الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فليس في قوله تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6] وما في معناه أن كل الدواب لا بدّ أن ترزق بما يكفيها، أو أن يبسط لها في رزقها!
وإنما معناه أن الله تعالى -بقدرته، وعلمه- قد تكفل بأرزاق الخلائق جميعًا، على اختلاف أنواعها، فمنهم من يبسط له في رزقه، ومنهم من يقدر عليه فيه، كما قال سبحانه: لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الشورى:12]، فيكون المقصود بالآية أن كل أنواع الرزق إنما هي من الله تعالى وحده دون غيره، فيلزم من ذلك إثبات صفات الكمال لله عزّ وجلّ، كالعلم، والقدرة، قال الخطيب الشربيني في تفسيره: السراج المنير: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها}، فذكر تعالى أن رزق كل حيوان إنما يصل إليه من الله تعالى، فلو لم يكن عالمًا بجميع المعلومات؛ لما حصلت هذه المهمات. اهـ.
وقال ابن الجوزي في زاد المسير: إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها) قال العلماء: فضلًا منه، لا وجوبًا عليه. و«على» ها هنا بمعنى «مِنْ». اهـ.
وهذا لا يتعارض مع كون بعض الدواب -كما هو حال البشر-، قد لا يجد ما يسد به رمقه، بل قد يموت جوعًا، كما أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن مجاهد في تفسير هذه الآية، قال: يعني ما جاءها من رزق، فمن الله، وربما لم يرزقها؛ حتى تموت جوعًا، ولكن ما كان لها من رزق، فمن الله. اهـ.
وقال البغوي في تفسيره: أي: هو المتكفل بذلك فضلًا، وهو إلى مشيئته: إن شاء رزق، وإن شاء لم يرزق.
وقيل: (على) بمعنى (من)، أي: من الله رزقها. اهـ. ثم ذكر تفسير مجاهد.
ثم بالنسبة لخصوص المكلّفين من البشر، هناك ملمح آخر، وهو مبنى التكليف، والتشريع، حيث ابتلاهم الله تعالى بالأمر والنهي، والسراء والضراء؛ استخراجًا لعبادتي: الشكر، والصبر، كما يشير إليه قول الله عز وجل: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِين. الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157].
ثم إن الله تعالى قد أمر الأغنياء بإعطاء الفقراء، والإحسان إليهم، وجعل في مجموع المال ما يكفي الجميع، إن هم امتثلوا لذلك، قال الفتني في مجمع بحار الأنوار: فإن قلت: بعض الفقراء يموتون جوعًا، فكيف بالوعد؟
قلت: أغنى الله الأغنياء مما يكفيهم، وجعل فيما أعطاهم حقًّا لنفسه، وأحال الفقراء عليهم من حقّه، فبرئ مما وعده، والعهدة عليهم. اهـ.
الرزق وبسطه وتضييقه كل ذلك من الله تعالى، وبقضائه وقدره، كما قال تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ {الحجر: 21}.
وقال تعالى: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {العنكبوت: 62}.
وقال تعالى: أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ {الزمر: 52}. ومعنى يقدر: يضيق.
وليس أحد من البشر يستطيع أن يغير من رزقه الذي قدره الله شيئاً، ولكن يجب أن يعلم أنه سبحانه يجري الرزق على عباده بحسب ما قدر من أسباب لذلك، قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ {الملك: 15}.
وقال تعالى: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ {العبكبوت: 17}.
والأخذ بأسباب الرزق لا يتنافى مع كون الرزق مقدراً من الله، فهذه مريم بنت عمران، أمرها الله تعالى بمباشرة أسباب الرزق فقال تعالى: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا {مريم: 25}.
قد تكون المصائب وقله الرزق التي يبتلى بها انسان تنبيها له من الله ليتوب ويرجع قبل فوات الأوان، وقد تكون عقوبة له في الدنيا نظير ظلمه لنفسه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه.... رواه أحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وحسنه السيوطي.