر، وسنأتي إلى ذكرها في موضعها إن شاء الله، لكن ما يعنينا هنا هو ردُّ فعل أبي جهل لهذه الرؤيا؛ فقد كان من الممكن أن يأخذ الأمر ببساطة، ويعتبر أن الأمر مجرَّد أضغاث أحلام، وأن جميع الناس يُشاهدون في منامهم أمورًا عجيبة؛ لكنه لم يفعل ذلك؛ بل توتَّر توتُّرًا غريبًا، وتصرَّف تصرُّفًا همجيًّا، وخرج عن أعراف مكة والعرب! وقد روى لنا عروة بن الزبيررحمه الله هذا الموقف، فذكر أن أبا جهل لما سمع بأمر رؤيا عاتكة التقى العباس بن عبد المطلب أخاها، وعمَّ الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال له: "إِنَّا كُنَّا وَأَنْتُمْ كَفَرَسَيْ رِهَانٍ، فَاسْتَبَقْنَا الْمَجْدَ مُنْذُ حِينٍ، فَلَمَّا تَحَاذَتِ الرُّكَبُ قُلْتُمْ: مِنَّا نَبِيٌّ. فَمَا بَقِيَ إِلاَّ تَقُولُوا مِنَّا نَبِيَّةٌ، لاَ أَعْلَمُ فِي قُرَيْشٍ أَهْلَ بَيْتٍ أَكْذَبَ رَجُلاً، وَلاَ أَكْذَبَ امْرَأَةً مِنْكُمْ!" [9].



إنها صداقة قديمة تلك التي ينسفها أبو جهل في لحظة من لحظات توتُّره، فقد كان العباس بن عبد المطلب أحد المقرَّبين إليه، وكان في هذا الوقت على دينه، وكان يعيش معه في مكة بينما يعيش الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، فكلُّ المعطيات من المفترض أن تقود إلى نتيجة واحدة، وهي سعي أبي جهل لشراء ودِّ العباس، ولكن الحالة النفسية المتردِّية التي وصل إليها أبو جهل جعلته يتصرَّف بهذه الرعونة، ويفقد أصحابه الواحد تلو الآخر، وسنشاهد له مواقف أخرى يفعلها في الاتجاه نفسه مع أصدقائه المشركين عندما يرى فيهم ميلاً -ولو بسيطًا- لتقليل العداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل هذا نتيجة قبليَّته وعصبيته المتناهية! وكان حاله كحال فرعون حيث وصف الله تعالى دوافعه في رفض الإيمان بموسى عليه السلام فقال: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} [يونس: 78].



هذه العصبية، وتلك القبلية أو "القومية"، كانت من أبرز صفات الجاهلية، وما برح أعداء الإسلام يدخلون من هذا المدخل، ويُشعِلون تلك النعرة منذ القديم، وإلى زماننا الآن؛ فالعامل الذي أسقط به اليهود والإنجليز الخلافة العثمانية كان إشعال تلك النعرة، ففرَّقوا المسلمين إلى عرب وأتراك، والذي دخل به الفرنسيون الجزائر أيضًا، كان تفريق المسلمين إلى عرب وبربر، وما زالوا الآن يلعبون على الوتر نفسه، فجعلوا همَّ القضية الفلسطينية محمولاً على أكتاف الفلسطينيين فقط، وجعلوا قضية دارفور من شأن السودانيين فقط، وتعود مشكلة البوسنة، أو كشمير، أو بورما، أو الصومال، إلى "قوم" كل قُطْرٍ فقط، وهذا هو الذي قطَّع أوصال المسلمين، وشتَّت شملهم؛ إن هذه القبليَّة والعنصرية والقومية لَمِنْ شيم الجاهلية حقًّا، ولقد ذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم تصريحًا، فقال -كما روى أبو هريرة رضي الله عنه: "لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَفْتَخِرُونَ بِآبَائِهِمُ الَّذِينَ مَاتُوا إِنَّمَا هُمْ فَحْمُ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللهِ مِنَ الجُعَلِ الَّذِي يُدَهْدِهُ الخِرَاءَ بِأَنْفِهِ، إِنَّ اللهَ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالآبَاءِ، إِنَّمَا هُوَ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ، النَّاسُ كُلُّهُمْ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ" [10].



وإن تصوير رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبلغ من أي تعليق!



الكبر على الإيمان

وكان الكِبْر -أيضًا- من الموانع التي منعت الناس من الإيمان، وما أكثر الذين امتنعوا عن طريق الحقِّ بسبب هذا الخلق الذميم، ولقد ظهرت هذه الصفة مع بداية قصة الخلق، ومنذ آدم عليه السلام، يقول تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ} [البقرة: 34]. فاقتضى كِبْر إبليس هذا كفره وطرده من الجنَّة، وإبعاده عن رحمة الله تعالى.



عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ" قال رجلٌ: إنَّ الرجل يحبُّ أن يكون ثوبُهُ حسنًا ونعله حسنةً. قال: "إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ" [11]. فالكبر في تعريف رسول الله صلى الله عليه وسم هو بَطَرُ الْحَقِّ؛ أي إنكاره بعد معرفته، وغَمْطُ النَّاسِ أي احتقارهم [12].



وقد جسَّد القرآن الكريم هذه الصفة في نفوس أهل مكة حين حكى عنهم سبحانه قولهم: {وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا القُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31]. وكانوا يقصدون الوليد بن المغيرة في قرية مكة، وعروة بن مسعود الثقفي في قرية الطائف [13].



فكانوا يقولون: لو نزل هذا الأمر على رجل عظيم كمن في هاتين القريتين؛ لَكُنَّا آمنَّا بهذا الدين، والرسول صلى الله عليه وسلم -لا شك- أعظم الخلق؛ لكنهم كانوا يقيسون العظمة بكثرة الأموال، لا بقِيم الأخلاق، والدين، وشرف العقيدة.



ووضَّح الله تعالى أن مَنْ يتَّصف بهذا الخُلُق فإنه من الصعوبة بمكان أن يتَّبع الحقَّ؛ قال الله سبحانه: {سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَ يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 146].



الخوف على السيادة والحكم

وكان -أيضًا- من موانع الإسلام عند أهل مكة أنه كان منهم من منعه خوفه على السيادة والحكم في قومه، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ليُحَكِّم شرع الله عز وجل في أمور العباد، وهو صلى الله عليه وسلم ناقلٌ عن رب العزة؛ ومن ثمَّ فسيُسْحَب البساط من تحت أقدام الزعماء، كأبي سفيان، وأمية بن خلف وغيرهما؛ وذلك إن انتشر دين الإسلام بمكة، فكان الخوف على الحكم مُعوِّقًا ضخمًا للانخراط في الدعوات الصالحة.



الخوف على المصالح المالية

كذلك كان هناك مَنْ يخاف على مصالحه المالية؛ حيث كان الكثيرون مستفيدين من الوضع الحالي لمكة، بحالتها الكافرة؛ فمكة بلد آمن، وهي محط أنظار أهل الجزيرة العربية، والتجارة فيها على أفضل ما تكون، ولو حارب العربُ محمدًا صلى الله عليه وسلم؛ لتحوَّل البلد الآمن إلى منطقة فتن وحروب، وهو مما لا يُساعد على الربح أو التجارة، كما أن المشركين الذين يُمَثِّلون غالبية -أو كل- سكان الجزيرة العربية قد يرفضون القدوم إلى مكة بعد إسلامها؛ بل قد يحاصرونها اقتصاديًّا إذا آمن أهلها.



بل إن أهل مكة كانوا يرفضون أن ينتشر الإسلام في الجزيرة العربية حتى لو اختاروا هم الوثنية؛ لأنه لو آمن واحد من كبار التجار غير المكيين قد يدفعه هذا الإيمان إلى منع تجارته عن مكة نُصْرةً لمحمد صلى الله عليه وسلم، وإن مثل هذا ليس ببعيد؛ فقد حدث ذلك بالفعل بعد سنوات حينما أَسْلَم ثمامة بن أثال رضي الله عنه ملك اليمامة، فمنع الطعام عن مكة، فتأذَّت بسبب ذلك أذًى كثيرًا، فكان الخوف على المصالح المالية سببًا رئيسًا لعدم قبول بعض المشركين لفكرة الإسلام.

الخوف على الشهوات والملذات

وكان من أهل مكة مَنْ يخاف على شهواته وملذاته؛ فالإسلام دعوة إصلاحية تدعو إلى الفضيلة، ومكارم الأخلاق، والبُعد عن المعاصي والذنوب، وأهل الباطل لا يُريدون قيودًا أو حواجز بينهم وما تهفو نفوسهم إليه؛ ومن ثمَّ فإن الدعوات التي تمنع الزنا والإباحية، أو تُجَرِّم الظلم والفساد، لا بد أن تُحَارَب، وعلى قدر انغماس الرجل في شهواته وملذاته، على قدر ما تكون حربه للإسلام.



الغباء وعدم إعمال الفكر والعقل

وأيضًا وقف الغباء، وعدم إعمال الفكر والعقل، حاجزًا وسدًّا منيعًا لدى البعض من أهل مكة، منعهم من أن يدخلوا في الإسلام؛ فقد "اعتاد" مثل هؤلاء الاعتقاد أن الآلهة متعدِّدة، فحين أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ليُخبرهم أن الله تعالى واحد لا شريك له، امتنعت قلوبهم وعقولهم من قبول هذا الأمر الجديد؛ بل قالوا: {أَجَعَلَ الآَلِهَةَ إِلَهًا واحدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5]! لقد تَعَجَّبُوا من التوحيد! ولكن العجيب حقًّا هو أن يعتقد إنسانٌ أن في الكون أكثر من إله، يقول تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91]. وقال أيضًا: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء: 22]. إن العقل يُلزِم صاحبه أن يُوَحِّد الله، ولا يُشرك به شيئًا.



وقد وصل بهم الأمر إلى أن يناقضوا أنفسهم وعقولهم في قضية وحدانية الخالق سبحانه، فيحكي حالهم عز وج فيقول: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ للهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ للهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ للهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [المؤمنون: 84-90].



فإذا كان الله عز وجل متصرِّفًا في كل شيء كما تعترفون، فلماذا تُحَكِّمون غيره؟! ولماذا تُشركون معه سواه؟! وهذه هي النقطة التي انغلقت عقولهم عن الإجابة عنها.



ومن هذه الفئة كان هناك في مكة مَنْ منعه غباؤه عن استيعاب فكرة أن الله تعالى يُرسل رسولاً إلى البشر من البشر، ولم يُدرك عقله الحكمة من وراء ذلك؛ يصوِّر ذلك القرآن الكريم فيقول: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الهُدَى إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَسُولاً} [الإسراء: 94]، وبمنطقهم ردَّ عليهم سبحانه فقال: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلاَئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولاً} [الإسراء: 95]. وقال أيضًا: {وَقَالُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثمَّ لاَ يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رجلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9 - 8].



أيضًا كان هناك من الناس مَنْ منعه غباؤه من استيعاب فكرة البعث واليوم الآخر؛ ذلك الأمرُ الجديد الذي لم يخطر ببالهم؛ فقد كانوا يقيسون الأمور بأبعادها المحدودة المادية والملموسة، ولو أدركوا قدرة الله تعالى، لعلموا أنه لا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، يقول تعالى يحكي شأنهم: {وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [النحل: 38]. وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن الْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِعَظْمِ حَائِلٍ فَفَتَّهُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَيَبْعَثُ اللهُ هَذَا بَعْدَ مَا أَرَمَ؟ قَالَ: "نَعَمْ، يَبْعَثُ اللهُ هَذَا، يُمِيتُكَ، ثمَّ يُحْيِيكَ، ثمَّ يُدْخِلُكَ نَارَ جَهَنَّمَ". قال: فنزلت الآيات: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس: 77] إلى آخر السورة [14].



بل إن من الناس من أهل مكة مَنْ كان شديد الغباء حتى اعترض على القرآن الكريم نفسه! والقرآن الكريم كلام الله تعالى لا يُشبهه كلام البشر ولا يستطيعونه {لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]، وقد كان العرب في زمان رسول الله صلى الله عليه وسم أعلم أهل الأرض باللغة، وأكثرهم إتقانًا لها، وقد كانوا يعلمون تمام العلم أن هذا النَّظْم، وذاك التعبير ليس من مقدورهم، وليس في مقدور عموم البشر جميعًا، ولكن كان حالهم كما أخبر تعالى: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]. فقد وصفوا القرآن بالشعر، وقالوا عليه: إنه سحر. وقالوا: إنه كهانة. وغيرها من الأمور التي أطلقوها على كتاب الله، وأقنعوا بذلك أنفسهم أن يرفضوا دعوة الإسلام.



الخلاصة

بعد استعراض هذه الموانع وفقهها، نُدرك أن معظم أصحاب الرأي والسيادة والشرف في مكة رفضوا هذا الدين لسبب أو لآخر، وكلها أسباب فردية شخصية، لا تُعَبِّر عن مصلحة المجتمع، أو مصلحة مكة أو العرب بشكل عام، ونُدرك كذلك أنهم -في معظمهم- كانوا يُدركون الحقَّ، ويختارون مخالفته عن عمد؛ ولكنهم لا يستطيعون أمام الرأي العام أن يقولوا مثل هذا الكلام، فلا يستطيعون أن يجهروا أنهم لأجل مصالحهم الشخصية يُضَحُّون بمستقبل مكة كلها؛ لذلك آثروا أن يختاروا قضايا معينة واضحة في دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويناقضونها، ويدَّعون أنها باطل، أو يدَّعون أنها مخالفة للعقل والمنطق، وأنهم لأجل هذه المخالفة يرفضون الانخراط في هذا الدين، ويرفضون الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد كانت القضايا التي اختاروها محدَّدة ومعلومة؛ لعلَّ من أشهرها مسألة توحيد رب العالمين، التي يمكن أن تسحب البساط من تحت أقدام آلهتهم وسدنتها، ومسألة البعث يوم القيامة، التي ستجعل كل فرد منهم يحسب حسابًا لكل عمل يعمله، ويقيسه على ميزان الشريعة والدين، بينما هو يُريد أن يعيش على هواه، ومسألة إرسال الله صلى الله عليه وسلم لرسول من البشر، وهذه ستعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم قدرًا لا يستطيعون أن ينافسوه فيه، ومسألة القرآن الكريم الذي أعجز شعراءهم وبلغاءهم وأهل الخطابة واللغة فيهم، وأشعرهم بنقصهم وقلة حيلتهم؛ ومن ثمَّ رفضوا شكله ونظمه، وادَّعوا عليه أنه سحر أو شعر أو كهانة، أو غير ذلك من افتراءاتهم.



هذه هي الأمور التي سيعلنون أمام الناس أنهم يرفضونها؛ ومن ثمَّ يُصبح شكلهم الخارجي منطقيًّا أمام الرأي العام، خاصة أن عموم أهل مكة لم يكن لهم رأي في المسألة، إنما كانوا فقط يسيرون وراء كبرائهم وأسيادهم، وهو ما حكاه القرآن الكريم في أكثر من موضع؛ قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلاَ بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلاَ أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلاَلَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سبأ: 31 - 33].



والخلاصة أنهم قرروا الاعتراض على هذه الدعوة الجديدة، وسلوك كل مسلك في منع الناس عن اتباعها، واتبعوا في ذلك طرقًا قديمة حديثة، كانت تُستعمل قبل ذلك مع سائر الأنبياء، واستعملوها هم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما زالت تُستعمل حتى يومنا هذا! قال تعالى: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات: 53].

___________________

[1] هو: صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، أُمُّه أم كلثوم بنت سعد بن أبي وقاص، متفق على توثيقه، وكان قليل الحديث، مات بالمدينة في خلافة هشام بن عبد الملك (105-125هـ) في ولاية إبراهيم بن هشام على المدينة (106-113هـ)، وقال ابن قانع: مات سعد بن إبراهيم سنة سبع وعشرين ومائة ومات أخوه صالح قبله. انظر: ابن سعد: الطبقات الكبرى 5/363، وابن حجر: تهذيب التهذيب 4/380، وكان يُحَدِّث عن أبيه إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وهو من رجال البخاري ومسلم، وكذلك عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وغيرهما، ولذلك فروايته المرسلة مقبولة.

[2] العَوْذ هكذا عند ابن إسحاق وابن هشام: الملجأ من عاذ به يَعُوذُ عَوْذًا وعِياذًا ومَعاذًا لاذ فيه ولجأَ إِليه واعتصم. انظر: ابن منظور: لسان العرب، 3/498، وفي رواية الطبري، وابن كثير (البداية والنهاية 4/39) والصالحي: العَوْد. وقال ابن الأعرابي: أُبَيُّ بن خلف الجمحي يقال لفرسه: العَوْد. انظر: ابن الأعرابي: أسماء خيل العرب وفرسانها ص30، والغندجاني: ذكر أسماء خيل العرب وأنسابها وذكر فرسانها ص171، وقال الفيروزآبادي: العَوْدُ: الرُّجوعُ كالعَوْدَةِ والمَعادِ والصَّرْفُ والرَّدُّ وزِيارَةُ المَريضِ... والعَوْد: ثانِي البَدْءِ كالعِيادِ والمُسِنُّ من الإبِلِ والشَّاءِ... والعَوْد: الطريقُ القديمُ وفَرَسُ أُبَيِّ بنِ خَلَفٍ. انظر: الفيروزآبادي: القاموس المحيط ص302.

[3] ابن إسحاق: السير والمغازي ص331، وابن هشام: السيرة النبوية 2/84، والطبري: تاريخ الرسل والملوك 2/518، 519، وقال الصالحي: روى البيهقي عن سعيد بن المسيب، وأبو نعيم عن عروة: أن أبي بن خلف قال حين افتدي من الأسر ببدر: والله إن عندي العود فرسًا أعلفها كلَّ يوم فرقًا من ذرة، ولأقتلنَّ عليها محمدًا. فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "بَلْ أَنَا أَقْتُلُهُ إِنْ شَاءَ اللهُ". انظر: الصالحي: سبل الهدى والرشاد 4/208؛ والبيهقي: دلائل النبوة 3/211، وأبو نعيم الأصبهاني: دلائل النبوة ص483، وقريب من ذلك ما رواه ابن سعد بسنده: "عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ الْجُمَحِيَّ أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَلَمَّا افْتُدِيَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال لرسول الله. صلى الله عليه وسلم: إِنَّ عِنْدِي فَرَسًا أَعْلِفُهَا كُلَّ يَوْمٍ فَرَقَ ذُرَةٍ لَعَلِّي أَقْتُلَكَ عَلَيْهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ. صلى الله عليه وسلم: بَلْ أَنَا أَقْتُلُكَ عَلَيْهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ". انظر: الطبقات الكبرى 2/35، وقال محمد بن محمد العواجي عن رواية ابن سعد: وهو مرسل حسن إلى سعيد بن المسيب، وقد وصله الحاكم. انظر: محمد بن محمد العواجي: مرويات الإمام الزهري في المغازي 1/369.

[4] ابن إسحاق: السير والمغازي ص331، وابن هشام: السيرة النبوية 2/84، وابن سعد: الطبقات الكبرى 2/35، والطبري: تاريخ الرسل والملوك 2/518، 519. الشعراء ذباب له لدغ. ابن هشام: تدأدأ: تقلَّب عن فرسه فجعل يتدحرج. إن بك من بأس؛ أي: ليس فيك جرح يستدعي الخوف. سرف: موضع على ستة أميال من مكة.

[5] ابن إسحاق: السير والمغازي ص189، 190، وابن هشام: السيرة النبوية 1/315، 316، والبيهقي: دلائل النبوة 2/206، 207. تجاثينا: أي جلسنا على الرُّكب للخصومة. كَفَرَسَيْ رِهَانٍ: مَثَلٌ يُضرب للمتساويين في الفضل.

[6] رواه الترمذي (3064)، وقال الفالوذة: إسنادُهُ صحيحٌ. انظر: الموسوعة في صحيح السيرة النبوية (العهد المكي) ص305.

[7] الحاكم (3230)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقال خالد بن سليمان المزيني: إن سبب النزول وإن كان مرسلاً فإن موافقته للفظ الآية وتصريحه بالنزول، وسياق المفسرين له عند تفسيرها يدل على أن له أصلاً والله أعلم. انظر: المحرر في أسباب نزول القرآن من خلال الكتب التسعة 1/525.

[8] البيهقي: دلائل النبوة 2/207، وقال الصوياني: حديث حسن. انظر: السيرة النبوية، 1/156، وقال محمد بن رزق بن طرهوني: إسناده حسن. انظر: صحيح السيرة النبوية 2/41، 42، وحاشيتها رقم (414) 2/311.

[9] الطبراني: المعجم الكبير، (20881)، وقال الهيثمي: رواه الطبراني مرسلاً، وفيه ابن لهيعة، وفيه ضعف وحديثه حسن. انظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 6/71، وقال الصوياني: هذا الخبر حسن بطرقه. انظر: الصوياني: السيرة النبوية 2/51-54.

[10] أبو داود: كتاب الأدب، باب في التفاخر بالأحساب (5116)، والترمذي (3955)، واللفظ له، وقال: حديث حسن. وأحمد (10791)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده حسن. وصححه الألباني، انظر: صحيح الجامع (1787). الجُعَل: دويبة سوداء تدير الغائط يقال لها: الخنفساء. الْعُبِّيَّة: الكِبْر والنخوة وأصله من العَبِّ وهو الثِّقَل.

[11] مسلم: كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه (91)، والترمذي (1999)، وأحمد (3789)، وابن حبان (5466).

[12] انظر: النووي: المنهاج 2/90.

[13] الطبري: جامع البيان 21/593، والماوردي: النكت والعيون 5/223، والبغوي: معالم التنزيل 3/541، وقال أ. د. حكمت بن بشير بن ياسين: أخرجه الطبري بسنده الحسن. انظر: الصحيح المسبور من التفسير بالمأثور 4/302.

[14] الحاكم (3606) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، والهيثمي: بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث (719). وصححه الألباني انظر: صحيح السيرة 1/201. عظم حائل؛ أي: متغير قد غَيَّره البِلى، وكلُّ متغير حائلٌ، فإذا أتت عليه السَّنَةُ فهو مُحِيل، كأنه مأخوذ من الحَوْل السَّنَة. فَتَّه: دقَّه وكَسَره، وقيل: كسره بأصابعه. أرم: فني وهلك.


الساعة الآن 04:35 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Content Relevant URLs by vBSEO 3.3.0 , Designed & TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة لمنتدى قصة الإسلام