منتدى قصة الإسلام

منتدى قصة الإسلام (http://forum.islamstory.com//index.php)
-   الشريعة و الحياة (http://forum.islamstory.com//forumdisplay.php?f=99)
-   -   إسلامية محمد الفاتح (http://forum.islamstory.com//showthread.php?t=127587)

المراقب العام 15-12-2020 07:13 AM

إسلامية محمد الفاتح
 
http://i39.servimg.com/u/f39/14/26/64/84/untitl10.gif

https://islamstory.com/images/upload...8%A7%D8%A7.png



إسلامية محمد الفاتح .. والشبهات التي حاول الغربيون أن يتهموه بها لتقليل قدره عند المسلمين

أوَّلًا: إعلان الإسلاميَّة:
قال الفاتح:
«نيَّتي: امتثالي لأمر الله: وجاهدوا في سبيل الله..
وحماسي: بذل الجهد لخدمة ديني.. دين الله..
وعزمي: أن أقهر أهل الكفر جميعًا بجنودي، جند الله..
وتفكيري: منصَبٌّ على الفتح، على النصر، وعلى الفوز، بلطف الله..
وجهادي: بالنفس والمال، فماذا في الدنيا بعد الامتثال لأمر الله..
وأشواقي: الغزو.. الغزو.. مئات الآلاف من المرَّات لوجه الله..
ورجائي: في نصر الله، وسموُّ الدولة على أعداء الله..»[1]!



هذه الأبيات الشعرية الرقيقة توضِّح لنا المنطلق الذي كان يتحرك منه الفاتح رحمه الله. لم يكن عمله عاديًّا، إنما بارك الله فيه حتى بقيت آثاره عدة قرون بعد موته، وحفر اسمه في التاريخ مع أنه مات وهو في التاسعة والأربعين من عمره فقط، وأحسب أن هذا كان بسبب المنطلق الإسلامي الصرف الذي كان يتحرك منه. لقد دافع عنه الله في مواقف متعددة من حياته. حاربه أعداء لا حصر لهم، واجتمع عليه العمالقة في زمانه، وكان الله ينجيه من كل أزمة. نعم أصيب وتعرَّض لهزائم لكنه لم ينكسر أبدًا، إنما كان يقوم أقوى وأشد.



لقد انعكست إسلامية الفاتح على جوانب كثيرة من حياته، فلم يكن الفاتح رحمه الله مجرَّد قائدٍ عسكريٍّ يُحقِّق نجاحات، ويُوَسِّع من أملاك دولته حتى يُحوِّلها إلى إمبراطوريَّة، ولكنَّه كان في المقام الأوَّل مجاهدًا في سبيل الله يُحقِّق المجد لأمَّة الإسلام قبل أن يُحقِّقه لنفسه أو للعثمانيِّين. إنَّ هذا الأمر واضحٌ جدًّا في سيرته، سواءٌ في أقواله أم في أفعاله، ولئن كان بعض القادة يستطيعون ادِّعاء هذه الإسلاميَّة في موقفٍ أو مواقف فإنَّهم لا يستطيعون فعل ذلك على مدار ثلاثين سنة متَّصلة إلَّا إذا كان اتِّجاههم هذا صادقًا ومقصودًا.



إنَّ أهداف القادة والفاتحين كثيرة، ولكن أعلاها شأنًا وأعظمها قيمة، ما كان لله عزوجل، وما كان لإعلاء كلمة الدين، وإعزاز شأن الأمَّة..



عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ، فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ قَالَ: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ»[2].



ونحن لا نطَّلع على القلوب، إنَّما لنا الظاهر، والقلب لا يعلمه إلَّا الله، ولذلك يحكم الناس على الأشخاص بما يرونه من ظاهر أعمالهم، ولهذا وجب على القادة والزعماء والعلماء وعامَّة القدوات أن «يُعلنوا» إسلاميَّتهم بشكلٍ واضحٍ في كلِّ أعمالهم، فهنا «يَرى» الناسُ الأفعالَ والنتائج الناجحة على أنَّها إضافةٌ لأمَّة الإسلام وليست مجرَّد إضافةٍ للشخص الناجح، وهذا يُمثِّل دعوةً صالحةً عظيمةً لكلٍّ من المسلمين وغير المسلمين، فلا يستقيم هنا للقائد أن يُخْفِي إسلاميَّته ويتذرَّع بأنَّ هذا أدعى للإخلاص، أو أصلح للدولة وأكثر أمانًا لها؛ لأنَّ كلَّ نجاحٍ سيُحقَّق سيُنسب له ولجيشه لا لله عزَّ وجل، وسيكون المجد لعائلته وحكومته وليس للأمَّة وتاريخها.



إنَّ الناس تُعظِّم شأن الإسكندر الأكبر، أو چنكيز خان، أو رمسيس الثاني، وهي لا تعرف شيئًا عن دينهم، لأنَّهم ما كانوا يُحقِّقون أمجادهم بغية نصر الدين، أو إعزاز العقيدة؛ إنَّما هي أمجادٌ شخصيَّةٌ نُسِبَت إليهم.. كانوا يُقاتلون للمغنم، وللذكر، وليُرى مكانهم.. أمَّا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أو خالد بن الوليد رضي الله عنه، أو ألب أرسلان، أو صلاح الدين الأيوبي، أو قطز، أو محمد الفاتح، فإنَّهم لا يُذْكَرون إلَّا ويُذَكر «الإسلام».. فأيُّ عظمةٍ أكبر من هذه؟! لقد صارت كلمة الله عالية عندما رفع هؤلاء سيوفهم وانطلقوا في ربوع الدنيا يُدافعون عن هذه العقيدة السامية، وهذا الدين العظيم، وأعلنوا ذلك للعالم أجمع، ففهمه القريب والبعيد، والصديق والعدو، والمعاصر والذي جاء من بعدهم بقرون..



هذا هو المجد..

من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا..

كان الفاتح رحمه الله حريصًا على إظهار هذا المعنى في كلِّ حياته..



ها هو في عام 1453م، في بداية أيَّام حكمه، يُشاهد العَلَم العثماني يُرفرف فوق أحد أبواب القسطنطينية، فيعلم أنَّ عمليَّة الفتح قد نجحت، فيترجَّل عن حصانه، ويخرُّ ساجدًا لله حمدًا له على هذا النجاح العظيم[3].


ثم ها هو يسير بحصانه في الشارع المؤدِّي إلى كنيسة آيا صُوفيا، وعندما يصل إلى بابها يترجَّل ثانية، وينحني إلى الأرض ليأخذ حفنةً من التراب ينثرها فوق عمامته خضوعًا لله، وإظهارًا للتواضع له[4]!



هل هناك «إعلانٌ» أوضح من هذا؟!


إنَّه يُعلن للجميع، من المسلمين والبيزنطيِّين، ومن المعاصرين والمؤرِّخين على مدار العصور، أنَّ الذي حقَّق هذا النصر هو الله عزوجل وليس محمدًا الفاتح أو جيشه، وهذه -والله- أبلغ دعوة، وأعظم تعريفٍ بالإسلام.


ثم ها هو الفاتح في آخر حملاته العسكريَّة، في عام 1478م في ألبانيا، وبعد خمسٍ وعشرين سنة من الموقف الأوَّل، يقول عندما وصله نبأ فتح ليزهي Lezhe: «هذا نصرٌ أعطاه الله لي»[5]!
وبين هذين الموقفين عشرات ومئات المواقف من النوع نفسه..



ولكونه كان «مُعْلِنًا» لهذه الروح الإسلاميَّة فإنَّها انتقلت بالتبعيَّة لجيشه..



في فتح القسطنطينية لم يتوقَّف الجنود عن التكبير، وكان رجال الدين يتجوَّلون بين الصفوف يتلون الأدعية، ويُردِّدون الآيات القرآنيَّة، والأحاديث النبويَّة التي تحثُّ على الجهاد في سبيل الله[6].

وبعد خمسٍ وعشرين سنة من هذا الموقف كان الجنود يُردِّدون في حملة ألبانيا عام 1478م، وهم يُحاصرون قلعة شقودرة: «الله.. الله»، وكان هذا هو ترديدهم كذلك عند حصارهم لقلعة درشت Drisht في الحملة نفسها[7]..



وانظر إلى طريقة تعبير قادة الجيش عن النصر، فقد ذكر المؤرِّخ التركي كيڤامي، وهو معاصرٌ للفاتح، أنَّ الجنود فتحوا قلعة درشت ولم يكن الفاتح موجودًا فأرسلوا له رسالةً تُخبره بالنصر قالوا فيها: «قضى الله العليُّ العظيم أن تُؤخذ هذه القلعة»[8]!



وكان المؤرِّخون المعاصرون للفاتح أمثال عاشق زاده، وطورسون، وكيڤامي، وإدريس البدليسي يفقهون هذا النهج من محمد الفاتح، ويعرفون هدف الجيش، بل يعرفون أنَّ هذا هو هدف الدولة كلِّها، ولهذا جاءت كتاباتهم واضحة للغاية بهذا الشأن، وإذا أخذنا تعبيراتهم عن حملة الفاتح الأخيرة في ألبانيا عام 1478م كمثال وجدنا ما يُوَضِّح لنا هذا المعنى، فعاشق زاده لا يصف جيش الفاتح إلَّا بلفظ «الجيش الإسلامي»[9] وكذلك يفعل كيڤامي، حيث يقول دومًا: «الجيش الإسلامي، أو الجنود المسلمون»[10]، فليس الأمر خاصًّا -في فهمهم- بالعثمانيِّين أو الأتراك، إنَّما بالمسلمين، وها هو إدريس البدليسي يصف الحرب في ألبانيا بالحرب المقدَّسة[11]، أمَّا طورسون بك فيصف نصر الجيش العثماني في الحملة بقوله: «هذه هي الطريقة التي تحوَّلت بها هذه الأرض البكر إلى أرضٍ (إسلاميَّة)»[12]، فهو يُدرك أنَّ الأرض صارت «إسلاميَّة»، وليست عثمانيَّة..



ولم تكن هذه المشاعر الإسلامية الفيَّاضة في أرض القتال فقط، بل دفعته هذه الروح الإسلاميَّة إلى إحاطة نفسه بالعلماء الشرعيِّين، ولقد كانت ولايته بداية عهدٍ جديدٍ في الدولة العثمانيَّة؛ حيث أنفق الفاتح استثمارات كبرى تهدف إلى جذب العلماء من العالم الإسلامي إلى إمبراطوريَّته[13]، وكان الفاتح يستمتع بصحبة العلماء، ويحرص على تنظيم المحاورات الشرعيَّة بينهم أمامه[14]، وعندما بنى مسجده الشهير في إسطنبول أحاطه بثمانية مدارس دينيَّة فقهيَّة لتستوعب العلماء وطلبة العلم من كلِّ مكان[15]، ولقد لفت اهتمامُ الفاتح بالأمور الشرعيَّة نظر المؤرِّخين حتى قالت المؤرِّخة الإنجليزيَّة كارولين فينكل Caroline Finkel: «إنَّ التصميم الذي اختاره الفاتح لمـُجَمَّع المسجد والمدارس هو تصميمٌ مقصود، حيث جعل المسجد في الوسط محاطًا بالمدارس حوله ممَّا يُعطي الانطباع بسيطرة العلوم الشرعيَّة الدينيَّة على مسار الدولة»[16].



لقد كانت حياته إسلاميَّة بالدرجة الأولى..


وإنَّه من الجميل أن تطالع آراء العلماء المسلمين الذين تخصَّصوا في كتابة السير وتاريخ الرجال فيما كتبوه عن السلطان الفاتح، فإنَّهم لا يكتفون بالحديث عن قوَّة دولته، أو اتِّساع ملكه، إنَّما دومًا يلفتون النظر إلى إسلاميَّته، وحبِّه للشريعة، واهتمامه بالدين، فقد قال زين الدين الملطي -وهو معاصرٌ له- في وصفه: «وانتشر عدله في الآفاق، مع العقل والتديُّن، والمعرفة والفضل الغزير، والعلم، والكرم»[17]، وقال قطب الدين النهروالي : «أعظم الملوك اجتهادًا، وأقواهم فؤادًا، وأكثرهم توكُّلًا على الله واعتمادًا، وهو الذي أسَّس مُلْك بني عثمان، وقنَّن لهم قوانين صارت كالأطواق في أجياد الزمان، وله مناقب جميلة، ومزايا فاضلة جليلة، وآثار باقية في صفحات الليالي والأيَّام، ومآثر لا يمحوها تعاقب السنين والأعوام، وغزوات كسر بها أصلاب الصلبان والأصنام»[18]!



أمَّا المؤرخ الشهير ابن العماد الحنبلي فقد أسهب في وصف محاسنه، وشرح فتوحاته وإنجازاته، حتى قال: «وقد أسَّس في إسطنبول للعلم أساسًا راسخًا لا يُخشى على شمسه الأفول، وبنى بها مدارس كالجنان لها ثمانية أبواب، سهلة الدخول، وقنَّن بها قوانين تُطابق المعقول والمنقول، فجزاه الله خيرًا عن الطلاب، ومنحه بها أجرًا، وأكبرَ ثواب... وأنَّه رحمه الله تعالى استجلب العلماء الكبار من أقصى الديار، وأنعم إليهم، وعطف بإحسانه إليهم، كمولانا علي القوشجي، والفاضل الطوسي، والعالم الكوراني، وغيرهم من علماء الإسلام، وفضلاء الأنام، فصارت إسطنبول بهم أمَّ الدنيا، ومعدن الفخار والعلياء، واجتمع فيها أهل الكمال من كلِّ فنٍّ، فعلماؤها إلى الآن (آخر القرن السابع عشر الميلادي) أعظم علماء الإسلام»[19]!



وقال العالم الكبير الشوكاني: «وكان مائلًا إلى العلماء مقرِّبًا لهم، يخلطهم بنفسه ويأخذ عنهم في كلِّ علم، ويُحسن إليهم، ويستجلبهم من الأقطار النائية، ويُراسلهم، ويفرح إذا دخل مملكته واحدٌ منهم»[20].



أمَّا العَّلامة المصري الشهير الإمام السيوطي فقد وصفه بأنَّه «محيي الدين»[21]، وكان السيوطي معاصرًا للسلطان الفاتح، وشهادته مهمَّةٌ للغاية، ليس فقط لأنَّه من كبار علماء المسلمين، ولكن لكونه يعيش في دولة المماليك المنافِسة للسلطان الفاتح، فجاءت هذه الشهادة المجرَّدة كدليلٍ جليٍّ على وضوح نصرة الفاتح للدين، ومثل السيوطي نجد العلاَّمة السخاوي، وهو معاصرٌ كذلك للسلطان الفاتح، ومن أهل القاهرة، يقول في حقِّه: «وُصف بمزاحمة العلماء، ورغبته في لقائهم، وتعظيم من يَرِد عليه منهم»[22]، بل يؤكِّد السخاوي أنَّ السلطان الفاتح كان كثير المراسلة للمحيوي الكافياجي، وكثير الإهداء له[23]، والمحيوي الكافياجي من كبار علماء الشريعة القاطنين في القاهرة آنذاك.



هذا هو السلطان الفاتح رحمه الله!


لقد رأينا بجلاء كيف أنَّ علماء الإسلام المعاصرين له ينتبهون دومًا إلى دينه، وجهاده، وحبِّه للعلم والعلماء، فكان من الواضح أنَّ هذه الصفات كانت من أبرز صفاته، وكان من الواضح كذلك أنَّ هذه الصفات كانت ملازمةً له في كلِّ حياته؛ لأنَّ كلَّ هؤلاء العلماء كتبوا هذه الكلمات بعد وفاة الفاتح رحمه الله، فهم قد شهدوا حياته كاملة، ومن الجدير بالذكر أن نُشير إلى أنَّ كلَّ من ذكرناه من العلماء لم يكن يعيش في الدولة العثمانيَّة حتى يُتَّهم بالانحياز إلى السلطان الفاتح، بل على العكس كان معظمهم من أهل دولة المماليك المصريَّة، التي كانت على خلافٍ مع العثمانيِّين.



ولم يكن هذا الوضوح لإسلاميَّة الفاتح ظاهرًا للمسلمين فقط؛ بل رآه وأدركه زعماء النصارى في العالم أجمع، ولم تكن نظرة زعماء الغرب للفاتح نظرتهم لعدوٍّ «لأوروبا»، أو «إيطاليا»، بل كانوا ينظرون إليه كعدوٍّ «للنصرانية»، ولا يكون هذا إلَّا إذا كان واضح الإسلاميَّة، فهو لا يُريد «عثمنة»، أو «تتريك» أوروبا أو البلقان؛ إنَّما يُريد «أسلمتها»، وهذا هو الذي فهمه البابا وغيره من زعماء الغرب، فجاءت كلماتهم عند موت الفاتح شارحةً لهذا المعنى.



ولقد ذكر المؤرِّخ الألماني بابينجر Babinger أنَّ البابا بيوس الثاني كان يَعُدُّ محمدًا الفاتح هو العدوُّ الرئيس «للمسيحية» في العالم[24]، وفي موضعٍ آخر عند وفاة الفاتح ذَكَر أنَّ محمدًا الفاتح هو العدوُّ الخالد للمسيحية[25]، وفي رسالة استيفين الثالث أمير البغدان إلى ملك المجر ماتياس في عام 1475م وصف الفاتح بأنَّه «عدوُّ المسيحية»[26]، وذكرت الباحثة الفنلنديَّة، والمتخصِّصة في تاريخ الكنيسة، كيرسي سالونيه Kirsi Salonen أنَّ محكمة الباباويَّة العليا Sacra Romana Rota، وهي أعلى سلطة دينيَّة في الڤاتيكان، أخذت عطلةً غير تقليديَّة يوم 4 يونيو 1481م؛ وذلك للاحتفال بموت محمد الفاتح بعد وصول الخبر إليهم! وعلَّلت الباحثة هذا الإجراء غير التقليدي بأنَّه احتفالٌ بموت العدوِّ الرئيس للنصرانية «The arch enemy of Christendom»[27]، وأبلغ وأعمق من كلِّ ما سبق ما ذكره القسُّ الإنجليزي كينيث كراج Kenneth Cragg، وهو يصف حال الإمبراطوريَّة العثمانيَّة عند وفاة الفاتح فيقول: «عند وفاة محمد الثاني كانت الإمبراطوريَّة العثمانيَّة هي أعظم قوَّة عسكريَّة وفكريَّة على وجه الأرض، وكانت لها القيادة في الرياضيَّات، والفلك، ودراسات الفلاسفة اليونانيِّين.



لقد كانت ديانة النبيِّ محمد (ﷺ) هي العقيدة المتغلِّبة، والقوَّة الدافعة في المعرفة والثقافة»[28]! فانظر كيف ربط القسُّ الإنجليزيُّ بين جهد محمد الفاتح ودين النبيِّ محمد ﷺ، وتدبَّر كيف أنَّه لم يُعلِّل هذا النجاح الباهر للسلطان الفاتح بعبقريَّته أو قوَّته؛ إنَّما أرجع ذلك إلى القوَّة الذاتيَّة لدين الإسلام، فأيُّ دعوةٍ أعظم من هذا؟! ولم يكن هذا الانطباع الذي جاء عند الزعماء والقساوسة إلَّا بسبب وضوح إسلاميَّة القائد العظيم محمد الفاتح.



من هذا المنطلق يمكن أن نفهم السرَّ وراء اختيار نوع الشبهات التي حاول الغربيون أن يتهموا بها الفاتح لتقليل قدره عند المسلمين وعند العالم بشكلٍ عامٍّ، فهي في معظمها شبهات تتعلق بالدين، وكأنهم يريدون محو هذه الصورة الإسلامية التي انطبعت بشكل تلقائي في ذهن كل مَنْ يقرأ سيرته وحياته رحمه الله، فاتهمه البعض مثلًا بشرب الخمر[29]،[30]، ومع أن الغرب يشرب الخمر دون حرج، وكل الملوك والأمراء الأوروبيين يعاقرون الخمر، لكن لأن هذا محرَّم في الإسلام فإن رمي الفاتح به سوف يقدح في إسلاميته، وبالتالي لا تُضاف انتصاراته وإنجازاته إلى الإسلام؛ بل إليه هو شخصيًّا أو للعثمانيين، وهذا أهون عندهم، لأنه محدود بفترة معينة بعكس الإسلام الباقي أبد الدهر.



ومثل هذا يقال على اتهامه بقتل أخيه الذي لم يتجاوز عامين[31]، أو اتهامه بالوحشية والعنف[32]، بل اتهامه بالمثلية والشذوذ الجنسي[33]،[34]، وكلها اتهامات واهية لا ترقى إلى الحقيقة، ولا قريبًا منها، وتحمل الكثير من التناقض؛ لأن المصادر التي اتهمته هي نفسها المصادر التي ذكرت إسلاميته، وورعه، وحرصه على أحكام الشريعة، وتوقيره للعلماء، وكلها أمور لا تتناسق مع هذه الاتهامات البشعة.



لقد كان الفاتح رحمه الله حريصًا على «إعلان» إسلاميته في كل مراحل حياته، ولهذا أكثر من بناء المساجد في ربوع الدولة العثمانية، وفي كل مدينة يتم فتحها، وعلى سبيل المثال، فقد أحصت الدكتورة عائشة فرات Ayşe Furat، الأستاذة بجامعة إسطنبول، خمسة مساجد بناها الفاتح في ألبانيا وحدها، وذلك مع صعوبة عملية الفتح في ألبانيا كما مرَّ بنا، ولم تكن الأمور مستقرة هناك قط، ومع ذلك كان الفاتح يفعل ذلك بمجرد فتحه للمدينة أو للحصن، وهذه المساجد هي: مسجد قرية كوركا Korca، ومسجد قلعة كرويه Kruje، ومسجد قلعة شقودرة Shkodër، ومسجد مدينة كانينا Kanina، ومسجد قلعة الباسانElbasan[35]، وما قلناه عن ألبانيا نقوله كذلك عن اليونان، والبوسنة، وصربيا، وغيرها من الولايات العثمانية، وذلك حتى يوضِّح للشعوب أن الجيش الفاتح جيش مسلم في الأساس وليس عثمانيًّا أو تركيًّا.



والكلام نفسه يقال عن الحديث عن القوانين التي وضعها رحمه الله، فكانت كلها منبثقة من الشريعة، وكان الفاتح يرجع إلى العلماء الشرعيين دومًا ليساعدوه على صياغة مادة القانون ليكون متوافقًا مع القرآن والسنة[36]، وقد فهم ذلك كل من قرأ قانون الفاتح، بل فهمه كذلك الكتَّاب الغربيون وغير المسلمين إذ علموا أن هذا التشريع هو تشريع إسلامي صِرف وليس مجرد قوانين ابتكرها الفاتح أو غيره من القانونيين المعاصرين له[37]. وفي هذا أبلغ دعوة للإسلام، ذلك الدين الشامل الذي يوفِّر قانونًا يحكم كل مناحي الحياة[38].



[1] محمد حرب: العثمانيون في التاريخ والحضارة، القاهرة، المركز المصري للدراسات العثمانية وبحوث العالم التركي، 1994م، ص192.
[2] البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، (2655)، ومسلم: كتاب الإمارة، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله (1904) واللفظ له.
[3] يلماز أوزتونا: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول، 1988، 1/139.
[4] فيليب مانسيل القسطنطينية المدينة التي اشتهاها العالم 1453-1924، ترجمة: مصطفى محمد قاسم، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب (سلسلة عالم المعرفة)، 2015، 1/24.
[5] Hosaflook David Marin Barleti: The Siege of Shkodra: Albania's Courageous Stand Against Ottoman Conquest, 1478 [Book]. - Albania : Onufri Publishing House,, 2012, p. 227.
[6] يلماز أوزتونا: تاريخ الدولة العثمانية، 1/137-138.
[7] Hosaflook, 2012, pp. 224-227.
[8] Hosaflook, 2012, pp. 226-227.
[9] Hosaflook, 2012, p. 216.
[10] Hosaflook, 2012, p. 223.
[11] Hosaflook, 2012, p. 232.
[12] Hosaflook, 2012, p. 220.
[13] Atçıl, 2017, p. 59.
[14] Özervarlı M. Sait Islam and Rationality [Book]. - Boston, USA : Brill,, 2015, vol. 1, p. 381.
[15] Kuban, 1985, vol. 2, p. 21.
[16] Finkel Caroline Osman's Dream: The Story of the Ottoman Empire 1300-1923 [Book]. - London UK : John Murray, 2005, p. 101.
[17] الملطيّ: نيل الأمل في ذيل الدول، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري، بيروت، لبنان : المكتبة العصرية للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 2002م، 7/288.
[18] النهروالي: الإعلام بأعلام بيت الله الحرام، إشراف: سيد عبد الفتاح، تقديم وتحقيق: هشام عبد العزيز عطا، مكة المكرمة، السعودية، المكتبة التجارية مصطفى أحمد البار، 1996م. صفحة 270.
[19] ابن العماد: شذرات الذهب في أخبار من ذهب، خرج أحاديثه: عبد القادر الأرناؤوط، دمشق، بيروت : دار ابن كثير، 1986م، الطبعة الأولى، 9/517.
[20] الشوكاني البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، بيروت، لبنان، دار ابن كثير للطباعة والنشر والتوزيع، 1427ه= 2006م،ص823.
[21] السيوطي نظم العقيان في أعيان الأعيان، تحقيق: فيليب حتي، بيروت، لبنان، المكتبة العلمية، 1927م، ص173.
[22] السخاوي: الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، بيروت، لبنان، دار الجيل، 1412هـ = 1992م، 10/47.
[23] السخاوي: الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، 7/261.
[24] Babinger Franz Mehmed the Conqueror and His Time [Book]. - [s.l.] : Princeton University Press, 1978, p. 199.
[25] Babinger, 1978, p. 407.
[26] Housley Norman The Crusade in the Fifteenth Century: Converging and competing cultures [Book]. - London, UK : Routledge, 2016, p. 198.
[27] Salonen Kirsi Papal Justice in the Late Middle Ages The Sacra Romana Rota [Book]. - London, UK : Routledge, 2016, p. 70.
[28] Cragg Kenneth B Christians and Muslims: From History to Healing [Book]. - Boomington, IN, USA : iUniverse, 2011, p. 121.
[29] Grumeza Ion The Roots of Balkanization: Eastern Europe C.E. 500-1500 [Book]. - Lanham, Maryland, USA : University Press of America, 2010, p. 175.
[30] Spencer William The Land and People of Turkey [Book]. - Philadelphia, PA, USA : Lippincott, 1972, p. 50.
[31] كارل بروكلمان تاريخ الشعوب الإسلامية، نقله إلى العربية: نبيه أمين فارس، منير البعلبكي، بيروت، لبنان، دار العلم للملايين، الطبعة الخامسة 1968م، ص429.
[32] ول ديورانت: قصة الحضارة، ترجمة: زكي نجيب محمود، وآخرين و تقديم: محيي الدين صابر، بيروت لبنان، دار الجيل، بيروت لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس، 1988م.26/58، 59.
[33] Kinross Patrick Balfour Baron The Ottoman Centuries: The Rise and Fall of the Turkish Empire [Book]. - London : Cape,, 1977, pp. 115-116.
[34] Cazacu Matei Dracula [Book]. - The Netherlands : Brill, Leiden , 2017, p. 156.
[35] Furat Ayşe Zişan and Er Hamit Balkans and Islam: Encounter, Transformation, Discontinuity, Continuity [Book]. - Newcastle, UK : Cambridge Scholars Publishing , et al., 2012, p. 198.
[36] Üçok CoṢkun Türk Hukuk Tarihi Dersleri [Book]. - Ankara : AÜHF Yay, 1972, 5bs, , p. 146.
[37] Peters F. E. The Monotheists: Jews, Christians, and Muslims in Conflict and
[38] هذا المقال من كتاب "قصة محمد الفاتح" للدكتور راغب السرجاني.


الساعة الآن 11:17 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Content Relevant URLs by vBSEO 3.3.0 , Designed & TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة لمنتدى قصة الإسلام