الوقفة الأولى:اختلف أهل العلم في ترتيب أحوال يوم القيامة.
فإنَّ ما يحصل يوم القيامة، وما يكون مِمَّا ورد في الكتاب والسُّنَّة، أشياء كثيرة: قيام الناس، والحوض، والميزان، والصُّحُف، والحساب، والعرض، وتطاير الصُّحُف، وأخذ الكتاب، الصراط، والظلمة، وهذه أشياء متنوعة
فكيف يكون ترتيبها؟
أولاً: لا يوجد نصٌّ صريح في ترتيبها، ولذا وقع الخلاف في هذه المسألة.
ثانيًا: سأعطي عرضًا موجزًا لِما سيأتي، ثم ندخل في تفاصيله، وهذا العرض الموجز ذكره الشيخ صالح آل الشيخ - حفظه الله - وأنه هوالذي قرَّرَهُ المحققون من أهل العلم.
وأنَّ ترتيبها كالتالي:
1 - إذا بُعث الناس، وقاموا من قبورهم، ذهبوا إلى أرض المحشر، ثم يقومون فيها قيامًا طويلا، تشتد معه حالهم، وظمؤُهُم، ويخافون في ذلك خوفًا شديدًا؛ لأجل طول المقام، ويقينهم بالحساب، وما سيُجري الله - عزَّ وجل - عليهم.
2 - فإذا طال المُقام رَفَعَ الله - عزَّ وجل - لنبِّيه صلى الله عليه وسلم أولًا حوضه المورود، فيكون حوض النَّبيّ صلى الله عليه وسلم في عَرَصَات القيامة، إذا اشتد قيامهم لرب العالمين، في يوم كان مقداره خمسين ألف سَنَة.
فمن مات على سنّته غير مُغَيِّرٍ، ولا مُحْدِثٍ، ولا مُبَدِّلْ، وَرَدَ عليه الحوض، وسُقِيَ منه، فيكونُ أولا لأمان له أن يكون مَسْقِيًا من حوض نبينا صلى الله عليه وسلم، ثم بعدها يُرْفَعُ لكل نبي حوضه، فيُسْقَى منه صالح أمته.
3 - ثم يقوم الناس مُقامًا طويلًا، ثم تكون الشفاعة العظمى - شفاعة النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، بأن يُعَجِّلَ الله - عزّ وجل - حساب الخلائق، في الحديث الطويل المعروف أنهم يسألونها آدم، ثم نوحًا، ثم إبراهيم إلى آخره، فيأتون إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ويقولونله: يا محمد، ويصِفُونَ له الحال، وأن يقي الناس الشِّدَّة بسرعة الحساب، فيقول صلى الله عليه وسلم بعد طلبهم اشفع لنا عند ربك: «أَنَا لَهَا، أَنَا لَهَا»، فيأتي عند العرش فيخرّ، فيحمد الله - عز وجل - بمحامد يفتحها الله - سبحانه - عليه، ثم يقال: «يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ »، فتكون شفاعته العظمى في تعجيل الحساب.
4 - بعد ذلك يكون العرض - عرض الأعمال - .
5 - ثم بعد العرض يكون حساب.
6 - وبعد الحساب الأول تتطاير الصحف، والحساب الأول منضمن العرض؛ لأن فيه جدال، ومعاذير، ثُمَّ بعد ذلك تتطاير الصحف، ويُؤْتَى أهل اليمين كتابهم باليمين، وأهل الشمال كتابهم بشمالهم، فيكون قراءة الكتاب.
7 - ثم بعد قراءة الكتاب، يكون هناك حساب أيضًا؛ لقطع المعذرة، وقيام الحجة بقراءة ما في الكتب.
8 - ثم بعدها يكون الوزن - الميزان - ، فتوزن الأشياء التي ذكرنا.
9 - ثم بعد الميزان ينقسم الناس إلى طوائف وأزواج - أزواج بمعنى: كل شكل إلى شكله - ، وتُقَامْ الألوية - ألوية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام - لواء محمد صلى الله عليه وسلم، ولواء إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ، ولواء موسى - عليه الصلاة والسلام - إلى آخره، ويتنوع الناس تحت اللواء بحسب أصنافهم، كل شَكْلٍ إلى شكله.
والظالمون، والكفرة أيضًا يُحْشَرُونَ أزواجًا - يعني: متشابهين - كما قال تعالى: ﴿ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [الصافات:22، 23]؛ يعني بأزواجهم: أشكالهم، ونُظَرَاءَهُمْ، فيُحْشَرْ علماء المشركين مع علماء المشركين، ويُحْشَرْ الظلمة مع الظلمة، ويُحْشَرْ منكري البعث، مع منكري البعث، ويُحْشَرْ منكري الرسالة مع منكري الرسالة، وهكذا في أصناف.
10 - ثُمَّ بعد هذا يَضْرِبُ الله - عز وجل - الظُّلمة قبل جهنم - والعياذ بالله - ، فيسير الناس بما يُعْطَونَ من الأنوار، فتسير هذه الأمَّة وفيهم المنافقون، ثُمَّ إذا ساروا على أنوارهم ضُرِبَ السُّور المعروف: ﴿ فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْقِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُم ْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوابَلَى ﴾ [الحديد:13، 14] الآيات، فيُعْطِيْ الله - عز وجل - المؤمنين النور فيُبْصِرُون طريق الصراط، وأمَّا المنافقون فلا يُعْطَون النور، فيكونون مع الكافرين يتهافتون في النار، يمشون وأمامهم جهنم - والعياذ بالله - .
11 - ثم يأتي النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أولًا ويكون على الصراط، ويسأل الله - عز وجل - السلامة له ولأمته، فيقول: «اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ »فَيَمُرْ صلى الله عليه وسلم وتَمُرُّ أمته على الصراط، كُلٌ يمر بقدر عمله، ومعهنور أيضًا بقدر عمله، فيمضي مَنْ غَفَرَ الله - عزّ وجل - له، ويبقى في النار، فتكون العبارة: ويسقط في النار في طبقة الموحّدين من شاء الله - عز وجل - أن يُعَذّبه.
ثم إذا انتهوا من النار اجتمعوا في عَرَصَات الجنَّة - يعني: في السّاحات التي أعدها الله - عز وجل - - ؛ لأن يُقْتَصَّ أهل الإيمان بعضهم من بعض، ويُنْفَى الغِلّ حتى يدخلوا الجنَّة، وليس في قلوبهم غِلّ.
12 - فيدخل الجنَّة أول الأمر بعد النَّبيّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقراء المهاجرين، ثم فقراء الأنصار إلى آخره، ثم فقراء الأمَّة، ويُؤَخَرْ الأغنياء؛ لأجل الحساب الذي بينهم، وبين الخلق، ولأجل محاسبتهم على ذلك
وقيل في ترتيبها غير ما تقدَّم، وكما ذكرتُ سابقا في المسألة خلاف؛ لعدم وجود النَّص القاطع في ترتيبها، وبقي أحداث، وأحوال لم تُذكر، سيأتي بيانها - بإذن الله تعالى - .
• الوقفة الثانية: لتعلم أنَّ البداية بعد البعث تكون من أرض المحشر، وعندها اعلم أن هول ذلك اليوم هول عظيم، فأعدَّ لهذا اليوم عدَّته، فهو طويل وطويل، فيه مشاقٌّ، ومصاعب، ولك أن تتصور أن فيه من هوله ما يشيب معه الصغير، وما تذهل معه المرضع والحامل عن ولدهما، وما يجعل الناس كأنهم سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله تعالى شديد، إنه يوم عظيم: ﴿ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [المطففين: 4 - 6].، إنه يوم القلوب والأبصار فيه مضطربة متقلبة: ﴿ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ﴾[النور:37]، وتنقطع فيه الأنساب، إنه يوم طويل ﴿ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾ [المعارج:4]، ولا تظن - أيها المبارك - أنَّ اليوم أربعٌ وعشرون ساعة، لا، فالله تعالى أخبرنا بقوله ﴿ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ﴾ [الحج:47].
فما أطوله من يوم؟ وما أغفلها من قلوب؟ والله المستعان، إنه يوم فيه القدوم على الله تعالى، فعلى أي حال ستُقْدِم على ربك - جل في علاه - ؟؟
ووالله لو قيل لنا: مطلوب منك المثول بين يدي قاضٍ من قضاة الدنيا، أو ملِك من ملوك الدنيا، لاهتممنا، وانشغلت أذهاننا عن الطعام، والشراب، والكلام، ولَمَا تلذّذنا براحة أو منام، ولفزعنا؛ لأننا نتصور ما نحن مقدمون عليه جيدًا، فكيف ويوم القيامة سنقف فيه بين يدي ملك الملوك وقاضي القضاة؛ الله رب الأرض والسماوات؟!
اللهم أيقظ قلوبنا من الغفلات، وألسنتنا من الزلات، وأعيننا من الزيغ، يا سميع يا مجيب وارزقنا يا إلهي الإقبال على الآخرة، والزهد في الدنيا، يا سميع الدعاء.
مستلة من: "فقه الانتقال من دار الفرار إلى دار القرار"
انظر: كتاب إتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل للشيخ صالح آل الشيخ المسألة التاسعة.
الشيخ د. عبدالله بن حمود الفريح
شبكة الألوكه
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
هذا شرح تفصيلي لمراحل القيامة مع الدكتور خالد ابو شادي من كتاب خطط لمستقبلك
والصور هو الناقور الذي جاء في قوله تعالى: (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ).
من ينفخ فيه؟!
إسرافيل هو الموكَّل بالنفخ في الصور، وهذه مهمتة الرئيسة ووظيفته الأولى، وقد شرح رسول الله صلى الله عليه وسلم حال إسرافيل، واستعداده الشديد لتلقي الأمر بالنفخ في الصور:
«إن طرَف صاحب الصور منذ وُكِّل به مستعدٌ ينظر نحو العرش، مخافة أن يؤمَر قبل أن يرتدَّ إليه طرفه، كأنَّ عينيه كوكبان دريان». السلسلة الصحيحة رقم: 1078
يموت الخلق كلهم بعد النفخة الأولى، ثم يُنفَخ في الصور مرة أخرى، فيقومون لرب العالمين، وهاتان النفختان اسمهما الراجفة والرادفة كما في قوله تعالى:يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ
فالراجفة: النفخة الأولى، وسُمِّيت بذلك؛ لأن الكون كله يرجف ويتزلزل عندها، والراجفة تميت الأحياء إلا من شاء الله حتى يكون آخر هو من يموت ملك الموت.
والرادفة: النفخة الثانية، وسُمِّيَت كذلك لأنها تردف النفخة للأولى أي تأتي بعدها، والرادفة نفخة تحيي الأموات، حيث يكون أول من يُحيي الله إسرافيل، الذي ينفخ النفخة الثانية ليبعث الخلق.
وفي هذا دلالة على عظم خلق إسرافيل عليه السلام؛ فبصيحة واحدة منه فحسب يهلك كل من في السماوات والأرض، وبنفخة أخرى يبعث الله الحياة في جميع الخلق ليحشروا إلى أرض المحشر.
● كم بين النفختين؟!
في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: «ما بين النفختين أربعون».
قالوا: يا أبا هريرة، أربعون يوما؟
قال: أبيت.
قالوا: أربعون شهرًا.
قال: أبيت.
قالوا: أربعون عاما؟
قال أبيت.
قال النووي: «ومعنى قول أبي هريرة ( أبيت ) أي أبيت أن أجزم أن المراد أربعون يوما أو سنة أو شهرا، بل الذي أجزم به أنها أربعون مجملة».
وحال هذا الرجل الذي يُصعَق يوحي بأن نفخة الصور تأخذ الناس على حين غرة، وهم لاهون عنها وغارقون في الغفلة، وهذا موافق لما ورد في الصحيح أن الساعة لا تقوم إلا على شرار الناس.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«ثم يُنزل الله من السماء ماء، فينبتون كما ينبت البقل، ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظما واحدا، وهو عجْب الذَّنَب، ومنه يُركَّب الخلق يوم القيامة». رواه البخاري: 4651 ومسلم: 2955
أي يرسل الله سحابا فتمطر، فإذا أصاب الماء عَجْب الذَّنْب نبت منه الجسم كما ينبت النبات، فيرجع كما كان، ثم ينفخ في الصور نفخة البعث الرادفة، فتعود الأرواح على أثرها إلى الأجساد، فيخرج أصحابها من القبور سراعا إلى أرض المحشر .
● الواجب العملي نحو نفخة الصور؟!
إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم -وهو أخشى الخلق لله وأتقاهم- يقول:
«كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن، وحنى جبهته، وأصغى سمعه ينتظر أن يؤمر أن ينفخ، فينفخ». السلسلة الصحيحة رقم: 1079
فكيف بحال المذنبين المقصِّرين؟!
يقول النبي صلى الله عليه وسلم :
كيف يطيب عيشي وقد اقترب موعد النفخ في الصور، ومعه الحساب، وكأنه خاف على أمته من اقتراب حسابهم مع ضعف استعدادهم، أو لعله أراد حثَّ الصحابة على توصية من بعدهم بالتهيؤ ليوم الحساب.
فلما سمع الصحابة ذلك التحذير ثقل عليهم، ووجلت قلوبهم، فسألوا رسولهم النصيحة: فكيف نقول يا رسول الله؟
قال:
«قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل .. توكلنا على الله ربنا».
فأوصاهم بأن يقولوا: «حسبنا الله ونعم الوكيل»، وهي كلمة ملؤها التوكل على الله والاكتفاء به، وغالبا ما يستعملها الناس في الأمور الدنيوية ولمواجهة مشاكلهم الحياتية، لكن استعمالها في الشؤون الأخروية والعبادات اليومية أهم، فالله وحده كافي عباده همومهم الدنيوية والآخروية.
,,,,,,,,,,,,,,,,,
ثانيا: الموقف
هول المطلع
لما طُعِن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له رجل: إني لأرجو أن لا تمس جلدك النار، فنظر إليه، ثم قال:
« إن المغرور لمن غررتموه، والله لو أن لي ما على الأرض لافتديت به من هول المطلع».
وهول المطلع يريد به عمر موقف الناس يوم القيامة، وما يشرِفون عليه من أهوال الآخرة.
التوازن بين الخوف والرجاء!
رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه كعبا يوما قد استرسل في تحديث الناس بأحاديث الرجاء، فقال له:
ويحك يا كعب! إن هذه القلوب قد استرسلت، فاقبضها، فقال كعب:
«والذي نفسي بيده، إن لجهنم يوم القيامة لزفرة ما من ملك مقرب، ولا نبي مرسل، إلا يخرُّ لركبتيه، حتى إن إبراهيم خليل الله ليقول: نفسي نفسي، حتى لو كان لك عمل سبعين نبيا لظننت أنك لا تنجو».
الوقاية من هول المطلع!
لما حضر عنبسة بن أبي سفيان الموت اشتد جزعه، وجاء الناس يعودونه، فجعل عنبسة يبكي ويجزع، فقال له القوم: يا أبا عثمان .. ما يبكيك وما يحزنك وقد كنت على سمت من الإسلام حسن وطريقة حسنة؟ فازداد حزنا وشدة بكاء، وقال:
ما يمنعني أن لا أبكي وأن لا يشتد حزني من هول المطلع، وما يدريني ما أشرف عليه غدا، ما قدَّمتُ من كثير عمل تثق به نفسي أنه سينجيني غدا، وإن أوثق شيء في نفسي لكلمات حدثتني بها أختي أم حبيبة بنت أبي سفيان، حدثتني أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قاعد على فراشها يقول:
«ما من مسلم يحافظ على أربع ركعات قبل صلاة الظهر وأربع بعدها، فتمسُّه النار بعدهن إن شاء الله أبدا»، فما تركتهن بعد إلى ساعتي هذه، وإنها لأوثق خصال في نفسي.
أرض الموقف:
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
«يُحْشَر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كَقُرْصَة النَّقِيِّ، ليس فيها عَلَمٌ لِأحد».
صحيح مسلم رقم: 2790
ومعنى عفراء أي بيضاء مشوبة بحُمْرة، وقرصة النقيِّ أي كرغيف مصنوع من دقيق خالص من القش والنخالة، والأرض يومئذ ليس فيها أي علامة يُستَدلُّ بها، وليس فيها ما يستر البصر.
قال القاضي عياض:
«ليس فيها علامة سكنى، ولا بناء، ولا أثَر، ولا شيء من العلامات التي يهتدي بها في الطرقات، كالجبل والصخرة البارزة».
قال تعالى:
(يوم تبدل الأرض غير الأرض) [إبراهيم: 48]:
وسواء كان التبديل في ذات الأرض أو في صفاتها؛ فإن الذي يعنينا أن أرض الدنيا قد انقطعت العلاقة معها، وأن الأولين والآخرين من جميع الخلائق سيُجمَعون في صعيد واحد على أرض جديدة عجيبة، ومن عجائب هذه الأرض ما ذكره عبد الله بن مسعود رضي الله عنه :
«تبدَّل الأرض أرضًا، كأنها فضة، لم يُسفَك فيها دم حرام، ولم يُعمَل عليها خطيئة».
وذكروا في حكمة نقاء أرض المحشر وانبساطها: أن يوم القيامة يوم عدل وظهور حق؛ فاقتضت حكمة الله أن يكون المحل الذي يقع فيه الحساب مطهَّرا من المعاصي والظلم (لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ) وليكون تجليه سبحانه على عباده المؤمنين على أرض طاهرة تليق بعظمته.
«أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر» .
ثم يقوم من بعده الخلق أجمعون، ويقفون في يوم عظيم طويل مقداره خمسين ألف سنة.
ويحشر العباد يوم القيامة حفاة عراة غرلا –أي غير مختونين- فحتى هذه الجلدة التي تم نزعها من الرجل والمرأة أثناء الختان ترد إليك لتُبعَث بها، هذه القلفة نزعت منك منذ أربعين أو خمسين أو ستين عاما، وألقيت في القمامة، فذابت وانتهى أمرها منذ عشرات السنين، ثم تبعث وتبعث معك بعد مئات أو آلاف السنين، ألا يدل هذا على أن الله تعالى قادر على الإحياء بعد الإماتة؟
جاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:
«يا رسول الله! ينظر بعضهم إلى بعض! قال: يا عائشة الأمر أعظم من ذلك وأكبر من ذلك».
وفي رواية عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، واسوأتاه .. ينظر بعضهم إلى بعض؟ فقال: شُغِل الناس، قلت: ما شُغْلُهم؟ قال: «نشر الصحائف فيها مثاقيل الذر ومثاقيل الخردل».
أول من يُكْسَى من الخلق إبراهيم:
في صحيح البخاري ومسلم:
«وإن أول الخلائق يُكسَى يوم القيامة إبراهيم». صحيح البخاري رقم: 4625 ومسلم رقم: 2860
لكن .. ألا يتعارض هذا مع ما جاء في الحديث أن الإنسان يُبعَث في الثياب التي مات فيها:
«إِنَّ الْمَيِّت يُبْعَث في ثيابه التي يموت فيها». السلسلة الصحيحة رقم: 1671
جمع الإمام ابن حجر بين هذه الأحاديث بأن بعضهم يحشر عاريا، وبعضهم كاسيا.
أو يحشرون كلهم عراة، ثم يكون أول من يُكسَى الأنبياء، فأول من يكسى إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
أو يخرجون من القبور بالثياب التي ماتوا فيها، ثم تتناثر عنهم عند ابتداء الحشر، فيُحشَرون عراة، ثم يكون أول من يكسى إبراهيم.
حال الناس مع وقفة يوم القيامة
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)
قال: «يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه«. البخاري رقم: 4938 ومسلم رقم: 2862
وفي لفظ آخر:
«حتَّى يغيب أَحَدُهُم في رَشْحِه إلى أنصاف أذنيه«.
وكثرة العرق يوم القيامة لا يتصورها عقل، ففي صحيح مسلم:
«إن العَرَق يوم القيامة ليذهب في الأرض سبعين باعا، وإنه ليبلغ إلى أفواه الناس، أو إلى آذانهم«.
صحيح الجامع رقم: 1679
أي ينزل فيها من كثرته شيء كثير جدا، فالسبعين في الحديث للتكثير لا للتحديد.
ويتفاوت الناس في العرق بحسب معاصي كل عبد، فالغارق في المعاصي يُلجِمه العرق إلجاما، وتفصيله خرَّجه مسلم من حديث المقداد، عن النَّبيِّ ^ قال:
«فيكونون في العَرَق كقدر أعمالهم، فمنهم مَنْ يأخذه إلى عَقِبَيه، ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من يأخذه إلى حَقْويْهِ، ومنهم من يُلجمه إلجاما».
وورد إشكال هنا:
إن الجمع إذا وقفوا في ماء على أرض معتدلة، فإنها تغطيهم على السواء، ولا يتفاوتون، وأجيب عن هذا بأن هذا من خوارق العادات يوم القيامة، والإيمان بها من الواجبات.
وسبب كثرة العرق دنو الشمس من الرؤوس مع تزاحم الخلق، فتدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل، وسواء كان الميل هو وحدة قياس المسافة المعروفة أو أو الميل الذي تُكْتَحَلُ به العين، فإن المسافة قريبة قريبة، ويستمر هذا الحال خمسين ألف سنة، لا يذوقون فيها طعاما، وما شربوا شراباً حتى تتقطع الأكباد من العطش.
الأجساد تختلف!
اقتراب الشمس في الدنيا مترا واحدا من الأرض يحرق الأرض بمن عليها، لكن اقترابها جدا من الارض يوم القيامة، لا يُحدِث هذا الأثر، فالأجساد غير الأجساد.
لكن ابشروا!
فالمؤمنون في مأمن من كل هذا، ولذا قال سلمان الفارسي رضي الله عنه عن حر الشمس:
«ولا يجد حَرَّها مؤمن ولا مؤمنة».
قال القرطبي يشرح قول سلمان:
«إن هذا لا يضر مؤمنا كامل الإيمان أو من استظل بالعرش».
ومن استظل بظل العرش سبعة كما ورد في صحيح الأحاديث. قال الإمام ابن أبي شامة المقدسي:
وقال النَبِيُّ المُصطَفى إِنَّ سَبعَةً .. يُظِلُّهُم اللَه العَظيمُ بِظِلِّهِ
«من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله».
صحيح الجامع رقم: 6106
لكن ماذا عن طول يوم القيامة؟!
آلاف السنوات تمر على المؤمنين يوم القيامة كأنها ساعات، أليس الله على كل شيء قدير؟!
لقد مات عزير مائة عام ثم بعثه الله، ونام أصحاب الكهف ما يزيد أكثر من ثلاثمائة عام ثم بعثهم، فلما سئلوا: كم لبثتم؟ قالوا: لبثنا يوما أو بعض يوم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«يوم القيامة على المؤمنين كقدر ما بين الظهر والعصر». صحيح الجامع رقم: 8193
تعب اليوم وإلا تعب الغد!
قال الإمام الغزالي:
«وكل عرَق لم يخرجه التعب في سبيل الله من حج، وجهاد، وصيام، وقيام، وتردد في قضاء حاجة مسلم، وتحمل مشقة في أمر بمعروف ونهي عن منكر، يستخرجه الحياء والخوف في صعيد يوم القيامة».
عن أنس بن مالك رضي الله عنه : أن رجلا قال: يا نبي الله، كيف يحشر الكافر على وجهه؟ قال: «أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادرا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة».
صحيح البخاري رقم: 6523
قال أبو حامد:
«طبع الآدمي إنكار كل ما لم يأنس به ولم يشاهده، ولو لم يشاهد الإنسان الحية وهي تمشي على بطنها لأنكر المشي من غير رجل، والمشي بالرجل أيضا مستبعد عند من لم يشاهد ذلك، فإياك أن تنكر شيئا من عجائب يوم القيامة لمخالفتها قياس الدنيا، فإنك لو لم تكن شاهدت عجائب الدنيا، ثم عُرِضَت عليك قبل المشاهدة لكنت أشد إنكارا لها».
واسمع ما ذهب إليه ابن حجر في بيان حكمة هذا المشي حين قال:
«والحكمة في حشر الكافر على وجهه: أنه عوقِب على عدم السجود لله في الدنيا، بأن يسحب على وجهه في القيامة؛ إظهارا لهوانه، بحيث صار وجهه مكان يده ورجله في التوقي عن المؤذيات».
● حشر السائلين:
في الحديث:
«ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتى يوم القيامة ليس فى وجهه مزعة لحم».
صحيح الجامع رقم: 5816
وفهم الإمام البخاري من الحديث أن الذي يأتى يوم القيامة لا لحم في وجهه من كثرة السؤال هو السائل تكثرا بغير ضرورة، ومن سأل تكثرا فهو غنيٌّ، لا تحل له الصدقة، لذا عوقب في الآخرة.
حين بذل وجهه وعنده كفاية، عوقِب في وجهه بأن جاء بلا لحم فيه، فكان جزاؤه من جنس ذنبه.
أما عن حد الكفاية ففد حدَّده النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر:
«من سأل وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة خدوشا أو خموشا أو كدوحا في وجهه».
قيل: يا رسول الله .. وما يغنيه؟ قال:
«خمسون درهما، أو قيمتها من الذهب». السلسلة الصحيحة رقم: 499
● حشر الغادرين:
قال النبي صلى الله عليه وسلم :
«إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة، يُرفَع لكل غادر لواء، فقيل: هذه غدرة فلان ابن فلان».
صحيح الجامع رقم: 483
وهذا الخطاب تفهمه العرب جيدا، لأنهم كانوا يرفعون للوفاء راية بيضاء، وللغدر راية سوداء؛ ليفضحوا الغادر ويذموه، وليحذِّروا الناس منه، فجاء تمييز الغادر في الحديث عن طريق اللواء ليفتضح بصفته هذه في القيامة، فيذمه أهل الموقف جميعا.
لكن .. أين مكان اللواء؟!
قال النبي ^:
«إن لكل غادر لواء يوم القيامة يُعرَف به عند إسته». صحيح الجامع رقم: 2153 والصحيحة رقم: 1690
عومِل الغادر بنقيض قصده، لأن عادة اللواء أن يكون في الأمام، فجُعِل في الخلف ليزداد فضحه وتوبيخه وتعذيبه، وبدلا من أن يحمل اللواء بيديه، ينغرس اللواء في مؤخرته، بحيث لا يملك صاحبه أن يتخلص منه.
والغرض من الحديث التنفير من الغدر، وبيان أنه من أعظم الجرائم عند الله.
لكن الغدر يتفاوت، ومن ثم فحجم اللواء يتفاوت، بحسب قدر الغدرة.
قال رسول الله ^:
«لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدرته، ألا ولا غادر أعظم غدرا من أمير عامة».
صحيح الجامع رقم: 5170
وتغليظ تحريم الغدر من صاحب الولاية العامة؛ لأن ضرر غدره يتعدى إلى خلق كثير، ولأن الأمير غير مضطر إلى الغدر لقدرته على الوفاء.
ومن صور الغدر الشنيعة، ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم :
«إذا اطمأن الرجل إلى الرجل، ثم قتله بعدما اطمأن إليه، نُصِب له يوم القيامة لواء غدر» .
صحيح الجامع رقم: 357 والصحيحة 441
● حشر الظالمين
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«ما من أمير عشرة إلا وهو يؤتى به يوم القيامة مغلولا، حتى يفكَّه العدل أو يوبقه الجور».
صحيح الجامع رقم: 5695 والصحيحة رقم: 349
الإمارة والمسؤولية هي قيود تسلسل صاحبها في الآخرة، وكل مسؤول مقيَّد، لكن صاحب العدل مفكوك محرَّر، والظالم أسير مقيَّد، ولذا زاد في رواية أحمد:
«لا يفُكُّه مِنْ ذلك الغُلِّ إلَّا العدل».
ولذا يحق لكل مظلوم أن يهتف اليوم:
بيني وبينك يا ظلومُ الموقِفُ ... والحاكِم العَدْلُ الجواد المُنْصِفُ
انظروا إلى عمر بن عبد العزيز بعد أن تولى الخلافة، حيث تقول زوجته فاطمة: دَخَلْتُ يوما عليه وهو جالِسٌ فِي مُصلَّاه، واضِعا خَدَّهُ على يد،ه ودموعه تسيل على خديه، فقلت: مالك؟ فقال:
«ويحك يا فاطمة، قَدْ وُلِّيتُ مِنْ أَمْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ ما وُلِّيتُ، فَتَفَكَّرْتُ في الفقير الجائع، والمريضِ الضَّائع، والعاري المجهود، واليتِيم المكسور، والأرملة الوحيدة والْمظلوم الْمَقْهُورِ. والغرِيب والأسير، والشَّيخ الكبيرِ، وذي العيال الكثير، والمال القليل، وأَشْباههم في أقطار الأرض وأطراف البلاد، فعَلِمْتُ أَنَّ ربِّي سيسألنِي عنهم يوم القيامة، وأنَّ خصمِي دونهم محمد ، فَخَشيتُ أَنْ لا يَثْبُتَ لي حُجَّةٌ عند خصومته، فرحِمْتُ نفسي، فَبَكَيْتُ».
● حشر أهل الصلاة والمتوضئين:
عن عبد الله بن بسر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«أمتي يوم القيامة غُرٌّ من السجود، محجَّلون من الوضوء». صحيح الجامع رقم: 1397
قال النووي:
«قال أهل اللغة الغرة بياض في جبهة الفرس، والتحجيل بياض في يديها ورجليها. قال العلماء: سُمِّي النور الذي يكون على مواضع الوضوء يوم القيامة غرة وتحجيلا تشبيها بغرة الفرس.
وحرص على إشعال روح المنافسة بين الصحابة في إحسان الوضوء، فعن نعيم بن عبد الله، أنه رأى أبا هريرة يتوضأ فغسل وجهه ويديه حتى كاد يبلغ المنكبين، ثم غسل رجليه حتى رفع إلى الساقين، ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«إن أمتي يأتون يوم القيامة غرا محجلين من أثر الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل». صحيح مسلم رقم: 246
● حشر الشهداء:
ومن مشاهد يوم القيامة: مشهد أقوام يحشرون ودماؤهم تسيل منهم، وهم الشهداء، وهذا إكرام لهم وبيان لفضلهم، وتشهيرٌ ببذلهم وعلو مقامهم، لأن الجزاء من جنس العمل.
في الحديث:
«كل كلم يكلمه المسلم في سبيل الله تعالى يكون يوم القيامة كهيئتها إذا طعنت، تفجَّر دما، واللون لون الدم، والعَرْف عَرْف مسك».صحيح الجامع رقم: 4544
مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد بحمزة وقد جُدِع أنفه، ومُثِّل بجثمانه، فقال: لولا أن تجزع صفية لتركته حتى يحشره الله عز وجل من بطون الطير والسباع، وكان هذا دعاء كثير من السلف والصالحين: اللهم احشرني من حواصل الطير وبطون السباع، وسبب ذلك أن يتضاعف أجرهم، ويعلو عند الله قدرهم.
ومثل هذا ما دعا به عبد الله بن جحش يوم أحد، فقال: يا رب .. إذا لقيت العدو غدا، فلقِّني رجلاً شديدا بأسه، شديدا حرده، أقاتله فيك، ويقاتلني، ثم يأخذني، فيجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك غدا، قلتَ: يا عبد الله .. من جدع أنفك وأذنك؟ فأقول: فيك وفي رسولك، فتقول: صدقت.
قال سعد بن أبي وقاص: «فلقد رأيته آخر النهار، وإن أذنه وأنفه لمعلقتان في خيط».
● حشر صاحِب القرآن
عن بريدة رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :
«وإِنَّ القرآن يلقى صاحِبَهُ يوم القيامة حين يَنْشَقُّ عنه قَبْرُه كالرَّجُل الشَّاحب، فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول: ما أَعْرِفُك، فيقول: أنا صاحبك .. القرآن الَّذي أَظمأتُك في الهواجر وأسهَرْتُ ليلك، وإنَّ كُلَّ تاجرٍ مِنْ وراء تجارته، وإنَّك اليوم من وراء كل تجارة، فيُعطَى الْمُلْكَ بِيمينه، والخُلد بِشِماله، ويوضَع على رأسه تاج الوقار، ويُكْسَى والِداه حُلَّتَيْن لا يقوم لهما أهل الدنيا، فيقولان: بِمَ كُسِينا هذا؟ فيُقال: بِأَخْذ وَلَدِكما القرآن، ثُمَّ يُقال له: اقرأ واصعد في دار الجنَّة وغُرَفِها، فهو في صعود ما دام يقرأ، هَذًّا كان، أو ترتيلا».
السلسلة الصحيحة رقم: 2829
والرجل الشاحب هو الذي تغير لونه، وكأن القرآن يأتي على هذه الهيئة ليكون أشبه بصاحبه في الدنيا، فقد دفعه القرآن لقيام الليل وصيام النهار حتى ظهر أثر ذلك عليه، فلم يكن القرآن ترانيم يتغنى بها صاحبها دون تهذيب سلوك أو تغيير عادات، وهذا دليلٌ على أن القرآن الذي لا تأثير له على عمل العبد وسلوكه لا يكون حجة لصاحبه، وإنما حال صاحب القرآن يجب أن يكون مغايرا لمن حوله، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه :
«ينبغي لقارئ القرآن أن يُعرَف بليله إذا الناس نائمون.
وبنهاره إذا الناس مستيقظون.
وببكائه إذا الناس يضحكون.
وبصمته إذا الناس يخوضون.
وبخضوعه إذا الناس يختالون.
وبحزنه إذا الناس يفرحون».
● حشر ذي الوجهين:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«من كان له وجهان في الدنيا، كان له يوم القيامة لسانان من نار». صحيح الجامع رقم: 6496
يريد به ذلك الشخص الذي يأتي كل قوم بما يرضيهم، خيرًا كان أم شرًا، وهذه هي المداهنة المحرمة، وإنما سُمِّي (ذو الوجهين) مداهنًا؛ لأنه يُظهِر لأهل المنكر أنه راضٍ عنهم، فيلقاهم بوجه سمح بالترحيب والبِشْر، وكذلك يُظهِر لأهل الحق أنه عنهم راض، فبخلطته لكلا الفريقين وإظهار رضاه عن فعلهم، استحق اسم المداهنة، تشبيها بالدهان الذى يظهر على ظواهر الأشياء ويستر بواطنها.
قيل لابن عمر: إنا ندخل على أمرائنا، فنقول القول، فإذا خرجنا قلنا غيره. قال: كنا نعده نفاقا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
● حشر مغتصب الحقوق:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«لا يأخذ أحد شبرا من الأرض بغير حقه إلا طُوِّقه الله إلى سبع أرضين يوم القيامة». صحيح الجامع رقم: 7577
وفي معنى طُوِّقه قولان:
- أحدها: معناه أنه يُعاقب بالخسف إلي سبع أرضين، فتكون كل أرض في تلك الحالة طوقا في عنقه كالطوق الذي تلبسه المرأة للزينة.
- والثاني: أنه يُكلَّف بنقل ما أخذ ظلما من الأرض في القيامة، فيحمل سبع أرضين في مقابل هذا الشبر الحقير المغصوب، وذلك كما يحمل السارق ما سرق على عنقه يوم القيامة على سبيل الفضيحة والتعذيب.
وكما ترى، فالجزاء من جنس العمل، وذلك أن هذا الظالم لما تحمل هذا الإثم بالنسبة للأرض، جوزي بأن يتحمل العقوبة بمثلها يوم القيامة.
وفي تقييد الأخذ بالشِّبر مبالغة، وبيانُ أن ما زادَ على الشبر أَوْلى بالعقوبة، ونظيرُه قوله صلى الله عليه وسلم في اليمين الكاذبة التي يغصب بها صاحبها حقوق الغير: «وإن كان قضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ»، ففي الحديث:
«من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرَّم عليه الجنة، وإن كان قضيبا من أراك». صحيح الجامع رقم: 6076
فما أقبح الظلم، وما أشد وعيد الظالم، وما أغلظ عقوبته، وكل هذا ردع للأمة عن الظلم، ورحمة بها كي لا تقع في براثنه.
● هدايا العمال غلول!
في الحديث:
«هدايا العمال غلول». صحيح الجامع رقم: 7021
وفي الطبراني عن ابن عباس:
«الهدية إلى الإمام غلول». صحيح الجامع رقم: 7054
والحديث يشمل الإمام ومثله نوابه من الوزراء والمحافظين ومديري الهيئات والمصالح العامة.
رُوِي أن عمر أهدى إليه رجل فخذ جزور، ثم أتاه بعد مدة ومعه خصمه، فقال: يا أمير المؤمنين .. اقض لي قضاء فصلا كما يفصل الفخذ من الجزور، فضرب بيده على فخذه وقال:
«الله أكبر .. اكتبوا إلى الآفاق: هدايا العمال غلول»
,,,,,,,,,,,,
رابعا :الشفاعة
وهي من الخمس التي أعطيها النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يُعْطها أحد من الأنبياء قبله، وقد قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم :
«أتاني آتٍ من عند ربي، فخيَّرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة، فاخترتُ الشفاعة، وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئا».
صحيح الجامع رقم: 56
ومن كرم النبي صلى الله عليه وسلم أن جعل شفاعته للمذنبين، لكونهم أحوج إليها من الطائعين، كأنَّه هيَّأ فرص النجاة للمقصِّرين ليلحقوا بالمجتهدين.
والشفاعة بين الناس هي التوسط في جلب نفع لهم، أو دفْع ضرٍّ عنهم، في غير معصية، وتَشمل: التحريض على الصَّدقات، وتفريج الكربات، وقضاء الحاجات، والتوسُّط في الإقالة من بيع لمضطرٍّ، وإنظار معسر إلى ميسرة، والتوسُّط في تخفيف الدَّين عن المدين، أو إبرائه منه، أو أدائه عنه.
لكن الشفاعة في حق النبي صلى الله عليه وسلم لون آخر غير كل هذا، ولا تكون إلا يوم القيامة.
● الشفاعة سبعة أنواع:
أولها: الشفاعة العظمى
وهي المقام المحمود الذي وعده الله إياه في قوله تعالى: ﴿وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾ [الإسراء: 79].
وهذه شفاعة عامة لأهل الموقف ليعجِّل الله حسابهم ويستريحوا من طول الموقف يوم القيامة وشدة كربه، وهذه الشفاعة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم وحده دون باقي الخلق حتى الأنبياء، فيشفع النبي صلى الله عليه وسلم للخلائق كلهم، لأمته وغيرها من الأمم، بعد أن جاءوا إلى كبراء الرسل- عليهم الصلاة والسلام- يسألونهم أن يشفعوا لهم إلى ربهم، لفصل القضاء، فيتدافع الشفاعة أولئك المرسلون، ويتنصلون منها ويعتذرون، حتى ينتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيتقدم فيشفع، ويسأل فيُعطَى، فيحمده كل الخلق لما يرون من فضله عند ربه، ولما وصل إليهم من الخير، وهذا هو المقام المحمود.
وهو ما ندعو به كل يوم خمس مرات! عقب كل أذان! وما أكثر من يضيع سنن الأذان! ومنها هذا الدعاء الثمين الذي علَّمنا إياه سيد المرسلين.
في صحيح البخاري عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، إلا حلَّت له الشفاعة يوم القيامة».
صحيح البخاري رقم: 614
لكن ما الوسيلة؟!
الوسيلة هي المرتبة الزائدة على سائر الخلق، كما في الحديث:
«سلوا الله لي الوسيلة أعلى درجة في الجنة لا ينالها إلا رجل واحد، وأرجو أن أكون أنا هو». صحيح الجامع رقم: 3636
وسؤال الوسيلة للنبي صلى الله عليه وسلم من أسباب الفوز بشفاعته، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
«إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه عشرا، ثم سلوا لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلَّتْ عليه الشفاعة».
خفة حساب المؤمنين
ومما يخفف موقف يوم القيامة على المؤمنين أن الله يناديهم بنفسه:
﴿الذين آمنوا وكانوا يتقون﴾ [يونس: 63]، فينكِّس أهل الكبائر رؤوسهم، ويبقى أهل التقوى رافعي رؤوسهم، قد أزال عنهم الخوف والحزن كما وعدهم».
لماذا كانت الشفاعة هي المقام المحمود رغم كثرة محامد الرسول؟!
والجواب:
من المعلوم أن حمد الإنسان لغيره على سعيه في تخليصه من العقاب أعظم من حمده له على سعيه في زيادة ثوابه؛ لأن احتياج الإنسان لدفع الآلام والشدائد أعظم من احتياجه لتحصيل المنافع والفوائد، وأعظم الآلام: آلام الآخرة، وأشد الأهوال: أهوال يوم القيامة، ولذا فهم جمهور المفسرين أن المقام المحمود هو الشفاعة، وهي المراد بقوله عليه السلام:
وهذا من حسن رأيه ونظره حيث اختار أن تكون دعوته في ما يبقى، والآخرة خير وأبقى.
لكن هل لا يستجاب للأنبياء إلا دعوة واحدة؟!
قال ابن حجر:
«اعلم أن جميع دعوات الأنبياء مستجابة، والمراد بهذا الحديث أن كل نبي دعا على أمته بالإهلاك إلا أنا، فلم أدْعُ، فأُعطيتُ الشفاعة عوضا عن ذلك للصبر على أذاهم».
ثانيها : الشفاعة لأهل الجنة لدخول الجنة
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أُمِرتُ لا أفتح لأحد قبلك».
رواه مسلم رقم: 333
وفي رواية له: «أنا أول شفيع في الجنة ».
رواه مسلم رقم: 332
ويكون أول من يدخل الجنة فقراء المهاجرين، كما جاء في الحديث:
«أول زمرة تدخل الجنة من أمتي: فقراء المهاجرين، يأتون يوم القيامة إلى باب الجنة، ويستفتحون، فيقول لهم الخزنة: أو قد حوسبتم؟ قالوا: بأي شيء نحاسب؟ وإنما كانت أسيافنا على عواتقنا في سبيل الله حتى متنا على ذلك؟ فيُفتَح لهم، فيقيلون فيها أربعين عاما قبل أن يدخلها الناس».
صحيح الجامع رقم: 96
هذه الزمرة من الفقراء التي لا يأبه الناس لها ولا يعرفون أسماء أفرادها، ولم تنل مكانتها في الدنيا لقلة مالها ورقة حالها، هي السابقة يوم القيامة وفي المقدِّمة، وهذا إن دلَّ على شيء، فإنما يدل على أن موازين الآخرة مختلفة، وأننا يجب ألا تخدعنا المظاهر عن الجواهر، فرُبَّ مغمور بين الناس يسبقهم يوم القيامة، ورُبَّ مشهور بين الناس يتقدم بعلمه ودينه، لكن يتأخر الصفوف يوم القيامة.
ثالثها : شفاعة الرسول لعمه أبي طالب
فعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله ذكر عنده عمه أبو طالب فقال:
«لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه، يغلي منه أمُّ دماغه».
صحيح الجامع رقم: 5087
وعن العباس بن عبد المطلب أنه قال للنبى صلى الله عليه وسلم : ما أغنيت عن عمك، فإنه كان يحوطك ويغضب لك، فقال صلى الله عليه وسلم :
«هُوَ فِى ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، ولولا أنا لكان فى الدَّرك الأسفل من النَّار».
مسلم رقم: 209
والضحضاح: ما رقَّ من الماء على وجه الأرض إلى نحو الكعبين، فاستعير هذا اللفظ في النار.
وهذه الشفاعة ليس معناها أن الكافر ينفعه عمله، لكنها تكريم خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم ، لا يناله غيره، فلا أحد يشفع في كافر أبدًا إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومع هذا لم تقبل الشفاعة كاملة ، وإنما كان أثرها تخفيف العذاب فحسب.
رابعها : شفاعته صلى الله عليه و سلم في دخول أناس من أمته الجنة بغير حساب
لقول النبي صلى الله عليه وسلم :
«سألت الله الشفاعة لأمتي، فقال: لك سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب. قلت: رب زدني، فحثا لي بيديه مرتين وعن يمينه وعن شماله».
صحيح لجامع رقم: 3590
وفي حديث أبي أمامة رضى الله عنه :
«وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا، بلا حساب عليهم ولا عذاب، مع كل ألف سبعون ألفا، وثلاث حثيات من حثيات ربي».
صحيح الجامع رقم: 7111
ضرب المثَل بالحثيات؛ لأن شأن الْمُعْطي إذا طُلِب منه الزيادة، أن يحثي بيديه بغير حِساب، وهذا دليل على المبالغة في الكثرة.
هذا يعني أن عدد من يدخل الجنة بغير حساب هائل، وأن مجموع هؤلاء:
سبعون ألفا + أربعة ملايين وتسعمائة ألف + ثلاث حثيات عظيمة لا يعلم عدد من فيها إلا الله
خامسها: شفاعته صلى الله عليه وسلم لأناس دخلوا النار في أن يخرجوا منها
لقول النبي صلى الله عليه وسلم :
«يخرج من النار قوم بالشفاعة كأنهم الثعارير».
صحيح الجامع رقم: 8059
والثعارير هي صغَار القثاء (الثوم) أي النبات الصغير، وهذا التشبيه لهم بعد أن ينبتوا بماء الحياة بعد خروجهم من النار، وأما في أول خروجهم من النار، فإنهم يكونون كالفحم.
وتنصرف كلمة الشفاعة إذا أُطلِقت إلى هذا النوع، أي من يشفع لهم النبي صلى الله عليه وسلم في الخروج من النار، ولذا لما سَمِع عليٌّ رضى الله عنه امرأة تدعو: «اللهم أدخلني في شفاعة محمد»، قال لها: «إِذا تَمَسَّكِ النار».
ومن أدلة هذا النوع من الشفاعة قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في سنن الترمذي عن عمران بن حصين:
«ليخرجن قوم من أمتي من النار بشفاعتي يسمون الجهنميين». صحيح الجامع رقم: 9493
وذلك نسبة إلى جهنم، وهذا الاسم مختص بمن شفع لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج من النار، لكن في هذا الاسم نوع انتقاص، لذا جاء في صحيح مسلم:
«فيدعون الله، فيذهب عنهم هذا الاسم». صحيح مسلم رقم: 9493
بشرى لأصحاب الكبائر!
جاء في حديث جابر:
«شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي».
صحيح الجامع رقم: 3714
لذا كان جابر يقول:
«من لم يكن من أهل الكبائر، فما له وللشفاعة».
وكان في هذا تربية نبوية في غاية الأهمية لأصحاب النبي ، فقد أمسك بعض الصحابة عن الاستغفار لأصحاب الكبائر، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلِّمهم أن رحمة الله لا تضيق عن أحد من خلقه، ولعل هذا الإمساك عن الاستغفار يؤدي بهم إلى العُجْب والاستكبار، واسمع ما رواه عبد الله بن عمر :
«ما زلنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر ، حتى سمعنا من نبينا : (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)، وإني ادخرت دعوتي شفاعة لأهل الكبائر من أمتي يوم القيامة».
وعن ابن عمر رضي الله عنه في رواية أخرى:
«فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا».
وتبقى شفاعة الله!
في صحيح البخاري عن المؤمنين الذي اجتازوا الصراط، يسألون عن إخوانهم الذين سقطوا في جهنم:
«يقولون: ربنا إخواننا، كانوا يصلون معنا، ويصومون معنا، ويعملون معنا، فيقول الله تعالى: اذهبوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه، ويحرِّم الله صورهم على النار، فيأتونهم وبعضهم قد غاب في النار إلى قدمه، وإلى أنصاف ساقيه، فيخرجون من عرفوا، ثم يعودون، فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار فأخرجوه، فيُخرِجون من عرفوا، ثم يعودون، فيقول: اذهبوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا».
قال أبو سعيد: فإن لم تصدقوني فاقرءوا: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها} [النساء: 40].
ألا ما أروع هذا الحديث..
إن حثنا هذا الحديث على شيء، فهو يحثنا على أن نختار صحبتنا اليوم، وأن ندقق في اختيار من حولنا، حتى إذا فاتتنا النجاة غدا (لا قدَّر الله)، وجدنا من أهل الجنة من يذكرنا، ولا يلهيه نعيم الجنة العظيم عن ذكر أصحابه من أصحاب الجحيم.
وتبقى شفاعة الله، وهي فرصة الرحمة الأخيرة!
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون، فيقول الجبار: بقيت شفاعتي، فيقبض قبضة من النار، فيخرج أقواما قد امتُحِشوا، فيلقون في نهر بأفواه الجنة، يقال له: ماء الحياة، فينبتون في حافتيه كما تنبت الحبة في حميل السيل». صحيح البخاري رقم: 7439
سادسها: شفاعته صلى الله عليه وسلم لقوم استحقوا النار أن لا يدخلوها
فينجون من النار ببركة الشفاعة، ولا يمسهم العذاب مع استحقاقهم له.
قال الحافظ ابن حجر:
«ويشفع في بعض المؤمنين بالخروج من النار بعد أن دخلوها، وفي بعضهم بعدم دخولها، بعد أن استوجبوا دخولها».
وساق الشيخ ابن عثيمين ما استدلَّ به على هذه الشفاعة، فقال رحمه الله:
«وهذه قد يستدل لها بقول الرسول صلى الله عليه وسلم : (ما من مسلم يموت، فيقوم على جنازته أربعون رجلا، لا يشركون بالله شيئًا، إلا شفَّعهم فيه)، فإن هذه شفاعة قبل أن يدخل النار، فيشفِّعهم الله في ذلك».
● يشفع في هؤلاء!
• المخلِصون:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال:
قيل: يا رسول الله .. من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟!
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لقد ظنَنْتُ يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحَدٌ أول مِنْك، لما رأيتُ مِنْ حرصك على الحديث، أسعد النَّاس بشفاعتي يوم القيامة: مَنْ قال لا إله إلا الله خالِصًا مِنْ قلبه أو نفسه». صحيح البخاري رقم: 97
وفي مسند أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«وشفاعتي لمن شهد أن لا إله إلا الله مخلصا، يُصَدِّقُ قلبُه لسانَه، ولسانه قلبَه».
مسند أحمد رقم: 7725
واستدل شيخ الإسلام ابن تيمية بهذه الأحاديث على فضل الإخلاص، فقال:
«وكلما كان الرجل أعظم إخلاصًا ، كانت شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم أقرب إليه».
● ولا يشفع في هؤلاء!
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«صنفان من أمتي لن تنالهما شفاعتي: إمام ظلوم غشوم، وكلُّ غالٍ مارق».
صحيح الجامع رقم: 3798
وهما صنفان -كما ترى- لهما أعظم الضرر على المسلمين، إما بالظلم، وإما بالغلو، فكانت عقوبتهما الحرمان من شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم .
ومن العجيب أن ديننا حذرنا من الظلم تحذيرا شديدا وبصور متنوعة، لكن أمتنا هي أكثر الأمم في استشراء الظلم فيها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه :
«إِنْ طالتْ بِكَ مُدَّةٌ أوْشَكْتَ أن ترى قوما يغْدون في سَخَط الله، ويروحون فيلعنته، في أيديهم مثل أذناب البقر». صحيح مسلم رقم: 5100
وفي حديث أبي أمامة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«سيكون في آخر الزمان شرطة يغدون في غضب الله، و يروحون في سخط الله».
صحيح الجامع رقم: 3666
وأما الصنف الثالث المحروم من الشفاعة، فقد تحدث عنه أنس بن مالك رضي الله عنه ، فقال:
«من كذَّب بالشفاعة فلا نصيب له فيها».
فالجزاء من جنس العمل ، فمن كذَّب بالشفاعة وادَّعى بطلانها، كان أَوْلى الناس بالحرمان منها ، جزاءًا وفاقًا.
سابعا: شفاعته صلى الله عليه وسلم لرفع درجات أقوام من أهل الجنة
والجنة مائة درجة، فيرفع الله من أهل الجنة إلى درجة من درجات الجنة لا يستحقها بعمله.
قال الإمام ابن القيم في هذا النوع من الشفاعة:
«شفاعته لقومٍ مِنْ المؤمنين في زيادة الثواب، ورفعة الدَّرجات ، وهذا قد يُستدلَّ عليه بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأبي سلمة، وقوله صلى الله عليه وسلم : (اللهم اغفر لأبي سلمة، وارْفَع درجته في المهْديين)، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي موسى: (اللهم اغفر لعُبَيْد أبي عامر، واجعله يوم القيامة فوق كثير مِنْ خلقك)».
«ما منكم من أحد إلا سيكلِّمه الله يوم القيامة، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه، فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر أشأم منه، فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر بين يديه، فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، ولو بكلمة طيبة».
صحيح الجامع رقم: 5798
جميع الخلق سيكلمهم الله غدا مباشرة بلا ترجمان ولا واسطة، فيسألهم عن جميع أعمالهم، خيرها وشرها، دقيقها وجليلها، ما علمه العباد وما نسوه، وكما خلق الله الناس ورزقهم في ساعة واحدة، سيحاسبهم في ساعة واحدة.
وليس مع العبد عند الحساب أنصار ولا أعوان إلا العمل الصالح، ولذا حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم على اتقاء النار به ولو بأقل القليل، كنصف التمرة، حتى إن لم يجدها، فبكلمة واحدة طيبة.
وإن التفكر اليوم في موقف العرض غدا وساعة الحساب، هو خير ما يقوِّم سلوك العبد ويعين على الاستقامة، ولذا قال الإمام ابن دقيق العيد:
«ما تكلَّمتُ بكلمة؛ ولا فعلت فعلاً؛ إلا وأعددت له جوابًا بين يدي الله عز وجل».
● أول القضايا غدا!
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«أوَّل ما يُقْضَى بين الناس يوم القيامة في الدِّماء». صحيح الجامع رقم: 2577
وهذا الحديث من أعظم أحاديث تعظيم أمر الدماء في الإسلام، فإن بدء الحساب يكون بالأهم، وليس فيه مخالفة للحديث المشهور: «أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم الصلاة»؛ لأن حديث الصلاة في ما بين العبد وربه، والحديث الأول فهو بين العباد.
أو أن حديث الدماء مثال لمن فعل السيئات، وحديث الصلاة مثال لترك العبادات.
وفي سنن النسائي ما جمع بين الحسابين:
«أول ما يُحاسَب به العبد الصلاة، وأول ما يقضى بين الناس في الدماء».
صحيح الجامع رقم: 2572
وأما صفة الفصل في الدماء، فيشرحها النبي صلى الله عليه وسلم في مشهد دقيق يحيط بالتفاصيل، ويبين لنا ما سيجري يوم القيامة بين كل مقتول وقاتله، فيقول صلى الله عليه وسلم :
«يأتي المقتول متعلقا رأسه بإحدى يديه، متلبِّبا قاتله بيده الأخرى، تشخب أوداجه دما، حتى يأتي به العرش، فيقول المقتول لرب العالمين: هذا قتلني، فيقول الله للقاتل: تعست، ويذهب به إلى النار».
السلسلة الصحيحة رقم: 2697
● أقسام المسلمين في الحساب!
القسم الأول:
من يدخل الجنة بغير حساب، كما في حديث السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، وهؤلاء هم صفوة الأمة، والقمم الشامخة في الإيمان والتقوى والصلاح والجهاد، ووعد الله أن يدخل مع كل ألف سبعين ألفا ممن يدخل في ركابهم، أي مع كل واحد من السبعين ألفا يدخل سبعين رجلا.
القسم الثاني:
من يحاسب حسابًا يسيرًا، وهو العرض فقط، فلا يحاسَب حساب مناقشة، وهذا من أهل السعادة والسرور. قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} [الانشقاق: 7 - 9] .
في صحيح البخاري ومسلم عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«ليس أحد يُحاسَب يوم القيامة إلا هلك»، فقلت: يا رسول الله .. أليس قد قال الله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ- فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا﴾ [الانشقاق : 7-8]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«إنما ذلك العرض ، وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا هلك».
ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يتضجَّر إن راجعه أحد، وإنما أجاب عائشة حين قابلت السُّنَّة بآيات القرآن.
قال القرطبي في معنى هذا العرض:
«إن الحساب المذكور في الآية إنما هو أن تُعرَض أعمال المؤمن عليه، حتى يعرف مِنَّة الله عليه في سترها عليه في الدنيا، وفي عفوه عنها في الآخرة».
القسم الثالث: من يحاسب حساب مناقشة
وهذا متعرِّضٌ للخطر لقوله صلى الله عليه وسلم : «من نوقش الحساب عُذِّب».
ومعنى نوقش الحساب، أي حوسب حساب استقصاء، فإنه يعذب، والاستقصاءُ في الحساب هو لا يُترَك منه شيء، يقال: انتقشت منه جميعَ حقي، ومنه: نقْش الشوكة من الرِّجْل، وهو استخراجها منها؛ والمعني: من دُقِّق في حسابه، فقد هلك.
قال النووي في شرحه للحديث:
«قال القاضي:
وقوله: «عُذِّب» له معنيان:
أحدهما : أن نفس المناقشة وعرض الذنوب والتوقيف عليها هو التعذيب لما فيه من التوبيخ.
والثاني : أنه مفض إلى العذاب بالنار، ويؤيده قوله في الرواية الأخرى: (هلك) مكان (عذب) هذا كلام القاضي».
ثم قال النووي: «وهذا الثاني هو الصحيح، ومعناه أن التقصير غالب في العباد، فمن استُقصِي علي ، ولم يُسامَح هلك، ودخل النار، ولكن الله تعالى يعفو ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء».
● أمثلة العرض والنقاش والعتاب!
1. مناقشة المرائين:
قال أبي هريرة: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم
: «إن الله إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم، وكل أمة جاثية، فأول من يدعو به رجل جمع القرآن، ورجل قتل في سبيل الله، ورجلٌ كثير المال، فيقول الله للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟! قال : بلى، يا رب، قال : فماذا عملت فما علمت؟ قال: كنتُ أقوم به آناء الليل وآناء النهار، فيقول الله له: كذبتَ، وتقول له الملائكة: كذبتَ، ويقول الله له: بل أردت أن يقال: فلان قارئ، وقد قيل ذلك.
ويؤتى بصحاب المال فيقول الله: ألم أوسِّع عليك، حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى، يا رب، قال: فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال: كنتُ أصل الرحم، وأتصدق، فيقول الله له: كذبتَ، وتقول له الملائكة: كذبتَ، ويقول الله: بل أردت أن يقال: فلان جواد، فقيل ذلك.
ثم يؤتى بالذي قتل في سبيل الله، فيقول الله: في ماذا قتلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك، فقاتلت حتى قتلت، فيقول الله له: كذبتَ، وتقول له الملائكة: كذبتَ، ويقول الله: بل أردت أن يقال: فلان جريء، فقد قيل ذلك، ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتيَّ، فقال: يا أبا هريرة، أولئك الثلاثة أول خلق الله تُسعَّر بهم النار يوم القيامة».
صحيح الجامع رقم: 1713
2. عرض الرب ذنوب عبده عليه:
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«إن الله يدني المؤمن، فيضع عليه كنفه، ويستره، فيقول: أتعرف ذنب كذا، أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم .. أي رب، حتى إذا قرَّره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه هلك، قال: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيُعطَى كتاب حسناته، وأما الكافرون والمنافقون فيقول الأشهاد: (هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) [هود: 18]».
وفي رواية سعيد بن جبير: :«فيلتفت يمنة ويسرة، فيقول: لا بأس عليك، إنك في ستري، لا يطلع على ذنوبك غيري».
قال علي القاري:
«هذا في عبد لم يغتب ولم يعب ولم يفضح أحدا ولم يشمت بفضيحة مسلم، بل ستر على عباد الله الصالحين، ولم يدع أحدا يهتك عرض أحد على ملأ من الناس، فستره الله وجعله تحت كنف حمايته، جزاء وفاقا من جنس عمله».
والستر في الدنيا يؤنس بحصول المغفرة في الآخرة، وما كان الله ليفضح عبدا من أول زلة، فإذا حصل ستر الله، كان في ذلك إشارة إلى أن لهذا العبد عند الله رصيد من الخير، وأن له من القَدْر عند الله ما يستره.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن عمر أُتِي بسارق، فقال: والله ما سرقتُ قط قبلها، فقال: «كذبتَ! ما كان الله ليُسلِّم عبده عند أول ذنبه»، فقطع يده.
وفي رواية: «كذبت وربِّ عمر، ما أخذ الله عبدا عند أول ذنب».
معاتبة الرب عبده فيما وقع منه من تقصير:
في الحديث:
«إن الله تعالى يقول يوم القيامة:
يا ابن آدم ..
مرضت فلم تعدني. قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض، فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟
يا ابن آدم ..
استطعمتك فلم تطعمني، قال: يا رب .. وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان، فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟
يا ابن آدم ..
استسقيتك فلم تسقني، قال: يا رب .. كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان، فلم تسقه، أما إنك لو سقيته، لوجدتَ ذلك عندي».
صحيح الجامع رقم: 1916
لاحظ أنه قال في عيادة المريض: «لوجدْتني عِنْده»، وفي الإطعام والسقي: «لوجدتَ ذلك عندي»، وهذا رمز إلى أفضلية ثواب عيادة المرضى ومواساتهم.
4. معاتبة الرب للعبد لعدم استغلال نعم الله عليه:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«يؤتى بالعبد يوم القيامة، فيقال له: ألم أجعل لك سمعا وبصرا ومالا وولدا، وسخَّرتُ لك الأنعام والحرث، وتركتك ترأس وتربع، فكنت تظن أنك ملاقيَّ يومك هذا؟ فيقول: لا، فيقول له: اليوم أنساك كما نسيتني».
صحيح الجامع رقم: 7997
هنا يعدِّد الله نعمه على كل عبد جحود ظالم لنفسه، وهي نِعَمٌ لا تُعدُّ ولا تُحصَى، وإنَّ نعمة واحدة منها لا يستطيع عبد شكرها حق شكرها، فكيف بسائر النعم؟!
يقول الله يوم القيامة لهذا العبد:
ألم أجعلك رئيسا مطاعا في قومك؛ وتربع: أي تأخذ ربع الغنيمة، كما كان سيد القوم يأخذ ربع الغنيمة في الجاهلية، وكانوا يسمون هذا الربع: المرباع، أي جعلتك مستريحا في هذه الدار، فأبيت إلا أن تذوق التعب بعذاب النار!
وبدلا من أن تقابل نعمي عليك بالشكر والعرفان، قابلتها بالجحود والنسيان والعصيان، فاستحققت عقوبتي: أمنعك اليوم من رحمتي كما امتنعت عن طاعتي.
وأتركك بلا رعاية كما تركت أمري واستمرأت الغواية.
يكشف لنا هذا الحديث أن استثمار العبد لنعم الله عليه في ما يرضي ربه من فروض الأعمار، وشرط من شروط إعمار هذه الدار، وهو تكليف إلهي واختبار إجباري سيحاسبنا الله عليه يوم القيامة: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ﴾ [الأنعام: 165].
وإن التقصير في شكر نعم الله صفة من صفات المكذِّبين بلقاء الله، فكيف تقبل هذه الشراكة مع الكفار، وترضى أن تكون معهم بذلك مِنْ وقود النار؟!
5. عناية الرب بمن أحسن الظن به:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال:
«يخرج من النار أربعة يعرضون على الله عز وجل، فيأمر بهم إلى النار، فيلتفت أحدهم فيقول: أي رب!! قد كنتُ أرجو إن أخرجتني منها أن لا تعيدني فيها، فيقول: فلا نعيدك فيها». مسند أحمد 3/221
ذكر من الأربعة واحدًا، وحكم عليه بالنجاة، وسبب هذا: حسن ظنه بالله، وفيه تنبيه على عجز هؤلاء الثلاثة وعدم معرفتهم بالله عز وجل، فقد أخرجهم الله من النار، وعرَّضهم لأن يسألوه ويسترحِموه، لكنهم لعجزهم وفساد طبعهم لم يفطنوا إلى أن الله تعالى لم يخرجهم من النار ويعرضهم عليه لغير سبب، فأبت عليهم شقوتهم وظلمة قلوبهم إلا الصمت والخذلان، فأعيدوا إلى النار ما عدا ذلك المتيقظ منهم الذي قال: قد كنتُ أرجو إن أخرجتني منها أن لا تعيدني فيها، فإنك أهل لأن تُتبِع النعمة النعمة، وتنقذ من الجحيم إلى الراحة والنعيم.
6-مناقشة الأمم الأخرى لإقامة الحجة عليهم
ومن مشاهد يوم القيامة ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«يُدعَى نوح يوم القيامة، فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم يا رب، فيقول لأمته: هل بلَّغَكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير.
وفي رواية الترمذي:
«فيقولون: ما أتانا من نذير، وما أتانا من أحد».
فيقال: من يشهد لك؟!
فيقول: محمد صلى الله عليه وسلم وأمته.
فيشهدون أنه قد بلَّغ، ويكون الرسول عليهم شهيدا، فذلك قوله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143] ». صحيح البخاري رقم: 3339
جعل الله هذه الأمة الأخيرة هي الأمة الوسط، وهي الأمة الشاهدة على جميع الأمم بما أخبرها الله على لسان نبيها وبلغها من قرآن ربها.
7. سؤال العاصي الخائف من ربه:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«كانَ رجلٌ ممَّن كان قبلكم لم يعمل خيراً قطُّ؛ إلا التوحيد، فلما احتُضر قال لأهله:
انظروا .. إذا أنا متُّ أن يحرِّقوه حتى يدعوه حمما، ثم اطحنوه، ثم اذروه في يوم ريح، ثم اذروا نصفه في البر، ونصفه في البحر، فوالله؛ لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين، فلما مات فعلوا ذلك به، فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه، فإذا هو قائم في قبضة الله، فقال الله عز وجل:
يا ابن آدم! ما حملك على ما فعلت؟
قال: أي ربِّ! من مخافتك (وفي طريق آخر: من خشيتك وأنت أعلم).
قال: فغفر له بها، ولم يعمل خيراً قطُّ إلا التوحيد».
السلسلة الصحيحة رقم: 3048
غفر الله لهذا العبد لأنه عرف ربه، فخاف منه، وأقرب الطرق الموصلة إلى الله: مخافته، وأن لا يأمن العبد مكره.
سادساً: تطاير الصحف
أخرج أبو داود والإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها أنها ذكرت النار فبكت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما يبكيك؟ قلت: ذكرت النار فبكيت، فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ فقال:
«أما في ثلاثة مواطن فلا يذكر أحدٌ أحداً: عند الميزان حتى يُعْلَم أيخِفُّ ميزانه أم يثقل.
وعند تطاير الصحف حتى يعلم أين يقع كتابه في يمينه أم في شماله أم من وراء ظهره.
وعند الصراط إذا وُضِع بين ظهري جهنم حتى يجوز». سنن أبي داود رقم: 4755
وقد قال الله تعالى: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَة كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ اليوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:13-14]
والطائر هو عمل العبد؛ وشُبِّه بالطائر لأن العمل يعلو بالإنسان، أو يهوي به.
قال السُّدِّي في تفسير هذه الآية:
«الكافر يخرج له يوم القيامة كتاب، فيقول: رب إنك قد قضيت أنك لست بظلام للعبيد، فاجعلني أحاسب نفسي، فيقال: اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ اليوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:14]، لكن ..
لكن، ماذا إذا كان العبد أميا يجهل القراءة والكتابة؟!
قال قتادة:
«يقرأ يومئذ من لم يكن قارئا في الدنيا».
الناس في استلام الصحف فريقان:
وينقسم الناس في استلام الصحف إلى فريقين: من يؤتى كتابه بيمينه، ومن يؤتى كتابه بشمال أو وراء ظهره.
قال الطبري:
«وأما من أعطي كتابه منكم أيها الناس يومئذ وراء ظهره، وذلك أن جعل يده اليمنى إلى عنقه، وجُعِل الشمال من يديه وراء ظهره، فيتناول كتابه بشماله من وراء ظهره، ولذلك وصفهم جلَّ ثناؤه أحيانًا أنهم يؤتون كتبهم بشمائلهم، وأحيانًا أنهم يؤتونها من وراء ظهورهم».
وكونه يؤتى كتابه من وراء ظهره؛ لأنه استدبر كتاب الله وأمره، وأعطاه ظهره في الدنيا؛ فكان من العدل أن يؤتى كتاب أعماله يوم القيامة وراء ظهره.
والمسألة ليست باختيار العبد، فإذا أذن الله لعبد بمد يد تبقى يده الأخرى عاجزة، ليست باستطاعته مدَّها، ثم الكتاب نفسه هو الذي يطير نحو اليد، فإما أن يذهب إلى اليد اليمنى أو اليسرى.
«يا وليتنا: ضجوا إلى الله من الصغائر قبل الكبائر».
هل يُعْطَى العاصي كتابه بيمينه أم بشماله؟
يُعْطَى العاصي كتابه بيمينه، أما الذي يُعْطَى كتابه يوم القيامة بشماله فهو الكافر.
قال يوسف بن عمرو من المالكية:
«اختُلِف في عصاة الموحدين، فقيل: يأخذون كتبهم بأيمانهم، وقيل بشمائلهم، وعلى القول بأنهم يأخذونها بأيمانهم قيل: يأخذونها قبل الدخول في النار، فيكون ذلك علامة على عدم خلودهم فيها، وقيل يأخذونها بعد الخروج منها، والله أعلم».